غريب الدار
19-03-2008, 08:52 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
بلقيس بنت شراحيل.. ملكة حكمت اليمن في القرن العاشر قبل الميلاد .. واتخذت من مدينة سبأ عاصمة لمملكتها , وكانت تعبد الشمس هي وقومها , فرآها الهدهد , وكان جندياً في جيش نبي الله سليمان عليه السلام , فأخبره بأمرها , فأرسل سليمان إليها رسالة يدعوها للإسلام , فأرسلت له هدية عظيمة , ولكن سليمان ردّ تلك الهدية , وقال لمن جاء بها : ( أتمدُّوننِ بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون . ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) .
فلما علمت بلقيس بقوة سليمان ورسالته الدينية ذهبت إليه , وأعلنت إسلامها , هي وقومها , قال تعالي : ( قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) .
وفي الكلمات التالية نتعرف علي قصة تلك الملكة العظيمة رضي الله عنها .
الملـكـــــــــــــة القوية ...
في قديم الزمان , في القرن العاشر قبل الميلاد , كان يحكم سبأ بأرض اليمن ملك عادل , اسمه شراحيل بن مالك بن الديان ابن أبي سرح بن الحارث بن قيس بن صيفي , من بني يعف بن ...ك , من حمير , من أهل مأرب , وكان قد ورث هذا المُلك عن آبائه وأجداده , ولم يكن له من الأبناء غير ابنة واحدة , اسمها بلقيس , فلما توفي صارت بلقيس هي الملكة .
وكان في غمدان ملك ظالم , اسمه ذو الأذعار عمرو بن أبرهة , فزحف علي مدينة سبأ , فتصدت له الملكة بلقيس , فهزمها , فهربت مستخفية بزي أعرابي إلي منطقة الأحقاف , ولكن رجال ذي الأذعار أدركوها , فاستسلمت لهم , فقادوها إلي ذي الأذعار , فاحتالت عليه حتي تمكنت من قتله , فبايعها قومها وولُّوها الحكم , فوليت أمر اليمن كله , وخضع لها الناس هناك , فاتخذت مدينة سبأ عاصمة لملكها , وأدارت شئون البلاد بشجاعة وحكمة ورممت سد مأرب الشهير , وشيدت قصرها في مدينة مأرب , وازدهرت علي يديها التجارة والزراعة , وزادت ثروات البلاد واستقرت أحوال الناس
هــــــــدهـــــد الخير ...
كانت بلقيس هي وقومها يعبدون الشمس , ويسجدون لها من دون الله , وكان ذلك في عهد نبي الله سليمان عليه السلام بالشام , وقد آتاه الله ملكاً عظيماً , حيث سخر له الإنس والجن , يطيعون أمره , ويلبُّون طلبه , وعلمه لغة الطير .
وذات يوم , ترك الهدهد مكانه في جيش سليمان , وخرج في رحلة استطلاعية متجها إلي اليمن ,فرأي المكلة العظيمة وقومها , وأحزنه أنهم يعبدون الشمس ويشركون بالله الواحد , وأثناء الرحلة سأل سليمان عن الهدهد فلم يجده , فتوعد أن يعذبه إلا إن يكون هناك سبب مقنع لغيابه , قال تعالي : ( وتفقد الطير فقال مالي لا أري الهدهد أم كان من الغائبين . لأعذبنَّه عذاباً شديداً أو لأذبحنَّه أو ليأتيَّني بسلطان مبين ) .
وبعد فترة من الزمن , جاء الهدهد , فسأله سليمان عن سبب غيابه , فقال الهدهد : ( أحطت بما لم تُحط به وجئتك من سبإٍ بنبإ يقين . إني وجدت امرأة تملكهم وأوُتيَت من كل شيء ولها عرش عظيم . وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون . ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تُخفون وما تعلنون . الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ) . فرَّد سليمان عليه السلام علي الهدهد قائلاً : ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) .
الـرســــــــــــالة المقدسة ...
لم يطُل تفكير سيدنا سليمان عليه السلام في أمر الملكة بلقيس , وقومها , وأمر علي الفور بأن يأتوه بأدوات الكتابة , ثم كتب :
بسم الله الرحمن الرحيم .. من عبد الله سليمان بن داود إلي بلقيس ملكة سبأ , السلام علي من اتبع الهدي , أما بعد : ( ألا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين ) . فلما فرغ من كتابة هذا الخطاب الموجز , ختمه بخاتمه , ثم نظر إلي الي الهدهد وقال له : ( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تولّ عنهم وانظر ماذا يرجعون ) . ثم طوي سليمان عليه السلام الرسالة , وأعطاهل الهدهد , فحملها الهدهد بمنقاره , وبدأ رحلة طيران طويلة , من الشام إلي اليمن , ثم مضي إلي مأرب , ووصل إلي قصر الملكة .
وكانت بلقيس في حجرة نومها الخاصة , وعليها حراسة مشددة , والحجرة مغلقة الأبواب والنوافذ إلا نافذة صغيرة تركتها مفتوحة لتهب عليها نسائم رقيقة من خلالها .
ووصل الهدهد الي حجرة الملكة , فوجدها قد استلقت في فراشها لتستريح , فدخل الحجرة من النافذة الصغيرة المفتوحة , وألقي عليها الرسالة , فهبّت الملكة مذعورة , وهي تتساءل من هذا الذي دخل عليها ولم تشعر به ؟ وما هذا الكتاب الذي ألقي اليها ؟ ثم نظرت اليا لنافذة المفتوحة فرأت الهدهد بالقرب منها , فأمسكت الكتاب , وفتحته , وقرأت مافيه , فعرفت أنه من سليمان ملك الشام , وهو يدعوها الي الاستسلام , والي الإيمان بالله الواحد , ففكرت قليلاً ثم رأت ألا تتخذ قراراً حتي تشاور وزراءها ورجال دولتها .
الملكــــــــــــــة تشاور قومها ...
لبست الملكة بلقيس ثياب المُلك , وخرجت من حجرتها الي مجلس الدولة , وأمرت باجتماع عاجل , فاجتمع أعيان القوم والوزراء والقادة والكهنة في مجلس الحكم , وجلست الملكة علي كرسي عرشها , وفي يدها رسالة سليمان عليه السلام , ففتحتها , وهي تقول لمن حولها : ( يا أيها الملأ إني أُلقي إليَّ كتاب كريم . إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم . ألا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين ) .
فصمت القوم , وتعجبوا , واندهشوا , إذ لم يحدث من قبل أن خاطب أحد الملكة بهذه اللهجة , فقطع دهشتهم صوت الملكة يطلب منهم الرأي في ذلك الكتاب , فقالت : ( يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتي تشهدون ) . وهنا نظر القوم إلي قوتهم وكثرتهم , وقد كانوا اثني عشر ألف قائد , تحت إمرة كل واحد منهم مائة ألف مقاتل , فقالوا : ( نحن أُولوا قوة وأُولوا بأس شديد ) . فقالت لهم : إذن أنتم ترون محاربة ذلك الملك , أليس كذلك ؟ فقالوا : بلي , نحن بالفعل نري أن نقاتله , فإننا أقوياء , وعندنا الجيوش العظيمة , ونستطيع أن نهزمه لو جاء لحربنا أو فكر في غزونا . فقالت الملكة : أليس لديكم رأي آخر ؟ فقالوا : بل هذا هو رأينا , والأمر في النهاية إليكِ , فأمري بما شئتِ . فقالت لهم بلقيس : هذا ليس بالرأي السليم , لأن الحرب تفسد كل شيء , ولن نعرف عاقبتها , والملوك إذا غزو دولة أفسدوها , وجعلوا أعزة أهلها أذلة , فإذا جاء هذا الملك إلينا , وحاربنا , وانتصر علينا , سوف يهدم بيوتنا , ويقتل رجالنا , ويجعلنا عبيداً وجواري عنده , ونصبح ضعافاً لا نملك شيئاً , فلا تقوم لنا قائمة بعدها أبداً .
وكان القوم يعلمون حكمة الملكة , ورجاحة عقلها , وحسن تدبيرها , فأرادوا أن يعرفوا ماذا يدور في رأسها , وما الذي تفكر فيه , فسألوها : إذن فماذا ترين أن نفعل أيتها الملكة ؟ فقالت لهم بلقيس : سأرسل إليه هدية عظيمة مع رجل خبير منكم , علي أن تكون مهمة هذا الرجل أمرين ؛ الأول أن يقدم له الهدية , لعله يقبلها ويكف يده عنا فلا يحاربنا , ونكون بذلك قد علمنا أنه ملك من ملوك الدنيا الذين يطمعون في المال والثراء وليس بنبي أو رسول من عند الله كما يقول . والأمر الثاني أن يعلم هذا الرجل الذي نبعثه قوة هذا الملك , وعدد جيشه , فنعلم بذلك إن كنا نستطيع قتاله أم لا . فرأي القوم أن هذا الرأي هو الرأي السديد , فأبدوا استحسانهم وموافقتهم لهذا الرأي , وانفض الاجتماع علي ذلك .
الهـــــــــــــدية الثمينة ...
أصدرت الملكة بعد ذلك أوامرها بإعداد هدية ثمينة وعظيمة , فأعدوا هدية تليق بهذا الملك العظيم , وكانت أموالا كثيرة , وأواني من الذهب والفضة المرصعين باللآليء والجواهر , وكمية كبيرة من الأحجار الكريمة رائعة الجمال كالزمرد والمرجان والياقوت , وكثيراً من الأقمشة والثياب المصنوعة من الحرير الخالص , وكثيراً من الأطعمة الجيدة الموجودة باليمن , كما اشتملت الهدية علي عدد كبير من العبيد والجواري الحسان .
فلما تم تجهيز الهدية أرسلت المكلة إلي رجل حكيم من قومها , وأمرته أن يتوجه بتلك الهدية الي الشام ويقدمها للملك سليمان , ولا ينسي أن يطلع علي ملكه , ويعلم قوته وجيشه , فإذا عاد أخبرها بما رأي , فأطاع الرجل أمر الملكة , وأخذ معه بعض الحراس لحماية الهدية , وخرجت القافلة العظيمة بما تحمل من هدايا ثمينة من أرض اليمن متجهة إلي الشام .
المــُـــــــــــــلك العظيم ...
قبل أن تصل هدية الملكة بلقيس إلي الشام أخبرت الأجهزة الاستطلاعية نبي الله سليمان بأمر هذه الهدية , فأدرك سليمان عليه السلام علي الفور أن الملكة أرسلت رجالها ليعرفوا معلومات عن قوته وجيشه من ناحية ولتصانعه من ناحية أخري , فنادي سليمان عليه السلام في المملكة كلها أن يجتمع الجيش , فاجتمع اليه الإنس والجن والطير والحيوانات , ووقفوا جميعاً في استعراض مهيب أمام القائد الأعلي لهم وهو سليمان عليه السلام .
وبعد أيام , وصل رُسل بلقيس الي الشام , ودخلوا وسط حشود كثيفة من الجنود المدججين بالسلاح , لقد فوجيء رُسل بلقيس بأن غناهم وثرائهم يبدو وسط بهاء مملكة سليمان شيئاً صغيراً مخجلاً , فصغرت هديتهم في أعينهم , رغم كونها هدية ثمينة جداً بالنسبة لهم , ولكنهم وجدوا انفسهم أمام مُلك عظيم , لم يروا مثله من قبل , فأخذتهم الدهشة وهم يسيرون علي أرضية قصور الملك , وكانت مصنوعه من خشب الصندل المعطر المزين بالذهب .
وقف رسل بلقيس مع سليمان حتي ينتهي من استعراض جيشه , وراحت عقولهم تسجل عدد الجنود ونوعيتهم , وكثرتهم , ففوجئوا أن في الجيش جنود من الجن , وأنواعاً شتي من الطيور والحيوانات , فأدركوا أنهم أمام جيش لا يُهزم , وقوة لا تقاوم , وبعد أن انتهي استعراض الجيش , دعا سليمان عليه السلام سُفراء الملكة بلقيس إلي تناول الطعام علي مائدة الملك , فلما جلسوا علي المائدة وجدوا أنفسهم أمام أطعمة من كل أرجاء الأرض , وقد تصدرت المائدة أطعمة تُشتهر بلادهم بصنعها وزراعتها , وقد وُضعت في أطباق من الذهب الخالص , ومُلئت الكؤوس الفضية بأنواع مختلفة من الشراب المصفي , وكان يخدمه غلمان يتحلون بذهب لا تتحلي به ملكتهم نفسها .
شعر رسل بلقيس بعظمة سليمان , وقوته , ووجدوا له مهابة شديدة , وسلطاناً قوياً , وهيمنة علي كل ما حوله . فقدموا له هدية الملكة علي استحياء شديد , وقد بدت باهتة فقيرة وسط هذا الثراء المدهش والملك العظيم , فنظر سليمان عليه السلام الي رسل الملكة , وخاطب كبيرهم قائلاً : ( أتمدوننِ بمالٍ فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ) . فوقع رسل الملكة في حيرة من أمرهم , وسألوا أنفسهم : إذا كان لا يريد المال , وهو في غني عن أي مُلك , فماذا يريد إذن ؟! ورأي سليمان عليه السلام ذلك في عيونهم , فأخبرهم أن ما يريده هو هدايتهم الي عبادة الله الواحد , وترك عبادة الشمس , فقد أكرمه الله عز وجل بالحكمة والمُلك والنبوة , ثم أمر رئيس القافلة أن يرجع بالهدية إلي ملكته , وقال له : ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قِبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلةً وهم صاغرون ) .إلا أن يأتوني مسلمين .
فتقدم الرجل الحكيم من سليمان يستعطفه ويرجوه أن ينتظر حتي تأتيه الملكة بنفسها في مهمة سلام , فوافق سليمان أن يمهلهم أياماً .
إســــــــــــلام ملكة ...
( يتبع )
بلقيس بنت شراحيل.. ملكة حكمت اليمن في القرن العاشر قبل الميلاد .. واتخذت من مدينة سبأ عاصمة لمملكتها , وكانت تعبد الشمس هي وقومها , فرآها الهدهد , وكان جندياً في جيش نبي الله سليمان عليه السلام , فأخبره بأمرها , فأرسل سليمان إليها رسالة يدعوها للإسلام , فأرسلت له هدية عظيمة , ولكن سليمان ردّ تلك الهدية , وقال لمن جاء بها : ( أتمدُّوننِ بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون . ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) .
فلما علمت بلقيس بقوة سليمان ورسالته الدينية ذهبت إليه , وأعلنت إسلامها , هي وقومها , قال تعالي : ( قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) .
وفي الكلمات التالية نتعرف علي قصة تلك الملكة العظيمة رضي الله عنها .
الملـكـــــــــــــة القوية ...
في قديم الزمان , في القرن العاشر قبل الميلاد , كان يحكم سبأ بأرض اليمن ملك عادل , اسمه شراحيل بن مالك بن الديان ابن أبي سرح بن الحارث بن قيس بن صيفي , من بني يعف بن ...ك , من حمير , من أهل مأرب , وكان قد ورث هذا المُلك عن آبائه وأجداده , ولم يكن له من الأبناء غير ابنة واحدة , اسمها بلقيس , فلما توفي صارت بلقيس هي الملكة .
وكان في غمدان ملك ظالم , اسمه ذو الأذعار عمرو بن أبرهة , فزحف علي مدينة سبأ , فتصدت له الملكة بلقيس , فهزمها , فهربت مستخفية بزي أعرابي إلي منطقة الأحقاف , ولكن رجال ذي الأذعار أدركوها , فاستسلمت لهم , فقادوها إلي ذي الأذعار , فاحتالت عليه حتي تمكنت من قتله , فبايعها قومها وولُّوها الحكم , فوليت أمر اليمن كله , وخضع لها الناس هناك , فاتخذت مدينة سبأ عاصمة لملكها , وأدارت شئون البلاد بشجاعة وحكمة ورممت سد مأرب الشهير , وشيدت قصرها في مدينة مأرب , وازدهرت علي يديها التجارة والزراعة , وزادت ثروات البلاد واستقرت أحوال الناس
هــــــــدهـــــد الخير ...
كانت بلقيس هي وقومها يعبدون الشمس , ويسجدون لها من دون الله , وكان ذلك في عهد نبي الله سليمان عليه السلام بالشام , وقد آتاه الله ملكاً عظيماً , حيث سخر له الإنس والجن , يطيعون أمره , ويلبُّون طلبه , وعلمه لغة الطير .
وذات يوم , ترك الهدهد مكانه في جيش سليمان , وخرج في رحلة استطلاعية متجها إلي اليمن ,فرأي المكلة العظيمة وقومها , وأحزنه أنهم يعبدون الشمس ويشركون بالله الواحد , وأثناء الرحلة سأل سليمان عن الهدهد فلم يجده , فتوعد أن يعذبه إلا إن يكون هناك سبب مقنع لغيابه , قال تعالي : ( وتفقد الطير فقال مالي لا أري الهدهد أم كان من الغائبين . لأعذبنَّه عذاباً شديداً أو لأذبحنَّه أو ليأتيَّني بسلطان مبين ) .
وبعد فترة من الزمن , جاء الهدهد , فسأله سليمان عن سبب غيابه , فقال الهدهد : ( أحطت بما لم تُحط به وجئتك من سبإٍ بنبإ يقين . إني وجدت امرأة تملكهم وأوُتيَت من كل شيء ولها عرش عظيم . وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون . ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تُخفون وما تعلنون . الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ) . فرَّد سليمان عليه السلام علي الهدهد قائلاً : ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) .
الـرســــــــــــالة المقدسة ...
لم يطُل تفكير سيدنا سليمان عليه السلام في أمر الملكة بلقيس , وقومها , وأمر علي الفور بأن يأتوه بأدوات الكتابة , ثم كتب :
بسم الله الرحمن الرحيم .. من عبد الله سليمان بن داود إلي بلقيس ملكة سبأ , السلام علي من اتبع الهدي , أما بعد : ( ألا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين ) . فلما فرغ من كتابة هذا الخطاب الموجز , ختمه بخاتمه , ثم نظر إلي الي الهدهد وقال له : ( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تولّ عنهم وانظر ماذا يرجعون ) . ثم طوي سليمان عليه السلام الرسالة , وأعطاهل الهدهد , فحملها الهدهد بمنقاره , وبدأ رحلة طيران طويلة , من الشام إلي اليمن , ثم مضي إلي مأرب , ووصل إلي قصر الملكة .
وكانت بلقيس في حجرة نومها الخاصة , وعليها حراسة مشددة , والحجرة مغلقة الأبواب والنوافذ إلا نافذة صغيرة تركتها مفتوحة لتهب عليها نسائم رقيقة من خلالها .
ووصل الهدهد الي حجرة الملكة , فوجدها قد استلقت في فراشها لتستريح , فدخل الحجرة من النافذة الصغيرة المفتوحة , وألقي عليها الرسالة , فهبّت الملكة مذعورة , وهي تتساءل من هذا الذي دخل عليها ولم تشعر به ؟ وما هذا الكتاب الذي ألقي اليها ؟ ثم نظرت اليا لنافذة المفتوحة فرأت الهدهد بالقرب منها , فأمسكت الكتاب , وفتحته , وقرأت مافيه , فعرفت أنه من سليمان ملك الشام , وهو يدعوها الي الاستسلام , والي الإيمان بالله الواحد , ففكرت قليلاً ثم رأت ألا تتخذ قراراً حتي تشاور وزراءها ورجال دولتها .
الملكــــــــــــــة تشاور قومها ...
لبست الملكة بلقيس ثياب المُلك , وخرجت من حجرتها الي مجلس الدولة , وأمرت باجتماع عاجل , فاجتمع أعيان القوم والوزراء والقادة والكهنة في مجلس الحكم , وجلست الملكة علي كرسي عرشها , وفي يدها رسالة سليمان عليه السلام , ففتحتها , وهي تقول لمن حولها : ( يا أيها الملأ إني أُلقي إليَّ كتاب كريم . إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم . ألا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين ) .
فصمت القوم , وتعجبوا , واندهشوا , إذ لم يحدث من قبل أن خاطب أحد الملكة بهذه اللهجة , فقطع دهشتهم صوت الملكة يطلب منهم الرأي في ذلك الكتاب , فقالت : ( يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتي تشهدون ) . وهنا نظر القوم إلي قوتهم وكثرتهم , وقد كانوا اثني عشر ألف قائد , تحت إمرة كل واحد منهم مائة ألف مقاتل , فقالوا : ( نحن أُولوا قوة وأُولوا بأس شديد ) . فقالت لهم : إذن أنتم ترون محاربة ذلك الملك , أليس كذلك ؟ فقالوا : بلي , نحن بالفعل نري أن نقاتله , فإننا أقوياء , وعندنا الجيوش العظيمة , ونستطيع أن نهزمه لو جاء لحربنا أو فكر في غزونا . فقالت الملكة : أليس لديكم رأي آخر ؟ فقالوا : بل هذا هو رأينا , والأمر في النهاية إليكِ , فأمري بما شئتِ . فقالت لهم بلقيس : هذا ليس بالرأي السليم , لأن الحرب تفسد كل شيء , ولن نعرف عاقبتها , والملوك إذا غزو دولة أفسدوها , وجعلوا أعزة أهلها أذلة , فإذا جاء هذا الملك إلينا , وحاربنا , وانتصر علينا , سوف يهدم بيوتنا , ويقتل رجالنا , ويجعلنا عبيداً وجواري عنده , ونصبح ضعافاً لا نملك شيئاً , فلا تقوم لنا قائمة بعدها أبداً .
وكان القوم يعلمون حكمة الملكة , ورجاحة عقلها , وحسن تدبيرها , فأرادوا أن يعرفوا ماذا يدور في رأسها , وما الذي تفكر فيه , فسألوها : إذن فماذا ترين أن نفعل أيتها الملكة ؟ فقالت لهم بلقيس : سأرسل إليه هدية عظيمة مع رجل خبير منكم , علي أن تكون مهمة هذا الرجل أمرين ؛ الأول أن يقدم له الهدية , لعله يقبلها ويكف يده عنا فلا يحاربنا , ونكون بذلك قد علمنا أنه ملك من ملوك الدنيا الذين يطمعون في المال والثراء وليس بنبي أو رسول من عند الله كما يقول . والأمر الثاني أن يعلم هذا الرجل الذي نبعثه قوة هذا الملك , وعدد جيشه , فنعلم بذلك إن كنا نستطيع قتاله أم لا . فرأي القوم أن هذا الرأي هو الرأي السديد , فأبدوا استحسانهم وموافقتهم لهذا الرأي , وانفض الاجتماع علي ذلك .
الهـــــــــــــدية الثمينة ...
أصدرت الملكة بعد ذلك أوامرها بإعداد هدية ثمينة وعظيمة , فأعدوا هدية تليق بهذا الملك العظيم , وكانت أموالا كثيرة , وأواني من الذهب والفضة المرصعين باللآليء والجواهر , وكمية كبيرة من الأحجار الكريمة رائعة الجمال كالزمرد والمرجان والياقوت , وكثيراً من الأقمشة والثياب المصنوعة من الحرير الخالص , وكثيراً من الأطعمة الجيدة الموجودة باليمن , كما اشتملت الهدية علي عدد كبير من العبيد والجواري الحسان .
فلما تم تجهيز الهدية أرسلت المكلة إلي رجل حكيم من قومها , وأمرته أن يتوجه بتلك الهدية الي الشام ويقدمها للملك سليمان , ولا ينسي أن يطلع علي ملكه , ويعلم قوته وجيشه , فإذا عاد أخبرها بما رأي , فأطاع الرجل أمر الملكة , وأخذ معه بعض الحراس لحماية الهدية , وخرجت القافلة العظيمة بما تحمل من هدايا ثمينة من أرض اليمن متجهة إلي الشام .
المــُـــــــــــــلك العظيم ...
قبل أن تصل هدية الملكة بلقيس إلي الشام أخبرت الأجهزة الاستطلاعية نبي الله سليمان بأمر هذه الهدية , فأدرك سليمان عليه السلام علي الفور أن الملكة أرسلت رجالها ليعرفوا معلومات عن قوته وجيشه من ناحية ولتصانعه من ناحية أخري , فنادي سليمان عليه السلام في المملكة كلها أن يجتمع الجيش , فاجتمع اليه الإنس والجن والطير والحيوانات , ووقفوا جميعاً في استعراض مهيب أمام القائد الأعلي لهم وهو سليمان عليه السلام .
وبعد أيام , وصل رُسل بلقيس الي الشام , ودخلوا وسط حشود كثيفة من الجنود المدججين بالسلاح , لقد فوجيء رُسل بلقيس بأن غناهم وثرائهم يبدو وسط بهاء مملكة سليمان شيئاً صغيراً مخجلاً , فصغرت هديتهم في أعينهم , رغم كونها هدية ثمينة جداً بالنسبة لهم , ولكنهم وجدوا انفسهم أمام مُلك عظيم , لم يروا مثله من قبل , فأخذتهم الدهشة وهم يسيرون علي أرضية قصور الملك , وكانت مصنوعه من خشب الصندل المعطر المزين بالذهب .
وقف رسل بلقيس مع سليمان حتي ينتهي من استعراض جيشه , وراحت عقولهم تسجل عدد الجنود ونوعيتهم , وكثرتهم , ففوجئوا أن في الجيش جنود من الجن , وأنواعاً شتي من الطيور والحيوانات , فأدركوا أنهم أمام جيش لا يُهزم , وقوة لا تقاوم , وبعد أن انتهي استعراض الجيش , دعا سليمان عليه السلام سُفراء الملكة بلقيس إلي تناول الطعام علي مائدة الملك , فلما جلسوا علي المائدة وجدوا أنفسهم أمام أطعمة من كل أرجاء الأرض , وقد تصدرت المائدة أطعمة تُشتهر بلادهم بصنعها وزراعتها , وقد وُضعت في أطباق من الذهب الخالص , ومُلئت الكؤوس الفضية بأنواع مختلفة من الشراب المصفي , وكان يخدمه غلمان يتحلون بذهب لا تتحلي به ملكتهم نفسها .
شعر رسل بلقيس بعظمة سليمان , وقوته , ووجدوا له مهابة شديدة , وسلطاناً قوياً , وهيمنة علي كل ما حوله . فقدموا له هدية الملكة علي استحياء شديد , وقد بدت باهتة فقيرة وسط هذا الثراء المدهش والملك العظيم , فنظر سليمان عليه السلام الي رسل الملكة , وخاطب كبيرهم قائلاً : ( أتمدوننِ بمالٍ فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ) . فوقع رسل الملكة في حيرة من أمرهم , وسألوا أنفسهم : إذا كان لا يريد المال , وهو في غني عن أي مُلك , فماذا يريد إذن ؟! ورأي سليمان عليه السلام ذلك في عيونهم , فأخبرهم أن ما يريده هو هدايتهم الي عبادة الله الواحد , وترك عبادة الشمس , فقد أكرمه الله عز وجل بالحكمة والمُلك والنبوة , ثم أمر رئيس القافلة أن يرجع بالهدية إلي ملكته , وقال له : ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قِبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلةً وهم صاغرون ) .إلا أن يأتوني مسلمين .
فتقدم الرجل الحكيم من سليمان يستعطفه ويرجوه أن ينتظر حتي تأتيه الملكة بنفسها في مهمة سلام , فوافق سليمان أن يمهلهم أياماً .
إســــــــــــلام ملكة ...
( يتبع )