الجزيرة
21-09-2008, 03:20 PM
شواطئ الكلمات
فارس في زمان الجبناء
عبير تميم العدناني
كنت أتساءل عن السر الذي يشدنا لسماع أومشاهدة قصة بطولة أو حتى مسلسل تدور أحداثه في ساحات الرجولة و الوفاء و النخوة ، أو أياً من تلك القيم التي بتنا نتلهف عليها ..وأحسست بأننا دوما ومهما كان واقعنا فاننا نحاول البحث في مسرح أذهاننا وخيالنا عن تلك القيم والمآثر والبطولات التي كثيرا ماتمنينا أن نحياها علي أرض الواقع ، فكم منا من أصحاب المثل الذين أتعبتهم أسفارهم في البحث في بلاد الواقع عن تلك المآثر رجعوا من أسفارهم بخفي حنين وبمقولة قد رددناها مرارا وتكراراً : ليتني قد جئت بزمان غير هذا الزمان .
وكل ذلك لأن صور الفروسية ومآثر النخوة والرجولة والوفاء بالعهد والحب الصادق والمروأة قد باتت كصورة موضوعة علي جدار الزمن ، نشير إليها كلما خذلنا من علقنا آمالنا عليه ولم يتحقق به الأمل ، وكلما وضعنا أحداً في موضع ثقة وائتمناه علي أنفسنا وخان الأمانة ، وكلما ركبنا في سفن أحدهم نتحري به شواطئ النجاة فإذا به يلقينا وسط أمواج الغرق ، أو كلما اخترنا إنسانا وأسكناه في ثنايا قلوبنا البيضاء نسقيه دماء حبنا ، فاستل خنجره ممزقا جدران قلوبنا الوفية..
وقد حاولت ان أسأل نفسي هل من الصعب علي أحدنا ان يكون فارسا في المواقف التي تمر عليه وفي معايشته لمن حوله وفي أخلاقه وتعاملاته ؟؟ أم أن المسألة متعلقة بالطريقة التي ننظر بها إلي المواقف التي تمر علينا وإلي الأشخاص الذين يعيشون معنا أو تلقيهم الأقدار في طريقنا فإما أن ننظر للمسألة من منظور الكاهن الأول أو الكاهن الثاني كما ورد في تلك القصة التي رواها لي والدي رحمه الله ، والذي كان بحق فارسا في زمانه ، تهابه الفرسان، حيث قالي لي ذات يوم : كان كاهنان يهمّان بعبور نهرٍ غزير عندما اقتربت منهما امرأة باكية: أتوسّل إليكما أيها الكاهنين أن تساعداني في عبور هذا النهر. لقد عبرته في الصباح كي أجمع لأطفالي بعض الثمار والأعشاب البرية لإطعامهم ، أما الآن فالنهر هائج ولا أستطيع عبوره بمفردي ،رفض الكاهنان رفضاً شديداً فعقيدتهما لا تسمح للكاهن أن يلمس امرأة وإلا فسدت طهارته وخسر كهنوته! انفجرت المرأة بالبكاء: أتوسّل إليكما.. أطفالي بانتظاري. ستأكلني وحوش الغالبية لوتركتماني أواجه قدري بمفردي ، أرجوكم أن ترحموا ضعفي وضعف أولادي .. فرّ أحدهما هارباً، بينما حنّ عليها قلب الآخر وشعر بضرورة أن يغيثها وينقذها رحمة بها وبأطفالها. رفعها علي ظهره وعبر بها النهر، ثم بعد أن أنقذها تركها عند الضفة الأخري ورحل .التقي الكاهنان بعد فترة من الزمن. قال الأول موبخاً الآخر: إنني أشكّ في كهنوتك بعد أن لامس جسدك جسد تلك المرأة. بدا الآخر مستغرباً وتساءل: أية امرأة تلك التي تعنيها؟!!
"المرأة التي حملتها علي ظهرك وعبرت بها النهر!.." أجاب الأول.
ردّ الكاهن الطيب: يا صديقي، لقد حملتُ امرأة محتشمة علي ظهري لأنقذها ، تركتها عند الضفة الأخري للنهر ونسيتُها. أما أنت، فمنذ ذلك اليوم وأنت تحملها عارية في ذهنك، إلي جانب أنك قد خذلتها ، ثم أتيت الآن لتلومني عليها ؟؟ والسبب في ذلك هو تهربك من عقدة الذنب التي تأكلك !
إذا فالأمر يتوقف عند الكيفية التي ينظر بها أحدنا للمواقف فإما أن يملي عليه ضميره ومبادؤه أوحتي دينه فيعلم ان هناك يوما يحاسب فيه الخلائق ويتذكر أن من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة وأن الدنيا يوم لك ويوم عليك ، أو ينظر للمسألة من منظور المتخاذل والمتقاعس الذي يرضي بأن يقتات علي أشلاء من حوله..
وهذا المعيار وهذه الكيفية وطريقة النظر للأمور لاشك بأنها هي التي صنعت الفرق بين المعتصم إذ بلغه أن الروم قد اسروا امرأة وعذبوها فصاحت وامعتصماه فضحكوا عليها مستهزئين وأين منك المعتصم وأنت بعمورية وهو ببغداد ، فبلغه ذلك حتي جهز جيشا أوله في عمورية وآخره في بغداد وحررها.
وبين من استجارت به امرأة كسيرة فأغلق آذانه عن صراخها ومضي يزهو بتخاذله وجبنه وضعفه ..
ورحم الله عمر ابوريشة إذ قال:
رب وامعتصماه انطلقت
ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها
لم تلامس نخوة المعتصم
فإذا إنتخاك واستجار بك من ظن انك أهل للنخوة وأجرته ، وإن وعدت فجعلت وعودك سيفا علي عنقك حتي تفي بوعدك لمن وعدته، وإن رحت تذود عن حماك حتي حفظته، وإن ساقت لك الأيام عزيزا ذلته أقداره فأعزيته ، وإن لجأ لك مظلوم فنصرته ، وإن تحريت كل موطن للمروأة والشهامة فدخلته.. إن سمعت من يستجير بك يوماً ويناديك (وامعتصماه) فلبيته ..
حينها فقط تكون بحق ( فارس في زمان الجبناء).
Aladnani_qtr@hotmail.com
فارس في زمان الجبناء
عبير تميم العدناني
كنت أتساءل عن السر الذي يشدنا لسماع أومشاهدة قصة بطولة أو حتى مسلسل تدور أحداثه في ساحات الرجولة و الوفاء و النخوة ، أو أياً من تلك القيم التي بتنا نتلهف عليها ..وأحسست بأننا دوما ومهما كان واقعنا فاننا نحاول البحث في مسرح أذهاننا وخيالنا عن تلك القيم والمآثر والبطولات التي كثيرا ماتمنينا أن نحياها علي أرض الواقع ، فكم منا من أصحاب المثل الذين أتعبتهم أسفارهم في البحث في بلاد الواقع عن تلك المآثر رجعوا من أسفارهم بخفي حنين وبمقولة قد رددناها مرارا وتكراراً : ليتني قد جئت بزمان غير هذا الزمان .
وكل ذلك لأن صور الفروسية ومآثر النخوة والرجولة والوفاء بالعهد والحب الصادق والمروأة قد باتت كصورة موضوعة علي جدار الزمن ، نشير إليها كلما خذلنا من علقنا آمالنا عليه ولم يتحقق به الأمل ، وكلما وضعنا أحداً في موضع ثقة وائتمناه علي أنفسنا وخان الأمانة ، وكلما ركبنا في سفن أحدهم نتحري به شواطئ النجاة فإذا به يلقينا وسط أمواج الغرق ، أو كلما اخترنا إنسانا وأسكناه في ثنايا قلوبنا البيضاء نسقيه دماء حبنا ، فاستل خنجره ممزقا جدران قلوبنا الوفية..
وقد حاولت ان أسأل نفسي هل من الصعب علي أحدنا ان يكون فارسا في المواقف التي تمر عليه وفي معايشته لمن حوله وفي أخلاقه وتعاملاته ؟؟ أم أن المسألة متعلقة بالطريقة التي ننظر بها إلي المواقف التي تمر علينا وإلي الأشخاص الذين يعيشون معنا أو تلقيهم الأقدار في طريقنا فإما أن ننظر للمسألة من منظور الكاهن الأول أو الكاهن الثاني كما ورد في تلك القصة التي رواها لي والدي رحمه الله ، والذي كان بحق فارسا في زمانه ، تهابه الفرسان، حيث قالي لي ذات يوم : كان كاهنان يهمّان بعبور نهرٍ غزير عندما اقتربت منهما امرأة باكية: أتوسّل إليكما أيها الكاهنين أن تساعداني في عبور هذا النهر. لقد عبرته في الصباح كي أجمع لأطفالي بعض الثمار والأعشاب البرية لإطعامهم ، أما الآن فالنهر هائج ولا أستطيع عبوره بمفردي ،رفض الكاهنان رفضاً شديداً فعقيدتهما لا تسمح للكاهن أن يلمس امرأة وإلا فسدت طهارته وخسر كهنوته! انفجرت المرأة بالبكاء: أتوسّل إليكما.. أطفالي بانتظاري. ستأكلني وحوش الغالبية لوتركتماني أواجه قدري بمفردي ، أرجوكم أن ترحموا ضعفي وضعف أولادي .. فرّ أحدهما هارباً، بينما حنّ عليها قلب الآخر وشعر بضرورة أن يغيثها وينقذها رحمة بها وبأطفالها. رفعها علي ظهره وعبر بها النهر، ثم بعد أن أنقذها تركها عند الضفة الأخري ورحل .التقي الكاهنان بعد فترة من الزمن. قال الأول موبخاً الآخر: إنني أشكّ في كهنوتك بعد أن لامس جسدك جسد تلك المرأة. بدا الآخر مستغرباً وتساءل: أية امرأة تلك التي تعنيها؟!!
"المرأة التي حملتها علي ظهرك وعبرت بها النهر!.." أجاب الأول.
ردّ الكاهن الطيب: يا صديقي، لقد حملتُ امرأة محتشمة علي ظهري لأنقذها ، تركتها عند الضفة الأخري للنهر ونسيتُها. أما أنت، فمنذ ذلك اليوم وأنت تحملها عارية في ذهنك، إلي جانب أنك قد خذلتها ، ثم أتيت الآن لتلومني عليها ؟؟ والسبب في ذلك هو تهربك من عقدة الذنب التي تأكلك !
إذا فالأمر يتوقف عند الكيفية التي ينظر بها أحدنا للمواقف فإما أن يملي عليه ضميره ومبادؤه أوحتي دينه فيعلم ان هناك يوما يحاسب فيه الخلائق ويتذكر أن من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة وأن الدنيا يوم لك ويوم عليك ، أو ينظر للمسألة من منظور المتخاذل والمتقاعس الذي يرضي بأن يقتات علي أشلاء من حوله..
وهذا المعيار وهذه الكيفية وطريقة النظر للأمور لاشك بأنها هي التي صنعت الفرق بين المعتصم إذ بلغه أن الروم قد اسروا امرأة وعذبوها فصاحت وامعتصماه فضحكوا عليها مستهزئين وأين منك المعتصم وأنت بعمورية وهو ببغداد ، فبلغه ذلك حتي جهز جيشا أوله في عمورية وآخره في بغداد وحررها.
وبين من استجارت به امرأة كسيرة فأغلق آذانه عن صراخها ومضي يزهو بتخاذله وجبنه وضعفه ..
ورحم الله عمر ابوريشة إذ قال:
رب وامعتصماه انطلقت
ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها
لم تلامس نخوة المعتصم
فإذا إنتخاك واستجار بك من ظن انك أهل للنخوة وأجرته ، وإن وعدت فجعلت وعودك سيفا علي عنقك حتي تفي بوعدك لمن وعدته، وإن رحت تذود عن حماك حتي حفظته، وإن ساقت لك الأيام عزيزا ذلته أقداره فأعزيته ، وإن لجأ لك مظلوم فنصرته ، وإن تحريت كل موطن للمروأة والشهامة فدخلته.. إن سمعت من يستجير بك يوماً ويناديك (وامعتصماه) فلبيته ..
حينها فقط تكون بحق ( فارس في زمان الجبناء).
Aladnani_qtr@hotmail.com