jfal
03-06-2007, 05:34 PM
[COLOR="Blue"][SIZE="4"]الروح بين عالم الخلق وعالم الأمر
دكتور / محمود السيد خطاب
استشاري الجراحة بمستشفى السنبلاويند
وصاحب العديد من المؤلفات في مجال الدعوة الإسلامية.
تظل الآية رقم /85/ من سورة الإسراء.. { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } [الإسراء: 85]... من يوم نزولها وهي مثار تساؤلات من عامة المسلمين وخاصتهم عن معناها ومثار آراء متباينة من المفسرين: من حيث المراد من قول الله عن الروح وعن أمره وعن موضوع العلم القليل الذي يؤتاه المخاطبون بالآية... ومثار بحث العلماء عن مصدر العلم الكثير الذي يشبع رغبة الإنسان إلى المعرفة ويكافئ حبه لاستطلاع الغيب ودأبه لكشف المجهول...
وتظل الروح – من قبل نزول الآية ومن بعد – مثار تساؤلات حائرة بين الناس عن أصلها وحقيقة وجودها وعن آثارها وماهيتها وعن مصيرها بنهاية الحياة الدنيا وعن موقعها في دار القرار...
ونحن من جانبنا في هذا اللقاء سنجلي – بعون الله وتوفيقه – بعض دقائق ذلك إذ تجد في الكتاب – الذي أنزله الله تبياناً لكل شيء – بيان ما غاب عنا وغمض على أفهامنا واستعصى عن البيان شريطة الإقبال على مأدبة الله... مؤمنين بكل حرف فيه وكل كلمة وآية...
وقد وجدت في كتاب الله... أن علوم الإنسان كلها مكتسبة لقول الله... { وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [النحل: 87]. وأن العلوم بعد ذلك تصل إلى قلب الإنسان بطرق ثلاث:
* الطريق الحسي للحصول على العلم المادي.. المكتسب عن طريق الحواس:
والعلم من هذا الطريق متاح للحيوان والإنسان فور الخروج إلى الحياة الدنيا ويجب التذكير بأن الحيوانات تقبل التعلم على اختلاف بينها في درجة التحصيل فمنها الصقر القناص والكلب المعلَّم وكلاب الحراسة.
ولكن الطريق الحسي ضيق ومحدود … ضيق لأنه يتعلق بالماديات فقط دون موجودات عالم الغيب والملكوت وضيق لأنه يتعلق بالظواهر والمظاهر دون الماهيات والحقائق … وضيق لأنه يتوقف على الحواس ثم إنه مفيد ومحدود بدقة الحواس وطاقاتها ومدى كل منها وغير ذلك مما هو موضوع دراسات علم وظائف الأعضاء في الحيوان وفي الإنسان …
فنحن نعلم أن عين الإنسان وأذنه (1) – بل كل حواسه – تستجيب لمتغيرات بيئية ذات شدة معينة بحيث لا تحس المؤثرات التي تقل عن ذلك أو تتجاوز مداه وشدته.
ثم إن الثقة في العلم المتحصل عن طريق الحواس: محل شك العلماء والفلاسفة وذلك لاختلاف الناس في إدراكاتهم الحسية ولتعرض أعضاء الحس وأدواته للمرض ( فقد لا ترى العين ضوء الشمس من رمد)... فوق أن العلم الحسي يتعرض بطبيعة الحصول عليه لظواهر الزيغ والطغيان فيما يصفه المختصون بظاهرة (خداع الحواس) وأثبته القرآن لكل من هم دون مرتبة الأنبياء والرسل: إذ نفاه عن خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم... { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } [النجم: 17].
وفوق ذلك فليس للحيوان علم من غير طريق الحواس وقد قرر القرآن الكريم في ذلك قولاً فصلاً: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف: 179].
لأن شأن الحواس أن تيسر مع الروح للإنسان طريقاً أوسع إلى علوم عقلية ومعارف قلبية لا يتحصل الحيوان عليها. رغم أن بعض أنواع الحيوان يفوق بني الإنسان في بعض نواحي العلم الحسي... فمن الحيوانات ما هو أحد بصراً أو أرهف سمعاً أو أدق شماً... ومنها ما يتحسس الزلازل والعواصف والبراكين.. قبل وقوعها... !!
ولكن علم الحيوان يقف عند حد العلم المادي لا يتخطاه إلى ما بعده لأن الحيوان لا يملك ما يكسب به علماً فوق ذلك ومنه الطريق الثاني للعلم..
* العلم عن طريق الاستدلال العقلي:
لاكتساب علوم ومعارف تتجاوز طاقات الحواس وتتخطى قدرات الحيوان لأن العلم بالاستدلال يتحصل للناس باستنباط نتائج وعلاقات غير محسوسة من مقدمات محسوسة فهو استدلال بالمشهود على الغائب.
ورغم أن هذا الطريق للعلم متاح لكل بني الإنسان إلا أن الفائدة منه تعظم لكل من يحسن استخدام آلاته … فمن الناس من يحسن الاستدلال عقلاً ومنهم من لا يتخطى المعلومة الحسية والمثل المشهور على أهمية هذا الطريق للإنسان وعلى فضل من يحسنون السعي خلاله: هو استنباط أن الأرض كروية وذلك بعد طول اعتقاد راسخ بكونها مسطحة وأن حافتها تنتهي إلى بحر الظلمات… وغيره من الخرافات !!
فقد استدل بعض الناس ببعض المشاهدات الحسية المتاحة للجميع على أن الأرض الممتدة أمامهم لا يمكن أن تكون مسطحة – بحسب التصور السائد وقتها – وأن الشكل الكروي، يتوافق مع المشاهدة العديدة مثل: ظاهرة الأفق وما نراه عند نهاية البصر … من انطباق السماء على الأرض. ثم ما نراه من امتداد الأفق.. كلما سرنا في اتجاهه وظهور خط أفق جديد.. لا ينتهي إلى حافة الأرض المسطحة..
ومن المشاهدات أيضاً: ظاهرة ظهور أعالي السفن القادمة إلى الموانئ قبل أسافلها واختفاء أسافل السفن الراحلة قبل أعاليها … ومشاهدات أخرى عديدة.. تجمعت هذه المعلومات حتى أصبحت كروية الأرض معلومة عقلية.. دل عليها النظر السليم واستنباط معلومة غير مشهودة … ( لا تدركها الحواس مباشرة).. من مقدمات وشواهد مادية بسيطة.
ثم ثبت بعد ذلك صحة الاستدلال على كروية الأرض وتحول التصور عن ذلك من معلومة عقلية إلى معلومة حسية … شاهدها رواد الفضاء بأعينهم في رحلاتهم إلى الفضاء الخارجي إذ وجدوا الأرض كرة معلقة في السماء ورأينا نحن صورها.
فيمكن للإنسان – بهذه الملكة – أن يحّكِم عقلاً.. بوجود ما لا تدركه الحواس وأن يحّكِم عقلاً – ضد ما تدركه الحواس: القاصرة بطبعها -: يكون السراب سراباً.
والمثل الذي أورده القرآن: أشد وضوحاً ودلالة – وهو حركة الظلال – يقول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } [الفرقان: 45-46]. فكل منا يحكم – دائماً – أن ظل الأشياء يتحرك رغم أن العين لا تبصر له مداً ولا قبضاً. ولكنه الحكم بالاستدلال.. استنباطاً ! من جمع مشاهدتين أو أكثر.. عن موضع الظل – في أوقات متلاحقة..
ولكن الاستدلال والاستنباط يتوقف على موجودات مادية: هي المقدمات والشواهد التي يتبنى عليها ويتوقف على من يحسن الاستدلال... ويتوقف على سلامة الاستدلال وتحريف الواقع.
وقد بث الله آيات كونية.. لتدل الناس عليه: (سبحانه وتعالى) وعلى وحدانيته ولكن كثيراً من الناس.. معرضون فلا يستدلون بالظواهر والآثار على الجواهر والحقائق ولا يعتبرون بالوقائع ولا يتذكرون ما ورائها من مقاصد ودوافع { وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [يوسف: 105]. وهؤلاء بالطبع محرومون من سبيل واسع إلى علم يفيدهم.. دنيا وآخرة.
وقد مدح الله الذين يستدلون بآيات كونه ويستنبطون من آيات قرآنه علوماً كثيراً اكتسبوها هم من الشواهد المتاحة لكل الناس: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83]. فالذين يقدرون على الاستنباط يكتسبون وحدهم علماً لا يكسبه غيرهم.. من ذات البيانات والآيات والمشاهدات المتاحة.
* طريق النبأ والخبر الصادق:
أما الطريق الثالث فهو الطريق الأوسع للعلوم والمعارف الإنسانية التي تكتسب عن طريق النبأ والخبر الصادق.. مسموعاً ومقروءاً ووحياً إذ يتعلق بالعلم عن الماضي، وإن تلاشت آثاره وشواهده: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 6-8] … وبالغيب الحاضر.. مكاناً وزماناً: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [الطلاق: 12]… وبالغيب الآتي حتماً: { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } [الأنبياء: 104].
فقد حددت الآية نهاية الكون على سبيل اليقين في مقابل ظن العلماء وتخميناتهم عن التوسع اللا نهائي له أو نهايته بالانسحاق العظيم أو عن طريق نظرية الأكوان المتجددة … إلى ما لا نهاية ويتعلق كذلك بالغيب المطلق: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11].
والإنسان لا يكتسب هذا العلم إلا بثقة في المخبر به حيث لا دليل على صحة الخبر إلا صدق المخبر والمنبئ وهذا هو الإيمان فمن آمن بكلام الوحي: فقد كسب علماً يقينياً واسعاً لا طريق له غيره وهو لا يتاح لغير المؤمن ومن ذلك علم المؤمنين عن الملائكة واليوم الآخر وعن الميزان والصراط وكتاب الأعمال وعن العرش والكرسي واللوح المحفوظ والقلم وعن الجنة والنار وعن الواحد القهار سبحانه وتعالى …
وعلم الناس بالروح:لا يقع إلا من هذا الطريق فهي لا تدرك ذاتاً بالحواس ولا تقاس إنما فقط توصف بآثارها التي وردت في نصوص الوحي المعصوم.. قرآناًً وسنة.
والعلم عن طريق النبأ والخبر الصادق يتيح للمؤمن علماً لا شكّ فيه في مقابل الاستدلال والعلم عن الطريق الحسي الذي لا يتيح إلا ظناً واحتمالات وذلك لطبيعة الحواس وما يظهر لها من الأشياء لا يقين للناس فيها { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [الروم: 7]. فلا يمكن الوقوف بعلم عن الروح.. بعيداً عن الوحي المحفوظ. فمن آمن بكلام الوحي عنها فقد كسب بإيمانه علماً.. لا طريق له غيره ولا طريق لغيره إليه إلا إذا آمن بما آمن به وذلكما عبر عنه القرآن بالآية: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } [الإسراء: 85].
ولا يُفهم من الآية إلا أنها تحمل الرد على سؤال وجه إلى الرسول عن الروح فنزلت الآية تحمل خبر السؤال وتحمل الرد لا تحمل النهي عن البحث فيها والرد محصور ولا شك في كلمات القرآن: { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85] إضافة إلى ما يفهم ضمناً عن قناعة المتحاورين بالرد وأن الذي يعلمه الإنسان قليل قليل: نسبة إلى ما لا يعلمه.. { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف: 76].
من ثم نبحث في كلمة القرآن: { أَمْرِ رَبِّي } إيماناً بها واهتداء بقرآن الله إلى العلم في آياته وكلماته لنجد أنها تشير إلى عالم مستقل عن الموجودات هو عالم الأمر ولنجد في آيات القرآن – كذلك – فارقاً فاصلاً بين عالم الخلق وعالم الأمر.
وأوضح مثال لتأصيل الفرق بينهما هو ظاهرة الليل والنهار التي تنتج عن دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس … فالأرض والشمس أجرام مخلوقة من مادة ذات تركيب وكثافة وحجم وكتلة … وقد خلق كل منهما على مراحل – أما الدوران الذي ينتج عنه الليل والنهار فهو أمر الله للأرض أن تدور حول نفسها أمام الشمس … فالليل والنهار – على ذلك – من موجودات عالم الأمر وهي موضوع علم أوسع كثيراً من العلم عن عالم الخلق والشهادة: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } [الإسراء: 85].
ويقع عالم الأمر ويتحقق وجوده في الواقع من لا شيء وفي لا زمن وإنما فقط بكلمة الله.. (كن) والتي تعني إيجاداً بالأمر.. لكائنات وإيقاعاً.. لأحداث وظواهر: لا تصنف ضمن موجودات عالم الخلق والشهادة.
دكتور / محمود السيد خطاب
استشاري الجراحة بمستشفى السنبلاويند
وصاحب العديد من المؤلفات في مجال الدعوة الإسلامية.
تظل الآية رقم /85/ من سورة الإسراء.. { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } [الإسراء: 85]... من يوم نزولها وهي مثار تساؤلات من عامة المسلمين وخاصتهم عن معناها ومثار آراء متباينة من المفسرين: من حيث المراد من قول الله عن الروح وعن أمره وعن موضوع العلم القليل الذي يؤتاه المخاطبون بالآية... ومثار بحث العلماء عن مصدر العلم الكثير الذي يشبع رغبة الإنسان إلى المعرفة ويكافئ حبه لاستطلاع الغيب ودأبه لكشف المجهول...
وتظل الروح – من قبل نزول الآية ومن بعد – مثار تساؤلات حائرة بين الناس عن أصلها وحقيقة وجودها وعن آثارها وماهيتها وعن مصيرها بنهاية الحياة الدنيا وعن موقعها في دار القرار...
ونحن من جانبنا في هذا اللقاء سنجلي – بعون الله وتوفيقه – بعض دقائق ذلك إذ تجد في الكتاب – الذي أنزله الله تبياناً لكل شيء – بيان ما غاب عنا وغمض على أفهامنا واستعصى عن البيان شريطة الإقبال على مأدبة الله... مؤمنين بكل حرف فيه وكل كلمة وآية...
وقد وجدت في كتاب الله... أن علوم الإنسان كلها مكتسبة لقول الله... { وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [النحل: 87]. وأن العلوم بعد ذلك تصل إلى قلب الإنسان بطرق ثلاث:
* الطريق الحسي للحصول على العلم المادي.. المكتسب عن طريق الحواس:
والعلم من هذا الطريق متاح للحيوان والإنسان فور الخروج إلى الحياة الدنيا ويجب التذكير بأن الحيوانات تقبل التعلم على اختلاف بينها في درجة التحصيل فمنها الصقر القناص والكلب المعلَّم وكلاب الحراسة.
ولكن الطريق الحسي ضيق ومحدود … ضيق لأنه يتعلق بالماديات فقط دون موجودات عالم الغيب والملكوت وضيق لأنه يتعلق بالظواهر والمظاهر دون الماهيات والحقائق … وضيق لأنه يتوقف على الحواس ثم إنه مفيد ومحدود بدقة الحواس وطاقاتها ومدى كل منها وغير ذلك مما هو موضوع دراسات علم وظائف الأعضاء في الحيوان وفي الإنسان …
فنحن نعلم أن عين الإنسان وأذنه (1) – بل كل حواسه – تستجيب لمتغيرات بيئية ذات شدة معينة بحيث لا تحس المؤثرات التي تقل عن ذلك أو تتجاوز مداه وشدته.
ثم إن الثقة في العلم المتحصل عن طريق الحواس: محل شك العلماء والفلاسفة وذلك لاختلاف الناس في إدراكاتهم الحسية ولتعرض أعضاء الحس وأدواته للمرض ( فقد لا ترى العين ضوء الشمس من رمد)... فوق أن العلم الحسي يتعرض بطبيعة الحصول عليه لظواهر الزيغ والطغيان فيما يصفه المختصون بظاهرة (خداع الحواس) وأثبته القرآن لكل من هم دون مرتبة الأنبياء والرسل: إذ نفاه عن خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم... { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } [النجم: 17].
وفوق ذلك فليس للحيوان علم من غير طريق الحواس وقد قرر القرآن الكريم في ذلك قولاً فصلاً: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف: 179].
لأن شأن الحواس أن تيسر مع الروح للإنسان طريقاً أوسع إلى علوم عقلية ومعارف قلبية لا يتحصل الحيوان عليها. رغم أن بعض أنواع الحيوان يفوق بني الإنسان في بعض نواحي العلم الحسي... فمن الحيوانات ما هو أحد بصراً أو أرهف سمعاً أو أدق شماً... ومنها ما يتحسس الزلازل والعواصف والبراكين.. قبل وقوعها... !!
ولكن علم الحيوان يقف عند حد العلم المادي لا يتخطاه إلى ما بعده لأن الحيوان لا يملك ما يكسب به علماً فوق ذلك ومنه الطريق الثاني للعلم..
* العلم عن طريق الاستدلال العقلي:
لاكتساب علوم ومعارف تتجاوز طاقات الحواس وتتخطى قدرات الحيوان لأن العلم بالاستدلال يتحصل للناس باستنباط نتائج وعلاقات غير محسوسة من مقدمات محسوسة فهو استدلال بالمشهود على الغائب.
ورغم أن هذا الطريق للعلم متاح لكل بني الإنسان إلا أن الفائدة منه تعظم لكل من يحسن استخدام آلاته … فمن الناس من يحسن الاستدلال عقلاً ومنهم من لا يتخطى المعلومة الحسية والمثل المشهور على أهمية هذا الطريق للإنسان وعلى فضل من يحسنون السعي خلاله: هو استنباط أن الأرض كروية وذلك بعد طول اعتقاد راسخ بكونها مسطحة وأن حافتها تنتهي إلى بحر الظلمات… وغيره من الخرافات !!
فقد استدل بعض الناس ببعض المشاهدات الحسية المتاحة للجميع على أن الأرض الممتدة أمامهم لا يمكن أن تكون مسطحة – بحسب التصور السائد وقتها – وأن الشكل الكروي، يتوافق مع المشاهدة العديدة مثل: ظاهرة الأفق وما نراه عند نهاية البصر … من انطباق السماء على الأرض. ثم ما نراه من امتداد الأفق.. كلما سرنا في اتجاهه وظهور خط أفق جديد.. لا ينتهي إلى حافة الأرض المسطحة..
ومن المشاهدات أيضاً: ظاهرة ظهور أعالي السفن القادمة إلى الموانئ قبل أسافلها واختفاء أسافل السفن الراحلة قبل أعاليها … ومشاهدات أخرى عديدة.. تجمعت هذه المعلومات حتى أصبحت كروية الأرض معلومة عقلية.. دل عليها النظر السليم واستنباط معلومة غير مشهودة … ( لا تدركها الحواس مباشرة).. من مقدمات وشواهد مادية بسيطة.
ثم ثبت بعد ذلك صحة الاستدلال على كروية الأرض وتحول التصور عن ذلك من معلومة عقلية إلى معلومة حسية … شاهدها رواد الفضاء بأعينهم في رحلاتهم إلى الفضاء الخارجي إذ وجدوا الأرض كرة معلقة في السماء ورأينا نحن صورها.
فيمكن للإنسان – بهذه الملكة – أن يحّكِم عقلاً.. بوجود ما لا تدركه الحواس وأن يحّكِم عقلاً – ضد ما تدركه الحواس: القاصرة بطبعها -: يكون السراب سراباً.
والمثل الذي أورده القرآن: أشد وضوحاً ودلالة – وهو حركة الظلال – يقول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } [الفرقان: 45-46]. فكل منا يحكم – دائماً – أن ظل الأشياء يتحرك رغم أن العين لا تبصر له مداً ولا قبضاً. ولكنه الحكم بالاستدلال.. استنباطاً ! من جمع مشاهدتين أو أكثر.. عن موضع الظل – في أوقات متلاحقة..
ولكن الاستدلال والاستنباط يتوقف على موجودات مادية: هي المقدمات والشواهد التي يتبنى عليها ويتوقف على من يحسن الاستدلال... ويتوقف على سلامة الاستدلال وتحريف الواقع.
وقد بث الله آيات كونية.. لتدل الناس عليه: (سبحانه وتعالى) وعلى وحدانيته ولكن كثيراً من الناس.. معرضون فلا يستدلون بالظواهر والآثار على الجواهر والحقائق ولا يعتبرون بالوقائع ولا يتذكرون ما ورائها من مقاصد ودوافع { وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [يوسف: 105]. وهؤلاء بالطبع محرومون من سبيل واسع إلى علم يفيدهم.. دنيا وآخرة.
وقد مدح الله الذين يستدلون بآيات كونه ويستنبطون من آيات قرآنه علوماً كثيراً اكتسبوها هم من الشواهد المتاحة لكل الناس: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83]. فالذين يقدرون على الاستنباط يكتسبون وحدهم علماً لا يكسبه غيرهم.. من ذات البيانات والآيات والمشاهدات المتاحة.
* طريق النبأ والخبر الصادق:
أما الطريق الثالث فهو الطريق الأوسع للعلوم والمعارف الإنسانية التي تكتسب عن طريق النبأ والخبر الصادق.. مسموعاً ومقروءاً ووحياً إذ يتعلق بالعلم عن الماضي، وإن تلاشت آثاره وشواهده: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 6-8] … وبالغيب الحاضر.. مكاناً وزماناً: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [الطلاق: 12]… وبالغيب الآتي حتماً: { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } [الأنبياء: 104].
فقد حددت الآية نهاية الكون على سبيل اليقين في مقابل ظن العلماء وتخميناتهم عن التوسع اللا نهائي له أو نهايته بالانسحاق العظيم أو عن طريق نظرية الأكوان المتجددة … إلى ما لا نهاية ويتعلق كذلك بالغيب المطلق: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11].
والإنسان لا يكتسب هذا العلم إلا بثقة في المخبر به حيث لا دليل على صحة الخبر إلا صدق المخبر والمنبئ وهذا هو الإيمان فمن آمن بكلام الوحي: فقد كسب علماً يقينياً واسعاً لا طريق له غيره وهو لا يتاح لغير المؤمن ومن ذلك علم المؤمنين عن الملائكة واليوم الآخر وعن الميزان والصراط وكتاب الأعمال وعن العرش والكرسي واللوح المحفوظ والقلم وعن الجنة والنار وعن الواحد القهار سبحانه وتعالى …
وعلم الناس بالروح:لا يقع إلا من هذا الطريق فهي لا تدرك ذاتاً بالحواس ولا تقاس إنما فقط توصف بآثارها التي وردت في نصوص الوحي المعصوم.. قرآناًً وسنة.
والعلم عن طريق النبأ والخبر الصادق يتيح للمؤمن علماً لا شكّ فيه في مقابل الاستدلال والعلم عن الطريق الحسي الذي لا يتيح إلا ظناً واحتمالات وذلك لطبيعة الحواس وما يظهر لها من الأشياء لا يقين للناس فيها { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [الروم: 7]. فلا يمكن الوقوف بعلم عن الروح.. بعيداً عن الوحي المحفوظ. فمن آمن بكلام الوحي عنها فقد كسب بإيمانه علماً.. لا طريق له غيره ولا طريق لغيره إليه إلا إذا آمن بما آمن به وذلكما عبر عنه القرآن بالآية: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } [الإسراء: 85].
ولا يُفهم من الآية إلا أنها تحمل الرد على سؤال وجه إلى الرسول عن الروح فنزلت الآية تحمل خبر السؤال وتحمل الرد لا تحمل النهي عن البحث فيها والرد محصور ولا شك في كلمات القرآن: { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85] إضافة إلى ما يفهم ضمناً عن قناعة المتحاورين بالرد وأن الذي يعلمه الإنسان قليل قليل: نسبة إلى ما لا يعلمه.. { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف: 76].
من ثم نبحث في كلمة القرآن: { أَمْرِ رَبِّي } إيماناً بها واهتداء بقرآن الله إلى العلم في آياته وكلماته لنجد أنها تشير إلى عالم مستقل عن الموجودات هو عالم الأمر ولنجد في آيات القرآن – كذلك – فارقاً فاصلاً بين عالم الخلق وعالم الأمر.
وأوضح مثال لتأصيل الفرق بينهما هو ظاهرة الليل والنهار التي تنتج عن دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس … فالأرض والشمس أجرام مخلوقة من مادة ذات تركيب وكثافة وحجم وكتلة … وقد خلق كل منهما على مراحل – أما الدوران الذي ينتج عنه الليل والنهار فهو أمر الله للأرض أن تدور حول نفسها أمام الشمس … فالليل والنهار – على ذلك – من موجودات عالم الأمر وهي موضوع علم أوسع كثيراً من العلم عن عالم الخلق والشهادة: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } [الإسراء: 85].
ويقع عالم الأمر ويتحقق وجوده في الواقع من لا شيء وفي لا زمن وإنما فقط بكلمة الله.. (كن) والتي تعني إيجاداً بالأمر.. لكائنات وإيقاعاً.. لأحداث وظواهر: لا تصنف ضمن موجودات عالم الخلق والشهادة.