إنتعاش
09-08-2009, 07:04 AM
من المتوقع أن يكون للأزمة الاقتصادية التي نمر بها حاليا تبعات وتغيرات سيكون لها تأثيرها الكبير في حياتنا, وهي أزمة ستغير كثيرا من أساليب حياتنا وفي مجالاتها الاجتماعية والاقتصادية حتى السياسية. وهو تأثير سيستمر معنا ولن نعود إلى أسلوب حياتنا السابق.
ورب ضارة نافعة وقد تكون تغيرا للأفضل. هي فرصة لنا لإعادة النظر في مسار حياتنا السابق الذي يشوبه كثير من الإسراف والتبذير ومحاولة تصحيح أسلوب حياتنا للأفضل أو الأكثر حكمة, خاصة في الطريقة التي نمارسها في بناء مساكننا التي ما زالت تمر بحالة من الفوضى الفكرية التي تأثرت ببعض العادات والتقاليد والنفاق الاجتماعي والتنافس بين الأقارب والأصدقاء, وهي حالة تمر بها معظم المجتمعات, ولكن في وقت مبكر من التطور الحضري والعمراني, فالمساكن منذ عرفها الإنسان تطورت من كهف وتطورت حتى وصلت إلى مرحلة القصور الضخمة في أوروبا ثم رجعت اليوم إلى وحدات سكنية صغيرة وموحدة المواصفات تحقق رغبات من يسكنها وبقناعة ودون إسراف, وأصبح حتى الأثرياء ورؤساء كبريات الشركات يسكنون في شقق أو وحدات سكنية لا تتعدى 100 متر.
ومع أن الظاهرة التي نعيشها ظاهرة معروفة وتفسرها نظرية دورة حياة المنتج كما يعرفها علم الاقتصاد, التي سبق أن أشرت إليها في مقالات سابقة. نحن في المجتمع السعودي ما زلنا متأخرين عن غيرنا كثيرا في تصاميم منازلنا, في الوقت الذي وصل العالم فيه إلى مرحلة متقدمة من المواصفات والتصاميم الموحدة والقياسية, حتى أصبحت نماذج ومساحات المساكن تقريبا متماثلة ونموذجية ودون إسراف, فكلها تقريبا تستعمل مواصفات الحوائط الخفيفة والدهان والسيراميك العادي الأبيض أو الطوب المكحل أحيانا وابتعدوا كثيرا عن التباهي والمحاكاة, حتى أصبحت مقايسات ونماذج الأبواب والنوافذ والحوائط والستائر موحدة ويمكن لرب العائلة شراؤها من أقرب متجر حوله وتركيبها بنفسه في عطلة نهاية الأسبوع. وتمتد مجمعات سكنية مكونة من عديد من الوحدات الصغيرة المتلاصقة والمتشابهة, ويتشاركون في حديقة واحدة وسط الحي, بل إن عدد العمالة التي يحتاج إليها لبناء الوحدة ربما لا يتعدى خمسة أشخاص أحيانا, وهي بداية الحل لمشكلة الإسكان والمسكن الميسر وجعله في متناول الجميع.
وإن كنا لا نستغرب كمية الإسراف في مساحات ومواد البناء التي نستعملها في بناء مبانينا, خاصة المنازل, فهذا أمر عجيب. فكثير يلاحظ ذلك. بل إن معظم المهندسين والخبراء الأجانب الذين يزورونا يستغربون تلك الكميات والإسراف في المساحات ومواد البناء لمنازلنا. فنحن نسرف في المساحات وكميات الحديد والأسمنت والخرسانات للأحواش والحدائق وسماكات الحوائط وارتفاعات الأسقف والأسطح. وفي الوقت الذي يعد فيه المعدل العالمي للدور الأرضي أو الشقة للعائلة في حدود 80 إلى 100 متر مربع لمتوسطي الدخل، نجد أن معدلنا يصل إلى عشرات الأضعاف. فنحن لدينا مساحات أكثر من احتياجنا. والأسوأ من ذلك أننا نضطر إلى دفع فاتورة كهرباء عالية لتكييفها, بل إننا نشتكي من تكاليف فواتير الكهرباء ونساعد على الاستهلاك الأكبر لمحطات الكهرباء ما يسبب الانقطاعات ومع ذلك لا نفكر في المساهمة في تخفيض الأحمال. ونبني ونؤثث المجالس ليس للتمتع بها بل للضيوف ونحن لا يليق بنا إلا الملحق الخارجي. وغرفة النوم ليست للنوم كما يستعملها العالم، بل هي لكل شيء النوم والقراءة والأكل والشرب واستقبال الضيوف, ونوافذ غرف النوم أكثر وأكبر من نوافذ المجالس. حماماتنا أكبر مما يجب, خاصة ما يقوم به بعضهم من وضع بانيو ودوش لحمام الرجال والنساء, الذي يندر استعماله. نبني مجالس استقبال الضيوف ونفرشها بأغلى أثاث ولا نستعملها بل نستقبل ضيوفنا في الملحق الخارجي حتى تصبح قديمة ويتغبر الأثاث الغالي وتأكله الحشرات دون أن يستعمل. ولا أدري عندما يستقبلني بعضهم في الملحق، ولماذا لا يستقبلني في مجلسه .. هل أنا أقل من المستوى؟
والإسراف يتمثل في استعمالنا مواصفات أكثر من اللازم, فالأسقف عادة نجدها أسمك من اللازم, وكميات الحديد والأسمنت مبالغ فيها. ومع ارتفاع أسعار مواد البناء لا بد من الاهتمام بعمل حسابات إنشائية أكثر دقة, فمثلا استعمال الأسقف العالية فيه زيادة في مواد البناء للحوائط والأسقف ومن ثم تكلفة التكييف والإنارة. ولماذا نستعمل طوب( بلك) 20 و15 سنتيمتراً, بينما يمكن استعمال بلك عشرة سنتيمترات, خاصة للحوائط الداخلية التي فيها القليل من التمديدات الكهربائية والصحية. إن توفير عشرة سنتيمترات في عرض كل حائط يصغر عرض المنزل ما بين نصف إلى متر على الأقل. أي يعطي اتساعا للغرف والمنزل. ويمكن التوفير في كميات الخرسانة التي نستعملها للمشايات والأحواش. كما أن سماكة الأبواب عالميا في حدود سنتيمترين بينما لدينا لا تقل عن خمسة سنتيمترات! ضعف كمية الخشب والتكلفة. وكذلك الحال لسماكة قطاعات الألمنيوم والزجاج فهي ضعف السماكة العالمية. بينما استعمال أبواب ونوافذ وستائر بمواصفات ومقايسات موحدة (ستنادرد) أو جاهزة يوفر كثيرا ويساعد على المرونة لتغير الأبواب مع بعضها.
وإحدى العادات التي ما زال البعض يتبعها هي بناء غرفة للضيف! مع أنني من خبرتي في هذا المجال أراها تتحول إلى مستودع، فالناس لم تعد تنام عند الأقارب أو الأصدقاء, فهم يفضلون فندقا أو شقة مفروشة, وأم الزوجة أو الزوج تنام عادة مع الأبناء وكذلك الآباء, وقد يكون ذلك أفضل تربويا ويسبب نوعا من التواصل والربط الاجتماعي بين الجدة والأبناء.
الأزمة الاقتصادية قد تكون ضارة نافعة, ولكنها فرصة لنا في التفكير في التغيير المدروس والمخطط له لتغيير أساليب الإسراف التي نعيشها قبل أن تغيرنا غصب عتا أو بغير طوعنا. من المؤكد أنها فرصتنا اليوم لنستفيد من الأزمة وتسخير البحث العلمي لتفسير أو استشفاف مستقبلنا وعلى الأقل مستقبل الوحدات السكنية في بلدنا, فنحن ما زلنا متأخرين في السبق للوصول إلى مرحلة النضج العمراني, ود نستغرق عقودا من الزمن لحين الوصول إلى مرحلة النضج والتوحيد للمقايسات والنماذج (ستاندرد). لقد مررنا بمرحلة لم يكن المواطن السعودي يرضى بالسكن في غير فيلا, ثم تغير الوضع بعد سنوات وأصبح يرضى بالفلل المتلاصقة ولكن ليس بالشقة, وأخيرا رضي بالشقة ولكن كبيرة وفخمة وبمواصفات متميزة .. فمتى نصل إلى مرحلة النضج في منازلنا؟ والنضج في التوفير على أنفسنا ومقدراتنا ومقدرات الوطن. وأن نترك الإسراف والتباهي الزائف, خاصة لمن يشتكون من عدم القدرة على الحصول على سكن أو من يطالب بالإسكان الميسر.
د. عبد الله إبراهيم الفايز
* نقلاً عن جريدة "الاقتصادية".
ورب ضارة نافعة وقد تكون تغيرا للأفضل. هي فرصة لنا لإعادة النظر في مسار حياتنا السابق الذي يشوبه كثير من الإسراف والتبذير ومحاولة تصحيح أسلوب حياتنا للأفضل أو الأكثر حكمة, خاصة في الطريقة التي نمارسها في بناء مساكننا التي ما زالت تمر بحالة من الفوضى الفكرية التي تأثرت ببعض العادات والتقاليد والنفاق الاجتماعي والتنافس بين الأقارب والأصدقاء, وهي حالة تمر بها معظم المجتمعات, ولكن في وقت مبكر من التطور الحضري والعمراني, فالمساكن منذ عرفها الإنسان تطورت من كهف وتطورت حتى وصلت إلى مرحلة القصور الضخمة في أوروبا ثم رجعت اليوم إلى وحدات سكنية صغيرة وموحدة المواصفات تحقق رغبات من يسكنها وبقناعة ودون إسراف, وأصبح حتى الأثرياء ورؤساء كبريات الشركات يسكنون في شقق أو وحدات سكنية لا تتعدى 100 متر.
ومع أن الظاهرة التي نعيشها ظاهرة معروفة وتفسرها نظرية دورة حياة المنتج كما يعرفها علم الاقتصاد, التي سبق أن أشرت إليها في مقالات سابقة. نحن في المجتمع السعودي ما زلنا متأخرين عن غيرنا كثيرا في تصاميم منازلنا, في الوقت الذي وصل العالم فيه إلى مرحلة متقدمة من المواصفات والتصاميم الموحدة والقياسية, حتى أصبحت نماذج ومساحات المساكن تقريبا متماثلة ونموذجية ودون إسراف, فكلها تقريبا تستعمل مواصفات الحوائط الخفيفة والدهان والسيراميك العادي الأبيض أو الطوب المكحل أحيانا وابتعدوا كثيرا عن التباهي والمحاكاة, حتى أصبحت مقايسات ونماذج الأبواب والنوافذ والحوائط والستائر موحدة ويمكن لرب العائلة شراؤها من أقرب متجر حوله وتركيبها بنفسه في عطلة نهاية الأسبوع. وتمتد مجمعات سكنية مكونة من عديد من الوحدات الصغيرة المتلاصقة والمتشابهة, ويتشاركون في حديقة واحدة وسط الحي, بل إن عدد العمالة التي يحتاج إليها لبناء الوحدة ربما لا يتعدى خمسة أشخاص أحيانا, وهي بداية الحل لمشكلة الإسكان والمسكن الميسر وجعله في متناول الجميع.
وإن كنا لا نستغرب كمية الإسراف في مساحات ومواد البناء التي نستعملها في بناء مبانينا, خاصة المنازل, فهذا أمر عجيب. فكثير يلاحظ ذلك. بل إن معظم المهندسين والخبراء الأجانب الذين يزورونا يستغربون تلك الكميات والإسراف في المساحات ومواد البناء لمنازلنا. فنحن نسرف في المساحات وكميات الحديد والأسمنت والخرسانات للأحواش والحدائق وسماكات الحوائط وارتفاعات الأسقف والأسطح. وفي الوقت الذي يعد فيه المعدل العالمي للدور الأرضي أو الشقة للعائلة في حدود 80 إلى 100 متر مربع لمتوسطي الدخل، نجد أن معدلنا يصل إلى عشرات الأضعاف. فنحن لدينا مساحات أكثر من احتياجنا. والأسوأ من ذلك أننا نضطر إلى دفع فاتورة كهرباء عالية لتكييفها, بل إننا نشتكي من تكاليف فواتير الكهرباء ونساعد على الاستهلاك الأكبر لمحطات الكهرباء ما يسبب الانقطاعات ومع ذلك لا نفكر في المساهمة في تخفيض الأحمال. ونبني ونؤثث المجالس ليس للتمتع بها بل للضيوف ونحن لا يليق بنا إلا الملحق الخارجي. وغرفة النوم ليست للنوم كما يستعملها العالم، بل هي لكل شيء النوم والقراءة والأكل والشرب واستقبال الضيوف, ونوافذ غرف النوم أكثر وأكبر من نوافذ المجالس. حماماتنا أكبر مما يجب, خاصة ما يقوم به بعضهم من وضع بانيو ودوش لحمام الرجال والنساء, الذي يندر استعماله. نبني مجالس استقبال الضيوف ونفرشها بأغلى أثاث ولا نستعملها بل نستقبل ضيوفنا في الملحق الخارجي حتى تصبح قديمة ويتغبر الأثاث الغالي وتأكله الحشرات دون أن يستعمل. ولا أدري عندما يستقبلني بعضهم في الملحق، ولماذا لا يستقبلني في مجلسه .. هل أنا أقل من المستوى؟
والإسراف يتمثل في استعمالنا مواصفات أكثر من اللازم, فالأسقف عادة نجدها أسمك من اللازم, وكميات الحديد والأسمنت مبالغ فيها. ومع ارتفاع أسعار مواد البناء لا بد من الاهتمام بعمل حسابات إنشائية أكثر دقة, فمثلا استعمال الأسقف العالية فيه زيادة في مواد البناء للحوائط والأسقف ومن ثم تكلفة التكييف والإنارة. ولماذا نستعمل طوب( بلك) 20 و15 سنتيمتراً, بينما يمكن استعمال بلك عشرة سنتيمترات, خاصة للحوائط الداخلية التي فيها القليل من التمديدات الكهربائية والصحية. إن توفير عشرة سنتيمترات في عرض كل حائط يصغر عرض المنزل ما بين نصف إلى متر على الأقل. أي يعطي اتساعا للغرف والمنزل. ويمكن التوفير في كميات الخرسانة التي نستعملها للمشايات والأحواش. كما أن سماكة الأبواب عالميا في حدود سنتيمترين بينما لدينا لا تقل عن خمسة سنتيمترات! ضعف كمية الخشب والتكلفة. وكذلك الحال لسماكة قطاعات الألمنيوم والزجاج فهي ضعف السماكة العالمية. بينما استعمال أبواب ونوافذ وستائر بمواصفات ومقايسات موحدة (ستنادرد) أو جاهزة يوفر كثيرا ويساعد على المرونة لتغير الأبواب مع بعضها.
وإحدى العادات التي ما زال البعض يتبعها هي بناء غرفة للضيف! مع أنني من خبرتي في هذا المجال أراها تتحول إلى مستودع، فالناس لم تعد تنام عند الأقارب أو الأصدقاء, فهم يفضلون فندقا أو شقة مفروشة, وأم الزوجة أو الزوج تنام عادة مع الأبناء وكذلك الآباء, وقد يكون ذلك أفضل تربويا ويسبب نوعا من التواصل والربط الاجتماعي بين الجدة والأبناء.
الأزمة الاقتصادية قد تكون ضارة نافعة, ولكنها فرصة لنا في التفكير في التغيير المدروس والمخطط له لتغيير أساليب الإسراف التي نعيشها قبل أن تغيرنا غصب عتا أو بغير طوعنا. من المؤكد أنها فرصتنا اليوم لنستفيد من الأزمة وتسخير البحث العلمي لتفسير أو استشفاف مستقبلنا وعلى الأقل مستقبل الوحدات السكنية في بلدنا, فنحن ما زلنا متأخرين في السبق للوصول إلى مرحلة النضج العمراني, ود نستغرق عقودا من الزمن لحين الوصول إلى مرحلة النضج والتوحيد للمقايسات والنماذج (ستاندرد). لقد مررنا بمرحلة لم يكن المواطن السعودي يرضى بالسكن في غير فيلا, ثم تغير الوضع بعد سنوات وأصبح يرضى بالفلل المتلاصقة ولكن ليس بالشقة, وأخيرا رضي بالشقة ولكن كبيرة وفخمة وبمواصفات متميزة .. فمتى نصل إلى مرحلة النضج في منازلنا؟ والنضج في التوفير على أنفسنا ومقدراتنا ومقدرات الوطن. وأن نترك الإسراف والتباهي الزائف, خاصة لمن يشتكون من عدم القدرة على الحصول على سكن أو من يطالب بالإسكان الميسر.
د. عبد الله إبراهيم الفايز
* نقلاً عن جريدة "الاقتصادية".