المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأزمة المالية لم تصبح نقدية بعد



ROSE
24-12-2008, 08:29 AM
الأزمة المالية لم تصبح نقدية بعد


بقلم: الدكتور لويس حبيقة :
تؤثر الأزمات المالية سلبا على الاستقرار السياسي وتزيد من عدد الفقراء والعاطلين عن العمل. من الأمور الغريبة في الأزمة الحالية هي أن الأزمة المالية الكبيرة لم تصبح نقدية بعد بالرغم من التقلبات التي شهدتها مؤخرا العملات الأساسية. في العادة تبدأ الأزمات نقدية وتتحول الى مالية لتضرب القطاع بأكمله، وثم تصيب القطاع الحقيقي كما حصل في شرق أسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا وغيرها. أما اليوم وبالرغم من عمق الافلاسات وامتداد الأزمة الى كل الدول الرئيسية، يبقى النقد الأمريكي صامدا ولم ينهار كاحتياطي رئيسي. لم يستطع اليورو أو الين أو الليرة الاسترلينية ازاحة الدولار وأخذ مكانه. يبقى الدولار النقد الأساسي الدولي لأن الولايات المتحدة ما زالت تتمتع بثقة العالم من الناحية النقدية بالرغم من كل شيء. مواصفات الاقتصاد الأمريكي فريدة كصاحب ثقل كبير يشكل حوالي 30% من الاقتصاد العالمي بالاضافة الى تضخم منخفض نسبيا يعطي جاذبية للنقد ووجود أسواق مالية متنوعة عاملة بالرغم من تعثرها ووجود مصرف مركزي قوي يقوم بواجباته على أكمل وجه. تعتبر الولايات المتحدة وحدة نقدية بامتياز وتتمتع بقطاع خارجي كبير يحرك الاقتصاد الدولي ويحدث عجزا كبيرا في ميزانها التجاري. لا يمكن لأحد أن ينكر على أمريكا قوتها العسكرية المبنية على الاقتصاد والتكنولوجيا المتطورة ومعاهد البحث والتطوير الفريدة والرغبة في استعمالها لتوسيع نفوذها السياسي في العالم. تجعل هذه الميزات الاقتصاد الأمريكي فريدا بحيث يؤثر بقوة على العالم ليس فقط سياسيا وأمنيا وانما ماليا ونقديا.
من أسباب هذا الصمود النقدي العالمي الانفتاح التجاري المتزايد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية الذي تجلى في سنة 1995 في خلق منظمة التجارة العالمية كنتيجة لاتفاقية الأوروغواي للتجارة. تشير الدراسات الى تأثير ايجابي مباشر للتجارة الدولية على المنافسة والأسعار والتطور التكنولوجي كما على بناء المؤسسات الحديثة. فالتجارة الدولية، كما اللغات، تقرب الشعوب في أذواقها وأفكارها وبالتالي تحسن العلاقات بين الدول. كما أن الانفتاح التجاري يؤثر ايجابا على النضوج المالي، فالعكس صحيح أيضا اذ يخلق الفرص لزيادة التبادل السلعي والخدماتي بين الدول. من ناحية أخرى، لا أحد ينكر تأثير الانفتاح التجاري على التقلبات الاقتصادية التي تصبح أقوى ومتكررة أكثر. لذا لا بد من تدخل القطاع العام لتخفيف المخاطر عبر تنفيذ القوانين المتخصصة والرقابة الحديثة العلمية على المؤسسات المالية.
ليس من الصدفة أن تحصل الأزمة المالية في نفس الوقت في كل الدول الغربية علما أنها بدأت في أمريكا. ليست هنالك عدوى في رأينا، انما لكل الاقتصاديات الناضجة مشاكلها المتشابهة في العديد من الأحيان. فالأزمة العقارية الاسبانية مثلا غير مرتبطة بالوضع الأمريكي، بل بدأت قبل الأزمة الأمريكية. كما أن تعثر الاقتصاد البريطاني عائد لأسباب داخلية أكثر منها خارجية. هنالك علاقات تجارية ومالية كبيرة ومتطورة بين الاقتصادات الصناعية، وبالتالي تؤثر بعضها على بعض. هنالك عوامل خارجية متشابهة تؤثر أيضا بشكل مختلف تبعا لأوضاع كل دولة، كارتفاع أسعار النفط والمواد الأولية. هنالك مشاكل متشابهة داخل الاقتصادات الغربية من نواحي المعلومات القليلة المتوافرة للمستثمر، أي من ناحية ضبابية الأسواق وعدم قيامه بالبحث اللازم قبل استثمار أمواله. هنالك تشابه كبير في تصرف المستثمرين اذ يهلعون الى الشراء أو البيع سوية فيقلدون بعضهم بعضا مما يحرك الأسواق بسرعة كبرى ودون مبرر اقتصادي منطقي في الصعود والنزول.
ما الأسباب الأساسية وراء الأزمات المالية وبالتالي ما هي الحلول المناسبة لتخفيف الخسائر ومنع التكرار؟ في الأسباب:
أولا: تدهور صحة ميزانيات المؤسسات الخاصة المالية مما يجعلها في وضع خطر يؤدي الى الافلاس. هنالك مصارف تجارية أساءت اقراض ودائعها وأخرى استثمارية أساءت توظيف أموالها وأعطت نصائح خاطئة لزبائنها من ناحيتي التمويل والاستثمار. في مقارنة مجموع ميزانيات المصارف التجارية الدولية الكبرى من سنة حتى اليوم، تتبين لنا الخسارة الكبرى التي حققتها كل منها. لا شك أن غياب المصارف الاستثمارية المستقلة الأساسية في العالم يشكل عامل نقص في توزيع وتنويع المهام المصرفية ولا يصب في صالح المواطن.
ثانيا: ابقاء الفوائد الأساسية منخفضة لمدة طويلة مما شجع المواطن والشركة على الاستثمار بالرغم من المخاطر المرتفعة. هذا ما أقر به ألان غرينسبان حاكم المصرف المركزي الأمريكي السابق الذي تحمل مسؤولية ابقاء الفوائد منخفضة مما ساهم في تكبير حجم الاقراض وبالتالي الطلب على الأسهم والعقارات التي انهارت كلها فيما بعد. لسياسة الفوائد المنخفضة تأثير ايجابي عندما تكون البورصات جامدة، لكنها تصبح مضرة في زمن المضاربات والسباق على تحقيق أرباح لا تجد تبريرا لها في الاقتصاد الحقيقي.
ثالثا: ارتفاع التقلبات في الأسواق بسبب عوامل سياسية كالحرب في العراق وأفغانستان وتوتر العلاقات الدولية نتيجة تضارب المصالح بين الدول الأساسية كما بين الدول الصناعية من جهة والدول النامية من جهة أخرى. هذا ما ظهر جليا خلال مفاوضات جولة الدوحة للتجارة الدولية. تؤثر هذه التقلبات سلبا على صحة الأسواق المالية وتجعلها معرضة للاهتزاز في أول فرصة، وهذا ما حققته أزمة العقارات المنزلية في أمريكا. وجود تقلبات كبرى في الأسواق تمنع المستثمرين والممولين من اكتشاف الفرص الاستثمارية الجيدة والتوظيف فيها.
رابعا: تدهور صحة ميزانيات شركات القطاع الاقتصادي الحقيقي نتيجة سوء التمويل وضعف الاستثمارات وتدني مستويات التجدد والتغيير. فالأزمة الزراعية الدولية حصلت بسبب سوء التمويل وبالتالي انخفض الانتاج في مناطق عدة. عندما ارتفعت أسعار كل السلع الغذائية، عاد الاهتمام الى الانتاج وبالتالي انخفضت الأسعار مؤخرا. أما في الصناعة، فكل القطاعات تعاني وأكبر مثال هي صناعة السيارات والطائرات في كل دول العالم وليس في أمريكا فقط.
في الحلول وبالاضافة الى ضخ السيولة المناسبة كما فعلت كل الدول الصناعية وحتى بعض الناشئة كالصين، لا بد من اعتماد بعض الأفكار التالية:
أولا: الرقابة المالية أي تشديدها وربما توحيدها كما فعلت عدة دول وفي مقدمها الدول الاسكندنافية. مشكلة الرقابة المصرفية في أمريكا هي تعدد المؤسسات التي تقوم بها وتضارب المصالح والنفوذ فيما بينها. لأن المؤسسات المالية أصبحت عالمية ومتنوعة الخدمات، يجب توحيد الرقابة في المؤسسات والصلاحيات حتى تكون قوية ودقيقة وفاعلة. هنا تكمن ضرورة تطبيق معايير السلامة الدولية المتطورة المعتمدة في المحاسبة ورأس المال والادارة. من المهم جدا أيضا تطوير الأنظمة القضائية والقانونية عملا بمبدأي الحساب والعقاب وتنفيذها حتى يشعر المواطن بجدية تعاطي الدولة مع شؤونه الأساسية ومصالحه المالية.
ثانيا: التشديد على الحرية الاقتصادية كمبدأ وتدخل الدولة كاستثناء. عندما تقوم الدولة بدورها الرقابي والقانوني، تخف الحاجة للتدخل المفروض بسبب الخطورة. في الدول الصناعية وبسبب استقلالية المؤسسات العامة، ترتفع الحاجة الى التنسيق فيما بين السياسات الاقتصادية منعا لتضارب المصالح وتقوية لفوائد الخطوات على الاقتصاد. رأينا في دول عدة سياسة مالية تبذيرية وسياسة نقدية محافظة أو متشددة في غياب أي تنسيق. في كل حال لا بد من مراجعة دقيقة لكل الأخطاء وأخذ العبر منها على صعيد كل دولة.