المتأمل خيرا
11-10-2007, 02:18 AM
بين وقت وآخر اسمع عن "خط الحجاز".. وقامت قناة الجزيرة الوثائقية بعرض فيلم عن الموضوع - للأسف لم أشاهده كاملاً - .
والحقيقة أن سؤالاً كان دائماً يأتي في الذهن عن الموضوع.. "منذ سمعت عنه ولم أر صوره".. إلى أن شاهدت "جزئياً" الفيلم الوثائقي على الجزيرة.. وكان ذاك السؤال - الذي اكتمل بعد المشاهدة العينية - .. عجيب أن يتم التفكير في خطوة بهذه الأهمية.. وتنفـّذ.. ثم تترك تموت دون محاولة إحيائها من جديد.
وقبل حوالي الربع ساعة.. وخلال مطالعتي لجريدة "القدس العربي" على الشبكة استرعى انتباهي هذا المقال.. فرأيت أن انقله لكم لأهميته - في ظنـّي - ، وربما يكون دافعاً لمزيد من البحث عن الموضوع.. ومشاهدة الفيلم الوثائقي على الجزيرة.. إن أمكن..
سكة حديد الحجاز وثائقي علي الجزيرة : اختيار نوعي ونادر
ربيع الحافظ
11/10/2007
الفيلم الوثائقي سكة حديد الحجاز الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية في ايام شهر رمضان المبارك اختيار نوعي ونادر بمقاييس الفضائيات العربية، مع ان اعداد مثل هذه الافلام او ترجمتها لم يعد مهمة صعبة، فضلاً عن انها مطلوبة.
المحطات التاريخية والسياسية والفلوكلورية التي مرت عليها حلقات البرنامج اليومية كانت كافية لكي تفعل الكيمياء التاريخية والاجتماعية الاقليمية فعلها، وقد فعلت، وكانت عرضاً لنسيج اقليمي حي في منطقة ممزقة منذ قرابة القرن.
هذه الشعوب تثبت انها كالماء، فلـقُه والمباعدة بين شطريه معجزة لا تحققها الا عصا موسي عليه السلام، وبزوالها يرجع الماء كتلة واحدة، كذلك الاخاديد المزمنة التي حفرتها النظم السياسية بين هذه الشعوب.
قيام لورانس بنسف خط الحجاز الحديدي وتقطيع اوصال خصمه امر لا يستعصي علي الافهام. وتواطؤ نفر من العرب من ضعاف النفوس معه طمعاً في عرش العرب الموعود قضية لا تستعصي علي الافهام هي الاخري.
ما يستعصي علي الافهام هو ان يبقي الخط علي الحال التي تركه عليها لورانس وثواره، رغم حاجة المنطقة الشديدة الي وسائل مواصلات رخيصة وآمنة تربط اصقاعها المترامية وتؤمن احتياجاتها. وما يستعصي علي الافهام هو ان يدفن ما كان يرمز له هذا الخط في الاذهان مثلما دفن هو في الرمال.
كم منا كان يعلم قبل مشاهدته للفيلم ان الخط انجز بتبرعات المسلمين في انحاء العالم وصدقاتهم الجارية؟ وان من اخترق الخط مزارعهم رفضوا قبول تعويضات مالية؟ وان جنود الجيش العثماني تبرعوا باوقاتهم في اعمال الانشاء؟ وان العائلة كانت تحرص علي ان يخلف الابن اباه في وظيفته في شركة الخط لقداسته في نظرها ونبل غايته؟ وان حماس العاملين من العرب والاتراك افشل توقعات الخبراء الاوروبيين الذين رأوا استحالة انجاز اكثر من 100 كيلومتر في العام، لكنه وصل الي 288 كيلومترا؟
اطلق علي الخط الحجازي اسم طريق الحرير الحديدي، لتأثيراته الهامة في المناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية علي المنطقة خلال فترة حياته القصيرة، واعتبره الانكليز ذا طبيعة مزدوجة ترسخ سيادة سياسية وعسكرية علي مناطق كانوا يعدون الخطط لدخولها فحرضوا البدو علي مهاجمته.
كتب سفير النمسا في استانبول 15/1/1908: انه مغامرة مالية غير متوازنة في التاريخ التجاري الحديث . وكتبت صحيفة التايمز في حينها: ان مشروع الخط الحجازي برمته يدل علي ان العثمانيين يمتلكون موهبة تذليل الصعاب حين يعتزمون الوصول الي غاياتهم . ولخصّه الباحث السير كينغ بما يلي: اول سكة حديد في تاريخ البشرية تعيد لنفسها ما دفعته قبل ان تبيع اولي تذاكرها ، في اشارة الي التمويل الذاتي الذي وفرته تبرعات المسلمين والاستغناء عن قروض البنوك الاوروبية وشروطها.
كان المشروع الذي امتد انشاؤه من 1/9/1900 الي 1/9/1908 مهرجاناً عملاقاً، تفاعلت فيه شعوب المنطقة بتفانٍ منقطع النظير، وراقبه العالم وحضر بخبراته يشارك المنطقة مشروعها العملاق.
مثّل الخط الحجازي آخر فعالية استراتيجية قامت بها شعوب المنطقة ككتلة سياسية موحدة وهوية اقليمية، وكان المرة الاخيرة التي تعامل فيها العالم معها علي هذا الاساس، قبل ان تقسم وتخرج من اطار الكتلة الي اطار الكانتونات او الدولة القطرية وتفقد هويتها ويتعامل العالم معها علي هذا الاساس.
تبدلت الازمان وتبدل العالم وسكة الحجاز المدفونة تحت رمال الصحراء لا تزال مصدر حساسية وتشنج للدول العربية المعنية، صدؤها وتناثر اشلائها شاهدان علي صدأ العلاقات العربية ـ العربية، ومَعلَم علي ان خريطة الخلافات السياسية التي اقتتل علي اساسها العرب علي هامش الحرب العالمية الاولي وتقسمت علي اساسها اوطانهم لا تزال هي هي لم تتغير وتتحكم بمساراتهم ومصائرهم. كيف يقارن هذا بالتصميم المعاكس للغريمين الاوروبيين بريطانيا وفرنسا علي حفر نفق تحت قاع البحر وربط بلديهما بممر بري؟
العالقون في تركة لورانس والمسكونون بروحه يتمنون اليوم ـ خيفة وجهرة ـ امام الزلزال الطائفي والشعوبي الذي يهز المنطقة لو ان خطاً حديدياً امتد من قلب تركيا الي قلب العالم العربي المترنح يثبت رماله المتحركة، ويكون عموداً فقرياً يعيد للنظام السياسي العربي الكسيح القدرة علي الوقوف.
الاماني العربية التي مبعثها القلق تقابلها مشاريع تنفيذية فارسية مبعثها الثقة، فلايران الواقعة علي مفترق طريق الحرير القديم، والتي تتراجع مواردها النفطية، لها رؤية وهدف وهما واضحان: الرؤية: استعادة دورها التاريخي كعصب لشبكة المواصلات بين آسيا واوروبا وبين تخوم الهند والبحر المتوسط. اما الهدف: فانشاء شبكة وطنية واسعة من سكك الحديد والطرقات والجسور والانفاق وربطها بشبكات الدول المجاورة.
الطموح الاقليمي الايراني صعب ولكنه قابل للتنفيذ بحسب الخبراء، تذللـه الجغرافية السياسية الجديدة الناشئة في شرق المتوسط ومنذ احتلال العراق، ويذللـه تهافت شركات سكك الحديد العالمية العملاقة ومن ورائها حكومات بلدانها التي تطمع في امتيازات سياسية كما في سكة الاناضول ـ الحجاز. وقد بلغ معدل ما انجزته ايران من سكك الحديد في العام الواحد 500 كيلومتر في الفترة ما بين 2000 -2003 وتوشك علي الفراغ من 3000 كيلومتر آخر.
المنطقة العربية التي استهلت القرن الماضي بتفكيك امنها الاقليمي، وتدمير بناها اللوجستية الاقليمية، ولم تكترث طوال تسعة عقود متواصلة لاصلاح الخلل الاستراتيجي علي رقعتها الشاسعة، هذه المنطقة جعلت من نفسها مكاناً طبيعياً لمشاريع الغير، وما تفعله ايران اليوم في المنطقة مسألة حتمية الحدوث.
الفراغ اللوجستي في المنطقة لن يملأه هذه المرة خط حديدي يمتد من الشمال الي الجنوب معيداً ربط الرأس بالجسد واستانبول بالحجاز، وانما آخر يشق احشاءها الرخوة من جهة الشرق، قدوماً من ايران ومروراً بالعراق فشواطئ البحر المتوسط.
المشروع اللوجستي الاقليمي الايراني الذي قطع اشواطاً مهمة ليس الوحيد الذي سيلقي ظلالاً كثيفة علي المنطقة، فهناك الممر (الروسي ـ الايراني ـ الهندي) الذي هو شبكة من سكك الحديد والطرق البرية والممرات المائية التي تربط ميناء بومباي الهندي علي المحيط الهندي بمدينة سانت بيترزبورغ (لينينغراد) عبر طهران وموسكو، اي يربط المحيط الهندي ببحر البلطيق، واصلاً اوروبا بآسيا. المشروعان معاً يشكلان ثورة في طرق المواصلات ستغير وجه المنطقة.
رب قائل يقول: هذه صورة بعيدة عن الواقع. ان بدت الصورة بعيدة عن واقع اليوم والغد والشهر القادم او العام القادم، فلن تكون بعيدة عن واقع عالم تتعدد فيه الاقطاب وتحتدم فيه اشكال الصراع تلوح معالمه في الافق منذ حين، ومن يروم الغد لا ينتظر الفجر، وهو ما حمل امريكا علي المجيء.
ثورة المواصلات لن تحيل قناة السويس الي بركة راكدة، لكنها ستختزل المسافة من اوروبا الي آسيا من 16129 الي 6245 كلم، والزمن بـ 10-12 يوماً علي الاقل، والكلفة بـ 20%، منهية احتكاراً استراتيجياً وجاعلة الممرات المائية العربية طرقاً التفافية طويلة ستتراجع افضليتها الملاحية علي المدي المتوسط بحسب توقعات المتخصصين.
الخناق اللوجستي ليس مقصوراً علي العرب، فالممرات المائية التركية ستتأثر هي الاخري، وستحرم ممرات البوسفور والدردنيل من ملاحة البحر الاسود المتجهة الي موانئ حوض المحيط الهندي.
الصورة غير متفائلة لكنها غير متشائمة، فلا ينبغي ان ينسينا طول الامد ان منطقتنا منذ افولها السياسي والي حين افتتاح قناة السويس كبديل عن رأس الرجاء الصالح ثم اكتشاف النفط، ظلت فاقدة للاهمية الاستراتيجية والاقتصادية وفي عزلة حضارية، وان ابتعاد طرق الملاحة عن المنطقة مجدداً وبالتزامن مع اقتراب نضوب ثرواتها الطبيعية هو تكرار للالوان الاساسية للصورة السابقة لمن اراد اعادة انتاجها.
بعبارة اخري: طرق المواصلات الدولية تمر في مخاض جذري هو الاكبر منذ انقراض طريق الحرير، وهي ان تمت كما هو مخطط لها فستصيب المنطقة بمقتل بعد صراع طويل مع الموت ابتدأ بطعنة عشية الحرب العالمية الاولي في عمودها الفقري الذي شكلته سكة حديد الحجاز.
والحقيقة أن سؤالاً كان دائماً يأتي في الذهن عن الموضوع.. "منذ سمعت عنه ولم أر صوره".. إلى أن شاهدت "جزئياً" الفيلم الوثائقي على الجزيرة.. وكان ذاك السؤال - الذي اكتمل بعد المشاهدة العينية - .. عجيب أن يتم التفكير في خطوة بهذه الأهمية.. وتنفـّذ.. ثم تترك تموت دون محاولة إحيائها من جديد.
وقبل حوالي الربع ساعة.. وخلال مطالعتي لجريدة "القدس العربي" على الشبكة استرعى انتباهي هذا المقال.. فرأيت أن انقله لكم لأهميته - في ظنـّي - ، وربما يكون دافعاً لمزيد من البحث عن الموضوع.. ومشاهدة الفيلم الوثائقي على الجزيرة.. إن أمكن..
سكة حديد الحجاز وثائقي علي الجزيرة : اختيار نوعي ونادر
ربيع الحافظ
11/10/2007
الفيلم الوثائقي سكة حديد الحجاز الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية في ايام شهر رمضان المبارك اختيار نوعي ونادر بمقاييس الفضائيات العربية، مع ان اعداد مثل هذه الافلام او ترجمتها لم يعد مهمة صعبة، فضلاً عن انها مطلوبة.
المحطات التاريخية والسياسية والفلوكلورية التي مرت عليها حلقات البرنامج اليومية كانت كافية لكي تفعل الكيمياء التاريخية والاجتماعية الاقليمية فعلها، وقد فعلت، وكانت عرضاً لنسيج اقليمي حي في منطقة ممزقة منذ قرابة القرن.
هذه الشعوب تثبت انها كالماء، فلـقُه والمباعدة بين شطريه معجزة لا تحققها الا عصا موسي عليه السلام، وبزوالها يرجع الماء كتلة واحدة، كذلك الاخاديد المزمنة التي حفرتها النظم السياسية بين هذه الشعوب.
قيام لورانس بنسف خط الحجاز الحديدي وتقطيع اوصال خصمه امر لا يستعصي علي الافهام. وتواطؤ نفر من العرب من ضعاف النفوس معه طمعاً في عرش العرب الموعود قضية لا تستعصي علي الافهام هي الاخري.
ما يستعصي علي الافهام هو ان يبقي الخط علي الحال التي تركه عليها لورانس وثواره، رغم حاجة المنطقة الشديدة الي وسائل مواصلات رخيصة وآمنة تربط اصقاعها المترامية وتؤمن احتياجاتها. وما يستعصي علي الافهام هو ان يدفن ما كان يرمز له هذا الخط في الاذهان مثلما دفن هو في الرمال.
كم منا كان يعلم قبل مشاهدته للفيلم ان الخط انجز بتبرعات المسلمين في انحاء العالم وصدقاتهم الجارية؟ وان من اخترق الخط مزارعهم رفضوا قبول تعويضات مالية؟ وان جنود الجيش العثماني تبرعوا باوقاتهم في اعمال الانشاء؟ وان العائلة كانت تحرص علي ان يخلف الابن اباه في وظيفته في شركة الخط لقداسته في نظرها ونبل غايته؟ وان حماس العاملين من العرب والاتراك افشل توقعات الخبراء الاوروبيين الذين رأوا استحالة انجاز اكثر من 100 كيلومتر في العام، لكنه وصل الي 288 كيلومترا؟
اطلق علي الخط الحجازي اسم طريق الحرير الحديدي، لتأثيراته الهامة في المناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية علي المنطقة خلال فترة حياته القصيرة، واعتبره الانكليز ذا طبيعة مزدوجة ترسخ سيادة سياسية وعسكرية علي مناطق كانوا يعدون الخطط لدخولها فحرضوا البدو علي مهاجمته.
كتب سفير النمسا في استانبول 15/1/1908: انه مغامرة مالية غير متوازنة في التاريخ التجاري الحديث . وكتبت صحيفة التايمز في حينها: ان مشروع الخط الحجازي برمته يدل علي ان العثمانيين يمتلكون موهبة تذليل الصعاب حين يعتزمون الوصول الي غاياتهم . ولخصّه الباحث السير كينغ بما يلي: اول سكة حديد في تاريخ البشرية تعيد لنفسها ما دفعته قبل ان تبيع اولي تذاكرها ، في اشارة الي التمويل الذاتي الذي وفرته تبرعات المسلمين والاستغناء عن قروض البنوك الاوروبية وشروطها.
كان المشروع الذي امتد انشاؤه من 1/9/1900 الي 1/9/1908 مهرجاناً عملاقاً، تفاعلت فيه شعوب المنطقة بتفانٍ منقطع النظير، وراقبه العالم وحضر بخبراته يشارك المنطقة مشروعها العملاق.
مثّل الخط الحجازي آخر فعالية استراتيجية قامت بها شعوب المنطقة ككتلة سياسية موحدة وهوية اقليمية، وكان المرة الاخيرة التي تعامل فيها العالم معها علي هذا الاساس، قبل ان تقسم وتخرج من اطار الكتلة الي اطار الكانتونات او الدولة القطرية وتفقد هويتها ويتعامل العالم معها علي هذا الاساس.
تبدلت الازمان وتبدل العالم وسكة الحجاز المدفونة تحت رمال الصحراء لا تزال مصدر حساسية وتشنج للدول العربية المعنية، صدؤها وتناثر اشلائها شاهدان علي صدأ العلاقات العربية ـ العربية، ومَعلَم علي ان خريطة الخلافات السياسية التي اقتتل علي اساسها العرب علي هامش الحرب العالمية الاولي وتقسمت علي اساسها اوطانهم لا تزال هي هي لم تتغير وتتحكم بمساراتهم ومصائرهم. كيف يقارن هذا بالتصميم المعاكس للغريمين الاوروبيين بريطانيا وفرنسا علي حفر نفق تحت قاع البحر وربط بلديهما بممر بري؟
العالقون في تركة لورانس والمسكونون بروحه يتمنون اليوم ـ خيفة وجهرة ـ امام الزلزال الطائفي والشعوبي الذي يهز المنطقة لو ان خطاً حديدياً امتد من قلب تركيا الي قلب العالم العربي المترنح يثبت رماله المتحركة، ويكون عموداً فقرياً يعيد للنظام السياسي العربي الكسيح القدرة علي الوقوف.
الاماني العربية التي مبعثها القلق تقابلها مشاريع تنفيذية فارسية مبعثها الثقة، فلايران الواقعة علي مفترق طريق الحرير القديم، والتي تتراجع مواردها النفطية، لها رؤية وهدف وهما واضحان: الرؤية: استعادة دورها التاريخي كعصب لشبكة المواصلات بين آسيا واوروبا وبين تخوم الهند والبحر المتوسط. اما الهدف: فانشاء شبكة وطنية واسعة من سكك الحديد والطرقات والجسور والانفاق وربطها بشبكات الدول المجاورة.
الطموح الاقليمي الايراني صعب ولكنه قابل للتنفيذ بحسب الخبراء، تذللـه الجغرافية السياسية الجديدة الناشئة في شرق المتوسط ومنذ احتلال العراق، ويذللـه تهافت شركات سكك الحديد العالمية العملاقة ومن ورائها حكومات بلدانها التي تطمع في امتيازات سياسية كما في سكة الاناضول ـ الحجاز. وقد بلغ معدل ما انجزته ايران من سكك الحديد في العام الواحد 500 كيلومتر في الفترة ما بين 2000 -2003 وتوشك علي الفراغ من 3000 كيلومتر آخر.
المنطقة العربية التي استهلت القرن الماضي بتفكيك امنها الاقليمي، وتدمير بناها اللوجستية الاقليمية، ولم تكترث طوال تسعة عقود متواصلة لاصلاح الخلل الاستراتيجي علي رقعتها الشاسعة، هذه المنطقة جعلت من نفسها مكاناً طبيعياً لمشاريع الغير، وما تفعله ايران اليوم في المنطقة مسألة حتمية الحدوث.
الفراغ اللوجستي في المنطقة لن يملأه هذه المرة خط حديدي يمتد من الشمال الي الجنوب معيداً ربط الرأس بالجسد واستانبول بالحجاز، وانما آخر يشق احشاءها الرخوة من جهة الشرق، قدوماً من ايران ومروراً بالعراق فشواطئ البحر المتوسط.
المشروع اللوجستي الاقليمي الايراني الذي قطع اشواطاً مهمة ليس الوحيد الذي سيلقي ظلالاً كثيفة علي المنطقة، فهناك الممر (الروسي ـ الايراني ـ الهندي) الذي هو شبكة من سكك الحديد والطرق البرية والممرات المائية التي تربط ميناء بومباي الهندي علي المحيط الهندي بمدينة سانت بيترزبورغ (لينينغراد) عبر طهران وموسكو، اي يربط المحيط الهندي ببحر البلطيق، واصلاً اوروبا بآسيا. المشروعان معاً يشكلان ثورة في طرق المواصلات ستغير وجه المنطقة.
رب قائل يقول: هذه صورة بعيدة عن الواقع. ان بدت الصورة بعيدة عن واقع اليوم والغد والشهر القادم او العام القادم، فلن تكون بعيدة عن واقع عالم تتعدد فيه الاقطاب وتحتدم فيه اشكال الصراع تلوح معالمه في الافق منذ حين، ومن يروم الغد لا ينتظر الفجر، وهو ما حمل امريكا علي المجيء.
ثورة المواصلات لن تحيل قناة السويس الي بركة راكدة، لكنها ستختزل المسافة من اوروبا الي آسيا من 16129 الي 6245 كلم، والزمن بـ 10-12 يوماً علي الاقل، والكلفة بـ 20%، منهية احتكاراً استراتيجياً وجاعلة الممرات المائية العربية طرقاً التفافية طويلة ستتراجع افضليتها الملاحية علي المدي المتوسط بحسب توقعات المتخصصين.
الخناق اللوجستي ليس مقصوراً علي العرب، فالممرات المائية التركية ستتأثر هي الاخري، وستحرم ممرات البوسفور والدردنيل من ملاحة البحر الاسود المتجهة الي موانئ حوض المحيط الهندي.
الصورة غير متفائلة لكنها غير متشائمة، فلا ينبغي ان ينسينا طول الامد ان منطقتنا منذ افولها السياسي والي حين افتتاح قناة السويس كبديل عن رأس الرجاء الصالح ثم اكتشاف النفط، ظلت فاقدة للاهمية الاستراتيجية والاقتصادية وفي عزلة حضارية، وان ابتعاد طرق الملاحة عن المنطقة مجدداً وبالتزامن مع اقتراب نضوب ثرواتها الطبيعية هو تكرار للالوان الاساسية للصورة السابقة لمن اراد اعادة انتاجها.
بعبارة اخري: طرق المواصلات الدولية تمر في مخاض جذري هو الاكبر منذ انقراض طريق الحرير، وهي ان تمت كما هو مخطط لها فستصيب المنطقة بمقتل بعد صراع طويل مع الموت ابتدأ بطعنة عشية الحرب العالمية الاولي في عمودها الفقري الذي شكلته سكة حديد الحجاز.