عبدالله العذبة
06-04-2008, 09:43 AM
بقلم : علي الظفيري - إعلامي سعودى بقناة الجزيرة القطرية
لم يتوان مسؤولو القمر الاصطناعي النايل سات في الاستجابة لوثيقة تنظيم البث الفضائي في المنطقة العربية، وترجموا ما أقره وزراء الاعلام العرب في القاهرة قبل شهرين إلي عملية اجتثاث انتقائية ومنظمة ومعدة سلفا كما يبدو لبعض القنوات الفضائية، بدأ الأمر بقناة البركة الاقتصادية وقناة الحكمة المتخصصة في علوم السنة النبوية ، ووصل قبل أيام إلي قناة الحوار التي تبث من لندن، والرابط المشترك بين هذه القنوات أنها ذات طابع ديني وتعود ملكيتها لاسلاميين من مشارب مختلفة.
عملية إيقاف هذه القنوات تتنافي مع أمرين مهمين، الأول أن الوثيقة ركزت بشكل رئيسي علي مسألة المساس بالرموز السياسية والدينية، وبخلاف كونه معيار مطاطي وغير محدد ، فهو أمر لم ترتكبه القنوات المذكورة ولم يكن من أسباب ايقاف بثها!
الثاني أن الوثيقة حين دعي لمناقشتها في القاهرة وبشكل (استثنائي)، تم التركيز علي قضية انتشار قنوات العري والاسفاف كغطاء ومبرر لعملية التنظيم المنشودة في الفضاء العربي، ليفاجأ المشاهد بايقاف قنوات أقل ما يقال عنها أنها رصينة ومحافظة وذات طابع ديني وحواري معتدل!. ودون ذكر للأسباب التي دعت لهذا الإيقاف، بل إن الوقاحة في الشركة المسؤولة عن القمر بلغت درجة انكار عملية الايقاف من أساسها.
إن الحديث عن الوثيقة واجراءات القمع السابقة واللاحقة، هو حديث عن درجة الامتعاض لدي الحكومات العربية لما شهدته المنطقة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وتحديدا مع نشأة وانطلاقة الجزيرة كقناة فضائية فجرت الساكن العربي، وأحدثت تغييرا جذريا في التعاطي الإعلامي مع قضايا المنطقة، وما هو مطلوب اليوم ليس القضاء علي الجزيرة أو ايقافها ومنعها، فهذا أمر يتجاوز قدرات الدول العربية، إنما المطلوب وعلي وجه السرعة خنق ومحاصرة الثقافة التي خلقتها الجزيرة وجعلتها أمرا واقعا علي الصعيدين الإعلامي والسياسي.
وهنا مكمن الخطورة في الوثيقة؛ وما سبق ذكره وتفاصيل أخري كثيرة، تكشف الحال المتردية لواقع الحريات الصحفية في العالم العربي، حيث لا يتم الاكتفاء بتقييد العمل الصحفي داخل كل بلد علي حدة، بل يتم التنسيق على أعلى المستويات، وفي حالة فريدة من التضامن والاتفاق العربي علي عملية ممنهجة تقاوم تقدم وسائل الإعلام والدور الحقيقي الذي يتوجب عليها ممارسته!
هذا هو المستوي الظاهر والأكثر وضوحا في العقبات التي تواجه الحريات الصحفية في عالمنا العربي، الأمر الذي اعتاده المواطن العربي من حكوماته طيلة العقود الماضية بدرجات متفاوتة
لكن ثمة مستوي آخر كامن وأكثر خطورة يرتبط بالتوظيف السياسي لوسائل الإعلام، واعتمادها كواجهات سياسية و وسيلة من وسائل الديبلوماسية الناعمة لدي الدول والحكومات العربية تستخدمها متي شاءت، فقد أدركت دول عربية وخليجية علي وجه الخصوص هذا الأمر باكرا، وكانت سباقة في انشاء واحتضان وسائل اعلامية مختلفة، قناعة منها بأهمية الأدوار المتعددة التي يمكن أن تلعبها، فهي سياج يحمي ممارسات هذه الدول ويسلط الأضواء حسب رغباتها، وعصا غليظة تواجه الانتقادات وتستخدم في الخلافات السياسية، ومن جهة أخري تعطي انطباعات غير صحيحة لواقع هذه الدول وأوضاعها.
وهنا نشأت ظاهرة الحريات الصحفية الوهمية أو الحريات الانتقائية الموجهة ، حال يشكل في نظري خطورة علي سقف الحريات الصحفية أكثر من تلك الحال التي يستخدم فيها المنع والقمع والإلغاء، فالتوظيف السيء لوسائل الإعلام يؤدي إلي الكفر بدورها والتقليل من مصداقيتها والعودة بها إلي الوراء.
و من باب الانصاف لا يمكن إلقاء اللوم كاملا علي الأنظمة والحكومات في الوضع المتردي للحريات الصحفية في عالمنا العربي، فالصحفيون أنفسهم لعبوا دورا بارزا في تقزيم هذه الحريات، والمؤسسات الصحفية ابتليت بجيش من المرتزقة والجهلة والمتطفلين علي العمل الصحفي ، بعضهم رهن نفسه لأجندات واهداف محددة وجير كل طاقاته لخدمتها، والآخر يجهل تماما ما هو فيه ويمارس جهله بدرجة عالية من الاحتراف تخدم أغراض الطرف الأول ، وكلاهما يراكم من العقبات التي تعترض تطوير وتقدم العمل الصحفي ومن ثم يقع التأثير البالغ السوء علي هامش الحرية المتاح لدي هذه المؤسسات الصحفية. هذا اضافة لبعض المممارسات الصحفية السيئة تحت ذريعة حرية الرأي والتي تقدم علي طبق من ذهب مبررا للاحتجاج الرسمي والشعبي أحيانا علي هذه الممارسات ، ينسحب فيما بعد علي غيرها من المممارسات السليمة والعمل الصحفي المهني والحر.
إن حكوماتٍ وأنظمة عربية لا تؤمن أبدا بالشعب والقضاء دونا عن الصحافة شريكا في سلطتها، ومؤسسات إعلامية وصحفية استحالت شاعرا للذات الحاكمة، تسبح في حمدها ليل نهار، تمدح من تحب وتهجو من عادت، ومجتمعات معطلة إلي حين، لا تملك من أمرها شيئ، تشكل مجتمعة مثلث برمودا قاتل للحريات الصحفية، وتعقد كثيرا من فكرة الارتقاء بالعمل الإعلامي ووضعه في الموضع الصحيح والملائم لدوره في حياة الشعوب والأمم، الأمر الذي يحتاج إلي تضحيات حقيقية للنخب المثقفة والواعية، تضحيات مطلوبة علي المستويين الفردي والجمعي، يمكن أن تنقذ ما يمكن انقاذه في واقعنا الاعلامي المرير.
المصدر (http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=337998&version=1&template_id=24&parent_id=23) الراية 6-4-2008
لم يتوان مسؤولو القمر الاصطناعي النايل سات في الاستجابة لوثيقة تنظيم البث الفضائي في المنطقة العربية، وترجموا ما أقره وزراء الاعلام العرب في القاهرة قبل شهرين إلي عملية اجتثاث انتقائية ومنظمة ومعدة سلفا كما يبدو لبعض القنوات الفضائية، بدأ الأمر بقناة البركة الاقتصادية وقناة الحكمة المتخصصة في علوم السنة النبوية ، ووصل قبل أيام إلي قناة الحوار التي تبث من لندن، والرابط المشترك بين هذه القنوات أنها ذات طابع ديني وتعود ملكيتها لاسلاميين من مشارب مختلفة.
عملية إيقاف هذه القنوات تتنافي مع أمرين مهمين، الأول أن الوثيقة ركزت بشكل رئيسي علي مسألة المساس بالرموز السياسية والدينية، وبخلاف كونه معيار مطاطي وغير محدد ، فهو أمر لم ترتكبه القنوات المذكورة ولم يكن من أسباب ايقاف بثها!
الثاني أن الوثيقة حين دعي لمناقشتها في القاهرة وبشكل (استثنائي)، تم التركيز علي قضية انتشار قنوات العري والاسفاف كغطاء ومبرر لعملية التنظيم المنشودة في الفضاء العربي، ليفاجأ المشاهد بايقاف قنوات أقل ما يقال عنها أنها رصينة ومحافظة وذات طابع ديني وحواري معتدل!. ودون ذكر للأسباب التي دعت لهذا الإيقاف، بل إن الوقاحة في الشركة المسؤولة عن القمر بلغت درجة انكار عملية الايقاف من أساسها.
إن الحديث عن الوثيقة واجراءات القمع السابقة واللاحقة، هو حديث عن درجة الامتعاض لدي الحكومات العربية لما شهدته المنطقة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وتحديدا مع نشأة وانطلاقة الجزيرة كقناة فضائية فجرت الساكن العربي، وأحدثت تغييرا جذريا في التعاطي الإعلامي مع قضايا المنطقة، وما هو مطلوب اليوم ليس القضاء علي الجزيرة أو ايقافها ومنعها، فهذا أمر يتجاوز قدرات الدول العربية، إنما المطلوب وعلي وجه السرعة خنق ومحاصرة الثقافة التي خلقتها الجزيرة وجعلتها أمرا واقعا علي الصعيدين الإعلامي والسياسي.
وهنا مكمن الخطورة في الوثيقة؛ وما سبق ذكره وتفاصيل أخري كثيرة، تكشف الحال المتردية لواقع الحريات الصحفية في العالم العربي، حيث لا يتم الاكتفاء بتقييد العمل الصحفي داخل كل بلد علي حدة، بل يتم التنسيق على أعلى المستويات، وفي حالة فريدة من التضامن والاتفاق العربي علي عملية ممنهجة تقاوم تقدم وسائل الإعلام والدور الحقيقي الذي يتوجب عليها ممارسته!
هذا هو المستوي الظاهر والأكثر وضوحا في العقبات التي تواجه الحريات الصحفية في عالمنا العربي، الأمر الذي اعتاده المواطن العربي من حكوماته طيلة العقود الماضية بدرجات متفاوتة
لكن ثمة مستوي آخر كامن وأكثر خطورة يرتبط بالتوظيف السياسي لوسائل الإعلام، واعتمادها كواجهات سياسية و وسيلة من وسائل الديبلوماسية الناعمة لدي الدول والحكومات العربية تستخدمها متي شاءت، فقد أدركت دول عربية وخليجية علي وجه الخصوص هذا الأمر باكرا، وكانت سباقة في انشاء واحتضان وسائل اعلامية مختلفة، قناعة منها بأهمية الأدوار المتعددة التي يمكن أن تلعبها، فهي سياج يحمي ممارسات هذه الدول ويسلط الأضواء حسب رغباتها، وعصا غليظة تواجه الانتقادات وتستخدم في الخلافات السياسية، ومن جهة أخري تعطي انطباعات غير صحيحة لواقع هذه الدول وأوضاعها.
وهنا نشأت ظاهرة الحريات الصحفية الوهمية أو الحريات الانتقائية الموجهة ، حال يشكل في نظري خطورة علي سقف الحريات الصحفية أكثر من تلك الحال التي يستخدم فيها المنع والقمع والإلغاء، فالتوظيف السيء لوسائل الإعلام يؤدي إلي الكفر بدورها والتقليل من مصداقيتها والعودة بها إلي الوراء.
و من باب الانصاف لا يمكن إلقاء اللوم كاملا علي الأنظمة والحكومات في الوضع المتردي للحريات الصحفية في عالمنا العربي، فالصحفيون أنفسهم لعبوا دورا بارزا في تقزيم هذه الحريات، والمؤسسات الصحفية ابتليت بجيش من المرتزقة والجهلة والمتطفلين علي العمل الصحفي ، بعضهم رهن نفسه لأجندات واهداف محددة وجير كل طاقاته لخدمتها، والآخر يجهل تماما ما هو فيه ويمارس جهله بدرجة عالية من الاحتراف تخدم أغراض الطرف الأول ، وكلاهما يراكم من العقبات التي تعترض تطوير وتقدم العمل الصحفي ومن ثم يقع التأثير البالغ السوء علي هامش الحرية المتاح لدي هذه المؤسسات الصحفية. هذا اضافة لبعض المممارسات الصحفية السيئة تحت ذريعة حرية الرأي والتي تقدم علي طبق من ذهب مبررا للاحتجاج الرسمي والشعبي أحيانا علي هذه الممارسات ، ينسحب فيما بعد علي غيرها من المممارسات السليمة والعمل الصحفي المهني والحر.
إن حكوماتٍ وأنظمة عربية لا تؤمن أبدا بالشعب والقضاء دونا عن الصحافة شريكا في سلطتها، ومؤسسات إعلامية وصحفية استحالت شاعرا للذات الحاكمة، تسبح في حمدها ليل نهار، تمدح من تحب وتهجو من عادت، ومجتمعات معطلة إلي حين، لا تملك من أمرها شيئ، تشكل مجتمعة مثلث برمودا قاتل للحريات الصحفية، وتعقد كثيرا من فكرة الارتقاء بالعمل الإعلامي ووضعه في الموضع الصحيح والملائم لدوره في حياة الشعوب والأمم، الأمر الذي يحتاج إلي تضحيات حقيقية للنخب المثقفة والواعية، تضحيات مطلوبة علي المستويين الفردي والجمعي، يمكن أن تنقذ ما يمكن انقاذه في واقعنا الاعلامي المرير.
المصدر (http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=337998&version=1&template_id=24&parent_id=23) الراية 6-4-2008