عبدالله العذبة
31-08-2009, 12:49 AM
الكاتب المزوَّر
لعل من نافلة القول أن القراءة تسبق الكتابة فليس بوسع من لم يقرأ أن يكتب..
لكن القراءة التي أقصدها هي ذلك المعدل التراكمي أو الرصيد المتاح من مطالعة الكتب ومعايشة الأحداث وسبر ما ورائياتها.
هنا تكون الكتابة استدعاء لذلك المخزون الثقافي لتسليط الضوء على فكرة يراها الكاتب جديرة بالرصد، تلك الفكرة التي تمثل الجديد بالنسبة لصاحب المقال وليس ما يسوقه من معلومات لتوضيحها أو الطريقة التي يسلكها في سبيل عرضها، دون ضرورة الرجوع إلى المصادر إلا لتوثيق بعض التفاصيل التي يسهم سَوْقها في تعزيز نتيجة يستهدفها الكاتب..
ما عدا ذلك ليس من الكتابة في شيء فالفرق شاسع بين من يكتب رأياً ومن يحضّر لدرس.
إن كثيرا من كتابنا لا يملكون الرصيد الكافي من المعرفة لكتابة آرائهم، بل ربما لا يملكون آراء في الأصل، إنما هي عملية إبحار في شبكة الإنترنت عبر محرك غوغل للبحث عن موضوع للكتابة ثم إعادة البحث عما كتب حول الموضوع لتبدأ بعدها عملية النسخ واللصق, فيأتي المقال وقد تفرق دمه بين عشرات المواقع.
ولعل هذا وراء غياب المفيد في الكثير من المقالات, حيث لا تلمس فكرا ولا تحس كاتبا لأنه ببساطة لا وجود لأي منهما, فالكاتب «المقتدر» لم يقم إلا بعملية تركيب سيئة للقطع -الفقرات- غير المتجانسة، كأنك أمام سلعة صنع جزء منها في فرنسا والثاني في الصين وآخر في وزيرستان وتم تجميع الأجزاء وتركيبها في موزمبيق.
الكاتب هنا يمثل دور موزمبيق.
إني لا أبالغ، لقد قرأت لأحد هؤلاء العظماء مقالاً بدايته كانت ركيكة وخالية من أي قيمة كان صاحبها يقول ما لا يريد ويترك قول ما يريد.
تابعت قراءة المقال فعثرت على فقرة في منتهى الإحكام لكنها موغلة في العمق.
مفاهيم حقوقية نظرية وأخرى فلسفية ومفردات لا مرادفة لها في لغتنا المعاشة, أحسست أني أقرأ لمحمد أركون الذي لا أفهم شيئا مما يقوله.
لكن أركون توقف فلم يطل على غير عادته واستلم قيادة المقال أحد المشايخ فإذا بي أنصت لخطبة جمعة.
كان الشيخ يحاول أن يبدو مستنيراً لكنه أقحم نفسه في مفاهيم حداثية لم تسعفه مداركه المعرفية في تناولها فكان لزاما عليه التوقف فانتهى المقال..
أصابتني الحيرة: هل الكاتب العظيم هو أركون، أم الشيخ الطيب، أم صاحب المقدمة الركيكة؟
هنا يتخلى غوغل عن الزبائن فيقدمهم قرابين لفاضحيهم عند أول نقرة.
وجدت الفقرة الموغلة في الفلسفة بكاملها -حتى الأخطاء الطباعية- منشورة ضمن كتاب لأحد سدنة الفكر المدني الحديث, وفي الخطوة الثانية وجدت كلام الشيخ دون تحريف إلى أن قال: يغفر الله لنا ولكم, فمن هو كاتب المقال إذن؟ إنه صاحب المقدمة الضعيفة.
إن اعتماد أدعياء الكتابة على قراءة غير متأنية لما ينشر في الشبكة العنكبوتية قد يوقع المؤسسات الإعلامية في حرج كبير, فليس من المستبعد أن تتعطل محركات البحث ولا يفي أصحاب الأقلام المزورة بالتزاماتهم، ويبقى على تلك المؤسسات أن تطلب المعذرة من قرائها حتى إشعار آخر، سيكون صباحا غريبا أن تطبع الجرائد دون صفحات الرأي, لكنه احتمال قائم ما لم تنحسر هذه الموضة.
ما يهمّني هو أن أنبه إلى أن الكتابة ليست تلك المهنة التي يزاولها أي من كان وفي أي ظرف، إنما يجب وجود فكر ناضج يملك صاحبه أسلوبا يمكّنه من عرض ما يعتمل بداخله على القراء، وذاك يعني أن على كثير من أقوامنا أن يسلكوا طرائق أخرى بعيدا عن القلم فبإمكانهم تحقيق ذواتهم دون أن يسيئوا للكتابة وجمهور القراء.
كما أذكّر أرباب الأعمدة بأن الطريقة السهلة التي يكتبون بها هي ذاتها التي يُكشفون بها فما يخادعون إلا أنفسهم.
لكن الأهم من ذلك كله أن تحُول السلطات المعنية دون هذا الاستغلال السيئ لمصادر المعرفة، واستسهال الكتابة على عجل.
لا بد أن تكون هناك عقوبة رادعة فإن لم يكن قطع الأيدي الذي هو حد السرقة فلا أقل من 40 جلدة, فما زال الغرب يتغاضى عن تلك العقوبة.
وأخيرا أتمنى من المؤسسات الإعلامية مراقبة كتابها احتراما لسمعة المؤسسة وقرائها وحتى لو استدعى الأمر استحداث قسم لـ «غوغلة» المقالات.
بقلم : سيد أحمد الخضر
المصدر العرب 29-8-2009 http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=95363&issueNo=616&secId=15
لعل من نافلة القول أن القراءة تسبق الكتابة فليس بوسع من لم يقرأ أن يكتب..
لكن القراءة التي أقصدها هي ذلك المعدل التراكمي أو الرصيد المتاح من مطالعة الكتب ومعايشة الأحداث وسبر ما ورائياتها.
هنا تكون الكتابة استدعاء لذلك المخزون الثقافي لتسليط الضوء على فكرة يراها الكاتب جديرة بالرصد، تلك الفكرة التي تمثل الجديد بالنسبة لصاحب المقال وليس ما يسوقه من معلومات لتوضيحها أو الطريقة التي يسلكها في سبيل عرضها، دون ضرورة الرجوع إلى المصادر إلا لتوثيق بعض التفاصيل التي يسهم سَوْقها في تعزيز نتيجة يستهدفها الكاتب..
ما عدا ذلك ليس من الكتابة في شيء فالفرق شاسع بين من يكتب رأياً ومن يحضّر لدرس.
إن كثيرا من كتابنا لا يملكون الرصيد الكافي من المعرفة لكتابة آرائهم، بل ربما لا يملكون آراء في الأصل، إنما هي عملية إبحار في شبكة الإنترنت عبر محرك غوغل للبحث عن موضوع للكتابة ثم إعادة البحث عما كتب حول الموضوع لتبدأ بعدها عملية النسخ واللصق, فيأتي المقال وقد تفرق دمه بين عشرات المواقع.
ولعل هذا وراء غياب المفيد في الكثير من المقالات, حيث لا تلمس فكرا ولا تحس كاتبا لأنه ببساطة لا وجود لأي منهما, فالكاتب «المقتدر» لم يقم إلا بعملية تركيب سيئة للقطع -الفقرات- غير المتجانسة، كأنك أمام سلعة صنع جزء منها في فرنسا والثاني في الصين وآخر في وزيرستان وتم تجميع الأجزاء وتركيبها في موزمبيق.
الكاتب هنا يمثل دور موزمبيق.
إني لا أبالغ، لقد قرأت لأحد هؤلاء العظماء مقالاً بدايته كانت ركيكة وخالية من أي قيمة كان صاحبها يقول ما لا يريد ويترك قول ما يريد.
تابعت قراءة المقال فعثرت على فقرة في منتهى الإحكام لكنها موغلة في العمق.
مفاهيم حقوقية نظرية وأخرى فلسفية ومفردات لا مرادفة لها في لغتنا المعاشة, أحسست أني أقرأ لمحمد أركون الذي لا أفهم شيئا مما يقوله.
لكن أركون توقف فلم يطل على غير عادته واستلم قيادة المقال أحد المشايخ فإذا بي أنصت لخطبة جمعة.
كان الشيخ يحاول أن يبدو مستنيراً لكنه أقحم نفسه في مفاهيم حداثية لم تسعفه مداركه المعرفية في تناولها فكان لزاما عليه التوقف فانتهى المقال..
أصابتني الحيرة: هل الكاتب العظيم هو أركون، أم الشيخ الطيب، أم صاحب المقدمة الركيكة؟
هنا يتخلى غوغل عن الزبائن فيقدمهم قرابين لفاضحيهم عند أول نقرة.
وجدت الفقرة الموغلة في الفلسفة بكاملها -حتى الأخطاء الطباعية- منشورة ضمن كتاب لأحد سدنة الفكر المدني الحديث, وفي الخطوة الثانية وجدت كلام الشيخ دون تحريف إلى أن قال: يغفر الله لنا ولكم, فمن هو كاتب المقال إذن؟ إنه صاحب المقدمة الضعيفة.
إن اعتماد أدعياء الكتابة على قراءة غير متأنية لما ينشر في الشبكة العنكبوتية قد يوقع المؤسسات الإعلامية في حرج كبير, فليس من المستبعد أن تتعطل محركات البحث ولا يفي أصحاب الأقلام المزورة بالتزاماتهم، ويبقى على تلك المؤسسات أن تطلب المعذرة من قرائها حتى إشعار آخر، سيكون صباحا غريبا أن تطبع الجرائد دون صفحات الرأي, لكنه احتمال قائم ما لم تنحسر هذه الموضة.
ما يهمّني هو أن أنبه إلى أن الكتابة ليست تلك المهنة التي يزاولها أي من كان وفي أي ظرف، إنما يجب وجود فكر ناضج يملك صاحبه أسلوبا يمكّنه من عرض ما يعتمل بداخله على القراء، وذاك يعني أن على كثير من أقوامنا أن يسلكوا طرائق أخرى بعيدا عن القلم فبإمكانهم تحقيق ذواتهم دون أن يسيئوا للكتابة وجمهور القراء.
كما أذكّر أرباب الأعمدة بأن الطريقة السهلة التي يكتبون بها هي ذاتها التي يُكشفون بها فما يخادعون إلا أنفسهم.
لكن الأهم من ذلك كله أن تحُول السلطات المعنية دون هذا الاستغلال السيئ لمصادر المعرفة، واستسهال الكتابة على عجل.
لا بد أن تكون هناك عقوبة رادعة فإن لم يكن قطع الأيدي الذي هو حد السرقة فلا أقل من 40 جلدة, فما زال الغرب يتغاضى عن تلك العقوبة.
وأخيرا أتمنى من المؤسسات الإعلامية مراقبة كتابها احتراما لسمعة المؤسسة وقرائها وحتى لو استدعى الأمر استحداث قسم لـ «غوغلة» المقالات.
بقلم : سيد أحمد الخضر
المصدر العرب 29-8-2009 http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=95363&issueNo=616&secId=15