المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تنشيط الاقتصاد بين السياستين المالية والنقدية



سيف قطر
21-05-2008, 05:13 AM
تنشيط الاقتصاد بين السياستين المالية والنقدية
| تاريخ النشر:يوم الأربعاء ,21 مايُو 2008 1:41 أ.م.



بقلم: الدكتور لويس حبيقة :
يمر الاقتصاد اللبناني بظروف صعبة نتيجة التطورات السياسية العامة السلبية، فالمشكلة اللبنانية بجانبها الخارجي لا تقلق، اذ لابد أن تتغير العلاقات بين الدول الاقليمية والغرب ويرتاح الوضع اللبناني. ما يقلقنا هي الخلافات الحادة الداخلية التي تبقى حية حتى لو اتفق الخارج على كل شيء. لابد من حوار بين الأطراف اللبنانية ينهي الصراع الحالي، المتشعب الأبعاد، أو يجد مخرجا مقبولا له. هنالك خلافات داخلية حادة لا يمكن انكارها وترتبط بخيارات مصيرية لا تقتصر فقط على العلاقات مع سوريا وكيف ينظر الى اسرائيل، بل تصل الى الاتفاق على خيارات أساسية لمجتمع يتغير بسرعة في التوازن السكاني والتنافس الثقافي والاجتماعي الواضح. مشكلة تنافس الحضارات تبقى كبيرة في عالمنا اليوم، اذ ما يجري في بلجيكا يدل فعلا عليه وعلى دقة الحلول. أما الفخر الأمريكي بترشيح السناتورين كلينتون وأوباما، فلا يعود الى أفكارهما المعلنة التي تحتاج الى الكثير من النقاش خاصة في جوانبها الاقتصادية وانما لأن الأولى امرأة والثاني أسود. ما زالت عقد الجنس والعرق والأصل والدين قوية ومترسخة في كل المجتمعات، بل تحدد تصرفات الانسان في المجتمع تجاه غيره.

ما يجري في غزة وفلسطين عموما والقدس خصوصا هو مخيف ويؤثر على أوضاعنا الداخلية آملين أن يبقى لبنان هذه المرة خارج المواجهة العسكرية. في الاقتصاد، لا يمكن للحكومة تركه يعاني من التباطؤ بل الانحدار دون تدخل علني لحماية القطاعات الاقتصادية من التشرذم والمواطن من الهجرة ولتنشيط الدورة في هذه الظروف. فبالرغم من أوضاع الادارة العامة المتردية وشلل المؤسسات وغياب الرئاسة، لابد للحكومة من أن تنفذ بعض السياسات المالية والقطاعية التي تخفف الخسارة حتى لو لم تنجح في انعاش الاقتصاد. المطلوب خاصة من الحكومة سياسة انعاشية ترتكز على اعادة بعض الضرائب على الدخل Rebate الى الذين سددوها في السنوات السبعة الماضية كي ينفقوها، كما المطلوب من المصرف المركزي تعميق محاربته لداء العصر المتجدد أي التضخم. تساهم السياسة المالية الانعاشية المقتبسة مما حصل ويحصل في أمريكا، في مساعدة أصحاب الدخل المحدود الذين دفعوا الضرائب على مواجهة تحدياتهم اليومية الحالية المتزايدة التي بدأت تؤثر بقوة على رفاهيتهم الاجتماعية.

تطورت السياسات النقدية عبرالوقت في أدواتها ونظرياتها ونجحت في تخفيض نسب التضخم بدءاً من أول الثمانينيات. اذا قارنا معدلات نسب التضخم السنوية في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بين فترتي 1980- 1990 و2000 - 2004 نرى أنها تدنت من معدل سنوي قدره 34,8% الى 5% خلال فترة العشرين سنة (بينها من 96% في لبنان الى 1,1%، في سوريا من 22,6% الى 1,6%، في اسرائيل من 119% الى 1,6%، وفي مصر من 18% الى 3,8%). حصل الانخفاض الأكبر في النصف الثاني من التسعينيات بفضل السياسات النقدية الضابطة لنمو الكتلة النقدية عبر ربط سعر صرف النقد الوطني بالدولار الأمريكي بالاضافة الى تسليم ادارات المصارف المركزية لأشخاص يتمتعون بالكفاءة التقنية العالية. حققت المصارف المركزية انتصارها على التضخم أيضا بفضل التشريعات الوطنية التي منحتها الاستقلالية.

لابد من تنشيط مالي ضرائبي أو انفاقي اذا خفض المصرف المركزي الفائدة كثيرا وبقي الاقتصاد بطيئا، وهذا ما حصل في سنة 2001 في أمريكا وما يحصل اليوم. فالتخفيض المتتالي الحالي للفائدة الأمريكية الأساسية ساعد كثيرا لكنه لم يحسم بعد خطر الركود وبالتالي كانت الحاجة للتخفيض الضرائبي. لابد من السياسة المالية السخية اذا هدفت السلطات السياسية الى مكافحة البطالة مع فوائد مرتفعة تجنبا للتضخم. أما تعاون السياستان المالية والنقدية، فيوفر المناخ الأفضل للوصول الى الهدف الأساسي وهو تنشيط الاقتصاد دون التسبب في زيادة التقلبات والمخاطر. المهم لأي سياسة تنشيطية للاقتصاد أن تساهم في دفع عجلة النمو المستقبلي أي أن تكون بعيدة النظر وبالتالي تساهم في تحفيز النمو وحسن توزعه على المجتمع والمناطق. ما يجب تجنبه هو أن تساهم السياسة التنشيطية في زيادة العجز المالي وبالتالي تؤثر سلبا على فرص النمو في المستقبل.

يواجه الاقتصاد الأمريكي 3 تحديات أساسية وهي أولا تدني قيمة الأصول المنزلية بسبب أزمة العقارات التي بدأت تنعكس على الأصول التجارية. تواجه الولايات المتحدة أيضا مشكلتي التضخم العائد بقوة كما عجز ميزان الحساب الجاري الذي وصل الى حدود 7% من الناتج المحلي الاجمالي (مقارنة بفائض قدره 7% في الصين أي المرتبة الثانية عالميا بعد اليابان، والأولى فيما يخص حجم الاحتياطي النقدي). لمعالجة أمراضها الاقتصادية قررت الادارة الأمريكية اعادة بعض الضرائب الى الأشخاص والأسر هذه السنة كي ينفقوها لينتعش الاقتصاد الراكد. لم تكن هذه التجربة الحديثة الأولى، اذ قامت بها الادارة نفسها في سنة 2001 حيث حصلت الأسر على ما بين 300 و600 دولار على أمل أن تعيدها الى الدورة الاقتصادية. وقع الرئيس بوش القانون في 2001/6/7 ووصلت الأموال الى المواطنين في الشهرين التاليين. فقط 22% من الأسر أنفقت هذه الأموال، أما الأكثرية فوفرتها أو سددت بعضا من ديونها.

تؤكد النتائج أن الاعادات الضرائبية جاءت متأخرة ولم تكن كافية لتنشيط الطلب وبالتالي الاقتصاد. من المتوقع أن يحصل نفس الشيء هذه السنة بعدما تصل التخفيضات الى المواطنين وبالتالي لا تؤثر كثيرا على الواقع الاقتصادي المتباطئ. فالمهم في أي سياسة ضرائبية من هذا النوع ليس التوقيت فقط وانما حجم التخفيضات التي تحفز المواطنين على الانفاق بسرعة. لماذا لا تتنبه الادارة الأمريكية الى عاملي التوقيت والحجم؟ في الواقع وبسبب عجز الموازنة لا يمكن للادارة الأمريكية تخفيض الضرائب بسخاء علما أن لا شيء يؤكد على رغبة المواطن في الانفاق. أما في التوقيت فالمعلوم أن أي سياسات ضرائبية تأخذ الكثير من الوقت بين التحديد الحكومي والموافقة التشريعية والتنفيذ الاداري، على عكس السياسة النقدية التي تحدد وتنفذ بسرعة كبيرة من قبل المصرف المركزي. لماذا لا يتم اذا الاعتماد على السياسة النقدية أي على تخفيض الفوائد للوصول الى الغاية المرجوة؟ من المتعارف عليه دوليا هو أن السياسة النقدية تصلح أكثر لمكافحة التضخم منها لتحقيق النمو، وهذا ما فهمه الأوروبيون وأعطوا لمصرفهم المركزي واجبا واحدا وهو ابقاء معدل التضخم السنوي تحت نسبة 2%. أما المصرف المركزي الأمريكي القديم، فأهدافه واسعة وتشمل التضخم والنمو وتحقيق الاستقرار الاقتصادي العام وهي تعتبر في الاقتصاد المعولم مهمات مستحيلة لأي مصرف مركزي.

لماذا في اعتقادنا ان الحسم الضرائبي سينجح في لبنان بينما أخفق في أمريكا؟ لأن الوضع اللبناني ضيق كثيرا اليوم وان أي دخل اضافي بأي شكل من الأشكال سينعكس انفاقا يحرك الاقتصاد. فهل لنا الجرأة على اعتماده؟ اذا أخذنا اسرائيل كمثال للنجاح في السيطرة على التضخم، نرى أنها حققت أهدافها بفضل التضحيات الرسمية الكبيرة والمساعدات الخارجية السخية. يتوقع "ستانلي فيشر" حاكم المصرف المركزي أن تكون نسبة النمو هذه السنة في حدود 5,4% مع فائض في ميزان الحساب الجاري يعادل 4% من الناتج. أما نسبة الدين العام من الناتج، فتدنت من 102% في سنة 2003 الى 82% اليوم وهو انجاز كبير. أما البطالة فتدنت من 11% في سنة 2003 الى 7,3% اليوم. يقول "فيشر" إن تحقيق هذه النتائج أتى بفضل تركيز المصرف المركزي على هدف ضرب التضخم وبفضل تقييد الاقراض المباشر للحكومة كما بفضل الاستقلالية التي منحت مؤخرا للمصرف عبر قانون جديد. لايمكن تحقيق نتائج اقتصادية ومالية عامة فضلى من دون قيادات مسؤولة تتوخى الخير العام. فهل لنا القدرة على الانجاز؟