قلب صادق
11-09-2008, 07:29 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كنت استمع لبرنامج للشيخ طارق السويدان وكان يقص قصة مؤثرة جدااا جداا وبعد بحث عنها لقيتها وحبيت ان انقلها لكم لما فيها من العبر والفائدة
قصة من قصص التاريخ الإسلامي
أقدم لكم أيها الأخوة في الله قصة من كتاب أديب سورية وشيخ من أبرز شيوخها الشيخ علي الطنطاوي يرحمه الله تعالى
وهي من كتابه قصص من التاريخ الطبعة الرابعة لسنة 1387هـ 1967م
ولله أن يمن علي أن تكون الفائدة هي ما أنشده
وأقول نعم هم وهم أتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كل منهم في فعله ينصر أمة بل هو أمة في نفسه وسلوكه
حكاية الهميان( الهميان تسميه قديمه للحزام الذي يرتديه الحاج
كان آذان الفجر يصعد من مآذن الحرم في مكة في أول يوم من رمضان سنة أربعين ومئتين للهجرة فيهبط من تلك الذرى المباركات قُعًيقعان (( أحد جبال مكة )) وأبي قبيس فينساب مع نسيم السحر نقيا منعشاً ، يسحب ذيوله على تلك الصخور التي كانت محطة بريد السماء ، ومنزل الوحي ، ومنبع رحمة رب العلمين ، حتى يمسح ستور الكعبة ، فينزل على من في البيت الحرام تنزل النفحات الألوهية على قلوب عباده المخلصين .
وكانت صفوف المؤمنين قائمة تدور بالكعبة من جهاتها كلها ، صفوف في الحرم ترى الكعبة وتنعم بالقرب منها ، وصفوف لا تراها ولكنها تتوجه إليها وتبصرها بقلوبها ، تقوم وراء الجبال الشمُّ والبحار ، في المدن والقرى ، والصحاري والسهول والأودية والقمم في القصور والأكواخ والسجون والمغائر، في القفار المشعة حراً ، والبطاح المغطاة بالثلج .... تتسلل وتتعاقب لا تنقطع ما امتدت الأرض وكان فيها مسلمون .
* * * * * *
وأمّ أهل مكة الحرم ، ولم يبق في داره إلا شيخ في السادسة والثمانين ، وانٍ محطم ما عليه إلا قميص مشدود بحبل وقاموا للصلاة ما يستطيعون الوقوف مما حشو به بطونهم من طيبات الطعام من كل حلو وحامض وحار وبارد ، وسائل وجامد ووقف يصلي وما يستطيع القيام من الجوع ، فقد أمسك للصوم بلا سحور ، ونام ليلته بلاء عشاء وأمضى في محرابه منكسراً حزيناً :weeping:، ولم يكن يفكر في نفسه فقد طال عهده بالفقر حتى ألفه وهون إيمان الدنيا عليه حتى نسي نعيمها وازدراها ، ولكنه كان يفكر في هذه البطون الجائعة من حوله ، وهو كاسبها ومعيلها ، وهذه المناكب العارية... ولو كان مكانه رجل آخر قاسى ما قاساه ، ورأى الأغنياء يبذرون المال تبذيراً ، ويضيعون المال في الباطل ، على حين يحتاج هو إلى الدانق فلا يجده .... لثار على الدنيا وذم الزمان ، وحقد على الناس ولكنه كان رجلاً مؤمناً ، موقناً بأن الله هو الذي قسم الأرزاق ، فأعطى – لحكمة يعلمها – ومنع ، وأن الناس لا يملكون عطاءً و لا منعاً ، وأن ما كان لك سوف يأتيك على ضعفك ، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك رفعت الأقلام وجفت الصحف .
فقال : إهْ الحمد لله على كل حال !
وقام ونادى يا لبابة ، فجاءت امرأة ملتحفة بخرقة قذرة ، فدفع إليها بالقميص وأخذ الخرقة فالتف بها ... فقالت المرأة : يا أبا غياث ، هذا ثالث يوم لم نذق فيه طعاماً ، وهذا يوم صيام حر .... فإذا صبرت وصبرت أنا فإن البنات والعجوز لا يقدرون على الصبر وقد هدّهن الجوع ، فاستعن بالله ، واخرج والتمس لنا شيئا فلعل الله يفتح عليك بدوانق أو كسيرات تدخرها لفطورنا
قال : أفعل إن شاء الله
* * * *
وانتظر حتى علت الشمس وكان الضحى ، فخرج يجول في أزقة مكة وطرقها ، وكان الناس قد انصرفوا إلى منازلهم ليقيلوا ، فلن يلق في تطوافه أحداً ، وتخاذلت ساقاه وخاب بصره ، وأحس بجوفه يلتهب التهاباً من العطش وكان قد صار في أسفل مكة فألقى بنفسه في ظل جدار ، وكان من أكبر أمانيه أن يدركه الأجل فيموت مؤمناً ، فيتخلص من هذا الشقاء وينال سعادة الأبد ، وجعل ينكت التراب بيده ، وهو سادر في أمانيه ، فلمس بيده شيء مستطيل لين ، فسحبها ونظر ، فإذا هو بذنب حية مختبئة خلال التراب ، فتعوذ بالله ، ثم عاودته رغبته بالموت ، وتمنى لو تلدغه الحية فتريحه ، ثم ذكر أنه لا ينبغي لمؤمن أن يطلب الموت ، وإنما ينبغي له أن يقول : اللهم أحييني ما كانت الحياة خيراً لي ، وأمتني ما دام الموت خيراً لي .
فقالها واستغفر الله ، وعاد يرقب الحية فإذا هي ساكنة ، فعجب منها ، ولمسها برجله فلم تتحرك ، فبحث عنها وحفر ، فإذا الذي رآه حزام وليس بحية فشدّه فجاء في يده ( هِمْيان) – وهو الشيء الذي يشد على الوسط وتحمل به النقود- فيه ذهب ، عرفه من رنينه وثقله فأحس بأن جوعه وعطشه قد ذهبا ، وكأن القوة قد صبت في أعصابه ، والشباب قد عاد إليه :victory: .... وتصور أنه سيحمل إلى نسائه الشبع والدعة والراحة ، ويملأ أيديهن مما كن يتخيلنه ولا يعرفنه من نعيم الدنيا ورغد العيش ، وجعل يفكر فيمن يشتريه لهن ، وكيف يتلقين هذه النعمة التي ساقها الله إليهن ، حتى كاد يخالط في عقله .
ثم تنبه في نفسه دينه ، وعلا صوت أمانته يقول له إن هذا المال ليس لك ، إنما هي لقطة لابد لك من التعريف بها سنة :eek5: ، فإذا لم تجدها صاحبها حلت لك .
وتصوّر السنة كلها وهو الذي يبحث عن عشاء يومه ، وهل يبقى حياً سنة أخرى :rolleyes2:؟ وهل تبقى أسرته في الحياة ؟ وماذا ينفعه أن يكون الذهب له بعد ما مات من الجوع ، ومات معه من يرثه ؟....... وأحس بأن قواه قد خارت ، وود لو أعاد الهميان إلى مكانه ، ولم يكن قد ابتلى بهذه البلية
سوال لماذا اصبحت بليه ومصيبه ولماذا لا تحل له ان ياخذها الا بعد سنة ولماذا لم يعيدها مكانها ويفتك من هذه المصيبه كما وصفها ؟؟
ولكنه كان رجلاً فقيها يعلم أن أللقطة إن مُست فلا بد من التعريف بها وإن هو أرجعها إلى مكانها كان المسؤول عند الله عنها ، أما إذا لم يمسسها فلا شيء عليه ......
وجعلت الأفكار تصطدم في رأسه وتتراكض وتصطرع ، حتى شعر أن عظم صدغيه سينكسر من قرع الأفكار المتراكضة في رأسه ، وطفق يسمع صوتاً يهتف به أن خذها فهي رزق ساقه الله إليك .
ادفع الموت عن بناتك اللائي أضاف بهن الموت .
أشبع بها هذه الأكباد الغرثى .
أكسُ هذه الأجساد العارية .
ثم إذا أيسرت رددتها إلى صاحبها ، أو دفعتاه ناقصة دنانير لن يضره على غناه نقصها ...
ثم سمع هاتف دينه يقول اصبر يا رجل ، ولا تخن أمانتك ، ولا تعصِ ربك .
وعقد العزم على الصبر ، واستعان بالله وذهب إلى داره يخبأ الهميان حتى يجيء صاحبه .. أو يحكم الله فيه ..
* * * *
ودخل الدار متلصصاً فرأته امرأته فقالت :
ما جاء بك يا أبا غياث ؟
قال : لا شيء . وأحب أن يكتمها خبر الهميان ، وما كان يكتمها من قبل أمراً ً
قالت : بلى والله إن معك شيئاً ، فما هو ؟
فخاف أن تراه فيستطار لبها .... فقص عليها القصة ، وكانت امرأة تقية دينة ، ولكنها أضعف إرادة ، وأوهن عزماً ، فقالت :
افتحه وخذ منه دنانير واشتر لنا شيئاً فإننا مضطرون والمضطر يأكل الميتة – قولها حكم شرعي –
قال :لا والله ، ولئن مسسته أو أخبرت أحداً فأنت طالق .
وتركها مغيظة محنقة وخرج يبحث عن صاحبه ، لعله يأخذ منه شيئاً حلالاً يدفع به الضُّر عن عياله .
ومشى إلى الحرم ، وكان فيه شاب طبري طالب علم .
قال الشاب الطري : ( فرأيتُ خراسانياً ينادي معاشر الحاج من هميناً فيه ألف دينار فرده علي ، أضعف الله له الثواب
فقام إليه شيخ من أهل مكة كبير من موالي جعفر بن محمد ، فقال : يا خراساني ، بلدنا فقير أهله ، شديد حاله ، أيامه معدودة ، ومواسمه منتظرة ، ولعله يقع في ي رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالاً فيأخذه ويرده عليك .
قال الخراساني : يابا . كم تريد ؟
قال : العشر ، مئة دينار
قال : يابا . لانفعل ولكن نحيله على الله تعالى.
وافترقا .
قال الطبري : ( فوقع في نفسي أن الشيخ هو من الواجد للهميان فاتبعته ، فكان كما ظننت ، فنزل إلى الدار مسفلة زرية الباب والمدخل ، فسمعته يقول : يا لبابة
قالت :لبيك أبا غياث
قال : وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقاً .
فقلت له : قيده مطلقاً بأن تجعل لواجده شيئاً ، فقال : كم ؟ قلت عُشْره . قال : لانفعل ، ولكنا نحيله على الله عز وجل ، فايش نعمل ؟
لابد من رده
فقالت له : نقاسي الفقر معك منذ خميسين عاماً سنة ، ولك أرع بنات وأختان وأنا وأمي وأنت تاسع القوم .
يا أبا غيث إن الله أكرم من أن يعاقب رجلاً يحي رجلاً يحي هذه الأنفس . إنك لم تسرقه ولم تغصبه ولكن الله هو الذي وضعه بين يديك ، فلا ترفض نعمة أنعم الله بها عليك ، إن الله يسألك عن هؤلاء النسوة .........
قال الطبري : ونظرت في وجه الشيخ فأحسست مما بدا عليه أنه قد تصور بناته جائعات عاريات والعجوز المسكينة أم لبابة وقد جف جلدها على عظمها فصارت كأنها الحطبة الجوفاء ، تتردد فيها الأنفاس ، ففاضت نفسه رقة عليهن فسال دمعه على شيبته ، ورأت المرأة ذلك فازداد طمعها فيه....... ثم رأته يعبس وتبدو عليه الصرامة لقد ودّ لو استعان بشيء من هذه الدنانير ... ولكنه ذكر أنه صبر خمسين سنة فما كان ليضيع ذلك كله في لذة يوم ، وذكر أنه على شفير القبر وأنه سيلقى الله ، فما كان ليلقاه خانئاً أمانته ، أما عياله فلهم الله والله أرأف بهم وأشفق عليهم ، وشد من عزمه ، وصاح بها :
لست أفعل ، ولا أحرق حشاشتي بعد ست وثمانين سنة .
قال الطبري : ثم سكت وسكتت المرأة . وانصرفت أنا .
* * * *
وأذن المغرب ، وقعد الشيخ ونساؤه على كسيرات وتمرات . التقطها لهم ..... وقعد الناس حول الموائد الحافلات بشهي الطعام ، تفوح من بيوتهم روائح الشواء والحلواء، يأكلونها ويستمتعون بها ، وينسوا أن رمضان شهر الإنسانية والإيثار ، وأن الله ما فرض الصيام للجوع والعطش والعذاب ..
ولكن ليذكرنا هذا الجوع الاختياري الموقوت ، أن في الدنيا من يجوع جوعاً إجبارياً ، لا حد له ينتهي عنده ، وليكون لنا من أعصابنا وجوارحنا ، مذكر بالإحسان .
فمن يقعد إلى مائدته الحافلة بالطعام ، وجاره يتلوى من الجوع ، لا يفكر فيه ولا يشاركه طعامه ، فما صام ولا عرف الصيام ، وإن جاع نهاره كله وعطش ......
إن العادة تضعف الحس وإن إلْفَ النعم يذهب لذتها ، فأوجب الله الصيام علينا لنذوق مرارة الفقد فنعرف حرارة الوجدان ، ولنشتهي في النهار اللقمة من الخبز الطري، والجرعة من الماء البارد ، فنعلم أن هذه اللقمة الطرية ، وهذه الجرعة الباردة ، نعمة من النعم فلا ندع الإحسان مهما كان قليلا ، ولا نزهد في صدقة نقدر عليها ، ولقد كان لإبراهيم الحربي رغيف كل يوم ليس له سواه ، فكان يترك منه كل يوم لقمة حتى إذا كان يوم الجمعة أكل هذه اللقم وتصدق بالرغيف .....
كان الشيخ يفكر في هذا ، فيألم لما صارت إليه حال المسلمين ، يذكر أن الله هو ملهم الخير ومصرف الأرزاق فيحمده حمد مؤمن راض .
* * * *
قال الطبري : فلما كان من الغد سمعت الخراساني يقول : معاشر الحاج ووفد من حاضر وباد ، من وجد همياناً فيه ألف دينار ورده أضعف الله له الثواب .
فقام الشيخ إليه ، فقال يا خراساني قد قلت لك بالأمس ونصحتك ، وبلدنا والله فقير قليل الزرع والضرع ، وقد قلت لك أن تدفع إلى واجده مائة دينار فلعله يقع في يد رجل مؤمن يخاف الله عز وجل ، فامتنعت . فاجعل له عشرة دنانير منها فيرده عليك ويكون له في العشرة ستر وصيانة .
فقال الخراساني : يابا . لا نفعل ولكن نحيله إلى الله عز وجل
ثم افترقا ........
فلما كان اليوم الذي بعده سمعت الخراساني ينادي النداء بعينه فقام إليه الشيخ فقال يا خراساني : قلت لك بأول أمس العشر منه وقلت لك أمس عشر العشر عشرة دنانير فلن تقبل ، فأعطه ديناراً واحداً عشر عشر العشر ، يشتري بنصف دينا قربة يسقي عليها المقيمين بمكة بالأجرة وبالنصف الآخر شاة يتخذها لعياله
فقال الخراساني : يابا . لا نفعل ولكن نحيله إلى الله عز وجل
فرأى الشيخ أنه لا حيلة له فيه وانقطع آخر خيط من حبال آماله . وتوهم حالة بناته وأختيه وزوجته وأمها ..... وأن هذا الخراساني منعهم ديناراً واحداً من ألف يدفعون به الجوع والعري والموت الكامن وراءهما، ورأى الألف كلها بيده فحدثته نفسه بأن يمسكها ، أو أن يدفعها له ناقصة ديناراً ، ولكنه ذكر الله والحساب فاستعاذ بالله من هذا الخاطر ، وهل يشتري الشقاء الدائم باللذة العاجلة ، وهو يعلم أن لذات الدنيا كلها لا تنسى كربة واحدة من كرب يوم الحشر وشقاءها كله تذهبه نفحة واحدة من نفحات الجنة ؟
لا والله ، ولقد روي أن ( من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ) فترك له الهميان ، وقال للخراساني :
تعال خذ هميانك .....
فقال له : امش بين يدي ....
قال الطبري : ( فمشيا وتبعتهما ، حتى بلغا الدار فدخل الشيخ فما لبث أن خرج وقال ادخل يا خراساني ، فدخل ودخلت فنبش تحت درجة له فأخرج الهميان أسود من خرق غلاظ ، وقال : هذا هميانك ؟
فنظر إليه وقال : هذا همياني
ثم حلّ رأسه من شد وثيق ثم صب المال في حجره وقلبه مراراً ، ثم قال : هذه دنانيرنا
وكانت لبابة والبنات ينظرون من شق الباب إلى الذهب الذي نسين لونه وشكله ، وحسبنه قد فقد من الأرض ، كما ينظر الجائع إلى قدور المطعم ... يتمنى لقمة منها يشد بها صلبه
( وأعاد الرجل الذهب إلى الهميان وشده . ووضعه على كتفه وقلب خلقاته فوقه وخرج )
ولم ينظر في وجه الشيخ ، ولم يلق في أذنه كلمة شكر
وأحست لبابة كأنه قد اختطف وحيدها ، وكأن شعبة انخلعت من قلبها ، فطارت وراءه ، وشُدِه البنات ، ولبثن مفتوحات الأشداق دهشة وذهولاً ... فلما ابتعد وأيسن منه سقطن على وجوههن من الجوع والضعف واليأس :weeping: ....
وسمع الشيخ حركة ، فنظر فإذا الخراساني قد رجع فرفع رأسه ينظر إليه ماذا يريد ، وكان أولى به أن يعرض عنه وأن يبغضه وقد منعه ديناراً واحداً يحي لو جاد به عليه هذه الأنفس المشرفة على الموت . ولكن الشيخ كان رجلاً سمحاً لا يتسع قلبه لبغضاء ، فقام إليه وسأله عما رجع به . فقال الخراساني :
(( يا شيخ ، مات أبي وترك ثلاثة ألاف دينار ، فقال : أخرج ثلثها ففرقه في أحق الناس عندك له ، وبع رحلي واجعله نفقة لحجك ، ففعلت ذلك ، وأخرجت ثلثها ألف دينار ، وشددته في هذا الهميان ، وما رأيت منذ خرجت من خراسان إلى الآن رجلاً أحق منك ، فخده بارك الله لك فيه
ووضعه وولى:nice: ))
قال الطبري : (( وكنت قد ذهبت فما راعني إلا الشيخ يسرع خلفي يدعوني فرجعت إليه فقال لي : لقد رأيتك تتبعنا من أول يوم ، وعلمت أنك عرفت خبرنا ، وقد سمعت أحمد بن يونس أليربوعي يقول : سمعت نافعا ً يقول : عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر ولعلي رضي الله عنهما: إذا أتاكم الله بهدية بلا مسألة ولا استشراف نفس فاقبلاها ولا ترداها فترداها على الله ، فهي هدية من الله والهدية لمن حضر )) فسر معي
فسرت معه ، فقال لي إنك مبارك ، وما رأيت هذا المال قط ولا أملته قط ،
أترى هذا القميص ؟ إني والله لأقوم سحراً فأصلي الغداة فيه ، ثم أنزعه فتصلي فيه زوجتي وأمها ، وبناتي ، وأختاي ، واحدة بعد واحدة ثم ألبسه وأمضي أكتسب إلى ما بين الظهر والعصر ثم أعود بما فتح الله عليّ من أقط وتمر وكسيرات كعك فنتداول الصلاة فيه
حتى إذا وصلنا إلى الدار نادى : يا لبابة يا فلانة وفلانة ، حتى جئن جميعاً فأقعدني عن شماله وحلّ الهميان وقال : ابسطوا حجوركم ، فبسطت حجري ، وما كان لواحدة منهن حجر تبسطه فمددن أيديهن ، وأقبل يعد ديناراً ديناراً حتى إذا بلغ العاشر قال ، وهذا لك ، حتى فرغ الهميان منهن مائة دينار ونالني مائة ))
* * * *
ولما أذن المغرب وحف نساء الشيخ بمائدة كموائد الناس ، عليها الطيبات من الطعام ، قال لامرأته : أريت يا لبابة إن الله لا يضيع أجر الصابرين ، إن الله أرحم الراحمين ، يا لبابة ، لقد منعنا أنفسنا ديناراً حراماً ، فجاءنا الله بألف حلال ، وأكل الشيخ لقيمات ، ثم قام ليخرج ، فقالت امرأته :
إلى أين يا أبا غياث ؟ .
قال : أفتش ، فلعل في الناس فقيراً صائما لا يجد ما يفطر عليه ، فنشركه في طعامنا
ذيل القصة
قال الشيخ الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري :
(( وقد نفعني الله بهذه الدنانير فتقوت بها ، وكتبت العلم سنين ، وعدت إلى مكة بعد ست عشرة سنة فوجدت البنات ملكات تحت ملوك ، وعلمت بأن الشيخ قد توفي بعد ما فارقته بشهور ، فكنت أنزل على أزواجهن وأولادهن فأروي لهن القصة ، ويكرمونني غاية الإكرام .
وسألت عنهم بعد أربعين سنة فعلمت أنه لم يبق منهم أحد ، رحمة الله عليهم أجمعين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول الشيخ علي الطنطاوي يرحمه الله تعالى
وجدت هذه القصة مخطوطة في مجموع من مجموعات المكتبة العربية في دمشق مروية عن الطبري بالسند المتصل ، وما بين قوسين هو من الأصل .
كنت استمع لبرنامج للشيخ طارق السويدان وكان يقص قصة مؤثرة جدااا جداا وبعد بحث عنها لقيتها وحبيت ان انقلها لكم لما فيها من العبر والفائدة
قصة من قصص التاريخ الإسلامي
أقدم لكم أيها الأخوة في الله قصة من كتاب أديب سورية وشيخ من أبرز شيوخها الشيخ علي الطنطاوي يرحمه الله تعالى
وهي من كتابه قصص من التاريخ الطبعة الرابعة لسنة 1387هـ 1967م
ولله أن يمن علي أن تكون الفائدة هي ما أنشده
وأقول نعم هم وهم أتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كل منهم في فعله ينصر أمة بل هو أمة في نفسه وسلوكه
حكاية الهميان( الهميان تسميه قديمه للحزام الذي يرتديه الحاج
كان آذان الفجر يصعد من مآذن الحرم في مكة في أول يوم من رمضان سنة أربعين ومئتين للهجرة فيهبط من تلك الذرى المباركات قُعًيقعان (( أحد جبال مكة )) وأبي قبيس فينساب مع نسيم السحر نقيا منعشاً ، يسحب ذيوله على تلك الصخور التي كانت محطة بريد السماء ، ومنزل الوحي ، ومنبع رحمة رب العلمين ، حتى يمسح ستور الكعبة ، فينزل على من في البيت الحرام تنزل النفحات الألوهية على قلوب عباده المخلصين .
وكانت صفوف المؤمنين قائمة تدور بالكعبة من جهاتها كلها ، صفوف في الحرم ترى الكعبة وتنعم بالقرب منها ، وصفوف لا تراها ولكنها تتوجه إليها وتبصرها بقلوبها ، تقوم وراء الجبال الشمُّ والبحار ، في المدن والقرى ، والصحاري والسهول والأودية والقمم في القصور والأكواخ والسجون والمغائر، في القفار المشعة حراً ، والبطاح المغطاة بالثلج .... تتسلل وتتعاقب لا تنقطع ما امتدت الأرض وكان فيها مسلمون .
* * * * * *
وأمّ أهل مكة الحرم ، ولم يبق في داره إلا شيخ في السادسة والثمانين ، وانٍ محطم ما عليه إلا قميص مشدود بحبل وقاموا للصلاة ما يستطيعون الوقوف مما حشو به بطونهم من طيبات الطعام من كل حلو وحامض وحار وبارد ، وسائل وجامد ووقف يصلي وما يستطيع القيام من الجوع ، فقد أمسك للصوم بلا سحور ، ونام ليلته بلاء عشاء وأمضى في محرابه منكسراً حزيناً :weeping:، ولم يكن يفكر في نفسه فقد طال عهده بالفقر حتى ألفه وهون إيمان الدنيا عليه حتى نسي نعيمها وازدراها ، ولكنه كان يفكر في هذه البطون الجائعة من حوله ، وهو كاسبها ومعيلها ، وهذه المناكب العارية... ولو كان مكانه رجل آخر قاسى ما قاساه ، ورأى الأغنياء يبذرون المال تبذيراً ، ويضيعون المال في الباطل ، على حين يحتاج هو إلى الدانق فلا يجده .... لثار على الدنيا وذم الزمان ، وحقد على الناس ولكنه كان رجلاً مؤمناً ، موقناً بأن الله هو الذي قسم الأرزاق ، فأعطى – لحكمة يعلمها – ومنع ، وأن الناس لا يملكون عطاءً و لا منعاً ، وأن ما كان لك سوف يأتيك على ضعفك ، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك رفعت الأقلام وجفت الصحف .
فقال : إهْ الحمد لله على كل حال !
وقام ونادى يا لبابة ، فجاءت امرأة ملتحفة بخرقة قذرة ، فدفع إليها بالقميص وأخذ الخرقة فالتف بها ... فقالت المرأة : يا أبا غياث ، هذا ثالث يوم لم نذق فيه طعاماً ، وهذا يوم صيام حر .... فإذا صبرت وصبرت أنا فإن البنات والعجوز لا يقدرون على الصبر وقد هدّهن الجوع ، فاستعن بالله ، واخرج والتمس لنا شيئا فلعل الله يفتح عليك بدوانق أو كسيرات تدخرها لفطورنا
قال : أفعل إن شاء الله
* * * *
وانتظر حتى علت الشمس وكان الضحى ، فخرج يجول في أزقة مكة وطرقها ، وكان الناس قد انصرفوا إلى منازلهم ليقيلوا ، فلن يلق في تطوافه أحداً ، وتخاذلت ساقاه وخاب بصره ، وأحس بجوفه يلتهب التهاباً من العطش وكان قد صار في أسفل مكة فألقى بنفسه في ظل جدار ، وكان من أكبر أمانيه أن يدركه الأجل فيموت مؤمناً ، فيتخلص من هذا الشقاء وينال سعادة الأبد ، وجعل ينكت التراب بيده ، وهو سادر في أمانيه ، فلمس بيده شيء مستطيل لين ، فسحبها ونظر ، فإذا هو بذنب حية مختبئة خلال التراب ، فتعوذ بالله ، ثم عاودته رغبته بالموت ، وتمنى لو تلدغه الحية فتريحه ، ثم ذكر أنه لا ينبغي لمؤمن أن يطلب الموت ، وإنما ينبغي له أن يقول : اللهم أحييني ما كانت الحياة خيراً لي ، وأمتني ما دام الموت خيراً لي .
فقالها واستغفر الله ، وعاد يرقب الحية فإذا هي ساكنة ، فعجب منها ، ولمسها برجله فلم تتحرك ، فبحث عنها وحفر ، فإذا الذي رآه حزام وليس بحية فشدّه فجاء في يده ( هِمْيان) – وهو الشيء الذي يشد على الوسط وتحمل به النقود- فيه ذهب ، عرفه من رنينه وثقله فأحس بأن جوعه وعطشه قد ذهبا ، وكأن القوة قد صبت في أعصابه ، والشباب قد عاد إليه :victory: .... وتصور أنه سيحمل إلى نسائه الشبع والدعة والراحة ، ويملأ أيديهن مما كن يتخيلنه ولا يعرفنه من نعيم الدنيا ورغد العيش ، وجعل يفكر فيمن يشتريه لهن ، وكيف يتلقين هذه النعمة التي ساقها الله إليهن ، حتى كاد يخالط في عقله .
ثم تنبه في نفسه دينه ، وعلا صوت أمانته يقول له إن هذا المال ليس لك ، إنما هي لقطة لابد لك من التعريف بها سنة :eek5: ، فإذا لم تجدها صاحبها حلت لك .
وتصوّر السنة كلها وهو الذي يبحث عن عشاء يومه ، وهل يبقى حياً سنة أخرى :rolleyes2:؟ وهل تبقى أسرته في الحياة ؟ وماذا ينفعه أن يكون الذهب له بعد ما مات من الجوع ، ومات معه من يرثه ؟....... وأحس بأن قواه قد خارت ، وود لو أعاد الهميان إلى مكانه ، ولم يكن قد ابتلى بهذه البلية
سوال لماذا اصبحت بليه ومصيبه ولماذا لا تحل له ان ياخذها الا بعد سنة ولماذا لم يعيدها مكانها ويفتك من هذه المصيبه كما وصفها ؟؟
ولكنه كان رجلاً فقيها يعلم أن أللقطة إن مُست فلا بد من التعريف بها وإن هو أرجعها إلى مكانها كان المسؤول عند الله عنها ، أما إذا لم يمسسها فلا شيء عليه ......
وجعلت الأفكار تصطدم في رأسه وتتراكض وتصطرع ، حتى شعر أن عظم صدغيه سينكسر من قرع الأفكار المتراكضة في رأسه ، وطفق يسمع صوتاً يهتف به أن خذها فهي رزق ساقه الله إليك .
ادفع الموت عن بناتك اللائي أضاف بهن الموت .
أشبع بها هذه الأكباد الغرثى .
أكسُ هذه الأجساد العارية .
ثم إذا أيسرت رددتها إلى صاحبها ، أو دفعتاه ناقصة دنانير لن يضره على غناه نقصها ...
ثم سمع هاتف دينه يقول اصبر يا رجل ، ولا تخن أمانتك ، ولا تعصِ ربك .
وعقد العزم على الصبر ، واستعان بالله وذهب إلى داره يخبأ الهميان حتى يجيء صاحبه .. أو يحكم الله فيه ..
* * * *
ودخل الدار متلصصاً فرأته امرأته فقالت :
ما جاء بك يا أبا غياث ؟
قال : لا شيء . وأحب أن يكتمها خبر الهميان ، وما كان يكتمها من قبل أمراً ً
قالت : بلى والله إن معك شيئاً ، فما هو ؟
فخاف أن تراه فيستطار لبها .... فقص عليها القصة ، وكانت امرأة تقية دينة ، ولكنها أضعف إرادة ، وأوهن عزماً ، فقالت :
افتحه وخذ منه دنانير واشتر لنا شيئاً فإننا مضطرون والمضطر يأكل الميتة – قولها حكم شرعي –
قال :لا والله ، ولئن مسسته أو أخبرت أحداً فأنت طالق .
وتركها مغيظة محنقة وخرج يبحث عن صاحبه ، لعله يأخذ منه شيئاً حلالاً يدفع به الضُّر عن عياله .
ومشى إلى الحرم ، وكان فيه شاب طبري طالب علم .
قال الشاب الطري : ( فرأيتُ خراسانياً ينادي معاشر الحاج من هميناً فيه ألف دينار فرده علي ، أضعف الله له الثواب
فقام إليه شيخ من أهل مكة كبير من موالي جعفر بن محمد ، فقال : يا خراساني ، بلدنا فقير أهله ، شديد حاله ، أيامه معدودة ، ومواسمه منتظرة ، ولعله يقع في ي رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالاً فيأخذه ويرده عليك .
قال الخراساني : يابا . كم تريد ؟
قال : العشر ، مئة دينار
قال : يابا . لانفعل ولكن نحيله على الله تعالى.
وافترقا .
قال الطبري : ( فوقع في نفسي أن الشيخ هو من الواجد للهميان فاتبعته ، فكان كما ظننت ، فنزل إلى الدار مسفلة زرية الباب والمدخل ، فسمعته يقول : يا لبابة
قالت :لبيك أبا غياث
قال : وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقاً .
فقلت له : قيده مطلقاً بأن تجعل لواجده شيئاً ، فقال : كم ؟ قلت عُشْره . قال : لانفعل ، ولكنا نحيله على الله عز وجل ، فايش نعمل ؟
لابد من رده
فقالت له : نقاسي الفقر معك منذ خميسين عاماً سنة ، ولك أرع بنات وأختان وأنا وأمي وأنت تاسع القوم .
يا أبا غيث إن الله أكرم من أن يعاقب رجلاً يحي رجلاً يحي هذه الأنفس . إنك لم تسرقه ولم تغصبه ولكن الله هو الذي وضعه بين يديك ، فلا ترفض نعمة أنعم الله بها عليك ، إن الله يسألك عن هؤلاء النسوة .........
قال الطبري : ونظرت في وجه الشيخ فأحسست مما بدا عليه أنه قد تصور بناته جائعات عاريات والعجوز المسكينة أم لبابة وقد جف جلدها على عظمها فصارت كأنها الحطبة الجوفاء ، تتردد فيها الأنفاس ، ففاضت نفسه رقة عليهن فسال دمعه على شيبته ، ورأت المرأة ذلك فازداد طمعها فيه....... ثم رأته يعبس وتبدو عليه الصرامة لقد ودّ لو استعان بشيء من هذه الدنانير ... ولكنه ذكر أنه صبر خمسين سنة فما كان ليضيع ذلك كله في لذة يوم ، وذكر أنه على شفير القبر وأنه سيلقى الله ، فما كان ليلقاه خانئاً أمانته ، أما عياله فلهم الله والله أرأف بهم وأشفق عليهم ، وشد من عزمه ، وصاح بها :
لست أفعل ، ولا أحرق حشاشتي بعد ست وثمانين سنة .
قال الطبري : ثم سكت وسكتت المرأة . وانصرفت أنا .
* * * *
وأذن المغرب ، وقعد الشيخ ونساؤه على كسيرات وتمرات . التقطها لهم ..... وقعد الناس حول الموائد الحافلات بشهي الطعام ، تفوح من بيوتهم روائح الشواء والحلواء، يأكلونها ويستمتعون بها ، وينسوا أن رمضان شهر الإنسانية والإيثار ، وأن الله ما فرض الصيام للجوع والعطش والعذاب ..
ولكن ليذكرنا هذا الجوع الاختياري الموقوت ، أن في الدنيا من يجوع جوعاً إجبارياً ، لا حد له ينتهي عنده ، وليكون لنا من أعصابنا وجوارحنا ، مذكر بالإحسان .
فمن يقعد إلى مائدته الحافلة بالطعام ، وجاره يتلوى من الجوع ، لا يفكر فيه ولا يشاركه طعامه ، فما صام ولا عرف الصيام ، وإن جاع نهاره كله وعطش ......
إن العادة تضعف الحس وإن إلْفَ النعم يذهب لذتها ، فأوجب الله الصيام علينا لنذوق مرارة الفقد فنعرف حرارة الوجدان ، ولنشتهي في النهار اللقمة من الخبز الطري، والجرعة من الماء البارد ، فنعلم أن هذه اللقمة الطرية ، وهذه الجرعة الباردة ، نعمة من النعم فلا ندع الإحسان مهما كان قليلا ، ولا نزهد في صدقة نقدر عليها ، ولقد كان لإبراهيم الحربي رغيف كل يوم ليس له سواه ، فكان يترك منه كل يوم لقمة حتى إذا كان يوم الجمعة أكل هذه اللقم وتصدق بالرغيف .....
كان الشيخ يفكر في هذا ، فيألم لما صارت إليه حال المسلمين ، يذكر أن الله هو ملهم الخير ومصرف الأرزاق فيحمده حمد مؤمن راض .
* * * *
قال الطبري : فلما كان من الغد سمعت الخراساني يقول : معاشر الحاج ووفد من حاضر وباد ، من وجد همياناً فيه ألف دينار ورده أضعف الله له الثواب .
فقام الشيخ إليه ، فقال يا خراساني قد قلت لك بالأمس ونصحتك ، وبلدنا والله فقير قليل الزرع والضرع ، وقد قلت لك أن تدفع إلى واجده مائة دينار فلعله يقع في يد رجل مؤمن يخاف الله عز وجل ، فامتنعت . فاجعل له عشرة دنانير منها فيرده عليك ويكون له في العشرة ستر وصيانة .
فقال الخراساني : يابا . لا نفعل ولكن نحيله إلى الله عز وجل
ثم افترقا ........
فلما كان اليوم الذي بعده سمعت الخراساني ينادي النداء بعينه فقام إليه الشيخ فقال يا خراساني : قلت لك بأول أمس العشر منه وقلت لك أمس عشر العشر عشرة دنانير فلن تقبل ، فأعطه ديناراً واحداً عشر عشر العشر ، يشتري بنصف دينا قربة يسقي عليها المقيمين بمكة بالأجرة وبالنصف الآخر شاة يتخذها لعياله
فقال الخراساني : يابا . لا نفعل ولكن نحيله إلى الله عز وجل
فرأى الشيخ أنه لا حيلة له فيه وانقطع آخر خيط من حبال آماله . وتوهم حالة بناته وأختيه وزوجته وأمها ..... وأن هذا الخراساني منعهم ديناراً واحداً من ألف يدفعون به الجوع والعري والموت الكامن وراءهما، ورأى الألف كلها بيده فحدثته نفسه بأن يمسكها ، أو أن يدفعها له ناقصة ديناراً ، ولكنه ذكر الله والحساب فاستعاذ بالله من هذا الخاطر ، وهل يشتري الشقاء الدائم باللذة العاجلة ، وهو يعلم أن لذات الدنيا كلها لا تنسى كربة واحدة من كرب يوم الحشر وشقاءها كله تذهبه نفحة واحدة من نفحات الجنة ؟
لا والله ، ولقد روي أن ( من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ) فترك له الهميان ، وقال للخراساني :
تعال خذ هميانك .....
فقال له : امش بين يدي ....
قال الطبري : ( فمشيا وتبعتهما ، حتى بلغا الدار فدخل الشيخ فما لبث أن خرج وقال ادخل يا خراساني ، فدخل ودخلت فنبش تحت درجة له فأخرج الهميان أسود من خرق غلاظ ، وقال : هذا هميانك ؟
فنظر إليه وقال : هذا همياني
ثم حلّ رأسه من شد وثيق ثم صب المال في حجره وقلبه مراراً ، ثم قال : هذه دنانيرنا
وكانت لبابة والبنات ينظرون من شق الباب إلى الذهب الذي نسين لونه وشكله ، وحسبنه قد فقد من الأرض ، كما ينظر الجائع إلى قدور المطعم ... يتمنى لقمة منها يشد بها صلبه
( وأعاد الرجل الذهب إلى الهميان وشده . ووضعه على كتفه وقلب خلقاته فوقه وخرج )
ولم ينظر في وجه الشيخ ، ولم يلق في أذنه كلمة شكر
وأحست لبابة كأنه قد اختطف وحيدها ، وكأن شعبة انخلعت من قلبها ، فطارت وراءه ، وشُدِه البنات ، ولبثن مفتوحات الأشداق دهشة وذهولاً ... فلما ابتعد وأيسن منه سقطن على وجوههن من الجوع والضعف واليأس :weeping: ....
وسمع الشيخ حركة ، فنظر فإذا الخراساني قد رجع فرفع رأسه ينظر إليه ماذا يريد ، وكان أولى به أن يعرض عنه وأن يبغضه وقد منعه ديناراً واحداً يحي لو جاد به عليه هذه الأنفس المشرفة على الموت . ولكن الشيخ كان رجلاً سمحاً لا يتسع قلبه لبغضاء ، فقام إليه وسأله عما رجع به . فقال الخراساني :
(( يا شيخ ، مات أبي وترك ثلاثة ألاف دينار ، فقال : أخرج ثلثها ففرقه في أحق الناس عندك له ، وبع رحلي واجعله نفقة لحجك ، ففعلت ذلك ، وأخرجت ثلثها ألف دينار ، وشددته في هذا الهميان ، وما رأيت منذ خرجت من خراسان إلى الآن رجلاً أحق منك ، فخده بارك الله لك فيه
ووضعه وولى:nice: ))
قال الطبري : (( وكنت قد ذهبت فما راعني إلا الشيخ يسرع خلفي يدعوني فرجعت إليه فقال لي : لقد رأيتك تتبعنا من أول يوم ، وعلمت أنك عرفت خبرنا ، وقد سمعت أحمد بن يونس أليربوعي يقول : سمعت نافعا ً يقول : عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر ولعلي رضي الله عنهما: إذا أتاكم الله بهدية بلا مسألة ولا استشراف نفس فاقبلاها ولا ترداها فترداها على الله ، فهي هدية من الله والهدية لمن حضر )) فسر معي
فسرت معه ، فقال لي إنك مبارك ، وما رأيت هذا المال قط ولا أملته قط ،
أترى هذا القميص ؟ إني والله لأقوم سحراً فأصلي الغداة فيه ، ثم أنزعه فتصلي فيه زوجتي وأمها ، وبناتي ، وأختاي ، واحدة بعد واحدة ثم ألبسه وأمضي أكتسب إلى ما بين الظهر والعصر ثم أعود بما فتح الله عليّ من أقط وتمر وكسيرات كعك فنتداول الصلاة فيه
حتى إذا وصلنا إلى الدار نادى : يا لبابة يا فلانة وفلانة ، حتى جئن جميعاً فأقعدني عن شماله وحلّ الهميان وقال : ابسطوا حجوركم ، فبسطت حجري ، وما كان لواحدة منهن حجر تبسطه فمددن أيديهن ، وأقبل يعد ديناراً ديناراً حتى إذا بلغ العاشر قال ، وهذا لك ، حتى فرغ الهميان منهن مائة دينار ونالني مائة ))
* * * *
ولما أذن المغرب وحف نساء الشيخ بمائدة كموائد الناس ، عليها الطيبات من الطعام ، قال لامرأته : أريت يا لبابة إن الله لا يضيع أجر الصابرين ، إن الله أرحم الراحمين ، يا لبابة ، لقد منعنا أنفسنا ديناراً حراماً ، فجاءنا الله بألف حلال ، وأكل الشيخ لقيمات ، ثم قام ليخرج ، فقالت امرأته :
إلى أين يا أبا غياث ؟ .
قال : أفتش ، فلعل في الناس فقيراً صائما لا يجد ما يفطر عليه ، فنشركه في طعامنا
ذيل القصة
قال الشيخ الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري :
(( وقد نفعني الله بهذه الدنانير فتقوت بها ، وكتبت العلم سنين ، وعدت إلى مكة بعد ست عشرة سنة فوجدت البنات ملكات تحت ملوك ، وعلمت بأن الشيخ قد توفي بعد ما فارقته بشهور ، فكنت أنزل على أزواجهن وأولادهن فأروي لهن القصة ، ويكرمونني غاية الإكرام .
وسألت عنهم بعد أربعين سنة فعلمت أنه لم يبق منهم أحد ، رحمة الله عليهم أجمعين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول الشيخ علي الطنطاوي يرحمه الله تعالى
وجدت هذه القصة مخطوطة في مجموع من مجموعات المكتبة العربية في دمشق مروية عن الطبري بالسند المتصل ، وما بين قوسين هو من الأصل .