حبر سري
28-05-2009, 01:04 PM
من أصعب الامور على حكام الدول إعلان حالة الطواريء فهذا يعني أن ظروفاً استثنائية تمر بها الدولة تتطلب تعطيل الدستور وغير ذلك من الأمور غير المستحبة.
في هذا العالم العربي الممتد من المحيط الى الخليج هناك حالة طواريء بدون إعلان قائمة منذ زمن طويل.
ليس هناك أي حقوق للمواطن العربي وكل من يرفع رأسه وينطق بكلمة ضد الحكم يذهب الى غياهب السجون وأقل شيء يناله هو الضرب والتعذيب حتى لا يكرر فعلته، إذا فكرت أجهزة الحاكم ان تهمته لا تستحق الإخفاء أو القتل.
لدى كل أنظمة الحكم العربية سجون ومعتقلات سرية وتعمل كمقاول من الباطن لبعض الحكومات الغربية التي يخاف مسؤوليها ان ينكشفوا ويتحملوا تبعات أعمال تعذيب تخالف دساتير بلادهم.
هناك تخويف للشعب كله من الشرطة والأمن وفهم عاجز لمعنى النظام.
هناك تكميم لحرية الصحافة بشكل مباشر أو بزرع الرعب في عقول أصحاب الاقلام الشريفة فلا تستطيع النطق أو الكتابة.
وهناك بالطبع خطب الجمعة المكتوبة من قبل شيوخ السلاطين. خطب لا تخرج مواضيعها عن كيفية إتقان أداء الطقوس مثل كيفية أداء الصلاة أو نواقض الوضوء أو كيفية التعفف وعذاب القبر وترك هذه الدنيا الفانية. (والنتيجة يسرقها السلطان وحاشيته كما يشاء).
مفهوم قوانين الطواريء في العالم كله هي لمساعدة الدولة والمجتمع على تخطي مشكلة او كارثة أما في عالمنا العربي فهي لمساعدة الحاكم على الحكم بدون وجع رأس أو مشاكل تسببها دائماً حفنة بسيطة (ولو جمعت الحفن البسيطة هذه فانها كل القوى الحية في المجتمع، ولكن الحاكم الذكي وأجهزته تقلل من عدد وشأن من يرفع رأسه) من الذين غرر بهم اعداء الوطن والدين والاستقرار والتقدم.
في المحروسة الشقيقة الكبرى يختلف الوضع قليلاً عن باقي الشقيقات فحالة الطواريء معلنة للعالم أجمع.
وهناك سبب لذلك فعندما إستلم السلطة الحاكم الملهم عقد محكمةً هو القاضي والمحامي والجلاد فيها وقرّر معاقبة الشعب كله، فالجريمة كانت كبيرة وهي إعدام سلفه الرئيس المؤمن فأعلن حالة الطواريء العامة في البلاد ولعدد من المؤبدات لا يعلم عددها سوى الله . وقد مضى المؤبد الاول وهو خمسة وعشرين عاماً ويقضي إخواننا في المحروسة المؤبد الثاني من الحكم الصادر ضدهم، كان الله في عونهم.
كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما يمسهم.
لم يكن العام الثامن عشر للهجرة عاماً جيدأ للدولة الاسلامية وخاصة في المناطق الصحراوية فقد إنحبس المطر لمدة طويلة وجفت الينابيع وإرتفعت درجة الحرارة الى معدلات غير طبيعية وصلت الى حد أن لون التراب أصبح أسود فسمي بعام الرمادة.
وكما يحدث في كارثة طبيعية مثل هذه فقد هجر سكان الصحراء أماكن سكناهم وحضروا الى المدن والحواضر الكبيرة يبحثون عن لقمة عيش تسد رمقهم بعد ان بلغ بهم الجوع حداً كبيراً، وصف أحد الرواة الوضع قائلاً أنه حتى الشاة عند ذبحها كانت عظماً ولحماً أحمر غير صالح للأكل.
في وضع كهذا أعلن عمر حالة الطواريء في البلاد وكانت الخطوات التي إتخذها لمواجهة الكارثة على النحو التالي:
- كان اول متضرر من حالة الطواريء هو الخليفة نفسه فقد إمتنع عن أكل اللحم. ولم يأكل سوى الخبز ونوع واحد من الزيت (الإدام) طيلة مدة الكارثة البالغة تسعة اشهر وقال كلمته الشهيرة : كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما يمسهم.
حدثت طرفة بسيطة لابد من روايتها: حضر احد الموفدين (ويبدو انه لا يعرف عمر جيداً) من منطقة بعيدة في رسالة لعمر وحضر الطعام المكوّن من اللحم والمرق والخبز وعرض عليه الناس مشاركتهم، فكر الرجل إذا كان هذا طعام الناس فمن المرجح ان طعام الخليفة ألذ وأشهى فقال لا ، سآكل مع الخليفة. حضر طعام الخليفة المكون من الخبز ونوع واحد من الزيت،
إستغرب الرجل وقال : ما هذا يا أمير المؤمنين؟
رد عليه عمر: هذا طعامي وذاك طعام المسلمين! فما كان من الرجل الا النهوض بسرعة قائلاً: أعذرني يا أمير المؤمنين علي ان ألحق بطعام المسلمين!
- سخّر بيت المال وما فيه لمواجهة الكارثة، وقد روي ان مائدة الطعام المكونة من لحم البعير في إحدى الحواضر أطعمت سبعة الاف فرد أما في المدينة فكانت لعشرة الاف، وكان يسمح للناس بان يأخذوا ما يحتاجون لأهلهم.
هذه معلومات بسيطة وصلتنا عن المجاعة ومن المؤكد ان موائد الطعام كانت في أكثر من حاضرة أو مكان تجمع. ما لم يقله الرواة أنه لم يكن هناك تزاحم على الموائد او فوضى ويستطيع المرء أن يأخذ ما يريد لأهله ولكن هل أخذ أحد أكثر من حاجته؟ ربما ولكن في الحدود الدنيا فالتربية طالت المجتمع كله وقللت من أنانية الناس وحبهم لأنفسهم فالتكاتف (وحب أخيك المسلم مثلما تحب نفسك) اصبحت هي القاعدة والمعيار في المجتمع. والدولة تقوم بواجبها وحاكم الدولة يضرب النموذج والمثل فلماذا الإثرة وحب الذات؟ يعلمنا التاريخ ان جوهر البشر يميل للخير والتضحية ولكن عند الشعور ان الجميع يفعل كذلك، ويعلمنا التاريخ أن الفرد في هذه المنطقة لا تهمه حياته كثيراً إن شعر أن التضحية بها سيفيد المجموع وهذا الجوهر لم يتغير منذ فجر الاسلام بل انه يتعزز وسيزيد مع الزمن ولن يؤثرفيه إحباط بعض المثقفين قصيري النفس لعجزهم عن إدراك جوهر هذه الامة.
- عندما بدأ مخزون بيت المال بالنفاذ طلب عمر المعونة من عدة مصادر، وعلى سبيل المثال زوده أبو عبيدة بن الجراح بأربعة الاف رأس من البعير. ويبدو أن أبي عبيدة إستعمل مخازن الجيش الشمالي الغربي لتلبية طلب أمير المؤمنين. (أصبح للجيش مخازن وتموين مثل الجيوش الاخرى)
- أوقف جباية الزكاة ذلك العام
- أوقف حد السرقة.
بمثل هذه الخطوات المتخذة كان عدد الموتى بسبب الجوع في الحدود الدنيا خلال ذلك العام. ولن نفكر باعداد الموتى في كارثة كهذه لو لم يكن هناك حكم مركزي وحاكم محب لرعيته. ولن نبتعد في التاريخ كثيراً ونحن نرى المجاعات تحصد ارواحاً لا حصر لها حتى في حاضرنا.
لم يكن سهلاً على عمر القيام بأيقاف جباية الزكاة وايقاف حد السرقة فهو بذلك يمس أسس الشريعة، التي لا يشك أحد في إيمانه بها، ولكن التفكير الحي القائم على التحليل الدقيق للوضع جعله يتخذ هذا القرارات الهامة، وتكمن الأهمية في أنه يعطينا المثل على أن الهدف هو إسعاد الناس أولاً بعد دراسة ظروفهم وتقديرها وإعطائهم العذر دائماً.
ومن المؤكد أن قرارات كهذه لابد وأثارت معارضة قوية من هؤلاء المتزمتين الذين يسيرون وينظرون في إتجاه واحد فهذه هي قدراتهم ولا يملكون غيرها. ولكن من يجرؤ على المزايدة على عمر أو قوة ايمانه. ومن هنا تبدو مساهمة عمر التي لا جدال فيها في صياغة الشريعة الأسلامية.
م ن ق و ل
في هذا العالم العربي الممتد من المحيط الى الخليج هناك حالة طواريء بدون إعلان قائمة منذ زمن طويل.
ليس هناك أي حقوق للمواطن العربي وكل من يرفع رأسه وينطق بكلمة ضد الحكم يذهب الى غياهب السجون وأقل شيء يناله هو الضرب والتعذيب حتى لا يكرر فعلته، إذا فكرت أجهزة الحاكم ان تهمته لا تستحق الإخفاء أو القتل.
لدى كل أنظمة الحكم العربية سجون ومعتقلات سرية وتعمل كمقاول من الباطن لبعض الحكومات الغربية التي يخاف مسؤوليها ان ينكشفوا ويتحملوا تبعات أعمال تعذيب تخالف دساتير بلادهم.
هناك تخويف للشعب كله من الشرطة والأمن وفهم عاجز لمعنى النظام.
هناك تكميم لحرية الصحافة بشكل مباشر أو بزرع الرعب في عقول أصحاب الاقلام الشريفة فلا تستطيع النطق أو الكتابة.
وهناك بالطبع خطب الجمعة المكتوبة من قبل شيوخ السلاطين. خطب لا تخرج مواضيعها عن كيفية إتقان أداء الطقوس مثل كيفية أداء الصلاة أو نواقض الوضوء أو كيفية التعفف وعذاب القبر وترك هذه الدنيا الفانية. (والنتيجة يسرقها السلطان وحاشيته كما يشاء).
مفهوم قوانين الطواريء في العالم كله هي لمساعدة الدولة والمجتمع على تخطي مشكلة او كارثة أما في عالمنا العربي فهي لمساعدة الحاكم على الحكم بدون وجع رأس أو مشاكل تسببها دائماً حفنة بسيطة (ولو جمعت الحفن البسيطة هذه فانها كل القوى الحية في المجتمع، ولكن الحاكم الذكي وأجهزته تقلل من عدد وشأن من يرفع رأسه) من الذين غرر بهم اعداء الوطن والدين والاستقرار والتقدم.
في المحروسة الشقيقة الكبرى يختلف الوضع قليلاً عن باقي الشقيقات فحالة الطواريء معلنة للعالم أجمع.
وهناك سبب لذلك فعندما إستلم السلطة الحاكم الملهم عقد محكمةً هو القاضي والمحامي والجلاد فيها وقرّر معاقبة الشعب كله، فالجريمة كانت كبيرة وهي إعدام سلفه الرئيس المؤمن فأعلن حالة الطواريء العامة في البلاد ولعدد من المؤبدات لا يعلم عددها سوى الله . وقد مضى المؤبد الاول وهو خمسة وعشرين عاماً ويقضي إخواننا في المحروسة المؤبد الثاني من الحكم الصادر ضدهم، كان الله في عونهم.
كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما يمسهم.
لم يكن العام الثامن عشر للهجرة عاماً جيدأ للدولة الاسلامية وخاصة في المناطق الصحراوية فقد إنحبس المطر لمدة طويلة وجفت الينابيع وإرتفعت درجة الحرارة الى معدلات غير طبيعية وصلت الى حد أن لون التراب أصبح أسود فسمي بعام الرمادة.
وكما يحدث في كارثة طبيعية مثل هذه فقد هجر سكان الصحراء أماكن سكناهم وحضروا الى المدن والحواضر الكبيرة يبحثون عن لقمة عيش تسد رمقهم بعد ان بلغ بهم الجوع حداً كبيراً، وصف أحد الرواة الوضع قائلاً أنه حتى الشاة عند ذبحها كانت عظماً ولحماً أحمر غير صالح للأكل.
في وضع كهذا أعلن عمر حالة الطواريء في البلاد وكانت الخطوات التي إتخذها لمواجهة الكارثة على النحو التالي:
- كان اول متضرر من حالة الطواريء هو الخليفة نفسه فقد إمتنع عن أكل اللحم. ولم يأكل سوى الخبز ونوع واحد من الزيت (الإدام) طيلة مدة الكارثة البالغة تسعة اشهر وقال كلمته الشهيرة : كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما يمسهم.
حدثت طرفة بسيطة لابد من روايتها: حضر احد الموفدين (ويبدو انه لا يعرف عمر جيداً) من منطقة بعيدة في رسالة لعمر وحضر الطعام المكوّن من اللحم والمرق والخبز وعرض عليه الناس مشاركتهم، فكر الرجل إذا كان هذا طعام الناس فمن المرجح ان طعام الخليفة ألذ وأشهى فقال لا ، سآكل مع الخليفة. حضر طعام الخليفة المكون من الخبز ونوع واحد من الزيت،
إستغرب الرجل وقال : ما هذا يا أمير المؤمنين؟
رد عليه عمر: هذا طعامي وذاك طعام المسلمين! فما كان من الرجل الا النهوض بسرعة قائلاً: أعذرني يا أمير المؤمنين علي ان ألحق بطعام المسلمين!
- سخّر بيت المال وما فيه لمواجهة الكارثة، وقد روي ان مائدة الطعام المكونة من لحم البعير في إحدى الحواضر أطعمت سبعة الاف فرد أما في المدينة فكانت لعشرة الاف، وكان يسمح للناس بان يأخذوا ما يحتاجون لأهلهم.
هذه معلومات بسيطة وصلتنا عن المجاعة ومن المؤكد ان موائد الطعام كانت في أكثر من حاضرة أو مكان تجمع. ما لم يقله الرواة أنه لم يكن هناك تزاحم على الموائد او فوضى ويستطيع المرء أن يأخذ ما يريد لأهله ولكن هل أخذ أحد أكثر من حاجته؟ ربما ولكن في الحدود الدنيا فالتربية طالت المجتمع كله وقللت من أنانية الناس وحبهم لأنفسهم فالتكاتف (وحب أخيك المسلم مثلما تحب نفسك) اصبحت هي القاعدة والمعيار في المجتمع. والدولة تقوم بواجبها وحاكم الدولة يضرب النموذج والمثل فلماذا الإثرة وحب الذات؟ يعلمنا التاريخ ان جوهر البشر يميل للخير والتضحية ولكن عند الشعور ان الجميع يفعل كذلك، ويعلمنا التاريخ أن الفرد في هذه المنطقة لا تهمه حياته كثيراً إن شعر أن التضحية بها سيفيد المجموع وهذا الجوهر لم يتغير منذ فجر الاسلام بل انه يتعزز وسيزيد مع الزمن ولن يؤثرفيه إحباط بعض المثقفين قصيري النفس لعجزهم عن إدراك جوهر هذه الامة.
- عندما بدأ مخزون بيت المال بالنفاذ طلب عمر المعونة من عدة مصادر، وعلى سبيل المثال زوده أبو عبيدة بن الجراح بأربعة الاف رأس من البعير. ويبدو أن أبي عبيدة إستعمل مخازن الجيش الشمالي الغربي لتلبية طلب أمير المؤمنين. (أصبح للجيش مخازن وتموين مثل الجيوش الاخرى)
- أوقف جباية الزكاة ذلك العام
- أوقف حد السرقة.
بمثل هذه الخطوات المتخذة كان عدد الموتى بسبب الجوع في الحدود الدنيا خلال ذلك العام. ولن نفكر باعداد الموتى في كارثة كهذه لو لم يكن هناك حكم مركزي وحاكم محب لرعيته. ولن نبتعد في التاريخ كثيراً ونحن نرى المجاعات تحصد ارواحاً لا حصر لها حتى في حاضرنا.
لم يكن سهلاً على عمر القيام بأيقاف جباية الزكاة وايقاف حد السرقة فهو بذلك يمس أسس الشريعة، التي لا يشك أحد في إيمانه بها، ولكن التفكير الحي القائم على التحليل الدقيق للوضع جعله يتخذ هذا القرارات الهامة، وتكمن الأهمية في أنه يعطينا المثل على أن الهدف هو إسعاد الناس أولاً بعد دراسة ظروفهم وتقديرها وإعطائهم العذر دائماً.
ومن المؤكد أن قرارات كهذه لابد وأثارت معارضة قوية من هؤلاء المتزمتين الذين يسيرون وينظرون في إتجاه واحد فهذه هي قدراتهم ولا يملكون غيرها. ولكن من يجرؤ على المزايدة على عمر أو قوة ايمانه. ومن هنا تبدو مساهمة عمر التي لا جدال فيها في صياغة الشريعة الأسلامية.
م ن ق و ل