تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الكلاب والسفر



السرحان 555
28-07-2007, 04:34 PM
بالفصيح
الكلاب والسفر



عبدالله الناصر
أحياناً تخجل من نفسك أمام الآخرين وأنت لا ذنب لك في سبب هذا الخجل.
عندما سكنت في الفندق المطل بشموخ على النهر الذي يقسم قلب المدينة.. وصرت أخرج وأعود إليه عبر ممر تتشمم الكلاب فيه رائحتي وحقائبي، كي تثق هذه الكلاب أنه لا شيء خطير معي وأنه لا شيء في حوزتي سوى بعض الكتب، وكنت كلما تشممتني هذه الكلاب ضحكت منها ومني على حد قول الشاعر مظفر النواب:

ضَحكتُ منها ومني فهي يقتلها

سُعارها وأنا يَغتالُني فَرحِي

وكنت أقول في حزن: بئست الحياة حينما يكون أمنك فيها خاضعاً لأنف كلب.

وعلى كل حال فأبشع من أنف الكلب هذا أنوف ووجوه وعقول ستراها داخل الفندق، تحدث في نفسك الوجع والألم والمهانة والخجل. شبان وشابات يتزاحمون بالمناكب، فالمنكب حذو المنكب، والكتف يحتك بالكتف، يذهبون ويأتون ويدورون في الفراغ.. يقفون، ويقعدون.. يدخنون، ويصرخون، ويتحدثون عبر الهاتف النقال بعبارات نابية، وبأسلوب فج، يعبر عن حياة أقل ما يقال عنها أنا رخيصة وتافهة.

فهذا أحدهم يرتدي بنطالاً ذا كمين مقصوصين، أحد الكمين يصل نصف الساق، والآخر فوق الركبة حتى خرجت "الركبة" كقطعة حجر أخرج من مزبلة، وقد ارتدى قميصاً عجيباً، قد كسا القميص نصف صدره وترك النصف الآخر حيث تظهر أضلاعه كبقايا شبك دجاج، وقد حلق شعره إلى درجة "الصفر"، ولبس حذاءً رياضياً بلا جوارب، وأخذ يسير ويصفر ويحرك بين اصبعيه ميدالية أو شيئاً يشبه الميدالية، يدور ويتحرك وكأنه يبحث عن شيء ضائع، وهو فعلاً يبحث عن شيء ضائع، والضائع هو نفسه، فهو لا يدري من هو ولا يعرف إلى أين يذهب ولا إلى أين يتجه. المسكين يتخبط في ضياعه وفوضويته وجهله.. جهله بالحياة وقيمة الحياة.. انه إنسان مأزوم عبر عن أزمته بهذا المظهر الشاذ المشين.. وفي المقابل هناك فتاة واقفة قد أسندت جسدها على العمود الضخم في وسط البهو، وقد نفشت شعرها وجعدته بطريقة توحي لك بأنها للتو خرجت من غابة الإنسان البدائي، وقد غطت نصف وجهها بنظارة سوداء.. ولبست قميصاً عليه صورة قلب غُرست به سكين، وهذا القميص لا يكاد يصل سرتها، حيث ظهرت مساحة من اللحم العاري الطري بين القميص والجينز الذي شدته بحزام من أحزمة الكاوبوي، غير أن جينزها يختلف عن جينز كاوبوي رعاة البقر، فجينزها مرقع ويصل إلى نصف الساق وآخره مهلهل مبعثر تتناثر خيوطه.. وبيدها "موبايل" تدلت منه خيوط بها فصوص وأحجار براقة، وهي تتحدث به حيناً وتغلقه حيناً وتعبث بخيوطه ذات البريق أحياناً كثيرة..

يضيع الاثنان في هذا المشهد التزاحمي المتناقض، حيث تختلط عباءات الأمهات بجينزات البنات.. بعربات الشغالات.. بصراخ الأطفال.. بثياب الآباء وكروشهم تتقدمهم، والتي يظنون أنهم سيفتحون بها كل شيء مغلق يصعب فتحه.

أمام هذا المشهد المضحك المبكي تجدك عاجزاً عن التعبير أو عاجزاً عن اختيار الكلمات التي يمكن لك من خلالها وصف هذه الحالة الشاذة والخارجة عن إطار الوعي والسلوك الحضاري أو الإنساني. ففي كل زمان وفي كل مكان يظل الإنسان مرآة نفسه وتظل الجماعات مرآة نفسها.. وأقول لكم بكل صدق وتجرد: انني لست أدري من أية ثقافة نبت هؤلاء..؟ وفي أي مجتمع نشأوا..؟ ولست أدري أيضاً أين سيبلغ الأمر بهؤلاء وأمثالهم في خلق جيل أو مجتمع جديد من هذا الخليط ومن هذا المزيج الشاذ المشوه والمعتوه..؟ فمن المؤكد ان ذلك الشاب لن يكون أستاذاً بجامعة ولا مديراً لمصنع، وتلك الفتاة لن تكون طبيبة أو أماً صالحة.

لقد خجلت أمام مجموعة من الصحفيين والمثقفين ونحن نلتمس لنا مكاناً في وسط هذه الأمواج العائمة في فراغها، وفي جهلها، وفي ضياعها، وقلة ذوقها، إلى درجة أننا اضطررنا إلى الانتقال لمكان آخر خارج الفندق نستطيع فيه أن نتحاور، وأن نتحدث، وأن يسمع بعضنا بعضاً. ولا أخفيكم أن حديثي تلك الليلة كان حديثاً مجروحاً ومشروخاً، وأن قلبي كان ينزف دماً، وأن جميع لغاتي الثقافية تعطلت وشعرت أن خطيئة هؤلاء تتلبسني، لأنهم ينتسبون إلى بلدي، لأنهم يمثلونني.. يمثلون أرضي، وثقافتي، وسحنتي، وصوتي، وتاريخي.

صحيح أن هؤلاء شريحة قليلة وشاذة ولا تمثل المجتمع السعودي أو الخليجي - إذ أن معظم من أتحدث عنهم هم من هناك بكل أسف- ولكنهم على كل حال نموذج لأبناء بلدي، وهو نموذج غير مشرف بكل المعايير الذوقية والأخلاقية..

أنا لست ضد الانفتاح، ولا ضد الاستمتاع بالحياة، ولا ضد الذهاب إلى أصقاع الدنيا، ولا الاستمتاع بلذتها، ولست حتى ضد السلوك الشخصي الخاص ما دام في إطاره الذوقي العام، ولكنني ضد هذا الاستعراض الأبله الفج والغبي، ضد إبراز صورة الجهل، والتخلف، والانحطاط، وكأننا كائنات لا تحسن ولا تجيد أبسط مظاهر السلوك العام الذي لا يخدش ذوق الآخر ولا يهينه، بل ولا يشعره باحتقارنا والنقمة علينا..

أشعر بالمرارة وبعذابات التخلف وأنا أرى السائح الأمريكي والأوروبي أو الياباني وهو يحمل حقيبته فوق ظهره، وآلة التصوير في يده مع محفظة بسيطة فيها كل رأس ماله وهو يجوب الأمكنة، ويرتاد الأماكن العامة، ويذهب إلى المواقع الأثرية، ويستمتع بالجلوس على الأنهار أو المشارف المطلة على القرى والأرياف، أو يأكل هو وصديقه، أو صديقته، أو زوجته من طبق واحد في حي شعبي. أشعر بكل أسف هو أن هؤلاء هم الذين يشعرون بمتعة السفر وهم الذين يستحقونها.

لكن السفر لدينا مظهر اجتماعي للوجاهة، مجرد من كل معاني المتعة أو الثقافة والاستمتاع، فهو دوران في الفنادق، ودوران في الأسواق، ودوران في الفراغ، لأن الرؤوس تعاني من الفراغ وتظل تدور في فراغ الفراغ.. وهذا ما جعلني حينما عدت إلى فندقي بعد أن ودعت أصحابي الذين خجلت منهم، والكلاب تستوقفني عند المدخل وتتشمم رائحتي وحقيبتي أقول: ليت لبعض أولئك القاطنين في هذا الفندق وبقية الفنادق أنوفاً تشم رائحة المعرفة، والحكمة، ورائحة الحياة، ومعنى الوجود، وفلسفة السفر والرحيل..