المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سلامة النقد واستقلالية المصارف



ROSE
19-04-2007, 02:19 AM
سلامة النقد واستقلالية المصارف



د. لويس حبيقة

يمكن وصف النقد بالدم الذي يجري في شرايين الاقتصاد الحر، وبالتالي يؤمن حيويته واستمراريته. ويهدف كل مصرف مركزي الى تحقيق أهداف ثلاثة هي استقرار الأسعار والحفاظ على سعر صرف مناسب ومستقر للنقد الوطني، كما المساعدة على تحقيق الاستقرار المالي العام الذي يتعدى الموضوع النقدي. ولا يمكن اعتبار هذه الأهداف منفصلة إذ إن الفشل في تحقيق الهدف الأول (مكافحة التضخم) أو الثالث (الاستقرار المالي) يعوق تحقيق الهدفين الآخرين. كما ان مكافحة التضخم يمكن أن تتحقق عبر التثبيت النقدي (أي ربط النقد الوطني بشكل ثابت أو ضمن هوامش ضيقة بعملة أجنبية أو بسلة من العملات الرئيسية)، تماما كما يحصل في لبنان وفي دول مجلس التعاون الخليجي.

وعلى الرغم من خلق اليورو كعملة أوروبية واحدة، وبالتالي تأسيس المصرف المركزي في فرانكفورت، حافظت الدول الأوروبية على مصارفها المركزية الوطنية وتمثلت في مجلس ادارة المصرف.

وللمصارف المركزية أدوار مختلفة في تحديد السياسة النقدية والرقابة المصرفية والاصدار النقدي. يحدد المصرف المركزي الأمريكي السياسة النقدية ويشرف جزئيا على الرقابة المصرفية ويصدر النقد لمصلحة وزارة المالية بتوقيع الوزير وليس الحاكم. أما المصارف المركزية الأوروبية والبريطانية والكندية، فتحدد السياسة النقدية وتصدر النقد لكنها ليست مسؤولة عن الرقابة المصرفية. ويحدد المصرف المركزي الياباني السياسة النقدية ويصدر النقد وله مسؤولية جزئية في الرقابة المصرفية. أما المصارف المركزية الأوروبية الوطنية، فتشرف جزئيا (كألمانيا) أو كليا (كفرنسا وايطاليا) على الرقابة المصرفية دون أن يكون لها دور نقدي بسبب انتقاله الى المصرف الأوروبي.

من الخصائص المشتركة لحكام المصارف المركزية هي أجورهم المرتفعة مقارنة بموظفي القطاع العام والتي تبرر رسميا بالمسؤوليات كما بضرورة تعزيزهم ماديا كي يترفعوا ويبتعدوا عن الفاسد والمفسود. فالأجور المعلنة هي 700 ألف دولار سنويا للحاكم الايطالي و585 ألف يورو لحاكم المصرف الأوروبي و500 ألف دولار للحاكم البريطاني، وفقط 180 ألف دولار للحاكم الأمريكي. اذا كانت الدول الغربية القادرة ماديا تعزز أوضاع مسؤولي المصارف المركزية، فبعض الدول الناشئة والنامية العاجزة ماليا بينها لبنان يبالغ بتنفيذ السياسة نفسها مما يستدعي بعض المراجعة والتعديل.

أهم حاكم مصرف مركزي في العالم هو آلان جرينسبان الذي تقاعد مطلع العام الماضي وسلم الأمانة لبن برنانكي. وتسلم جرينسبان الحاكمية في النصف الثاني في العام 1987، وقام بواجباته بمهارة اعلامية وادارية وعلمية يشهد له بها الجميع. واستطاع أن يتواصل علميا مع مؤسسات الأبحاث والجامعات كما مع أقسام البحث داخل فروع المصرف المركزي. وجعلهم يشعرون بأهمية أبحاثهم وأفكارهم، فحصل بالتالي على تأييدهم. وتابع التطور التكنولوجي الذي يحدث العمل المصرفي ويرفع من انتاجيته. وتمتع بهذه الصفات التي عثرت جدا عملية انتقاء خليفة له. ما فعله جرينسبان يترك ثقله الكبير على كتفي خليفته الذي يتميز كثيرا عنه والذي بدأ عمله في أجواء مختلفة. وبرنانكي هو استاذ جامعي له مؤلفات مهمة في العلوم النقدية وأزمة 1929، وليست له ارتباطات مصرفية. وتعتبر الأوضاع السياسية داخل أمريكا معقدة بسبب الحرب في العراق والجدل حول جدواها وتكلفتها كما بسبب موضوع الحريات والشك العام بطريقة اداء ادارة الرئيس بوش.

هنالك اتجاهات دولية أربعة فيما يخص عمل المصارف المركزية، نوجزها كما يلي:

أولاً: تحديد هدف تضخمي واضح. هذا ما بدأت به نيوزيلاندا في سنة 1989 ويعتمد اليوم من قبل 22 دولة. من واجب المصرف المركزي البريطاني مثلا تبرير أي فارق يتعدى 1% عن الهدف التضخمي المتفق عليه مع السلطات السياسية الرسمية.

من الأفكار التي يؤيدها “بن برنانكي”، حاكم المصرف المركزي الأمريكي، تحديد هدف تضخمي للاقتصاد الأمريكي.

ثانياً: تغييرات في الرقابة المالية. في الدول الاسكندنافية (النرويج والسويد والدنمارك)، هنالك رقابة مالية موحدة منذ أواخر الثمانينات مستقلة عن المصارف المركزية وتقوم بواجباتها على أكمل وجه. هنالك دول اعتمدت فيما بعد الطريقة الرقابية الموحدة مثل كوريا الجنوبية (سنة 1998) واليابان (2000) وبريطانيا (2001) والنمسا وألمانيا وبلجيكا (2002). هنالك فائدتان أساسيتان للتوحيد الرقابي أولاهما أن الأسواق المالية الداخلية أصبحت مترابطة كما أن المؤسسات المالية أصبحت متنوعة في أعمالها ووظائفها. أما الفائدة الثانية المهمة، فهي إبعاد السلطة النقدية عن الأخطاء أو الأزمات المرتبطة بالرقابة المصرفية حفاظا على الثقة بالنقد. فالأزمات المرتبطة مثلا ببعض المصارف مثل “BCCI “ وبيرينغز ألحقتا ضرراً كبيرا بالسلطات النقدية الوطنية والدولية، مما استوجب تحقيق الفصل بين السلطتين النقدية والرقابية. ويحصل الشيء نفسه في لبنان اليوم مع مشكلة بنك المدينة حيث تدور شبهات كثيرة مالية وسياسية وأمنية حول ما جرى. لذا من الضروري التفكير جديا بإبعاد الرقابة عن مصرف لبنان حتى لا ينعكس أي تقصير أو فشل رقابي على ثقة المستثمرين بالسلطات النقدية اللبنانية وبالتالي بالليرة.

ثالثاً: الاستقرار المالي، يشمل الاستقرار المالي الاستقرار المصرفي ويتعداه للقطاعات الأخرى كالتأمين والقطع والبورصة والوساطة والخدمات المالية المتنوعة. بسبب ترابط هذه الأسواق، من غير الممكن وضع سلطات مسؤولة منفصلة لكل منها.

من أسباب الأزمات الآسيوية والأمريكية اللاتينية والروسية غياب سلطات قادرة على تأمين السلامة المالية. لم تكن المشكلة نقدية فقط وانما مؤسساتية مالية أيضا، لذا ضاعت المسؤولية بين المؤسسات المختلفة.

رابعاً: التوقعات الشعبية. هنالك موجة شعبية عالمية تطالب المصارف المركزية والمسؤولين عنها بالشفافية وتدعو لمحاسبتهم على أعمالهم. من واجب حكام المصارف المركزية مخاطبة الرأي العام كل فصل وعند الضرورة لشرح الواقع النقدي والمالي الوطني. فمن واجب المسؤولين عن مصرف لبنان مثلا شرح ما جرى بخصوص بنك المدينة وبقية عمليات الدمج والشراء بحيث يعرف الرأي العام اللبناني حقيقة ما جرى. من معالم الشفافية كيفية تعيين حكام المصارف المركزية بحيث تكون واضحة أمام الرأي العام والمجتمع المالي الداخلي والدولي. ومن الخطأ تعيين حكام المصارف المركزية لتأمين مصالح سياسية أو مالية أو مصرفية معينة تضر بمصالح المواطن العادي والشباب تحديداً.



* كاتب اقتصادي لبناني