العقيد
03-11-2007, 01:23 AM
خصائص العمل الخيري في الإسلام
موقع القرضاوي/12-9-2007
د.يوسف القرضاوي
للعمل الخيري في الإسلام خصائص تميزه عن غيره من أعمال الخير في الديانات والفلسفات الأخرى، وهذه الخصائص هي:
أولا: الشمول.
ثانيا: التنوع.
ثالثا: الاستمرار.
رابعا: قوة الحافز.
خامسا: خلوص العمل الخيري.
أولا: الشمول، أو: لمَن يقدَّم الخير؟:
يقدِّم المسلم الخير والعون لكلِّ مَن هو في حاجة إليه، سواء كان قريبا أم بعيدا، صديقا أم عدوا، مسلما أم كافرا، إنسانا أم حيوانا.
فالمسلم لا يقصُر خيره وبرَّه على أقاربه وذوي رَحِمه، أو عَصَبته وأهل بلده، وإن كان الإسلام يوصي بالأقربين أكثر من غيرهم، كما قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]، وقال: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:11-15]، ويقول الرسول الكريم: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصِلة"[1].
ومع هذا يرى الإسلام أن للغرباء والأباعد حقوقا أيضا، بحكم إسلامهم إن كانوا مسلمين، وبحكم إنسانيتهم إن لم يكونوا مسلمين.
وقد ذكر الله في آية الحقوق العشرة الوصية بالجيران فقال: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36]، أي البعيد.
ولا يقصُر المسلم خيره وإحسانه على أصدقائه وأحبابه، ويحرم منه خصومه وأعداءه، فالمطلوب أن يعمَّ الخير الجميع، وإذا كان القرآن الكريم نهانا أن يحملنا بُغض قوم على أن لا نعدل معهم[2]، فكذلك، لا ينبغي أن تحملنا عداوة قوم أو بُغضهم على أن لا نرحمهم ولا نبرَّهم ولا نُحسن إليهم، فإن المؤمن إنسان رحيم بكلِّ خلق الله، وإن عادَوه وآذَوه.
وفي الحديث: "لا يدخل الجنة إلا رحيم". قالوا: يا رسول الله، كلُّنا رحيم. قال: "إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكن رحمة العامة"[3].
ولا يكفُّ المسلم خيره وبرَّه عمَّن يخالفه في الدين، بحيث لا يقدِّم العون إلا لمسلم، ولا يجود بالخير إلا على مسلم، كأن الكافر لا يستحقُّ الرحمة! وهذا خطأ، فإن الكافر يعيش في ظلِّ ملك الله، ويأكل من رزقه، ولا يُحرم من برِّه ورحمته.
وهذا ما وجَّه إليه القرآن في التعامل مع غير المسلمين: أن نبرُّهم ونقسط إليهم ما داموا مسالمين لنا، ولم يظاهروا عدوا علينا.
قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
وقد قال تعالى في وصف الأبرار من عباده: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان:8]، وقد كان الأسير في ذلك الوقت من المشركين[4]، ولكن الله عزَّ وجلَّ مدح الذين يطعمونه في أَسره، ولا يَدَعونه يعاني الجوع أو العطش أو غيرهما. والمفروض أن الأسير كان إنسانا محاربا ووقع في الأَسر، ولكن هذا لا يحرمه حقَّه في الطعام والشراب وحسن المعاملة التي تليق بالآدمي المكرَّم.
ولا يقف المسلم بخيره وإحسانه عند الإنسان المكرَّم، بل يتجاوزه إلى الحيوان الأعجم، فهو يرحم الأنعام التي يستخدمها في الحرث والسقي والدرِّ والنسل، ويرحم الدواجن التي يقتنيها في البيت ليأكل من بيضها ولحمها، ويرحم الحيوانات الأخرى مثل الكلاب والقطط.
وفي الحديث: "اتقوا الله في البهائم العجماوات، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة"[5].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا رجل يمشي فاشتدَّ عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثلُ الذي بلغ بي، فملأ خفَّه، ثم أمسكه بفِيه، ثم رَقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له". قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: "في كلِّ كبد رطبة أجر"[6]. ورطوبة الكبد: كناية عن الحياة، أي: في كلِّ كائن حيٍّ تحسن إليه أجر عند الله.
ثانيا: التَّنوُّع:
لا يأخذ فعل الخير لدى الفرد المسلم، ولا الجماعة المسلمة: صورة واحدة، ولا نمطا واحدا، بل تتعدَّد صُوره، وتتنوَّع أنماطه، بحسب حاجات الناس ومطالبهم، وبحسب قدرة فاعل الخير وإمكاناته.
فقد يعمل على تحقيق المطالب المادية للإنسان، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وعلاج.
وقد يعمل على تحقيق المطالب المعنوية للإنسان، من تعليم وثقافة وفقه في الدين.
ومثل ذلك: المطالب النفسية للإنسان، مثل إدخال السرور عليه، ومسح دمعته، ومعالجة قلقه وهمِّه، وملء نفسه بالتوكُّل والثِّقة بالله، ومطاردة شبح اليأس من قلبه.
وقد يمنح المسلم الخير للفرد، أو يمنحه للأسرة، أو يمنحه للمجتمع.
وقد يكون الخير في صورة أشياء عينيَّة، أو في صورة نقود.
وقد يعطي فاعل الخير الشيء تبرُّعا خالصا، وقد يعطيه إعارة ينتفع بعينه مدَّة من الزمن ثم يردُّ العين لصاحبها، أو يقرضه قرضا يستهلكه وينتفع به، ثم يردُّ بدله.
وقد يكون الخير في صورة صدقة عادية تُنفَق في الحال على مستحقِّها، وقد يكون في صورة صدقة جارية، أي دائمة متجدِّدة، وهي صورة (الوقف الخيري) الذي يحبَّس أصله وتسبَّل ثمرته للخير. وقد أجاز بعض الفقهاء وقف النقود، وأنا أُرجِّح هذا، تشجيعا على البرِّ، وتوسيعا لدائرة الخير. ولا مانع أن يكون هذا الوقف محدودا بزمن، مثل أن يقف مليون دينار لمدَّة عشر سنوات أو عشرين.
وقد يكون الخير في صورة إسعاف وقتي، ومساعدة فردية تسدُّ الحاجة الفورية، وقد يكون في صورة مشروع جماعي، يحلُّ مشكلة جماعة من الناس، كأهل قرية، أو أهل حِرفة، أو نحو ذلك. كأن يبنى لهم من أموال الزكاة مصنع يملَّك لهم بالاشتراك، يشتغلون فيه، أو مزرعة مشتركة، يُصلحون أرضها، ويتعهَّدون زرعها وشجرها.
وقد يكون الخير بإعطاء ذوي الحاجة أموالا يملكونها وينفقونها على أنفسهم، وقد يكون بمنح قروض لهم تُعينهم على الكسب، ثم يردُّونها من ثمرة كسبهم على سنين يتَّفق عليها، مع مراعاة التيسير عليهم، والتخفيف عنهم.
وقد يكون الخير بمنح جزء من المال لأهل الحاجة، قلَّ أو كثر، وقد يكون بمنح جزء من الوقت والجهد من ذوي الخبرة المعيَّنة، كأن يعطِي الطبيب ساعات معينة كلَّ أسبوع، ليقابل المرضى في المستشفى أو المستوصف الخيري، ويقوم بفحصهم أو علاجهم بغير مقابل، إلا ابتغاء وجه الله، أو بمقابل يسير.
ومثل الطبيب: أصحاب الاختصاصات المختلفة التي يفتقر إليها الناس في شتَّى المجالات.
وربما كان التبرُّع بالجهد والوقت من بعض الناس: أهمَّ وأعلى من التبرُّع بالمال.
على أن التنوُّع هنا محمود ومحبوب، فكلٌّ يتبرَّع ممَّا عنده، فهذا يجود بما عنده من مال، وهذا يجود بما عنده من علم وخبرة وجهد. وبهذا تتكامل جهود أهل الخير في الأمة.
ومن روائع التوجيه النبوي: أنه صلى الله عليه وسلم حين أمر المسلمين بالصدقة، وفرضها عليهم في كلِّ يوم، بل فرضها على كلِّ مفصل من مفاصل جسمهم، أو عظم من عظامه، لم يقصر الصدقة الواجبة على الصدقة المالية، فيحتكرها الموسرون وأرباب المال، بل نوَّع في هذه الصدقة تنويعا يشمل من أنواع الخير ما لا يخطر ببال الكثيرين.
فهناك الصدقة الاجتماعية: مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح بين المتخاصمين، فإن "فساد ذات البين هي الحالقة"[7].
وهناك الصدقة النفسية: كقوله عليه السلام: "الكلمة الطيبة صدقة"[8]، "وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة"[9].
وهناك الصدقة الإنسانية: التي تتعلَّق بالضعفاء من البشر، كأن تعين الرجل الكَلَّ الضعيف، فتركبه على دابَّته، أو تحمل متاعه عليها، أو ترشد الإنسان الغريب التائه في الطريق.
وهناك الصدقة التي لا تتعلَّق بشخص معين، ولكن تتعلَّق بعموم الناس، مثل (إماطة الأذى عن الطريق)، فإزالة كلِّ ما يعوق الناس أو يؤذيهم من الطريق الذي يسلكونه، هو عبادة وصدقة يتقرَّب بها إلى الله: من عظم أو شوك أو حجارة أو زجاج مكسور، أو قشور الفاكهة كالموز، أو غير ذلك من كلِّ ما يؤذي الناس، ولا سيَّما الضعفاء منهم.
وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة المطلوبة من كلِّ مسلم في كلِّ يوم عن نفسه، بل عن كلِّ مفصل من مفاصله، تتَّسع لكلِّ خير يصل نفعه إلى إنسان، وحيوان، أو إلى البيئة نفسها، وهو مأجور عليه عند الله تعالى.
وحسبنا أن نذكر هنا: حديث أبي ذر رضي الله عنه، الذي أورده الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ينجِّي العبد من النار؟
قال: "الإيمان بالله".
قلتُ: يا نبي الله، مع الإيمان عمل؟
قال: "أن ترضخ مما خوَّلك الله، وترضخ مما رزقك الله".
قلتُ: يا نبي الله، فإن كان فقيرا لا يجد ما يرضخ؟
قال: "يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر".
قلتُ: أرأيتَ إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؟
قال: "فليعِن الأخرق". (أي الذي لا يحسن صنعة).
قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ إن كان لا يحسن أن يصنع؟
قال: "فليعِن مظلوما".
قلتُ: يا نبي الله، أرأيتَ إن كان ضعيفا لا يستطيع أن يعين مظلوما؟
قال: "ما تريد أن تترك لصاحبك من خير! ليمسك أذاه عن الناس".
قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ إن فعل هذا يدخله الجنة؟
قال: "ما من عبد مؤمن يصيب خَصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة"[10].
موقع القرضاوي/12-9-2007
د.يوسف القرضاوي
للعمل الخيري في الإسلام خصائص تميزه عن غيره من أعمال الخير في الديانات والفلسفات الأخرى، وهذه الخصائص هي:
أولا: الشمول.
ثانيا: التنوع.
ثالثا: الاستمرار.
رابعا: قوة الحافز.
خامسا: خلوص العمل الخيري.
أولا: الشمول، أو: لمَن يقدَّم الخير؟:
يقدِّم المسلم الخير والعون لكلِّ مَن هو في حاجة إليه، سواء كان قريبا أم بعيدا، صديقا أم عدوا، مسلما أم كافرا، إنسانا أم حيوانا.
فالمسلم لا يقصُر خيره وبرَّه على أقاربه وذوي رَحِمه، أو عَصَبته وأهل بلده، وإن كان الإسلام يوصي بالأقربين أكثر من غيرهم، كما قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]، وقال: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:11-15]، ويقول الرسول الكريم: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصِلة"[1].
ومع هذا يرى الإسلام أن للغرباء والأباعد حقوقا أيضا، بحكم إسلامهم إن كانوا مسلمين، وبحكم إنسانيتهم إن لم يكونوا مسلمين.
وقد ذكر الله في آية الحقوق العشرة الوصية بالجيران فقال: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36]، أي البعيد.
ولا يقصُر المسلم خيره وإحسانه على أصدقائه وأحبابه، ويحرم منه خصومه وأعداءه، فالمطلوب أن يعمَّ الخير الجميع، وإذا كان القرآن الكريم نهانا أن يحملنا بُغض قوم على أن لا نعدل معهم[2]، فكذلك، لا ينبغي أن تحملنا عداوة قوم أو بُغضهم على أن لا نرحمهم ولا نبرَّهم ولا نُحسن إليهم، فإن المؤمن إنسان رحيم بكلِّ خلق الله، وإن عادَوه وآذَوه.
وفي الحديث: "لا يدخل الجنة إلا رحيم". قالوا: يا رسول الله، كلُّنا رحيم. قال: "إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكن رحمة العامة"[3].
ولا يكفُّ المسلم خيره وبرَّه عمَّن يخالفه في الدين، بحيث لا يقدِّم العون إلا لمسلم، ولا يجود بالخير إلا على مسلم، كأن الكافر لا يستحقُّ الرحمة! وهذا خطأ، فإن الكافر يعيش في ظلِّ ملك الله، ويأكل من رزقه، ولا يُحرم من برِّه ورحمته.
وهذا ما وجَّه إليه القرآن في التعامل مع غير المسلمين: أن نبرُّهم ونقسط إليهم ما داموا مسالمين لنا، ولم يظاهروا عدوا علينا.
قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
وقد قال تعالى في وصف الأبرار من عباده: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان:8]، وقد كان الأسير في ذلك الوقت من المشركين[4]، ولكن الله عزَّ وجلَّ مدح الذين يطعمونه في أَسره، ولا يَدَعونه يعاني الجوع أو العطش أو غيرهما. والمفروض أن الأسير كان إنسانا محاربا ووقع في الأَسر، ولكن هذا لا يحرمه حقَّه في الطعام والشراب وحسن المعاملة التي تليق بالآدمي المكرَّم.
ولا يقف المسلم بخيره وإحسانه عند الإنسان المكرَّم، بل يتجاوزه إلى الحيوان الأعجم، فهو يرحم الأنعام التي يستخدمها في الحرث والسقي والدرِّ والنسل، ويرحم الدواجن التي يقتنيها في البيت ليأكل من بيضها ولحمها، ويرحم الحيوانات الأخرى مثل الكلاب والقطط.
وفي الحديث: "اتقوا الله في البهائم العجماوات، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة"[5].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا رجل يمشي فاشتدَّ عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثلُ الذي بلغ بي، فملأ خفَّه، ثم أمسكه بفِيه، ثم رَقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له". قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: "في كلِّ كبد رطبة أجر"[6]. ورطوبة الكبد: كناية عن الحياة، أي: في كلِّ كائن حيٍّ تحسن إليه أجر عند الله.
ثانيا: التَّنوُّع:
لا يأخذ فعل الخير لدى الفرد المسلم، ولا الجماعة المسلمة: صورة واحدة، ولا نمطا واحدا، بل تتعدَّد صُوره، وتتنوَّع أنماطه، بحسب حاجات الناس ومطالبهم، وبحسب قدرة فاعل الخير وإمكاناته.
فقد يعمل على تحقيق المطالب المادية للإنسان، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وعلاج.
وقد يعمل على تحقيق المطالب المعنوية للإنسان، من تعليم وثقافة وفقه في الدين.
ومثل ذلك: المطالب النفسية للإنسان، مثل إدخال السرور عليه، ومسح دمعته، ومعالجة قلقه وهمِّه، وملء نفسه بالتوكُّل والثِّقة بالله، ومطاردة شبح اليأس من قلبه.
وقد يمنح المسلم الخير للفرد، أو يمنحه للأسرة، أو يمنحه للمجتمع.
وقد يكون الخير في صورة أشياء عينيَّة، أو في صورة نقود.
وقد يعطي فاعل الخير الشيء تبرُّعا خالصا، وقد يعطيه إعارة ينتفع بعينه مدَّة من الزمن ثم يردُّ العين لصاحبها، أو يقرضه قرضا يستهلكه وينتفع به، ثم يردُّ بدله.
وقد يكون الخير في صورة صدقة عادية تُنفَق في الحال على مستحقِّها، وقد يكون في صورة صدقة جارية، أي دائمة متجدِّدة، وهي صورة (الوقف الخيري) الذي يحبَّس أصله وتسبَّل ثمرته للخير. وقد أجاز بعض الفقهاء وقف النقود، وأنا أُرجِّح هذا، تشجيعا على البرِّ، وتوسيعا لدائرة الخير. ولا مانع أن يكون هذا الوقف محدودا بزمن، مثل أن يقف مليون دينار لمدَّة عشر سنوات أو عشرين.
وقد يكون الخير في صورة إسعاف وقتي، ومساعدة فردية تسدُّ الحاجة الفورية، وقد يكون في صورة مشروع جماعي، يحلُّ مشكلة جماعة من الناس، كأهل قرية، أو أهل حِرفة، أو نحو ذلك. كأن يبنى لهم من أموال الزكاة مصنع يملَّك لهم بالاشتراك، يشتغلون فيه، أو مزرعة مشتركة، يُصلحون أرضها، ويتعهَّدون زرعها وشجرها.
وقد يكون الخير بإعطاء ذوي الحاجة أموالا يملكونها وينفقونها على أنفسهم، وقد يكون بمنح قروض لهم تُعينهم على الكسب، ثم يردُّونها من ثمرة كسبهم على سنين يتَّفق عليها، مع مراعاة التيسير عليهم، والتخفيف عنهم.
وقد يكون الخير بمنح جزء من المال لأهل الحاجة، قلَّ أو كثر، وقد يكون بمنح جزء من الوقت والجهد من ذوي الخبرة المعيَّنة، كأن يعطِي الطبيب ساعات معينة كلَّ أسبوع، ليقابل المرضى في المستشفى أو المستوصف الخيري، ويقوم بفحصهم أو علاجهم بغير مقابل، إلا ابتغاء وجه الله، أو بمقابل يسير.
ومثل الطبيب: أصحاب الاختصاصات المختلفة التي يفتقر إليها الناس في شتَّى المجالات.
وربما كان التبرُّع بالجهد والوقت من بعض الناس: أهمَّ وأعلى من التبرُّع بالمال.
على أن التنوُّع هنا محمود ومحبوب، فكلٌّ يتبرَّع ممَّا عنده، فهذا يجود بما عنده من مال، وهذا يجود بما عنده من علم وخبرة وجهد. وبهذا تتكامل جهود أهل الخير في الأمة.
ومن روائع التوجيه النبوي: أنه صلى الله عليه وسلم حين أمر المسلمين بالصدقة، وفرضها عليهم في كلِّ يوم، بل فرضها على كلِّ مفصل من مفاصل جسمهم، أو عظم من عظامه، لم يقصر الصدقة الواجبة على الصدقة المالية، فيحتكرها الموسرون وأرباب المال، بل نوَّع في هذه الصدقة تنويعا يشمل من أنواع الخير ما لا يخطر ببال الكثيرين.
فهناك الصدقة الاجتماعية: مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح بين المتخاصمين، فإن "فساد ذات البين هي الحالقة"[7].
وهناك الصدقة النفسية: كقوله عليه السلام: "الكلمة الطيبة صدقة"[8]، "وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة"[9].
وهناك الصدقة الإنسانية: التي تتعلَّق بالضعفاء من البشر، كأن تعين الرجل الكَلَّ الضعيف، فتركبه على دابَّته، أو تحمل متاعه عليها، أو ترشد الإنسان الغريب التائه في الطريق.
وهناك الصدقة التي لا تتعلَّق بشخص معين، ولكن تتعلَّق بعموم الناس، مثل (إماطة الأذى عن الطريق)، فإزالة كلِّ ما يعوق الناس أو يؤذيهم من الطريق الذي يسلكونه، هو عبادة وصدقة يتقرَّب بها إلى الله: من عظم أو شوك أو حجارة أو زجاج مكسور، أو قشور الفاكهة كالموز، أو غير ذلك من كلِّ ما يؤذي الناس، ولا سيَّما الضعفاء منهم.
وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة المطلوبة من كلِّ مسلم في كلِّ يوم عن نفسه، بل عن كلِّ مفصل من مفاصله، تتَّسع لكلِّ خير يصل نفعه إلى إنسان، وحيوان، أو إلى البيئة نفسها، وهو مأجور عليه عند الله تعالى.
وحسبنا أن نذكر هنا: حديث أبي ذر رضي الله عنه، الذي أورده الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ينجِّي العبد من النار؟
قال: "الإيمان بالله".
قلتُ: يا نبي الله، مع الإيمان عمل؟
قال: "أن ترضخ مما خوَّلك الله، وترضخ مما رزقك الله".
قلتُ: يا نبي الله، فإن كان فقيرا لا يجد ما يرضخ؟
قال: "يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر".
قلتُ: أرأيتَ إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؟
قال: "فليعِن الأخرق". (أي الذي لا يحسن صنعة).
قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ إن كان لا يحسن أن يصنع؟
قال: "فليعِن مظلوما".
قلتُ: يا نبي الله، أرأيتَ إن كان ضعيفا لا يستطيع أن يعين مظلوما؟
قال: "ما تريد أن تترك لصاحبك من خير! ليمسك أذاه عن الناس".
قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ إن فعل هذا يدخله الجنة؟
قال: "ما من عبد مؤمن يصيب خَصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة"[10].