المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الموازنة حين تهين «الرقم»!



مغروور قطر
28-07-2007, 04:57 AM
الموازنة حين تهين «الرقم»!
كتب عبادة أحمد: ما كشفت عنه «رويترز» الأسبوع الماضي، من أن فائض الميزانية العامة بلغ فعلياً 3.652 مليار دينار، انخفاضا من 5.493 مليار دينار في العام الماضي لا يجوز أن يكون خبراً عابراً.
أولى المشكلات في هذه الحقيقة المرة أنها تسربت عبر وكالة أنباء، وليس عبر بيان دوري صادر عن الوزارة، إلا أن المشكلة الشكلية هذه ليست إلا أهون المصائب، أما المصائب الأخرى فلا تحمل وزارة المالية منها إلا جزءاً، ولو كبيراً منها.
فجأة، وبخبر صحافي صغير، كان على الكويتيين أن يدركوا أن الحسابات أخطأت بفارق 1.841 مليار دينار، أي ما يساوي 6.5 مليار دولار فقط- بحسب آخر أسعار الصرف المحددة من البنك المركزي. هذا الخطأ الحسابي، أو التقديري يساوي ميزانية بلد مثل لبنان، ونصف ميزانية بلد مثل سورية.
بالطبع، من حق وزارة المالية أن تحيل الأمر إلى المصروفات التي تزداد في آخر السنة المالية عادة، وبشكل يفوق أي توقع، فضلاً عن مزاريب الإسراف القانوني جداً، الذي تتسبب به مشاريع القوانين الشعبوية، والتنفيعات في الكثير من الإدارات الخدمية.
لكن المشكلة أعمق بكثير، وهي تعدو كونها خطأً ينتمي إلى علم المحاسبة أو الرياضيات، إنها خطيئة تنتمي إلى علمي الاقتصاد والسياسة، وهي خطيئة مستمرة منذ عقود.
لا معنى للرقم في هذا البلد. تقر الحكومة ومن بعدها مجلس الأمة ميزانية تقدر العجز بمليارات الدنانير، من دون ان يكون للانفاق المبالغ فيه سبب مبرر، ثم تأتي الأرقام الفعلية بفائض يبلغ ثلاثة أو أربعة أو خمسة مليارات دينار. ويظن البعض أن على الجمهور أن يصفق للنجاح في تحقيق نتيجة أفضل من التوقعات، لكن ماذا لو كانت التوقعات «مزحة» ثقيلة لا أحد يصدقها؟
هل من إهانة للرقم أكبر من أن تأتي الأرقام الحقيقية بعيدة عن توقعات الحكومة بضعة مليارات بالزيادة، وبعيدة عن حساباتها بضعة مليارات بالنقصان؟ ثم من هو ميلتون فريدمان الكويت الذي اكتشف أن على الحكومة أن تتوقع معدلاً زهيداً لسعر برميل النفط عند 36 دولاراً، وبالتالي عجزاً بالمليارات، لكي «تفاجأ» بعد ذلك بالفائض الوفير؟
يقول وزير المالية بدر الحميضي إن تسعير برميل النفط الكويتي «من اختصاص المعنيين في وزارة النفط الذين يأخذون بالاعتبار توقعات الاسعار من خلال دراسات منظمة اوبك ودراسات وكالة الطاقة الاميركية وبعض المنظمات المتخصصة الاخرى».
لماذا لا تطلع وزارة النفط الشعب الكويتي على الدراسة الشفافة والعلمية التي بنت على أساسها تقديرها لسعر النفط؟ أم أنها تقرأ في دراسات لم يطلع عليها أحد سواها؟
ثم يخرج على لسان المسؤولين كلام أغرب من هذا، يقولون فيه إن الغرض من التسعير المتحفظ هو «أن لا نتفاجأ».
حسناً، لكن أياً من منظري الاقتصاد لم يقل إن التحفظ يكون بفارق 20 أو 30 دولاراً عن الأسعار المتوقعة فعلاً بحسب «دراسات منظمة اوبك ودراسات وكالة الطاقة الاميركية وبعض المنظمات المتخصصة الاخرى»، التي يفترض أن التقدير يستند إليها. ثم من قال إن الميزانية وضعت لكي يفاجأ المسؤولون أو لا يفاجأوا؟
ما يدرسه طالب الاقتصاد في السنة الجامعية الأولى أن وظيفة الموازنة هي وظيفة تخطيطية، فإما أن تتوقع الحكومة عجزاً- بسبب حاجات الانفاق التي لا غنى عنها، وليس من أجل حشد 94 في المئة من القوى العاملة في بطالة مقنعة- فتخطط لسبل تمويله وسداده، وإما أن تتوقع فائضاً فتخطط لسبل استغلاله، لئلا يذهب هدراً أو يصبح ورماً مالياً لا يورث إلا التضخم.
بالطبع ليس في خطط الحكومة سيناريوات لحجم الفائض تختلف بحسم اختلاف أسعار النفط، وليس لديها خطط انفاق تتغير أو لا تتغير بحسب تغير حجم الفائض. في الواقع ليس لدى الحكومة خطط، وليس لدى المجلس أيضاً ما يقوم به هذا الخلل.
الحكومة فقط تقدر وجود عجز، لكي تهرب من مطالب النواب الشعبوية، ثم حين «تفاجأ» بالفائض الذي يتوقعه العالم كله سواها، تخوض المعارك مع مجلس الأمة على سبل تصريف الفائض.
الأنكى من ذلك أن أحداً في الكويت لا يناقش في صواب هذا الأسلوب، وأن أحداً لم يطالب الحكومة بالتخطيط للفائض قبل قدومه لا بعد أن يصبح ثقلاً على الاقتصاد. ويبدو أن الجميع متفقون على أن الكويت تتعامل مع نفطها أفضل من النرويج، أكبر مصدر للنفط في أوروبا وأحد أكثر دول العالم رفاهية. تلك الدولة تعد من النماذج التي لم يسكرها النفط، وهي لا تزال تخطط لمستقبل صندوق الأجيال المقبلة لديها، رغم أن ما فيه من أموال يجعل الكويت بالمقارنة معها دولة فقيرة.
المال الآن مطروح في الأرض، وهناك من يصرخ مطالباً بتوزيعه على الشعب حلالاً زلالاً، وهناك من يدعو لإسقاط القروض والفواتير. وهناك من يمد يده إلى الطبق دون استئذان، وفي المقابل هناك حكومة تجهد عبثاً في المحاماة عن مال تطاله يد الجميع، من دون أن يهتم أحد إلى خطط وزير المالية المتأخرة لاستغلاله.
لقد قدم الحميضي أفكاراً جادة لاستغلال الفائض، رغم أنها جاءت متأخرة. ورغم كل ما قيل فيها تأييداً أو نقداً فإنها قدمت بديلاً قابلاً للبحث ومفنداً بالحجج والأرقام والأرقام والأرقام... فات الوزير أن الرقم في هذا البلد حقير ولا معنى له، وفي أحسن الأحوال وجهة نظر!