المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الخفقات المنسيه" الكاتبه السعوديه نوره الخاطر



قطرى مزمن
19-08-2009, 04:14 PM
الخفقات المنسية

وجودنا على هذه الأرض محكوم بمسارات ومسارب الأزمنة والأمكنة, تنبع حياتنا من أرحام الأمهات لتصبّ في باطن الأرض, ونحن على هذه المسارات مبعثرون.
تحكمنا الأقدار لا نستطيع التقدّم ولا التأخر, لا نستطيع الإسراع أو التباطؤ. هكذا قُدّر لنا وهكذا سنبقى, وهكذا حدّثت نفسها وهي تتأمله, وهو في مسار مختلف عن مسارها, وإن كان متوازياً معه إلا أن الأقدار شاءت ألاّ يلتقيا..
كتبت له ذات عمر يلفّه القلق:من هنا أكتب لك,حيث امتدت يدي إلى القلم أعبث بأوراقي فوجدت القلب يفيض برسائل شوق منسيّة, كنت خبّأتها إلى حين لقائك.ولكن الأقدار أقسمت ألا نلتقي إلا على أرصفة الكلمات, وضفاف الأحبار، ومساحات الورق, بين سطور الروايات, ومفردات القصائد, ومعاني الهمسات, كم هي أرض الواقع ضيقة جداً ليست رحبة واسعة كأرض الخيال.عندما تصلك رسالتي هذه سأكون قد هربت إلى( مستشفى الصحة النفسية) لربما أجد السكون والراحة,والعزلة التي تجعلني أتحدث معك عبر رسائلي من غير أن يزعج راحتي صوت يأمر أو ينهى, أو يتطفل أحد على خصوصياتي، ويقلق وجودك معي, أعرف أنك تفهمني، ولذلك أكتب لك، وأنت في المسار الآخر تشبه قمراً تتبعه نجمة صغيرة لا تكاد تبين، لعلها تقتبس من نوره ضوءاً خافتاً يمدّها بالحياة علّها تقدر على الصمود, ومواجهة الأعاصير)عندما نشر النوم هواجسه حول فكري, ما عدْت قادرة على ترتيب أفكاري نهضت إلى السرير، وأخذت معي القلم والأوراق الشفافة,الزرقاء ووضعتها تحت وسادتي لأعاود الكتابة إليك عندما أعاود ترتيب أفكاري ثانية بعد الإفاقة من رحلة النوم في صباح الغد مع تغريد العصافير. نهضت من سريري فجراً كانت النافذة مفتوحة, والستائر تطير بهدوء مثير مع نسمات الهواء, وأصوات العصافير في شجرة(السّدر) تثير الفرح في صدري, دسست أناملي تحت الوسادة بحذر جميل تلمّست يداي( كنزي الصغير) القلم والأوراق التي وضعتها ليلة أمس تحت وسادتي, أمسكت بها بشوق عارم لأعيد قراءتها, وأعيد ترتيب أشواقي إليك يا أمير كلماتي, وملك حرفي, فتحت الأوراق المطوية, فأصابتني الدهشة, وملأتني الغرابة, لقد كانت الرسالة التي بين يدي رسالة منك, وبذات اللون المفضّل لكلينا, مكتوبة بخطك, أعرف أسلوبك، وأميّز شوقك وحرارة حروفك:أنتِ كيف وصلني حنينكِ, وشوقكِ كيف عبرتِ المسارات, وأودية الرهبة؟ وكيف وصلتِ هنا حيث الأفكار ترفع راية الاستسلام, وتسجد للأقوى؟
نصوصك من أي شجرة مسحورة قطفت كلماتها, لتورق في قلبي؟ أتراك عثرت فجأة على مفتاح مدينة عبقر ملك الجن المختفي في عالم الغيب منذ أزمنة؟ أتراه لامس شفتيك بمس إبداع سحري جعلك تجيدين نظم عقود لآلئ اللغة في قصائد تنقلنا على مراكب الدهشة إلى مدائن الحلم الشهيّ والخيال المشتهى؟ حيث نُخلق من جديد كائنات شفافة لا تقبل الظلام ولا ترى بالعين المجرّدة وحيث نعيد صياغة أفكارنا الصدئة ،وتعاود قلوبنا نداء الرغبة، ووله (الخفقات المنسيّة)
حين انتهيت من قراءة الرسالة, ارتسمت على شفتي همهمة خفيّة لا أدري سرّها, وفي عيني علامات تعجّب, وألف سؤال حائر: كيف وصلت هذه الرسالة إلى هنا؟!! في هذا المكان بالذات ومن غير أن أشعر؟ ومن الذي فتح النافذة؟ لاحظت أن أحد العصافير غريب اللون والشكل, يقف قريباً جداً من إطار النافذة, يرفع صوته بتغريد جميل وفي عينيه نظرة حب غريب, وكأنه يخبرني بأنه هو من حمل إليّ هذه الرسالة, وهو من أوصل رسالتي أمس إليك, ولديه القدرة على حمل رسائل الحب الصادق, فقد كان قبل موته (قهراً) في هذه المصحة منذ سنين,شاباً رقيقاً لديه الكثير من الأفكار المبدعة, وأديباً مبدعاً يملك الكثير من إبداعات (رسائل الحب) التي كان يكتبها لأصدقائه, كان يتمنى أن يوصلها إلى أصحابها,غير أنه مات فلم تصل الرسائل, فتحوّلت روحه إلى طائر غريب, مغرّد ينشر الحب والطمأنينة حول إطارات النوافذ القلقة, المقهورة, ويحمل نغمات الأشواق إلى أصحابها, على المسارات المختلفة.
غمزني بإحدى عينيه, وخلته ابتسم, فابتسمت له مما جعله يرفرف بجناحيه, ويدور بحركات راقصة مغتبطاً؛ لأني فهمت ما يريد تبليغه لي..الآن أدركت أنا أيضاً أنت (الطائر المغرد)؟ أنت هو؟ ثم صرخت بقوة(....) يا أجمل شاب في قريتنا البعيدة,أذكر أنهم أخذوك إلى مستشفى الصحة النفسيّة, بدعوى أنك أصبت بالفِصام؛ لأنك صوت الحب في تلك الكهوف المخيفة؛ لأنك حاولت اقتلاع الحجارة الضخمة التي تسدّ منابع الأنهار العذبة, وتمنعها من الجريان في جداول الحب؛ لأنك أردت أن تزرع الحقول بالسلام والقمح..
أذكر جيداً تلك الأيام, لقد كنت شاباً مبدعاً,ورمزاً لأحلام كل صبايا القرية, وأنا كنت إحداهن, أذكر الأحداث جيداً، وكأنها الآن, أذكر ملامح أغلب الفتيات اللواتي بعد رحيلك عن قريتنا للمصحة, أقصد للسجن فقدن كل الرغبات التي تحرّضهن على مواصلة الحياة, وعلى البقاء, وخاصة رغبة الزواج, فقد تأخرت سن الزواج جداً في قريتنا البسيطة, وعندما يُسألن عن سبب عزوفهن عن الزواج, يجبن بأسًى: لا نرى رجالاً في القرية, لم يتقدّم لنا رجل واحد, كان هنا رجل واحد ثم رحل. وأنهن قد ينتظرن أزمنة طويلة قبل أن يبشّرن بولادة رجل آخر مثل الذي رحل, وقد تلبث النساء أجيالاً حتى يتذكرْن كيف يلدْن الرجال من أصلاب الرسالات, وقبل أن يُولد رجل مثلك يا((...
لم تهاجر الأرواح الجميلة من الأجساد الآدميّة, لتسكن في مخلوقات أخرى؟ حيث تمارس إنسانيّتها وعطاءها بلا حدود، الإنسان المبدع الجميل وحده يموت عندما يصيبه اليأس من تحقيق أحلامه, أمنياته, وقد تتحول روحه إلى غيمة ممطرة بالخير تبعث الحياة أيّان اتّجهت, وقد تتحوّل إلى طائر جميل, مبدع, مغرّد ينشد الحب بجانب النوافذ المعذبة, كما فعلت أنت, وكما ستكون روحي بعد أن تفارق جسدي, فلا قدرة لي على الحياة في عالم تسكنه الأجساد العفنة. عند سماعه لكلامي فاضت دمعة من عينيه, وأطرق رأسه قليلاً بأسًى ثم رفعه برجاء للسماء في محاولة للبحث عن معبر يأخذه لأرض السلام المنشود, وفجأة غمرتنا غيمة تبعث الحياة أنّى أمطرت.

نورة الخاطر/الدمام