ابن الذيب
24-02-2009, 08:22 AM
على طريق الشمــــــال
الغيوم تغطي الأجواء في أحد أيام الشتاء، والسيارة تطوف بنا شوارع الدوحة ، متجهة كالعادة لتسلك الطريق المؤدي نحو الشمال . هذا الطريق الطويل الممتد ، الذي ما إن نطوي
فيه المسافات حتى يفيض في الخاطر عبق الماضي .هذا الطريق الذي تعاقبت عليه أجيال وأجيال ، أجيال قديمة رأت في قطع مسافاته قمة العناء والمشقة ، وأجيال جديدة تطويه مسرعة قادمة نحو المستقبل ، أثبتت وجودها وساهمت في بناء هذا الوطن.
وقد سلكنا هذه الطريق على مدى سنوات ومنذ الطفولة، فتربطنا بهذا الطريق على الدوام علاقة محبة من نوع خاص ، وولاء غريب . وكانت رحلاتنا نحو الشمال لا تكتمل متعتها دائما إلا بالمرور بقريتي الغارية وفويرط. قريتان على الساحل الشرقي لشمال قطر ، وما كان هناك أمتع من دخولنا إلى أطلال قرية الغارية والبيوت القديمة ، والدخول من بيت إلى بيت عبر الأسوار المتهدمة .وقد كانت نظرة والدي رحمه الله لأطلال هذا المكان مختلفة ، فهو مكان
مولده ومرتع طفولته وصباه. كان يحدثنا عن هذه البيوت، والتي تتحدث عن نفسها بأصالتها ، وهذا الجبل ( فويرط) ذو الإطلالة الشامخة على مياه الخليج ، وكأنه يحكي عن تاريخ المكان العريق ، وعن هذا الشاطئ الذي شهد رحلاتالغوص، فقد كان والدي يعرف كل جزء من هذه الأمكنة ، وينقل لنا ماضيا لا يزال حي في أعماقه ، يحدثنا عن حياتهم وعلاقاتهم، وعن هذا الشاطئ وكيف ارتبط بالوداع والدموع ، ثم الأمل والانتظار ، بعيون امتدت تنظر وتترقب
على طول الشاطئ ، تنتظر العودة بالشوق واللهفة ، لأولئك الكبار والصغار العائدون من رحلة الشقاء والتعب مع ما حملوه من رزق. ومعاناة كثيرة كثيرة، عاشها إنسان هذه الأرض
يصعب وصفها على الورق. وكان والدي دائما ومع نظرته الأخيرة وآخر خطواته مودعا أطلال هذا المكان يردد بحرقة ما قاله الشاعر محمد الفيحاني رحمه الله :
عمن ترحل سالي الدار يا عين ,,, استعمليها وانشدي يا حزينه
قولي هلك يا دار منك غدوا وين ,,, من بك وقف ينشدك ما تخبرينه
ولا شك أن الأماكن وأحداثها لها أثرها في تشكيل شخصية الإنسان ، وكثيرا ما تساءلت عن قوة البأس وعن سر الصبر والإيثار في جيل الآباء الكبار في هذا الوطن ، فحياة المعاناة والمشقة التي عاشها هؤلاء ، أورثت فيهم نفوس قوية مقدامة لا تعرف الخوف ،وإيمان وعزيمة، سخاء وقناعة بلا حدود . فعشق الأماكن شيء يسكن كل إنسان، ولكل مكانه الذي يشعر بالولاء نحوه ويجد نفسه فيه . وليس من العجب أن نرى الناس وقد تطورت ، وأصبحت
تسكن البيوت ذات الفخامة في المدن، ومازالت تحب أن تحتفظ ببعض أماكنها الأولى التي تعني لها الكثير، تتردد عليها وتعلم أبناءها الولاء لها . وأعود أنتبه لهذا الطريق ، طريق الشمال وأراني وقد اعتدت وأحببت كل ما أراه على جانبيه من أمكنة ، رغم كل ما يذكرنا به من حوادث مؤلمة ، لأناس وإن غابوا عن هذه الحياة ، فلن يغيبوا عن قلوبنا، وأراه وقد طالته يد التطور،
وأرى حياة جيدة تدب فيه تغير ملامحه ،وعمل دؤوب يعيد إليه قوة جديدة ، ليظل يحتل مكانته الهامة في حياة مرتاديه وقلوبهم ، وليظل دائما الطريق نحو المستقبل .
ونحن جميعا في هذا الوطن ، نعتز بهذه الأرض الطيبة ، ونفتخر بهذا الماضي العريق ، الذي ثبت حبنا لهذا الوطن ووثقه.
هذا الوطن الذي استمد قوته العظيمة من الضعف ، وبنى مجده بقوة أبنائه الصالحين ، وصبرهم وعزيمتهم. حفظ الله هذا الوطن.. وكتب له الرفعة والرقي .
مقال من الحياة في جريدة الشرق , كتبته لولوه الكواري
24 \ 2 \ 2009
الغيوم تغطي الأجواء في أحد أيام الشتاء، والسيارة تطوف بنا شوارع الدوحة ، متجهة كالعادة لتسلك الطريق المؤدي نحو الشمال . هذا الطريق الطويل الممتد ، الذي ما إن نطوي
فيه المسافات حتى يفيض في الخاطر عبق الماضي .هذا الطريق الذي تعاقبت عليه أجيال وأجيال ، أجيال قديمة رأت في قطع مسافاته قمة العناء والمشقة ، وأجيال جديدة تطويه مسرعة قادمة نحو المستقبل ، أثبتت وجودها وساهمت في بناء هذا الوطن.
وقد سلكنا هذه الطريق على مدى سنوات ومنذ الطفولة، فتربطنا بهذا الطريق على الدوام علاقة محبة من نوع خاص ، وولاء غريب . وكانت رحلاتنا نحو الشمال لا تكتمل متعتها دائما إلا بالمرور بقريتي الغارية وفويرط. قريتان على الساحل الشرقي لشمال قطر ، وما كان هناك أمتع من دخولنا إلى أطلال قرية الغارية والبيوت القديمة ، والدخول من بيت إلى بيت عبر الأسوار المتهدمة .وقد كانت نظرة والدي رحمه الله لأطلال هذا المكان مختلفة ، فهو مكان
مولده ومرتع طفولته وصباه. كان يحدثنا عن هذه البيوت، والتي تتحدث عن نفسها بأصالتها ، وهذا الجبل ( فويرط) ذو الإطلالة الشامخة على مياه الخليج ، وكأنه يحكي عن تاريخ المكان العريق ، وعن هذا الشاطئ الذي شهد رحلاتالغوص، فقد كان والدي يعرف كل جزء من هذه الأمكنة ، وينقل لنا ماضيا لا يزال حي في أعماقه ، يحدثنا عن حياتهم وعلاقاتهم، وعن هذا الشاطئ وكيف ارتبط بالوداع والدموع ، ثم الأمل والانتظار ، بعيون امتدت تنظر وتترقب
على طول الشاطئ ، تنتظر العودة بالشوق واللهفة ، لأولئك الكبار والصغار العائدون من رحلة الشقاء والتعب مع ما حملوه من رزق. ومعاناة كثيرة كثيرة، عاشها إنسان هذه الأرض
يصعب وصفها على الورق. وكان والدي دائما ومع نظرته الأخيرة وآخر خطواته مودعا أطلال هذا المكان يردد بحرقة ما قاله الشاعر محمد الفيحاني رحمه الله :
عمن ترحل سالي الدار يا عين ,,, استعمليها وانشدي يا حزينه
قولي هلك يا دار منك غدوا وين ,,, من بك وقف ينشدك ما تخبرينه
ولا شك أن الأماكن وأحداثها لها أثرها في تشكيل شخصية الإنسان ، وكثيرا ما تساءلت عن قوة البأس وعن سر الصبر والإيثار في جيل الآباء الكبار في هذا الوطن ، فحياة المعاناة والمشقة التي عاشها هؤلاء ، أورثت فيهم نفوس قوية مقدامة لا تعرف الخوف ،وإيمان وعزيمة، سخاء وقناعة بلا حدود . فعشق الأماكن شيء يسكن كل إنسان، ولكل مكانه الذي يشعر بالولاء نحوه ويجد نفسه فيه . وليس من العجب أن نرى الناس وقد تطورت ، وأصبحت
تسكن البيوت ذات الفخامة في المدن، ومازالت تحب أن تحتفظ ببعض أماكنها الأولى التي تعني لها الكثير، تتردد عليها وتعلم أبناءها الولاء لها . وأعود أنتبه لهذا الطريق ، طريق الشمال وأراني وقد اعتدت وأحببت كل ما أراه على جانبيه من أمكنة ، رغم كل ما يذكرنا به من حوادث مؤلمة ، لأناس وإن غابوا عن هذه الحياة ، فلن يغيبوا عن قلوبنا، وأراه وقد طالته يد التطور،
وأرى حياة جيدة تدب فيه تغير ملامحه ،وعمل دؤوب يعيد إليه قوة جديدة ، ليظل يحتل مكانته الهامة في حياة مرتاديه وقلوبهم ، وليظل دائما الطريق نحو المستقبل .
ونحن جميعا في هذا الوطن ، نعتز بهذه الأرض الطيبة ، ونفتخر بهذا الماضي العريق ، الذي ثبت حبنا لهذا الوطن ووثقه.
هذا الوطن الذي استمد قوته العظيمة من الضعف ، وبنى مجده بقوة أبنائه الصالحين ، وصبرهم وعزيمتهم. حفظ الله هذا الوطن.. وكتب له الرفعة والرقي .
مقال من الحياة في جريدة الشرق , كتبته لولوه الكواري
24 \ 2 \ 2009