Darco
12-02-2008, 03:18 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
- 1 –
في عصر يوم حار على قارعة طريق صحراوي قديمٍ في ولاية أريزونا الأمريكيَّة:
رجلٌ خمسيني يلبس الرثَّ من الثياب معتمراً قبعة عليها شعار "شيكاغو بولز" فريق السلة الأمريكي العريق. جلس هذا الرجل على كرسيِّه الهزَّاز أمام كرفانه المتحرّك الذي يسكن فيه وقد أمسك في يده ببقايا سيجارة بينما ينظر بكل شغف نحو السيارة المقتربة نحوه, أخذ يدخّن تماماً كما كان يصنع أسلافه الهنود الحُمر أيام كانت كل تلك السهول أراضيهم, وكل تلك المروج حِماهم وحدهم. "جون ماندينا", هذا هو اسمه الذي سمته أمه به؛ برغم ملامحة الهندية التي لاتتوائم مع مظهره, كان اسمه جون, لا لشيء سوى أن الحياة قد تغيّرت.
وقف من كرسيّه موجهاً نظراته نحو سيارة الفورد القادمة, سيارة كاثي جونز الموظفة الأمريكية التي أتى أجدادها إلى هذه الأرض قبل أربعمئة سنة قادمين من أيرلندا. كاثي تعمل في شركة عقارات, وكانت في طريقها نحو منزلها من نزهة هي وطفليها.
لاحظت اللوحة الموجودة قرب كرفان "جون" والتي كتب عليها "سجاد يدوي للبيع".. لقد كانت تنوي شراء سجادة لوضعها في صالة المنزل.
سألته عن سعر سجاده التقليدي المنقوش بالنقوش التقليدية للهنود الحمر والذي تقوم على صنعه أخواته في قريتهم الصغيرة القريبة, فأجابها بسعره ثم ساومته وشدت في مساوتها ليبيعها أخيراً بسعرها المعروض. رفع سجادتها الجديدة بيديه ليضعها في شنطة سيارتها, ثم ودّعها بإبتسامة غير عريضة. عاد هو نحو كرسيّه العتيق, وعادت "كاثي" إلى بيتها.. الذي لم يكن بالطبع "كرفاناً" كبيته!
- 2 -
هناك بعيداً.. بعيداً في المكان, وبعيداً في الزمان .. بعد أن مرّت السنون ودارت عجلة الحياة على عالم شرهٍ شرير لا يحد جنونه حد ..
ليست روائح النفط الخام القادمة من بحار الخليج بمنأى عن أنف هذا العالم المجنون, الذي شمّها.. ثم اشتهاها.. ثم أقام لأجلها حرب الخليج الرابعة. حربٌ هوجاء أكلت من الخليج حتى شبعت.
تحرّكت عجلات العالم بعد إفاقته من سكرته, وانخماد نار حربه.. أفاق على الإضطرابات الدموية فوق تلك الأراضي بعد أن تخلخلت الصورة السياسية, وماجت الملايين المملينة ذات الأعراق المختلفة في فوضى شاملة.
أمام هذه الفوضى, أمسكت القوى العظمى –بخبثها المعتاد, تحقيقاً لمصالحها ومن بعد مصالحها الطوفان- بخيوط الفوضى في المنطقة. فقام قائم منهم هناك في مجلس الأمن الدولى قائلاً: فليقرروا مصيرهم بأنفسهم! لترتفع الأيادي المؤيدة إقراراً لرأيه.
وضِعَت صناديق الإقتراع على سواحل الخليج, بحراسة الأمم المتحدة, وبمباركة السواد الأعظم من سكان الخليج المكونين حينها من أعراق وطوائف مختلفة يضيع فيها الأصيل بين سواه. كانوا يبتسمون وهم يضعون أوراقهم داخل الصندوق, وقد وضعوا عليها "نعم! .. نعم! .. نعم!".
نعم! نعم لقيام الجمهويّة!.. حان لكل مقيم في المنطقة أن يرفع شعار النصر مبتسما, فقد صار مواطناً مالكاً لهذه الأرض. لتقوم مع هذه الإبتسامات الجمهوريّة برئيسها غير العربي وغير المسلم رغماً عن أنف كل مشاعر الحزن المستترة في صدور نسبة ضئيلة من سكان الدولة الأصليين.
قامت دولة الثقافات المتعددة, واللغات المتعددة, والديانات المتعددة .. لتكون الثقافة العربية عنصراً من العناصر فحسب, واللغة العربية لغة ثانوية للدولة الناطقة بالأنجليزية, والديانة صارت على الرف بسبب إختلاط عشرات الديانات والمذاهب في تشكيل الدولة.. فأختارت العلمانيّة منهجاً.
- 3 -
بعد سنواتٍ أخرى, في نفس المكان:
الفريق الصحفي التابع لقناة البي بي سي البريطانية العريقة في رحلة لإعداد تقرير صحفي عن التمييز العنصري في "جمهورية قطر"!
"هذه هي المدينة, هنا يمكننا الحصول على معلومات مفيدة" قال أحدهم بعد أو توقفت سيارة الفريق الصحفي البريطاني في مدينة "تانيا" التي تقع وسط قطر بالضبط بمسافة 30 كيلو متر عن الدوحة العاصمة؛ المدينة التي كانت تُعرف سابقاً بـ"الشحانيّة", وتم تغييراسمها هي ومدن أخرى بعد قرار من برلمان الجمهورية, الذي علل قراره بـ"صعوبة أسماء هذه المناطق, بما لا يتلائم مع جميع ثقافات الدولة"!
"ناتيا", المدينة المتوسطة الحجم, ذات الشوارع الضيقة والمباني القديمة نوعاً ما. تتميّز عن غيرها من المدن القطرية أنها المدينة الوحيدة التي يشكل السكان الأصليين لقطر غالبيّة في المدينة. فالسكان الأصليون لقطر لايتعدون حينها 5% من سكان الجمهورية, بعد هجرة 70% من السكان الأصليين إلى الدول المجاورة بعد إقرار الجمهورية خوفاً على وضعهم في الدولة الجديدة, وتبقّى القليل مشكلين أقليّة ذائبة لا قيمة لها.
لقد كانوا ينتظرون "سيف عبدالله" , الناشط المحلي ذو الأصول القطرية .. أتصل "سيف" بـ"ستيف ماكاين" أحد أفراد الطاقم الصحفي, ليخبره أنه ينتظرهم في محطة الوقود .. لينقلهم منها إلى مكان إقامته ليدلي بما هو عنده.
رحّب بضيوفه أمام منزله بإنجليزية صافية داعياً إياهم للدخول .. كان والده "عبدالله" المسن في الداخل, والذي رحّب هو الآخر بضيوفهم.
"نحن نعاني من تفرقة عنصرية ضدنا, وإن أدّعت الحكومة غير ذلك.. لقد تم التحامل علي وطردي من عملي لأسباب واهية! وهناك العشرات من أمثالي الذين ظلموا بسبب ما أعتقد أنه أحقاد قديمة تجاهنا! أنا أتهم الحكومة بالعنصريّة!" هكذا صرّح "سيف" بحماس بارز, سيف الذي أسس قبل سنتين منظمة لحقوق السكان الأصليين. وافقه والده بإيحاءه برأسه.
تحدثوا مطولاً عن الوضع السياسي والإقتصادي للأقلية, وأشار سيف بمناشدة يائسة بالتدخل الدولي للضغط على الحكومة لإحقاق المساواة في المواطنة التي يفتقدونها.
ثم ودّعهم وأغلق باب منزله, منتظراً بشغفٍ بث التقرير الصحفي, علَّ العالم الذي أقر محنتهم أن يرأف بهم ويتحرك لأجلهم!
- 4 -
حلَّ الليل ثقيلاً على نفس "عبدالله" الشيخ الهرم كعادة الليل عليه.. فأثقل صدره ضيقاً لم يتحمله.. ليخرج من داره إلى سطح المنزل متأملاً في هجعه هذا الليل, بأصوات صراصيره وقططه.
أدار وجهه شرقاً صوب الدوحة, وقد كان نورها شديداً بادياً بوضوح في السماء. تنهد أمام هذه السماء وأمام هذه الأضواء تنهداً طويلاً, وخاطب دوحته بشدوٍ مختنز في بيطيني وأذيني قلبه يخرج كل ليلة:
أتذكرين ؟
أتذكرين لعبي في طرقكِ وأزقتكِ وأنا باسم ضاحك وأنتِ أيضاً باسمة ضاحكة بي؟
أتذكرين سوق المقبرة ومواطئ أقدامهم عليك فيه يومها؟ أتذكرين أصواتهم وهم يساومون بائع القماش؟
أتذكرين مجالسهم ويبوتهم؟ أتذكرين ابتساماتهم السمحة وثيابهم البيضاء؟
أتذكرين تلك التلاوات في مساجدهم؟
أتذكرين مراقدهم في ثراك الطاهر - طهّر الله ثراهم وثراكِ- ؟
أيهٍ يالحزنكِ عليهم وعلينا وعلى نفسكِ, قد أظهرك دميمة وأنتِ العروس المتفرّدة بالحسن !
كيف لهذا الوجه أن يحتضن كل هذه الدموع؟
كيف له أن يحتضن كل هذا السواد؟
ولدتِ في يوم مشرق, ولدتِ ضاحكة مبتسمة عكس كل المواليد..
ثم ترعرعتِ بزهوٍ وافتخار بين أيادٍ أمينة..
كانت كل الأصابع تتوجه لكِ, كيف لا وكل هذا الحسن فيكِ؟!
ها أنا أقف اليوم –في أرذل عمري- معك في أرذل عمركِ نحتضر سويّاً بعد أن رحل الركب.. وبقينا وحيدَين نشكو بيأسٍ صروف الدهر!
لكل بداية نهاية, ولايتزوج الأبطال في كل النهايات!
.. نزلت دمعة يتيمة من عين "عبدالله" شقّت طريقها في خدّه الأيمن, دمعةُ يائسٍ بائسْ.. وسنا نور "دوحته" المريضة لايزال مشتعلاً .. لم يُخفت سنا نورها سوى بزوغ فجر تلك الليلة, ليتنفّس الصبح في حضرة الدوحة بثوبها الأسود.
لم يكن تنفّس الصبح متنفَّساً لعبدالله .. فليله ونهاره سواء. ذهب ليتوضأ, وصلى الفجر في مكانه ثم ذهب إلى فراشه علَّ النعاس يغشاه.
في الوقت ذاته من ذاك الصباح, وفي دوحة "عبدالله" .. قام سعادة راجو سوهراج وزير العمل من فراشه, واستعجل في أمره.. فعليه أن يحضر إجتماع مجلس الوزراء اليوم!
- ∞ -
بين سهول "جون ماندينا" الهندي الأحمر, ودوحة "عبدالله" .. وقف الإثنان كدروسٍ حيّة في التاريخ. لم يرحم التاريخ جون, ولن يرحم عبدالله.
سانغفورة, دولة قائمة مستقلّة .. كانت جزئاً من ماليزيا, وزادت نسبة الصينيين العاملين فيها على الماليزيين, فأعلنت بريطانيا التصويت لتقرير المصير.. التصويت الذي رحّب حينها بقيام "سنغافورة" رغماً عن أنف كل ماليزي!
لعل عبدالله الآن بيننا ولعل "دوحته" هي التي نقف فوقها الآن, وكي لا نبكي على أطلالها كما بكي أسلاف "جون ماندينا" على حضارتهم, علينا أن نقرأ التاريخ ونعلم مدى حساسية وضعنا وطمع الكثيرين بهذا التراب الذي نقف فوقه!
أقرأؤا التاريخ إذ فيه العبر **** ظلَّ قوم ليس يدرون الخبر!
- 1 –
في عصر يوم حار على قارعة طريق صحراوي قديمٍ في ولاية أريزونا الأمريكيَّة:
رجلٌ خمسيني يلبس الرثَّ من الثياب معتمراً قبعة عليها شعار "شيكاغو بولز" فريق السلة الأمريكي العريق. جلس هذا الرجل على كرسيِّه الهزَّاز أمام كرفانه المتحرّك الذي يسكن فيه وقد أمسك في يده ببقايا سيجارة بينما ينظر بكل شغف نحو السيارة المقتربة نحوه, أخذ يدخّن تماماً كما كان يصنع أسلافه الهنود الحُمر أيام كانت كل تلك السهول أراضيهم, وكل تلك المروج حِماهم وحدهم. "جون ماندينا", هذا هو اسمه الذي سمته أمه به؛ برغم ملامحة الهندية التي لاتتوائم مع مظهره, كان اسمه جون, لا لشيء سوى أن الحياة قد تغيّرت.
وقف من كرسيّه موجهاً نظراته نحو سيارة الفورد القادمة, سيارة كاثي جونز الموظفة الأمريكية التي أتى أجدادها إلى هذه الأرض قبل أربعمئة سنة قادمين من أيرلندا. كاثي تعمل في شركة عقارات, وكانت في طريقها نحو منزلها من نزهة هي وطفليها.
لاحظت اللوحة الموجودة قرب كرفان "جون" والتي كتب عليها "سجاد يدوي للبيع".. لقد كانت تنوي شراء سجادة لوضعها في صالة المنزل.
سألته عن سعر سجاده التقليدي المنقوش بالنقوش التقليدية للهنود الحمر والذي تقوم على صنعه أخواته في قريتهم الصغيرة القريبة, فأجابها بسعره ثم ساومته وشدت في مساوتها ليبيعها أخيراً بسعرها المعروض. رفع سجادتها الجديدة بيديه ليضعها في شنطة سيارتها, ثم ودّعها بإبتسامة غير عريضة. عاد هو نحو كرسيّه العتيق, وعادت "كاثي" إلى بيتها.. الذي لم يكن بالطبع "كرفاناً" كبيته!
- 2 -
هناك بعيداً.. بعيداً في المكان, وبعيداً في الزمان .. بعد أن مرّت السنون ودارت عجلة الحياة على عالم شرهٍ شرير لا يحد جنونه حد ..
ليست روائح النفط الخام القادمة من بحار الخليج بمنأى عن أنف هذا العالم المجنون, الذي شمّها.. ثم اشتهاها.. ثم أقام لأجلها حرب الخليج الرابعة. حربٌ هوجاء أكلت من الخليج حتى شبعت.
تحرّكت عجلات العالم بعد إفاقته من سكرته, وانخماد نار حربه.. أفاق على الإضطرابات الدموية فوق تلك الأراضي بعد أن تخلخلت الصورة السياسية, وماجت الملايين المملينة ذات الأعراق المختلفة في فوضى شاملة.
أمام هذه الفوضى, أمسكت القوى العظمى –بخبثها المعتاد, تحقيقاً لمصالحها ومن بعد مصالحها الطوفان- بخيوط الفوضى في المنطقة. فقام قائم منهم هناك في مجلس الأمن الدولى قائلاً: فليقرروا مصيرهم بأنفسهم! لترتفع الأيادي المؤيدة إقراراً لرأيه.
وضِعَت صناديق الإقتراع على سواحل الخليج, بحراسة الأمم المتحدة, وبمباركة السواد الأعظم من سكان الخليج المكونين حينها من أعراق وطوائف مختلفة يضيع فيها الأصيل بين سواه. كانوا يبتسمون وهم يضعون أوراقهم داخل الصندوق, وقد وضعوا عليها "نعم! .. نعم! .. نعم!".
نعم! نعم لقيام الجمهويّة!.. حان لكل مقيم في المنطقة أن يرفع شعار النصر مبتسما, فقد صار مواطناً مالكاً لهذه الأرض. لتقوم مع هذه الإبتسامات الجمهوريّة برئيسها غير العربي وغير المسلم رغماً عن أنف كل مشاعر الحزن المستترة في صدور نسبة ضئيلة من سكان الدولة الأصليين.
قامت دولة الثقافات المتعددة, واللغات المتعددة, والديانات المتعددة .. لتكون الثقافة العربية عنصراً من العناصر فحسب, واللغة العربية لغة ثانوية للدولة الناطقة بالأنجليزية, والديانة صارت على الرف بسبب إختلاط عشرات الديانات والمذاهب في تشكيل الدولة.. فأختارت العلمانيّة منهجاً.
- 3 -
بعد سنواتٍ أخرى, في نفس المكان:
الفريق الصحفي التابع لقناة البي بي سي البريطانية العريقة في رحلة لإعداد تقرير صحفي عن التمييز العنصري في "جمهورية قطر"!
"هذه هي المدينة, هنا يمكننا الحصول على معلومات مفيدة" قال أحدهم بعد أو توقفت سيارة الفريق الصحفي البريطاني في مدينة "تانيا" التي تقع وسط قطر بالضبط بمسافة 30 كيلو متر عن الدوحة العاصمة؛ المدينة التي كانت تُعرف سابقاً بـ"الشحانيّة", وتم تغييراسمها هي ومدن أخرى بعد قرار من برلمان الجمهورية, الذي علل قراره بـ"صعوبة أسماء هذه المناطق, بما لا يتلائم مع جميع ثقافات الدولة"!
"ناتيا", المدينة المتوسطة الحجم, ذات الشوارع الضيقة والمباني القديمة نوعاً ما. تتميّز عن غيرها من المدن القطرية أنها المدينة الوحيدة التي يشكل السكان الأصليين لقطر غالبيّة في المدينة. فالسكان الأصليون لقطر لايتعدون حينها 5% من سكان الجمهورية, بعد هجرة 70% من السكان الأصليين إلى الدول المجاورة بعد إقرار الجمهورية خوفاً على وضعهم في الدولة الجديدة, وتبقّى القليل مشكلين أقليّة ذائبة لا قيمة لها.
لقد كانوا ينتظرون "سيف عبدالله" , الناشط المحلي ذو الأصول القطرية .. أتصل "سيف" بـ"ستيف ماكاين" أحد أفراد الطاقم الصحفي, ليخبره أنه ينتظرهم في محطة الوقود .. لينقلهم منها إلى مكان إقامته ليدلي بما هو عنده.
رحّب بضيوفه أمام منزله بإنجليزية صافية داعياً إياهم للدخول .. كان والده "عبدالله" المسن في الداخل, والذي رحّب هو الآخر بضيوفهم.
"نحن نعاني من تفرقة عنصرية ضدنا, وإن أدّعت الحكومة غير ذلك.. لقد تم التحامل علي وطردي من عملي لأسباب واهية! وهناك العشرات من أمثالي الذين ظلموا بسبب ما أعتقد أنه أحقاد قديمة تجاهنا! أنا أتهم الحكومة بالعنصريّة!" هكذا صرّح "سيف" بحماس بارز, سيف الذي أسس قبل سنتين منظمة لحقوق السكان الأصليين. وافقه والده بإيحاءه برأسه.
تحدثوا مطولاً عن الوضع السياسي والإقتصادي للأقلية, وأشار سيف بمناشدة يائسة بالتدخل الدولي للضغط على الحكومة لإحقاق المساواة في المواطنة التي يفتقدونها.
ثم ودّعهم وأغلق باب منزله, منتظراً بشغفٍ بث التقرير الصحفي, علَّ العالم الذي أقر محنتهم أن يرأف بهم ويتحرك لأجلهم!
- 4 -
حلَّ الليل ثقيلاً على نفس "عبدالله" الشيخ الهرم كعادة الليل عليه.. فأثقل صدره ضيقاً لم يتحمله.. ليخرج من داره إلى سطح المنزل متأملاً في هجعه هذا الليل, بأصوات صراصيره وقططه.
أدار وجهه شرقاً صوب الدوحة, وقد كان نورها شديداً بادياً بوضوح في السماء. تنهد أمام هذه السماء وأمام هذه الأضواء تنهداً طويلاً, وخاطب دوحته بشدوٍ مختنز في بيطيني وأذيني قلبه يخرج كل ليلة:
أتذكرين ؟
أتذكرين لعبي في طرقكِ وأزقتكِ وأنا باسم ضاحك وأنتِ أيضاً باسمة ضاحكة بي؟
أتذكرين سوق المقبرة ومواطئ أقدامهم عليك فيه يومها؟ أتذكرين أصواتهم وهم يساومون بائع القماش؟
أتذكرين مجالسهم ويبوتهم؟ أتذكرين ابتساماتهم السمحة وثيابهم البيضاء؟
أتذكرين تلك التلاوات في مساجدهم؟
أتذكرين مراقدهم في ثراك الطاهر - طهّر الله ثراهم وثراكِ- ؟
أيهٍ يالحزنكِ عليهم وعلينا وعلى نفسكِ, قد أظهرك دميمة وأنتِ العروس المتفرّدة بالحسن !
كيف لهذا الوجه أن يحتضن كل هذه الدموع؟
كيف له أن يحتضن كل هذا السواد؟
ولدتِ في يوم مشرق, ولدتِ ضاحكة مبتسمة عكس كل المواليد..
ثم ترعرعتِ بزهوٍ وافتخار بين أيادٍ أمينة..
كانت كل الأصابع تتوجه لكِ, كيف لا وكل هذا الحسن فيكِ؟!
ها أنا أقف اليوم –في أرذل عمري- معك في أرذل عمركِ نحتضر سويّاً بعد أن رحل الركب.. وبقينا وحيدَين نشكو بيأسٍ صروف الدهر!
لكل بداية نهاية, ولايتزوج الأبطال في كل النهايات!
.. نزلت دمعة يتيمة من عين "عبدالله" شقّت طريقها في خدّه الأيمن, دمعةُ يائسٍ بائسْ.. وسنا نور "دوحته" المريضة لايزال مشتعلاً .. لم يُخفت سنا نورها سوى بزوغ فجر تلك الليلة, ليتنفّس الصبح في حضرة الدوحة بثوبها الأسود.
لم يكن تنفّس الصبح متنفَّساً لعبدالله .. فليله ونهاره سواء. ذهب ليتوضأ, وصلى الفجر في مكانه ثم ذهب إلى فراشه علَّ النعاس يغشاه.
في الوقت ذاته من ذاك الصباح, وفي دوحة "عبدالله" .. قام سعادة راجو سوهراج وزير العمل من فراشه, واستعجل في أمره.. فعليه أن يحضر إجتماع مجلس الوزراء اليوم!
- ∞ -
بين سهول "جون ماندينا" الهندي الأحمر, ودوحة "عبدالله" .. وقف الإثنان كدروسٍ حيّة في التاريخ. لم يرحم التاريخ جون, ولن يرحم عبدالله.
سانغفورة, دولة قائمة مستقلّة .. كانت جزئاً من ماليزيا, وزادت نسبة الصينيين العاملين فيها على الماليزيين, فأعلنت بريطانيا التصويت لتقرير المصير.. التصويت الذي رحّب حينها بقيام "سنغافورة" رغماً عن أنف كل ماليزي!
لعل عبدالله الآن بيننا ولعل "دوحته" هي التي نقف فوقها الآن, وكي لا نبكي على أطلالها كما بكي أسلاف "جون ماندينا" على حضارتهم, علينا أن نقرأ التاريخ ونعلم مدى حساسية وضعنا وطمع الكثيرين بهذا التراب الذي نقف فوقه!
أقرأؤا التاريخ إذ فيه العبر **** ظلَّ قوم ليس يدرون الخبر!