السعدي999
28-04-2007, 09:32 PM
الدعاء لولاة الأمر
حَرَص أئمة أهل السنة والجماعة منذ القرون الأولى على بيان ذلك السبيل السَّوي الذي سار عليه – في معتقدهم – خيارُ الأمة بعد نبيها ؛ من الصحابة والتابعين ومن اقتفى أثرهم بإِحسان .
وبديهي أن من أجل غاياتهم في هذا البيان ، تمييز منهج أهل السنة العقدي، عن غيره من المناهج البدعية الطارئة ، حتى لا يختلط الأمر على طالب الحق ومُبتغى الرشُّد ،وكان من القضايا التي تناولوها بالبيان والتحليل ، وجعلوها – فيما ظهر لهم – من أصول أهل السنة ، طاعة أولي الأمر وعدمُ الخروج عليهم ، ولم يقفوا عند هذا ، بل جاوزوه إِلى ما هو أخص منه ، وهو الدعاء لأولي الأمر بالتوفيق والصلاح والسداد .ولعمر الله إِن هذا لهو الحق ، ففي صلاح ولاة الأمر صلاح العباد والبلاد ، كما قال القاضي عياض رحمه الله .
وإِليك ما وقفنا عليه من مقالاتهم في هذا الباب : يقول الإِمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله (( ت سنة 321 هـ )) في (( عقيدته المشهورة )) ما نصه
( ولا نرى الخروج على أئمتنا و ولاة أمورنا وإِن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزوجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة ) .
وقال إِمام أهل السنة في عصره أبو محمد البربهاريُّ رحمه الله (( ت سنة 329 هـ)) في (( شرح السنة )) : ( فأمرنا أن ندعوا لهم بالصلاح ، ولم نؤمر أن ندعوا عليهم ، وإن ظلموا وإن جاروا ، لأن ظلمهم وجورهم على أنفسهم ، وصلاحهم لأنفسهم و للمسلمين ) .
وقال الإِمام الحافظ أبو بكر الإِسماعيلي (( ت سنة 371 هـ )) رحمه الله في
(( اعتقاد أهل السنة )): ( و يرون [ أي أهل السنة و الجماعة] الصلاةَ ؛ الجمعة وغيرها ، خلف كل إِمام مسلم ، براًّ كان أو فاجرا ... ويرون الدعاء لهم بالصلاح والعطف إِلى العدل ) .
وقال الإِمام شيخ الإِسلام أبو عثمان الصابوني رحمه الله (( ت سنة 449 هـ )) في (( عقيدة السلف وأصحاب الحديث )) : ( ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين و غيرهما من الصلوات ، خلف كل إِمام ، برا كان أو فاجراً ، ويرون جهاد الكفرة معهم ، وإِن كانوا جَوَرة فجرة ، ويرون الدعاء لهم بالإِصلاح والتوفيق والصلاح ، وبسط العدل في الرعية ) .
واعلم أيها الأخ الكريم ؛ أن هؤلاء الأئمة الهداة لم يكونوا ليكتفوا بتسطير هذه الكلمات في مؤلفاتهم وحسب ، بل كانوا يطبقون هذا الأمر في حياتهم العملية ، ويفوهون به أمام أهل الناس تعليما لهم وإِرشادا ، ودونك مثالا على هذا إِمامَ أهل السنة الصِّديق الثاني أبا عبد الله أحمد بن حنبل – رحمه الله ورضي عنه – فمع تعدد ما كتب هذا الإِمام في الحث على طاعة السلطان والدعاء له ، ضمن النُّبذ التي كان يكتبها في اعتقاد أهل الإِيمان ، فإِنه كان أيضاً دائم الدعاء للسلطان ، وبخاصة إِذا مر ذكره ، أو عَرَض له ذكر في أثناء مسألة .قال أبو بكر المروذي : سمعت أبا عبد الله ، وذُكر الخليفةُ المتوكل ، فقال : ( إِني لأدعو له بالصلاح والعافية ..) .
وقال أحمد بن الحسين بن حسان – وهو أحد أصحاب الإِمام أحمد – سمعت أبا عبد الله وسئل عن طاعة السلطان ، فقال بيده : عافى الله السلطان ، تنبغي ، سبحان الله ! السلطان ؟ .
ولقد بالغ هذا الإِمام في حث الناس على الدعاء لولي الأمر فأرسل مقولته التي اشتهرت اشتهار الشمس ، وأصبحت حكمةً تتناقلها الألسنة ، وهي ( لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها إِلا في السلطان )) .وهذا يدلك على عظيم فقه هذا الإِمام الراشد و بُعْدِ نظره ، فهو يريد أولا أن يعلِّم الناس مبدأ السمع والطاعة ، ويريد منهم ثانياً أن تلهج ألسنتهم بدعوات صادقة ، يسألون الله فيها الهداية للسلطان ، وأن يأخذ بيده إِلى الحق .
فحريُّ بالمسلمين الذين يرغبون في القيام بواجب النصيحة ، وسلوك جادة السلف ، حريُّ بهم أن يخصُّوا ولاة أمرهم بشيء من دعائهم ، ويا ليت المشتغلين بأعراض الولاة أمسكوا عن ما هم فيه ، واستبدلوا به الدعاء ، فلو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم ، على أن الاشتغال بالأعراض لا يقِّرب بعيدا ولا يقيم معوجّا ، وإِنما يوغر الصدور ويجلب الأوزار، قال الحافظ أبو إِسحاق السبيعي : ( ما سب قومٌ أميرهم إِلا حُرموا خيره ) رواه ابن عبد البر في التمهيد ( 21/287).
وحريُّ بالعلماء والدعاة أن يتحدثوا عن منزلة الدعاء من النصيحة ، ويحثوا الناس كافة عليه ، ويخبروهم أن هذا هو منهج السلف الصالح ، مبينين آثار هذا الدعاء ، والفوائد المترتبة عليه ، وسنذكر شيئا منها إِن شاء الله .
وعلى الخطباء أن لا ينسوا ولي الأمر من دعائهم يوم الجمعة ، ولو لم يكن في دعائهم له إِلا تعليمُ الحضور ، لكفى بذلك فائدة .قال الشيخ الدكتور صالح الفوزان ويسن أن يدعو – أي الخطيب – للمسلمين بما فيه صلاح دينهم ودنياهم ، ويدعو لإِمام المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والتوفيق وكان الدعاء لولاة الأمور في الخطبة معروفا عند المسلمين ، وعليه عملهم ، لأن الدعاء لولاة أمور المسلمين بالتوفيق والصلاح ، من منهج أهل السنة والجماعة ، وتركه من منهج المبتدعة ، قال الإِمام أحمد : ( لو كان لنا دعوة مستجابة ، لدعونا بها للسلطان ) ولأن في صلاحه صلاح المسلمين .
وقد تُركت هذه السنة حتى صار الناس يستغربون الدعاء لولاة الأمور ويسيئون الظن بمن يفعله ) .من فوائد الدعاء لولاة الأمر
الدعاء لولاة الأمر له فوائد عدة وعوائد ثرِّة ، وقد رغبتُ في أن أذيل هذا البحث بذكر ما تحصل لدي من تلكم الفوائد ، عسى أن تكون دافعا لي ولغيري على الدعاء لوليِّ الأمر ، فأقول :
الفائدة الأولى : أن المسلم حين يدعو لولي أمره ، فإِنه يتعبد ربه بهذا الدعاء ، ذلك لأن سمعه وطاعته لولي الأمر ، إِنما كانا بسبب أمر الله له وأمر رسوله ، فالله تعالى يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء{59}
والنبي يقول ( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إِلا أن يؤمر بمعصية )) متفق عليه.
فالمسلم إِذن يسمع ويطيع تعبُّدا ، ومن السمع والطاعة لولي الأمر الدعاء له . قال ناصر الدين ابن المُنَيِّر رحمه الله ( ت سنة 681 هـ) : ( الدعاء للسلطان الواجب الطاعة ، مشروع بكل حال ) .
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله : ( الدعاء لولي الأمر من أعظم القربات ومن أفضل الطاعات ...).الفائدة الثانية : أن في الدعاء لولي الأمر إِبراءً للذمة ؛ إذ الدعاء من النصيحة
والنصيحة واجبة على كل مسلم ، قال الإِمام أحمد بن حنبل رحمه الله : ( إِني لأدعو له [أي السلطان ] بالتسديد والتوفيق - في الليل والنهار – والتأييد وأرى ذلك واجبا عليَّ ) . ولقد مرت بك سلفا كلمةُ الشيخ العلامة عبد الرحمن ابن سعدي ، وكان مما جاء فيه قوله رحمه الله : ( وأما النصيحة لأئمة المسلمين ، وهم ولاتهم ؛ من السلطان الأعظم ، إِلى الأمير ، إِلى القاضي ، إِلى جميع من لهم ولاية صغيرة أو كبيرة ، فهؤلاء لما كانت مهماتهم وواجباتهم أعظم من غيرهم ، وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم ، وذلك باعتقاد إِمامتهم ، والاعتراف بولايتهم ، ووجوب طاعتهم بالمعروف ، وعدم الخروج عليهم ... والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق ، فإِن صلاحهم صلاحٌ لرعيتهم ...).وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله : ( من مقتضى البيعة النصح لولى الأمر ، ومن النصح الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة ).الفائدة الثالثة : أن الدعاء لولي الأمر من علامات أهل السنة والجماعة فالذي يدعو لوليِّ أمره ، متَّسم بسمة من سمات أهل السنة والجماعة ،قال الإِمام أبو محمد البربهاري رحمه الله : ( وإِذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى ، وإِذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح ، فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله ) . وقال الإِمام الآجري رحمه الله ( ت 360 هـ) : ( قد ذكرتُ من التحذير عن مذاهب الخوارج ما فيه بلاغ لمن عصمه الله عزوجل الكريم عن مذهب الخوارج ، ولم بر رأيهم ، وصبر على جور الأئمة وحَيْف الأمراء ولم يخرج عليهم بسيفه ، وسأل الله العظيم أن يكشف الظلم عنه وعن جميع المسلمين ، ودعا للولاة بالصلاح ، وحج معهم ، وجاهد معهم كل عدو للمسلمين ، وصلى خلفهم الجمعة والعيدين ، ... فمن كان هذا وصفه كان على الطريق المستقيم إِن شاء الله
تعالى ) .
الفائدة الرابعة : أن في هذا الدعاء تصديقاً لمبدأ السمع والطاعة ، وتأكيداً له ، وإعلاناً به ، ولهذا حين اقتحم رجال الخليفة المتوكل على الإِمام أحمد بيته- على إِثر وشاية – كان فيما قال لهم رحمه الله : (... إِني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلنية ، وفي عسري ويسري ، ومنشطي ومكرهي ، وأثرة علي . وإِني لأدعو له بالتسديد والتوفيق ، في الليل والنهار ...) .
ففي قول الإِمام أحمد : (( وإِني لأدعو له ...) تأكيد لما يعتقده من السمع والطاعة وإِقرار به ، ولهذا ؛ خلَّى سبيله رجال لخليفة.
الفائدة الخامسة: أن الدعاء لولي الأمر عائد نفعه الأكبر إِلى الرعية أنفسهم ، فإِن ولي الأمر إِذا صلح ، صلحت الرعية ، واستقامت أحوالها ، وهنئ عيشها.أخرج البخاري في صحيحه عن قيس بن أبي حازم أن امرأة سألت أبي بكر الصديق ; فقالت : ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية ؟ فقال أبو بكر : ( بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم )
قال ابن حجر رحمه الله أي : لأن الناس على دين ملوكهم ، فمن حاد من الأئمة عن الحال ، مال وأمال ) .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : (اعلموا أن الناس لن يزالوا بخير ، ما استقامت لهم ولاتهم وهداتُهم ) .
وقال القاسم بن مخيمرة ( ت سنة 100 هـ) رحمه الله : ( إِنما زمانكم سلطانكم فإذا صلح سلطانكم صلح زمانكم ، و إِذا فسد سلطانكم فسد زمانكم) .
وقال ابن المنير رحمه الله نُقل عن بعض السلف أنه دعا لسلطان ظالم ، فقيل له : أتدعو له وهو ظالم ؟ فقال :إِي والله أدعو له ، إِن ما يَدفعُ الله ببقائه ، أعظمُ مما يندفع بزواله. – قال ابن الُمنِّير – لا سيما إِذا ضُمِّن ذلك الدعاء بصلاحه وسداده وتوفيقه) .
ولقد سئل الفضيل بن عياض – رحمه الله – حين سمع يقول : ( لو كانت لي دعوةٌ مستجابة ما جعلتها إِلا في السلطان) فقيل له : يا أبا علي فَسِّر لنا هذا ، فقال إذا جعلتُها في نفسي لم تَعْدُني .وإِذا جعلتها في السلطان صَلَح فصَلَح بصلاحه العبادُ والبلاد ) . وفي بعض الروايات لأنه إِذا صلح الإِمام أَمِن البلادُ والعباد) .
وجاءت هذه الإِجابة أكثر تفصيلا عند أبي نعيم في (( الحلية )) ،إِذ قال الفضيل أما صلاح البلاد ، فإِذا أمن الناس ظلم الإِمام عَمَروا الخرابات ، ونزلوا الأرض ، وأما العباد فينظر إِلى قوم من أهل الجهل ، فيقول : قد شغلهم طلب المعيشة عن طلب ما ينفعهم من تعلم القرآن وغيره ، فيجمعهم في دار ، خمسين خمسين أقل أو أكثر ، يقول للرجل : لك ما يصلحك ، وعلم هؤلاء أمر دينهم ، وانظر ما أخرج الله عزوجل من فيئهم مما يزكي الأرض ، فرده عليهم . قال – أي الفضيل - : فكان صلاحُ العباد والبلاد ) .
ولقد راقتْ هذه الكلمات الإِمام عبد الله بن المبارك رحمه الله ، وأعجبه هذا الفقهُ والاستنباط ، فقبِّل جبهة الفضيل وقال له : ( يا معلم الخير ، مَنْ يحسن هذا غيرك؟) .
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله :
( أنشدني أحمد بن عمر بن عبد الله لنفسه في قصيدة له :
نسأل الله صلاحــــا للولاة الرؤســـاء
فصلاح الدِّين والـــدُّ نيا صلاحُ الأمـراءِ
فبهمْ يلتئمُ الشَّمـلُ على بُعْد الـتنـاءِ
وهم الُمغْنُون عنــــا في مواطين العناءً
أقول : فليتأمل المتأملون ؛ كم ضيَّع كثر من الناس على أنفسهم من الخير ، بتركهم الدعاءَ لولاة أمورهم.الفائدة السادسة: أن وليَّ الأمر إِذا بلغه أن الرَّعية تدعو له ، فإِنه يُسرُّ بذلك غاية السرور ، ويدعوه ذلك إِلى محبتهم ورفع المؤن ونـحوها عنهم ، ولا يزال يبحث عمَّا فيه سعاتهم ، وربما بادلهم الدعاء بالدعاء.ومما يذكر ههنا ما رواه عبد الله بن الإِمام أحمد في (( السنة)) من خبر والده حين كتب كتابا أجاب فيه عن الخليفة المتوكل عن مسألة القرآن ، وكانت مسألة معرفة لا مسألة امتحان .قال عبد الله : فلما كتب أبي الجواب ، أمَرَنا بعَرْضه على عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل .
وظاهر أن الإِمام أحمد يستشير هذا الوزير في أسلوب الخطاب وما يناسب الخليفة ، لا مضمونه ، وحسنا فعل ، فإِن الوزراء أعرفُ من غيرهم بما يلائم نفوسَ مستوزريهم.
قال عبد الله : قال أبي : ( فإِن أمركم – أي ابن خاقان – أن تَنْقُصوا منه شيئا ، فانقصوا له ، وإِن زاد شيئا فرُدُّوه إِلىَّ حتى أعرف ذلك ).
فلما وقف ابنُ خاقان على الجواب ، بادر قائلا : ( يحتاج أن يُزادَ فيه دعاءٌ للخليفة فإِنه يُسرُّ بذلك ..).
فأخبر هذا الوزير بما يُبهجُ الخليفة ويدخلُ السرورَ على نفسه ، ولهذا استجاب الإِمام أحمد لرأيه ، وضمَّن جوابه جملا من الدعاء ، كقوله إِني أسأل الله عزوجل أن يديم توفيق أمير المؤمنين ، أعَزه الله بتأييده ...) .
ونـحن نسأل الله بأسمائه وصفاته ، أن يصلح ولاة أمر المسلمين ، وأن يأخذ بأيديهم إِلى الحق ، كما نسأله سبحانه التوفيق ، ونعوذ به من الخذلان و اتباع الهوى ، و هذا آخر ما تيسر إِيراده
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدعاء لولاة الأمر كتيب من إصدار وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في السعودية
صدر سنة 1416 هـ
منقول بتصرف
حَرَص أئمة أهل السنة والجماعة منذ القرون الأولى على بيان ذلك السبيل السَّوي الذي سار عليه – في معتقدهم – خيارُ الأمة بعد نبيها ؛ من الصحابة والتابعين ومن اقتفى أثرهم بإِحسان .
وبديهي أن من أجل غاياتهم في هذا البيان ، تمييز منهج أهل السنة العقدي، عن غيره من المناهج البدعية الطارئة ، حتى لا يختلط الأمر على طالب الحق ومُبتغى الرشُّد ،وكان من القضايا التي تناولوها بالبيان والتحليل ، وجعلوها – فيما ظهر لهم – من أصول أهل السنة ، طاعة أولي الأمر وعدمُ الخروج عليهم ، ولم يقفوا عند هذا ، بل جاوزوه إِلى ما هو أخص منه ، وهو الدعاء لأولي الأمر بالتوفيق والصلاح والسداد .ولعمر الله إِن هذا لهو الحق ، ففي صلاح ولاة الأمر صلاح العباد والبلاد ، كما قال القاضي عياض رحمه الله .
وإِليك ما وقفنا عليه من مقالاتهم في هذا الباب : يقول الإِمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله (( ت سنة 321 هـ )) في (( عقيدته المشهورة )) ما نصه
( ولا نرى الخروج على أئمتنا و ولاة أمورنا وإِن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزوجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة ) .
وقال إِمام أهل السنة في عصره أبو محمد البربهاريُّ رحمه الله (( ت سنة 329 هـ)) في (( شرح السنة )) : ( فأمرنا أن ندعوا لهم بالصلاح ، ولم نؤمر أن ندعوا عليهم ، وإن ظلموا وإن جاروا ، لأن ظلمهم وجورهم على أنفسهم ، وصلاحهم لأنفسهم و للمسلمين ) .
وقال الإِمام الحافظ أبو بكر الإِسماعيلي (( ت سنة 371 هـ )) رحمه الله في
(( اعتقاد أهل السنة )): ( و يرون [ أي أهل السنة و الجماعة] الصلاةَ ؛ الجمعة وغيرها ، خلف كل إِمام مسلم ، براًّ كان أو فاجرا ... ويرون الدعاء لهم بالصلاح والعطف إِلى العدل ) .
وقال الإِمام شيخ الإِسلام أبو عثمان الصابوني رحمه الله (( ت سنة 449 هـ )) في (( عقيدة السلف وأصحاب الحديث )) : ( ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين و غيرهما من الصلوات ، خلف كل إِمام ، برا كان أو فاجراً ، ويرون جهاد الكفرة معهم ، وإِن كانوا جَوَرة فجرة ، ويرون الدعاء لهم بالإِصلاح والتوفيق والصلاح ، وبسط العدل في الرعية ) .
واعلم أيها الأخ الكريم ؛ أن هؤلاء الأئمة الهداة لم يكونوا ليكتفوا بتسطير هذه الكلمات في مؤلفاتهم وحسب ، بل كانوا يطبقون هذا الأمر في حياتهم العملية ، ويفوهون به أمام أهل الناس تعليما لهم وإِرشادا ، ودونك مثالا على هذا إِمامَ أهل السنة الصِّديق الثاني أبا عبد الله أحمد بن حنبل – رحمه الله ورضي عنه – فمع تعدد ما كتب هذا الإِمام في الحث على طاعة السلطان والدعاء له ، ضمن النُّبذ التي كان يكتبها في اعتقاد أهل الإِيمان ، فإِنه كان أيضاً دائم الدعاء للسلطان ، وبخاصة إِذا مر ذكره ، أو عَرَض له ذكر في أثناء مسألة .قال أبو بكر المروذي : سمعت أبا عبد الله ، وذُكر الخليفةُ المتوكل ، فقال : ( إِني لأدعو له بالصلاح والعافية ..) .
وقال أحمد بن الحسين بن حسان – وهو أحد أصحاب الإِمام أحمد – سمعت أبا عبد الله وسئل عن طاعة السلطان ، فقال بيده : عافى الله السلطان ، تنبغي ، سبحان الله ! السلطان ؟ .
ولقد بالغ هذا الإِمام في حث الناس على الدعاء لولي الأمر فأرسل مقولته التي اشتهرت اشتهار الشمس ، وأصبحت حكمةً تتناقلها الألسنة ، وهي ( لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها إِلا في السلطان )) .وهذا يدلك على عظيم فقه هذا الإِمام الراشد و بُعْدِ نظره ، فهو يريد أولا أن يعلِّم الناس مبدأ السمع والطاعة ، ويريد منهم ثانياً أن تلهج ألسنتهم بدعوات صادقة ، يسألون الله فيها الهداية للسلطان ، وأن يأخذ بيده إِلى الحق .
فحريُّ بالمسلمين الذين يرغبون في القيام بواجب النصيحة ، وسلوك جادة السلف ، حريُّ بهم أن يخصُّوا ولاة أمرهم بشيء من دعائهم ، ويا ليت المشتغلين بأعراض الولاة أمسكوا عن ما هم فيه ، واستبدلوا به الدعاء ، فلو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم ، على أن الاشتغال بالأعراض لا يقِّرب بعيدا ولا يقيم معوجّا ، وإِنما يوغر الصدور ويجلب الأوزار، قال الحافظ أبو إِسحاق السبيعي : ( ما سب قومٌ أميرهم إِلا حُرموا خيره ) رواه ابن عبد البر في التمهيد ( 21/287).
وحريُّ بالعلماء والدعاة أن يتحدثوا عن منزلة الدعاء من النصيحة ، ويحثوا الناس كافة عليه ، ويخبروهم أن هذا هو منهج السلف الصالح ، مبينين آثار هذا الدعاء ، والفوائد المترتبة عليه ، وسنذكر شيئا منها إِن شاء الله .
وعلى الخطباء أن لا ينسوا ولي الأمر من دعائهم يوم الجمعة ، ولو لم يكن في دعائهم له إِلا تعليمُ الحضور ، لكفى بذلك فائدة .قال الشيخ الدكتور صالح الفوزان ويسن أن يدعو – أي الخطيب – للمسلمين بما فيه صلاح دينهم ودنياهم ، ويدعو لإِمام المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والتوفيق وكان الدعاء لولاة الأمور في الخطبة معروفا عند المسلمين ، وعليه عملهم ، لأن الدعاء لولاة أمور المسلمين بالتوفيق والصلاح ، من منهج أهل السنة والجماعة ، وتركه من منهج المبتدعة ، قال الإِمام أحمد : ( لو كان لنا دعوة مستجابة ، لدعونا بها للسلطان ) ولأن في صلاحه صلاح المسلمين .
وقد تُركت هذه السنة حتى صار الناس يستغربون الدعاء لولاة الأمور ويسيئون الظن بمن يفعله ) .من فوائد الدعاء لولاة الأمر
الدعاء لولاة الأمر له فوائد عدة وعوائد ثرِّة ، وقد رغبتُ في أن أذيل هذا البحث بذكر ما تحصل لدي من تلكم الفوائد ، عسى أن تكون دافعا لي ولغيري على الدعاء لوليِّ الأمر ، فأقول :
الفائدة الأولى : أن المسلم حين يدعو لولي أمره ، فإِنه يتعبد ربه بهذا الدعاء ، ذلك لأن سمعه وطاعته لولي الأمر ، إِنما كانا بسبب أمر الله له وأمر رسوله ، فالله تعالى يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء{59}
والنبي يقول ( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إِلا أن يؤمر بمعصية )) متفق عليه.
فالمسلم إِذن يسمع ويطيع تعبُّدا ، ومن السمع والطاعة لولي الأمر الدعاء له . قال ناصر الدين ابن المُنَيِّر رحمه الله ( ت سنة 681 هـ) : ( الدعاء للسلطان الواجب الطاعة ، مشروع بكل حال ) .
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله : ( الدعاء لولي الأمر من أعظم القربات ومن أفضل الطاعات ...).الفائدة الثانية : أن في الدعاء لولي الأمر إِبراءً للذمة ؛ إذ الدعاء من النصيحة
والنصيحة واجبة على كل مسلم ، قال الإِمام أحمد بن حنبل رحمه الله : ( إِني لأدعو له [أي السلطان ] بالتسديد والتوفيق - في الليل والنهار – والتأييد وأرى ذلك واجبا عليَّ ) . ولقد مرت بك سلفا كلمةُ الشيخ العلامة عبد الرحمن ابن سعدي ، وكان مما جاء فيه قوله رحمه الله : ( وأما النصيحة لأئمة المسلمين ، وهم ولاتهم ؛ من السلطان الأعظم ، إِلى الأمير ، إِلى القاضي ، إِلى جميع من لهم ولاية صغيرة أو كبيرة ، فهؤلاء لما كانت مهماتهم وواجباتهم أعظم من غيرهم ، وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم ، وذلك باعتقاد إِمامتهم ، والاعتراف بولايتهم ، ووجوب طاعتهم بالمعروف ، وعدم الخروج عليهم ... والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق ، فإِن صلاحهم صلاحٌ لرعيتهم ...).وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله : ( من مقتضى البيعة النصح لولى الأمر ، ومن النصح الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة ).الفائدة الثالثة : أن الدعاء لولي الأمر من علامات أهل السنة والجماعة فالذي يدعو لوليِّ أمره ، متَّسم بسمة من سمات أهل السنة والجماعة ،قال الإِمام أبو محمد البربهاري رحمه الله : ( وإِذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى ، وإِذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح ، فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله ) . وقال الإِمام الآجري رحمه الله ( ت 360 هـ) : ( قد ذكرتُ من التحذير عن مذاهب الخوارج ما فيه بلاغ لمن عصمه الله عزوجل الكريم عن مذهب الخوارج ، ولم بر رأيهم ، وصبر على جور الأئمة وحَيْف الأمراء ولم يخرج عليهم بسيفه ، وسأل الله العظيم أن يكشف الظلم عنه وعن جميع المسلمين ، ودعا للولاة بالصلاح ، وحج معهم ، وجاهد معهم كل عدو للمسلمين ، وصلى خلفهم الجمعة والعيدين ، ... فمن كان هذا وصفه كان على الطريق المستقيم إِن شاء الله
تعالى ) .
الفائدة الرابعة : أن في هذا الدعاء تصديقاً لمبدأ السمع والطاعة ، وتأكيداً له ، وإعلاناً به ، ولهذا حين اقتحم رجال الخليفة المتوكل على الإِمام أحمد بيته- على إِثر وشاية – كان فيما قال لهم رحمه الله : (... إِني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلنية ، وفي عسري ويسري ، ومنشطي ومكرهي ، وأثرة علي . وإِني لأدعو له بالتسديد والتوفيق ، في الليل والنهار ...) .
ففي قول الإِمام أحمد : (( وإِني لأدعو له ...) تأكيد لما يعتقده من السمع والطاعة وإِقرار به ، ولهذا ؛ خلَّى سبيله رجال لخليفة.
الفائدة الخامسة: أن الدعاء لولي الأمر عائد نفعه الأكبر إِلى الرعية أنفسهم ، فإِن ولي الأمر إِذا صلح ، صلحت الرعية ، واستقامت أحوالها ، وهنئ عيشها.أخرج البخاري في صحيحه عن قيس بن أبي حازم أن امرأة سألت أبي بكر الصديق ; فقالت : ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية ؟ فقال أبو بكر : ( بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم )
قال ابن حجر رحمه الله أي : لأن الناس على دين ملوكهم ، فمن حاد من الأئمة عن الحال ، مال وأمال ) .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : (اعلموا أن الناس لن يزالوا بخير ، ما استقامت لهم ولاتهم وهداتُهم ) .
وقال القاسم بن مخيمرة ( ت سنة 100 هـ) رحمه الله : ( إِنما زمانكم سلطانكم فإذا صلح سلطانكم صلح زمانكم ، و إِذا فسد سلطانكم فسد زمانكم) .
وقال ابن المنير رحمه الله نُقل عن بعض السلف أنه دعا لسلطان ظالم ، فقيل له : أتدعو له وهو ظالم ؟ فقال :إِي والله أدعو له ، إِن ما يَدفعُ الله ببقائه ، أعظمُ مما يندفع بزواله. – قال ابن الُمنِّير – لا سيما إِذا ضُمِّن ذلك الدعاء بصلاحه وسداده وتوفيقه) .
ولقد سئل الفضيل بن عياض – رحمه الله – حين سمع يقول : ( لو كانت لي دعوةٌ مستجابة ما جعلتها إِلا في السلطان) فقيل له : يا أبا علي فَسِّر لنا هذا ، فقال إذا جعلتُها في نفسي لم تَعْدُني .وإِذا جعلتها في السلطان صَلَح فصَلَح بصلاحه العبادُ والبلاد ) . وفي بعض الروايات لأنه إِذا صلح الإِمام أَمِن البلادُ والعباد) .
وجاءت هذه الإِجابة أكثر تفصيلا عند أبي نعيم في (( الحلية )) ،إِذ قال الفضيل أما صلاح البلاد ، فإِذا أمن الناس ظلم الإِمام عَمَروا الخرابات ، ونزلوا الأرض ، وأما العباد فينظر إِلى قوم من أهل الجهل ، فيقول : قد شغلهم طلب المعيشة عن طلب ما ينفعهم من تعلم القرآن وغيره ، فيجمعهم في دار ، خمسين خمسين أقل أو أكثر ، يقول للرجل : لك ما يصلحك ، وعلم هؤلاء أمر دينهم ، وانظر ما أخرج الله عزوجل من فيئهم مما يزكي الأرض ، فرده عليهم . قال – أي الفضيل - : فكان صلاحُ العباد والبلاد ) .
ولقد راقتْ هذه الكلمات الإِمام عبد الله بن المبارك رحمه الله ، وأعجبه هذا الفقهُ والاستنباط ، فقبِّل جبهة الفضيل وقال له : ( يا معلم الخير ، مَنْ يحسن هذا غيرك؟) .
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله :
( أنشدني أحمد بن عمر بن عبد الله لنفسه في قصيدة له :
نسأل الله صلاحــــا للولاة الرؤســـاء
فصلاح الدِّين والـــدُّ نيا صلاحُ الأمـراءِ
فبهمْ يلتئمُ الشَّمـلُ على بُعْد الـتنـاءِ
وهم الُمغْنُون عنــــا في مواطين العناءً
أقول : فليتأمل المتأملون ؛ كم ضيَّع كثر من الناس على أنفسهم من الخير ، بتركهم الدعاءَ لولاة أمورهم.الفائدة السادسة: أن وليَّ الأمر إِذا بلغه أن الرَّعية تدعو له ، فإِنه يُسرُّ بذلك غاية السرور ، ويدعوه ذلك إِلى محبتهم ورفع المؤن ونـحوها عنهم ، ولا يزال يبحث عمَّا فيه سعاتهم ، وربما بادلهم الدعاء بالدعاء.ومما يذكر ههنا ما رواه عبد الله بن الإِمام أحمد في (( السنة)) من خبر والده حين كتب كتابا أجاب فيه عن الخليفة المتوكل عن مسألة القرآن ، وكانت مسألة معرفة لا مسألة امتحان .قال عبد الله : فلما كتب أبي الجواب ، أمَرَنا بعَرْضه على عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل .
وظاهر أن الإِمام أحمد يستشير هذا الوزير في أسلوب الخطاب وما يناسب الخليفة ، لا مضمونه ، وحسنا فعل ، فإِن الوزراء أعرفُ من غيرهم بما يلائم نفوسَ مستوزريهم.
قال عبد الله : قال أبي : ( فإِن أمركم – أي ابن خاقان – أن تَنْقُصوا منه شيئا ، فانقصوا له ، وإِن زاد شيئا فرُدُّوه إِلىَّ حتى أعرف ذلك ).
فلما وقف ابنُ خاقان على الجواب ، بادر قائلا : ( يحتاج أن يُزادَ فيه دعاءٌ للخليفة فإِنه يُسرُّ بذلك ..).
فأخبر هذا الوزير بما يُبهجُ الخليفة ويدخلُ السرورَ على نفسه ، ولهذا استجاب الإِمام أحمد لرأيه ، وضمَّن جوابه جملا من الدعاء ، كقوله إِني أسأل الله عزوجل أن يديم توفيق أمير المؤمنين ، أعَزه الله بتأييده ...) .
ونـحن نسأل الله بأسمائه وصفاته ، أن يصلح ولاة أمر المسلمين ، وأن يأخذ بأيديهم إِلى الحق ، كما نسأله سبحانه التوفيق ، ونعوذ به من الخذلان و اتباع الهوى ، و هذا آخر ما تيسر إِيراده
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدعاء لولاة الأمر كتيب من إصدار وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في السعودية
صدر سنة 1416 هـ
منقول بتصرف