(السيف)
19-10-2008, 08:57 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
http://www.qatarshares.com.qa/data/410/413/storm_537294382_1500860595.bmp
لمَّا كان السيفُ والقلمُ عُدَّتي العمل وَالقَوْل ، وَعُمْدتي الدُّوَل ، فإنْ عَدِمَتهما دولَةٌ فلا حَوْلَ ، وَرُكْني إسنادِ المُلْك الُمعربَيْنِ عن المخفوضِ والمرفوع ، وَمُقَدِّمَتَي نتيجة الجدلِ الصادر عنهما المحمولُ والموضوع فكَّرْتُ أيهما أعظمُ فخراً وأعلى قدراً فجلستُ لهما مجلسَ الحُكْمِ والفتوى ، ومثلتُهما في الفكرِ حَاضِرَيْنِ للدعوى ، وسوّيت بين الخصمينِ في الإكْرَامِ ، واستنطقتُ لسانَ حالِهمَا للكلام.
فقال القلم :-
بسم الله مجريها ومُرْساها، والنهار إذا جَلاّها والليل إذا يغشاها ، أما بعد حمد الله
خالق القلم ، ومشرفة بالقسَم ، وجاعله أول ماخلق ، جَمّل الورق بغصنه كما جَمّل الغصن الورق ، والصلاة على القائل : "جفت الأقلامُ" ، فإن للقلم قصَبُ السباق ، والكاتِبُ بسبعة أقلام من طبقات الكتاب في السبع الطباق ، جَرَى بالقضاء والقدر ، ونَابَ عن اللِّسان فيما نهى وأَمَرَ ، وطالما أربى عَلَى البِيض والسُّمْر في ضرابها وطعانها ، وقاتل في البعد والصوارم في القُرْبِ ملء أجفانها ، وماذا يُشْبِهُ القلم في طاعة ناسه ؟ ومشيه لهم على أمِّ راسه ؟
قال السيف:-
بسم الله الخافض الرافع ، وأنزلْنَا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع ، أما بعد حمد الله الذي أنزل آيةَ السيفِ فعظَّمَ بها حرمة الَجْرح وآمن خيفةَ الخيف ، والصلاة على الذي نفذَّ بالسيف سطور الطروس ، وخدمته الأقلام ماشية على الرءوس ، وعلى آله وصحبه الذين أُرْهِفَتْ سيوفهم ، وبُنِيَتْ بها على كسر الأعداء حروفهم ، فإن السيف عظيم الدولة شديد الصّولة ، محا أسطار البلاغة ، وأساغ ممنوع الإساغة ، من اعتمد على غيره في قهر الأعداء تعب ، وكيف لا وفي حَدِّه اَلْحدُّ بين الجدِّ واللِعبِ ؟!
فإن كان القلم شاهداً ، فالسيف قاض ، وإن اقتربت مجادلته بأمر مستقبل قطعَهُ السيف بفعل ماض ، به ظهرَ الدينُ ، وهو العُدّة لقمع المعتدين ، حَمَلَتْهُ دون القلم يد نبيِّناَ ،فَشَرُف بذلك في الأمم شرفاً بيِّناً ، الجنة تحت ظِلاله ، ولا سيما حين يُسَلُّ فترى وَدْقَ الدم يخرج من خلاله ، زُينت بزينة الكواكب سماء غِمدة ، وصدَقَ من قال "السيف أصّدَقُ أنْباءٍ من ضده " لا يعبثُ به الحاملُ ، ولا يتناوله كالقلم بأطراف الأناَمل ، ما هو كالقلم المُشَبَّه بقوم عرُوُّا عن لبوسهم ، ثم نُكسوا كما قيل على رُءُوسهم ، فكأن السيف خُلِق من ماءٍ دافق ، أو كوكب راشق مقدراً في السّرْد ،فهو الجوهر الفَرْد ، لا يُشترى كالقلم بثمن بخس ، ولا يبلى كما يبلى القلم بسواد وطمس ، كم لقائمه المنتظر ، من أثرٍ في عينٍ أو عينٍ في أثر ، فهو في جراب القوم قَوامُ الحرب ، ولهذا جاء مطبوع الشكل داخل الضرب .
فقال القلم :-
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ في الحلية وهو في الخصام غيرُ مُبيِن ، يُفاخرُ وهو القائمُ عن الشِمال ، وأنا الجالس على اليمين؟! أنا المخصوصُ بالرأي وأنت المخصوص بالصَّدَى ، أنا آلة الحياة وأنت آلة الردى ، مالِنْتُ إلا بعد دخول السعير ، وما حُدّدت إلا عن ذنبٍ كبير ، أنت تنفع في العمر ساعة ، وأنا أُفني العُمْرَ في الطاعة ، أنت للرَّهَب ، وأنا للرَّغَب ، وإذا كان بَصَرُك حديداً فبصري ماءُ ذهب ، أين تقليدُكَ من اجتهادي ، وأين نجاسة دمك من تطهير مِدادي ؟
قال السيف:-
أمثلك يُعَيِّرُ مثلي بالدماء؟! فطالما أمرتُ بعض فراخي ـ وهي السكين ـ فأصبحت من النفاثات في العقديا مسكين ، فأخلَتْ من الحياة جُثمانك ، وشقّت أنفك وقطعت لسانك .
ويلك ! إن كنت للديوان فحاسِبٌ مهموم , أو للإنشاء فخادمٌ لمخدوم ، أو للتبليغ فساحر مذموم ، أو للفقيه فناقص في المعلوم ، أو للشاعر فسائل محروم ، أو للشاهد فخائف مسموم ،أو للمعلم فللحيّ القيُّوم أمَّا أنا فلي الوجه الأزهر والحلية والجوهر والهيبة إذ أُشْهَر , والصعود على المنبر . ثم إني مملوك كمالك ، فإنك كناسك ، أسلك الطريق واقطع العلائق .
فقال القلم :-
أما أنا فأبن ماءِ السماءِ , وأليف الغدير وحليف الهواء ، أما أنت فابن النار والدخان وناثرُ الأعمار وخَوَّان الإخوان تفصل ما لا يُفصل وتقطعُ ما أمر الله به أن يُوصَل ، لا جرم أن صَعَّرَ السيف خده وصقل قفاه , وسُقيِ ماءً حميماً فَقَطّع مِِعَاه ،يا غُرَاب البين , ويا عُدَّة الحْينِ ، ويا مُعْتَلّ العين ، ويا ذا الوجهين ، كم أفنيت وأعدمت ؟ وأرملْتَ وأيْتَمْتُ ؟
قال السيف:-
يا ابن الطين ! ألست ضامراً وأنت بطين ؟! كم جَرَيت بعكس وتصرَّفت في مكس وزَوَّرْت وَّحرفت ، و نكّرت وعرّفت ، وسَطّرت هجواً وشتما ً ، وخلّدت عاراً وذمًّا ، أبشر بفرط رَوْعتك ، وشدة خِيفتك ، إذا قِسْتَ بياض صحيفتي بسواد صحيفتك ،فألِنْ خطابك فأنت قصير المدة ، وأحسن جوابك فعندي حِدّه ، وأقلل من غلظتك ، وجبهك ، واشتغل عن دم في وجهي بقبيح في وجهك، وإلا فأدنى ضربةٍ مني تروم أرومتك ،فتستأصلكَ وتجتثُّ جرثومتَك ، فسقياً لمن غاب لك عن غابك ، ورعياً لمن لو أهاب بك لسلخ إهابك .
فلما رأى القلمُ السيفَ قد احتد ، ألان له من خطابهِ ما اشتد....
وقال:-
أما الأدب فيؤخذ عنِّي ، وأما اللطف فيُكتسب منِّي ، فإن لِنْتَ لنتُ ، وإن أحسنتَ أحسنتُ ، نحن أهل السمعِ والطاعةِ ، ولهذا نجمعُ في الدواةِ الواحدةِ منَّا جماعة ، وأما أنتم فأهلُ الحدةِ والخلافِ ، ولهذا لا يجمعون بين سيفين في غلاف .
قال السيف:-
أمَكْراً ودعوى عِفّة ؟ لأمرٍ ما جدع قصير أنفه ! لو كنتَ كما زعمتَ ذا أدبٍ , لما قابلتَ رأسَ الكاتبِ بعُقدةِ الذنَبِ ، أنا ذو الصِّيت والصوتِ ، وغِراري لسانَ مشرَفي يرتجل غرائب الموت , أنا مِن مارجٍ مِن نارٍ ، والقلم من صلصالٍ كالفخارِ ، وإذا زعم القلمُ أنه مثلي ، أمرتُ مَنْ يدقُ رأْسه بنعلي .
فقال القلم :-
صَهْ فصاحبُ السيفِ بلا سعادةٍ ، كأعزل .
قال السيف:-
مهْ فقلمُ البليغِ بغير حظٍ مغزل .
فقال القلم :-
أنا أزكى وأطهر .
قال السيف:-
أنا أبهى وأبهر .
فتلا ذو القلم لقلمه :-
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (الكوثر:1) .
وتلا صاحب السيف لسيفه :-
(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2) .
فتلا ذو القلم لقلمه :-
(إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (الكوثر:3) .
قال:-
أما وكتابي المسطور ، وبيتي المعمور ، والتوراة والإنجيل ،والقُرآن ذو التبجيل ، إن لم تكف عنِّي غرْبك ، وتُبعد مني قُرْبك ، لأكتبنكْ من الصُّمِّ والبُكم ، وَلأُسطرنّ عليك بِقلمي سجلاً بهذا الحكم .
قال السيف:-
أما ومَتْني المتين ، وفتحي الْمُبين ,ولسانَيّ الرطبين ، ووجهَيّ الصُلبين ، إنْ لم تُغِبْ عن بياضي بسوادك ، لأمسَنَّ وجهك بمدادك ، ولقد كسبت من الأسد في الغابة ، توقيع العين والصلابة ، مع أني ما ألوتُكَ نصحاً أفنضرب عنكم الذكر صفحاً ؟
قال القلم:-
سَلِّم إن كنتَ أعلى فأنا أعلم , وإن كنتَ أحلى فأنا أحلم ، وإن كنت أقوى فأنا أقوم , أو كنت ألوى َ فأنا ألوم , أو كنت أطرى فأنا أطربُ ، أو كنت أغلى فأنا أغلب , أو كنت أعتى فأنا أعتبُ , أو كنت أقضى فأنا أقضب .
قال السيف:-
كيف لا أفْضُلك , والمقرُّ الفلانيُّ شادٌّ أزري .
قال القلم:-
كيف لا أفْضُلك وهو ( عزَّ نصرهُ ) ولي أمري ؟
قال الحَكمُ بين السيفِ والقلمِ :
فلما رأيتُ الحجَّتيْن ناهضتين ، والبيِّنتيْن بينتيْن مُتعارضتين ، وعلمتُ أنَّ لكلِّ واحدٍ منها نسبةً صحيحةً ، إلى هذا المقرَّ الكريم ، ورواية مُسْندة عن حديثه القديم ، لطَّفتُ الوسيلة ، ودققّتُ الحيلة حتى رددْتُ القلم إلى كنَّه , وأغمدتُ السَّيف فنام ملء جفنه ، وأخّرْتُ بينهما الترجيح وسكتُّ عمّا هو عندي الصّحيح ، إلى أن يحكم المقرُّ بينهما بعلمه ، ويسكِّن سورة غضبهما الوافر ولجاجهما المديد ببسط حلمه .
قال أبو جندل الأزدي:
بعد هذه المناظرة الرائعة المثيرة تأملت التاريخ الإسلامي فوجدتُ أن الذي يرفعُ القلمَ دونَ سيفٍ يذِلّ ،والذي يرفعُ السيفَ دونَ قلمٍ يضلّ ويزلّ ، ومن يرفعهما معاً فإلى مبتغاه يهتدي ويصل , ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ قال: (لا يقوم الدين إلا بكتابٍ يهدي وسيفٍ ينصر وكفى بربك هادياً ونصيراً ) .
لزين الدين عمر بن الوردي المتوفى سنة 749هـ
http://www.qatarshares.com.qa/data/410/413/storm_537294382_1500860595.bmp
لمَّا كان السيفُ والقلمُ عُدَّتي العمل وَالقَوْل ، وَعُمْدتي الدُّوَل ، فإنْ عَدِمَتهما دولَةٌ فلا حَوْلَ ، وَرُكْني إسنادِ المُلْك الُمعربَيْنِ عن المخفوضِ والمرفوع ، وَمُقَدِّمَتَي نتيجة الجدلِ الصادر عنهما المحمولُ والموضوع فكَّرْتُ أيهما أعظمُ فخراً وأعلى قدراً فجلستُ لهما مجلسَ الحُكْمِ والفتوى ، ومثلتُهما في الفكرِ حَاضِرَيْنِ للدعوى ، وسوّيت بين الخصمينِ في الإكْرَامِ ، واستنطقتُ لسانَ حالِهمَا للكلام.
فقال القلم :-
بسم الله مجريها ومُرْساها، والنهار إذا جَلاّها والليل إذا يغشاها ، أما بعد حمد الله
خالق القلم ، ومشرفة بالقسَم ، وجاعله أول ماخلق ، جَمّل الورق بغصنه كما جَمّل الغصن الورق ، والصلاة على القائل : "جفت الأقلامُ" ، فإن للقلم قصَبُ السباق ، والكاتِبُ بسبعة أقلام من طبقات الكتاب في السبع الطباق ، جَرَى بالقضاء والقدر ، ونَابَ عن اللِّسان فيما نهى وأَمَرَ ، وطالما أربى عَلَى البِيض والسُّمْر في ضرابها وطعانها ، وقاتل في البعد والصوارم في القُرْبِ ملء أجفانها ، وماذا يُشْبِهُ القلم في طاعة ناسه ؟ ومشيه لهم على أمِّ راسه ؟
قال السيف:-
بسم الله الخافض الرافع ، وأنزلْنَا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع ، أما بعد حمد الله الذي أنزل آيةَ السيفِ فعظَّمَ بها حرمة الَجْرح وآمن خيفةَ الخيف ، والصلاة على الذي نفذَّ بالسيف سطور الطروس ، وخدمته الأقلام ماشية على الرءوس ، وعلى آله وصحبه الذين أُرْهِفَتْ سيوفهم ، وبُنِيَتْ بها على كسر الأعداء حروفهم ، فإن السيف عظيم الدولة شديد الصّولة ، محا أسطار البلاغة ، وأساغ ممنوع الإساغة ، من اعتمد على غيره في قهر الأعداء تعب ، وكيف لا وفي حَدِّه اَلْحدُّ بين الجدِّ واللِعبِ ؟!
فإن كان القلم شاهداً ، فالسيف قاض ، وإن اقتربت مجادلته بأمر مستقبل قطعَهُ السيف بفعل ماض ، به ظهرَ الدينُ ، وهو العُدّة لقمع المعتدين ، حَمَلَتْهُ دون القلم يد نبيِّناَ ،فَشَرُف بذلك في الأمم شرفاً بيِّناً ، الجنة تحت ظِلاله ، ولا سيما حين يُسَلُّ فترى وَدْقَ الدم يخرج من خلاله ، زُينت بزينة الكواكب سماء غِمدة ، وصدَقَ من قال "السيف أصّدَقُ أنْباءٍ من ضده " لا يعبثُ به الحاملُ ، ولا يتناوله كالقلم بأطراف الأناَمل ، ما هو كالقلم المُشَبَّه بقوم عرُوُّا عن لبوسهم ، ثم نُكسوا كما قيل على رُءُوسهم ، فكأن السيف خُلِق من ماءٍ دافق ، أو كوكب راشق مقدراً في السّرْد ،فهو الجوهر الفَرْد ، لا يُشترى كالقلم بثمن بخس ، ولا يبلى كما يبلى القلم بسواد وطمس ، كم لقائمه المنتظر ، من أثرٍ في عينٍ أو عينٍ في أثر ، فهو في جراب القوم قَوامُ الحرب ، ولهذا جاء مطبوع الشكل داخل الضرب .
فقال القلم :-
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ في الحلية وهو في الخصام غيرُ مُبيِن ، يُفاخرُ وهو القائمُ عن الشِمال ، وأنا الجالس على اليمين؟! أنا المخصوصُ بالرأي وأنت المخصوص بالصَّدَى ، أنا آلة الحياة وأنت آلة الردى ، مالِنْتُ إلا بعد دخول السعير ، وما حُدّدت إلا عن ذنبٍ كبير ، أنت تنفع في العمر ساعة ، وأنا أُفني العُمْرَ في الطاعة ، أنت للرَّهَب ، وأنا للرَّغَب ، وإذا كان بَصَرُك حديداً فبصري ماءُ ذهب ، أين تقليدُكَ من اجتهادي ، وأين نجاسة دمك من تطهير مِدادي ؟
قال السيف:-
أمثلك يُعَيِّرُ مثلي بالدماء؟! فطالما أمرتُ بعض فراخي ـ وهي السكين ـ فأصبحت من النفاثات في العقديا مسكين ، فأخلَتْ من الحياة جُثمانك ، وشقّت أنفك وقطعت لسانك .
ويلك ! إن كنت للديوان فحاسِبٌ مهموم , أو للإنشاء فخادمٌ لمخدوم ، أو للتبليغ فساحر مذموم ، أو للفقيه فناقص في المعلوم ، أو للشاعر فسائل محروم ، أو للشاهد فخائف مسموم ،أو للمعلم فللحيّ القيُّوم أمَّا أنا فلي الوجه الأزهر والحلية والجوهر والهيبة إذ أُشْهَر , والصعود على المنبر . ثم إني مملوك كمالك ، فإنك كناسك ، أسلك الطريق واقطع العلائق .
فقال القلم :-
أما أنا فأبن ماءِ السماءِ , وأليف الغدير وحليف الهواء ، أما أنت فابن النار والدخان وناثرُ الأعمار وخَوَّان الإخوان تفصل ما لا يُفصل وتقطعُ ما أمر الله به أن يُوصَل ، لا جرم أن صَعَّرَ السيف خده وصقل قفاه , وسُقيِ ماءً حميماً فَقَطّع مِِعَاه ،يا غُرَاب البين , ويا عُدَّة الحْينِ ، ويا مُعْتَلّ العين ، ويا ذا الوجهين ، كم أفنيت وأعدمت ؟ وأرملْتَ وأيْتَمْتُ ؟
قال السيف:-
يا ابن الطين ! ألست ضامراً وأنت بطين ؟! كم جَرَيت بعكس وتصرَّفت في مكس وزَوَّرْت وَّحرفت ، و نكّرت وعرّفت ، وسَطّرت هجواً وشتما ً ، وخلّدت عاراً وذمًّا ، أبشر بفرط رَوْعتك ، وشدة خِيفتك ، إذا قِسْتَ بياض صحيفتي بسواد صحيفتك ،فألِنْ خطابك فأنت قصير المدة ، وأحسن جوابك فعندي حِدّه ، وأقلل من غلظتك ، وجبهك ، واشتغل عن دم في وجهي بقبيح في وجهك، وإلا فأدنى ضربةٍ مني تروم أرومتك ،فتستأصلكَ وتجتثُّ جرثومتَك ، فسقياً لمن غاب لك عن غابك ، ورعياً لمن لو أهاب بك لسلخ إهابك .
فلما رأى القلمُ السيفَ قد احتد ، ألان له من خطابهِ ما اشتد....
وقال:-
أما الأدب فيؤخذ عنِّي ، وأما اللطف فيُكتسب منِّي ، فإن لِنْتَ لنتُ ، وإن أحسنتَ أحسنتُ ، نحن أهل السمعِ والطاعةِ ، ولهذا نجمعُ في الدواةِ الواحدةِ منَّا جماعة ، وأما أنتم فأهلُ الحدةِ والخلافِ ، ولهذا لا يجمعون بين سيفين في غلاف .
قال السيف:-
أمَكْراً ودعوى عِفّة ؟ لأمرٍ ما جدع قصير أنفه ! لو كنتَ كما زعمتَ ذا أدبٍ , لما قابلتَ رأسَ الكاتبِ بعُقدةِ الذنَبِ ، أنا ذو الصِّيت والصوتِ ، وغِراري لسانَ مشرَفي يرتجل غرائب الموت , أنا مِن مارجٍ مِن نارٍ ، والقلم من صلصالٍ كالفخارِ ، وإذا زعم القلمُ أنه مثلي ، أمرتُ مَنْ يدقُ رأْسه بنعلي .
فقال القلم :-
صَهْ فصاحبُ السيفِ بلا سعادةٍ ، كأعزل .
قال السيف:-
مهْ فقلمُ البليغِ بغير حظٍ مغزل .
فقال القلم :-
أنا أزكى وأطهر .
قال السيف:-
أنا أبهى وأبهر .
فتلا ذو القلم لقلمه :-
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (الكوثر:1) .
وتلا صاحب السيف لسيفه :-
(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2) .
فتلا ذو القلم لقلمه :-
(إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (الكوثر:3) .
قال:-
أما وكتابي المسطور ، وبيتي المعمور ، والتوراة والإنجيل ،والقُرآن ذو التبجيل ، إن لم تكف عنِّي غرْبك ، وتُبعد مني قُرْبك ، لأكتبنكْ من الصُّمِّ والبُكم ، وَلأُسطرنّ عليك بِقلمي سجلاً بهذا الحكم .
قال السيف:-
أما ومَتْني المتين ، وفتحي الْمُبين ,ولسانَيّ الرطبين ، ووجهَيّ الصُلبين ، إنْ لم تُغِبْ عن بياضي بسوادك ، لأمسَنَّ وجهك بمدادك ، ولقد كسبت من الأسد في الغابة ، توقيع العين والصلابة ، مع أني ما ألوتُكَ نصحاً أفنضرب عنكم الذكر صفحاً ؟
قال القلم:-
سَلِّم إن كنتَ أعلى فأنا أعلم , وإن كنتَ أحلى فأنا أحلم ، وإن كنت أقوى فأنا أقوم , أو كنت ألوى َ فأنا ألوم , أو كنت أطرى فأنا أطربُ ، أو كنت أغلى فأنا أغلب , أو كنت أعتى فأنا أعتبُ , أو كنت أقضى فأنا أقضب .
قال السيف:-
كيف لا أفْضُلك , والمقرُّ الفلانيُّ شادٌّ أزري .
قال القلم:-
كيف لا أفْضُلك وهو ( عزَّ نصرهُ ) ولي أمري ؟
قال الحَكمُ بين السيفِ والقلمِ :
فلما رأيتُ الحجَّتيْن ناهضتين ، والبيِّنتيْن بينتيْن مُتعارضتين ، وعلمتُ أنَّ لكلِّ واحدٍ منها نسبةً صحيحةً ، إلى هذا المقرَّ الكريم ، ورواية مُسْندة عن حديثه القديم ، لطَّفتُ الوسيلة ، ودققّتُ الحيلة حتى رددْتُ القلم إلى كنَّه , وأغمدتُ السَّيف فنام ملء جفنه ، وأخّرْتُ بينهما الترجيح وسكتُّ عمّا هو عندي الصّحيح ، إلى أن يحكم المقرُّ بينهما بعلمه ، ويسكِّن سورة غضبهما الوافر ولجاجهما المديد ببسط حلمه .
قال أبو جندل الأزدي:
بعد هذه المناظرة الرائعة المثيرة تأملت التاريخ الإسلامي فوجدتُ أن الذي يرفعُ القلمَ دونَ سيفٍ يذِلّ ،والذي يرفعُ السيفَ دونَ قلمٍ يضلّ ويزلّ ، ومن يرفعهما معاً فإلى مبتغاه يهتدي ويصل , ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ قال: (لا يقوم الدين إلا بكتابٍ يهدي وسيفٍ ينصر وكفى بربك هادياً ونصيراً ) .
لزين الدين عمر بن الوردي المتوفى سنة 749هـ