غزالة الوادي
15-11-2009, 11:42 AM
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبى بعده ، وبعد :
فإن أمراض القلوب أشد خطورة على المسلمين من أمراض الأبدان ، إذ يترتب عليها خسران الدنيا والآخرة معاً ، وذلك هو الخسران العظيم ، ولذلك كانت سلامة القلب هى المنقذة للعبد من عذاب يوم القيامة " {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}{إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}( سورة الشعراء 88 -89)
والقلب السليم هو الذى سلم من كافة الأمراض "أمراض الشهوات والشبهات" ولذلك فإن الظاهر لا يغنى أبداً عن الباطن ، يقول سبحانه : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة : 204 – 205) ويقول عليه الصلاة والسلام : "وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" .
ومن أمراض القلوب التى شقت طريقها الى قلوب الكثير – إلا من رحم الله – داء الحسد ، فما الذى دفع أحد أبناء آدم عليه السلام ليقتل أخاه ثم يندم على فعله الآثم ، إنه الحسد ، وما الذى جعل إخوة يوسف عليه السلام يلقونه فى الجب دون ذنب ارتكبه ، إنه الحسد ، وما الذى جعل الملأ من بنى إسرائيل يرفضون ملك طالوت ويقولون : غنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ؟ إنه الحسد ، وما الذى منع المشركين من اتباع النبى صلى الله عليه وسلم ويقولون : " {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (31) سورة الزخرف ؟ إنه الحسد ، وما الذى أوقد نار الغيرة عند إبليس اللعين ليظل خلف آدم حتى يخرجه من الجنة ؟ أنه الحسد ، وما الذىجعل أهل الكتاب يريدن أن يرتد المؤمنون عن دينهم الحق ليكونوا كفاراً ؟ إنه الحسد .
فما هو الحسد ؟ وما هى احكامه ؟ وكيف يمكن دفعه ؟ وما هى الأسباب المؤدية إليه ؟ وما هو جزاء الحاسد فى الدنيا والآخرة ؟
الحسد : هو تمنى زوال نعمة الغير ، سواء تمن الحاسد أن لا تتحول النعمة إليه أو تتحول ، أو تمنى عدم مصاحبة النعمة للمحسود . وقد ورد لفظ الحسد فى القرآن الكريم صريحاً فى مواضع وتلميحاً فى مواطن آخرى ، يقول سبحانة : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)(54) سورة النساء ويقول سبحانة : {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (109) سورة البقرة .وقد يكون الرجل فى طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود ، لاه عنه ، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه وتوجهت سهام الحسد من قلبه فيتأذى المحسود بمجرد ذلك ، فإن لم يستعذ المحسود بالله ويتحصن به ناله شر الحاسد .
وللحسد اسباب عديدة منها : 1- تمكن الدنيا من القلب ، إذ قد يخشى الحاسد أن يكون غيره فى نعمة ، أو تطرأ عليه نعمة تدفعه الى منازعته فى منصبه ، فيتمنى أن يظل المحسود على حالة ليضمن لنفسه متاع الدنيا الزائل .
2- قلة الإيمان وضعفه فى قلب الحاسد ، ولأن الحاسد لا يعلم علم اليقين أن الله عز وجل يعطى ويمنع لحكمة يعلمها سبحانه ، وقد يكون البلاء منه سبحانة عطاء ، وقد تكون النعمة نقمة ، والنقمة نعمة : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (216) سورة البقرة.
3- العداوة والبغضاء ، وهذه العداوة قد تكون من أثر ظلم وقع على الحاسد من المحسود ، أو بسبب أن قلب الحاسد جبل على الشر والبغى والعدوان : {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (120) سورة آل عمران
4- شدة البخل :، فإن لم يؤد صاحب النعمة واجبها بالإحسان الى الفقراء والمساكين وكل من له عليه حق ، فقد يتمنى الجميع زوال تلك النعمة ، وهذا واضح جلى فى علاقة الجار بجاره ، إذ لو أحسن الجار لجاره ما تمنى زوال نعمته أبداً ، وكذا حال الفقير مع الغنى .
5- إرادة تسخير الناس ، حيث يتمنى الحاسد أن يظل جميع الناس تحت إرادته وسيطرته يسخرهم كيف يشاء وحسب ما أراد ، فإذا حلت نعمة بأحدهم سيخرج بها من تحت سيطرته وتسخيره تمنى أن يظل على حالة ليضمن لنفسه الهيمنة والسيطرة وذلك لمرض فى قلبه ، فهو فى الآخرة من جنود إبليس : {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} (الشعراء : 94 ، 95) وحسناته مآلها للمحسود ، وهو مع المشركين لتشبهه بهم فى تمنيهم زوال النعمة عن المؤمنين ، وفى الدنيا يعيش فى هم وحزن دائمين بنزول نعم الله على عباده ، إضافة الى بغضه فى قلوب الخلق وتعرضه للبلاء الدائم ، وصدق القائل :
أصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتلـه
فالـنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
ويمكن دفع الحسد بوسائل عديدة منها :
1- التوحيد الخالص : إذ لابد للعبد أن يعلم أن الأمور كلها بيد الله ، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروه بشئ فلن يضروه إلا بشئ قد كتبه الله عليه : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} (17) سورة الأنعام والتوحيد هو حصن الله الأعظم الذى من دخله كان من الآمنين .
2- التوبة الى الله من كل الذنوب : فالذنوب هى سبب تسليط المؤذين ، وما يعلمه العبد من ذنوبه أقل بكثير مما لا يعلمه ، وذلك عندما قابل أحد السلف رجل أغلظ عليه ونال منه قال له : قف ، ثم دخل بيته وسجد لربه وتاب وأناب إليه ، ولما سئل ما صنعت ؟ قال : تبت الى الله من الذنب ، سلطك الله به على : {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (30) سورة الشورى .
3- قراءة القرآن وتدبر آياته ، فالقرآن هو الشفاء من كل الادواء – بدنية كانت أو قلبية - : {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (82) سورة الإسراء، ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض ، كما قال ابن القيم ، رحمة الله .
4- الدعاء والرقية ، حيث إن سلامة القلب نعمة من الله على صاحبها ، ولذلك فإن طلب تلك النعمة من رب العالمين طريقها الدعاء والإخلاص فيه : {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (10) سورة الحشر .
5- ولقد رقى جبريل ، عليه السلام ، النبى صلى الله عليه وسلم فقال : "بسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك ، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك" .
6- الإحسان الى الحاسد والصبر عليه ، يقول سبحانه : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت .
فمقابلة الإساءة بالحسنة ، والبغض بالحب ، والأذى بالإحسان هو من سمات المؤمنين ، ولذا لما آذى النبى صلى الله عليه وسلم قومه حتى سال الدم من قدمه الشريفة قال : "اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون" . وهو القائل صلى الله عليه وسلم : "واعف عمن ظلمك ، وصل من قطعك" وهو القائل صلى الله عليه وسلم : "ليس الواصل بالمكافئ ، وإنما والواصل من إذا قطعته رحمه وصلها" ولأن الجزاء من جنس العمل ، فإن أهل الجنة لا يتحاسدون ولا يتباغضون يقول سبحانة وتعالى وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (43) سورة الأعراف
فيا أيها الحاسد ، تب الى ربك من ذلك المرض العضال ، لأنه محبط للعمل ، ماحق للبركة ، جالب للهم ، موقعك فى سخط الله وغضبه ، فانشغل بنفسك ، فالمؤمن يسر وينصح والمنافق يهتك ويفضح ، وتمنى لأخيك ما تتمناه لنفسك .
فنسأل الله سبحانه أن يرزقنا سلامة الصدر ، فهى التى لا نطيق ، فعن أنس بن مالك رضى الله عنه ، قال : كنا جلوساً مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" . فطلع رجل من الأنصار تنظف لحيته من وضوئه وقد تعلق نعليه فى يده الشمال فلما كان الغد قال النبى صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ،فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى ، فلما كان اليوم الثالث قال النبى صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً ، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى ، فلما قام النبى صلى الله عليه وسلم تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص فقال : إنى لاحيت أبى فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاُ ، فإذا رأيت إن تؤوينى عليك حتى تمضى ، فقال : نعم ، قال أنس : وكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الليالى الثلاث ، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر ،قال عبدالله : غير أنى لم أسمعه يقول إلا خيراً .
فلما مضت الثلاث ليالى وكدت أن أنصرف قلت : يا عبدالله ، إنه لم يكن بينى وبين أبى غضب ولا هجر ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنك ثلاث مرات : "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" فطلعت أنت الثلاث مرات ، فإردت أن أوى إليك لأنظر ما عملك فاقتدى به ، فلم ارك تعمل كثير عمل ، فما الذى بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هو إلا الذى رأيت ، قال : فلما وليت مكانى ، فقال : ما هو إلا ما رأيت غير أنى لا أجد فى نفسى لأحد من المسلمين غشاً ، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه ، فقال عبدالله : هذه التى بلغت بك وهى التى لا نطيق ، (رواه أحمد) وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
منقووول
نسأل الدعاء لكل من ساعد و ساهم فى نقل الموضوع
فإن أمراض القلوب أشد خطورة على المسلمين من أمراض الأبدان ، إذ يترتب عليها خسران الدنيا والآخرة معاً ، وذلك هو الخسران العظيم ، ولذلك كانت سلامة القلب هى المنقذة للعبد من عذاب يوم القيامة " {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}{إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}( سورة الشعراء 88 -89)
والقلب السليم هو الذى سلم من كافة الأمراض "أمراض الشهوات والشبهات" ولذلك فإن الظاهر لا يغنى أبداً عن الباطن ، يقول سبحانه : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة : 204 – 205) ويقول عليه الصلاة والسلام : "وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" .
ومن أمراض القلوب التى شقت طريقها الى قلوب الكثير – إلا من رحم الله – داء الحسد ، فما الذى دفع أحد أبناء آدم عليه السلام ليقتل أخاه ثم يندم على فعله الآثم ، إنه الحسد ، وما الذى جعل إخوة يوسف عليه السلام يلقونه فى الجب دون ذنب ارتكبه ، إنه الحسد ، وما الذى جعل الملأ من بنى إسرائيل يرفضون ملك طالوت ويقولون : غنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ؟ إنه الحسد ، وما الذى منع المشركين من اتباع النبى صلى الله عليه وسلم ويقولون : " {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (31) سورة الزخرف ؟ إنه الحسد ، وما الذى أوقد نار الغيرة عند إبليس اللعين ليظل خلف آدم حتى يخرجه من الجنة ؟ أنه الحسد ، وما الذىجعل أهل الكتاب يريدن أن يرتد المؤمنون عن دينهم الحق ليكونوا كفاراً ؟ إنه الحسد .
فما هو الحسد ؟ وما هى احكامه ؟ وكيف يمكن دفعه ؟ وما هى الأسباب المؤدية إليه ؟ وما هو جزاء الحاسد فى الدنيا والآخرة ؟
الحسد : هو تمنى زوال نعمة الغير ، سواء تمن الحاسد أن لا تتحول النعمة إليه أو تتحول ، أو تمنى عدم مصاحبة النعمة للمحسود . وقد ورد لفظ الحسد فى القرآن الكريم صريحاً فى مواضع وتلميحاً فى مواطن آخرى ، يقول سبحانة : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)(54) سورة النساء ويقول سبحانة : {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (109) سورة البقرة .وقد يكون الرجل فى طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود ، لاه عنه ، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه وتوجهت سهام الحسد من قلبه فيتأذى المحسود بمجرد ذلك ، فإن لم يستعذ المحسود بالله ويتحصن به ناله شر الحاسد .
وللحسد اسباب عديدة منها : 1- تمكن الدنيا من القلب ، إذ قد يخشى الحاسد أن يكون غيره فى نعمة ، أو تطرأ عليه نعمة تدفعه الى منازعته فى منصبه ، فيتمنى أن يظل المحسود على حالة ليضمن لنفسه متاع الدنيا الزائل .
2- قلة الإيمان وضعفه فى قلب الحاسد ، ولأن الحاسد لا يعلم علم اليقين أن الله عز وجل يعطى ويمنع لحكمة يعلمها سبحانه ، وقد يكون البلاء منه سبحانة عطاء ، وقد تكون النعمة نقمة ، والنقمة نعمة : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (216) سورة البقرة.
3- العداوة والبغضاء ، وهذه العداوة قد تكون من أثر ظلم وقع على الحاسد من المحسود ، أو بسبب أن قلب الحاسد جبل على الشر والبغى والعدوان : {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (120) سورة آل عمران
4- شدة البخل :، فإن لم يؤد صاحب النعمة واجبها بالإحسان الى الفقراء والمساكين وكل من له عليه حق ، فقد يتمنى الجميع زوال تلك النعمة ، وهذا واضح جلى فى علاقة الجار بجاره ، إذ لو أحسن الجار لجاره ما تمنى زوال نعمته أبداً ، وكذا حال الفقير مع الغنى .
5- إرادة تسخير الناس ، حيث يتمنى الحاسد أن يظل جميع الناس تحت إرادته وسيطرته يسخرهم كيف يشاء وحسب ما أراد ، فإذا حلت نعمة بأحدهم سيخرج بها من تحت سيطرته وتسخيره تمنى أن يظل على حالة ليضمن لنفسه الهيمنة والسيطرة وذلك لمرض فى قلبه ، فهو فى الآخرة من جنود إبليس : {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} (الشعراء : 94 ، 95) وحسناته مآلها للمحسود ، وهو مع المشركين لتشبهه بهم فى تمنيهم زوال النعمة عن المؤمنين ، وفى الدنيا يعيش فى هم وحزن دائمين بنزول نعم الله على عباده ، إضافة الى بغضه فى قلوب الخلق وتعرضه للبلاء الدائم ، وصدق القائل :
أصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتلـه
فالـنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
ويمكن دفع الحسد بوسائل عديدة منها :
1- التوحيد الخالص : إذ لابد للعبد أن يعلم أن الأمور كلها بيد الله ، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروه بشئ فلن يضروه إلا بشئ قد كتبه الله عليه : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} (17) سورة الأنعام والتوحيد هو حصن الله الأعظم الذى من دخله كان من الآمنين .
2- التوبة الى الله من كل الذنوب : فالذنوب هى سبب تسليط المؤذين ، وما يعلمه العبد من ذنوبه أقل بكثير مما لا يعلمه ، وذلك عندما قابل أحد السلف رجل أغلظ عليه ونال منه قال له : قف ، ثم دخل بيته وسجد لربه وتاب وأناب إليه ، ولما سئل ما صنعت ؟ قال : تبت الى الله من الذنب ، سلطك الله به على : {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (30) سورة الشورى .
3- قراءة القرآن وتدبر آياته ، فالقرآن هو الشفاء من كل الادواء – بدنية كانت أو قلبية - : {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (82) سورة الإسراء، ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض ، كما قال ابن القيم ، رحمة الله .
4- الدعاء والرقية ، حيث إن سلامة القلب نعمة من الله على صاحبها ، ولذلك فإن طلب تلك النعمة من رب العالمين طريقها الدعاء والإخلاص فيه : {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (10) سورة الحشر .
5- ولقد رقى جبريل ، عليه السلام ، النبى صلى الله عليه وسلم فقال : "بسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك ، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك" .
6- الإحسان الى الحاسد والصبر عليه ، يقول سبحانه : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت .
فمقابلة الإساءة بالحسنة ، والبغض بالحب ، والأذى بالإحسان هو من سمات المؤمنين ، ولذا لما آذى النبى صلى الله عليه وسلم قومه حتى سال الدم من قدمه الشريفة قال : "اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون" . وهو القائل صلى الله عليه وسلم : "واعف عمن ظلمك ، وصل من قطعك" وهو القائل صلى الله عليه وسلم : "ليس الواصل بالمكافئ ، وإنما والواصل من إذا قطعته رحمه وصلها" ولأن الجزاء من جنس العمل ، فإن أهل الجنة لا يتحاسدون ولا يتباغضون يقول سبحانة وتعالى وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (43) سورة الأعراف
فيا أيها الحاسد ، تب الى ربك من ذلك المرض العضال ، لأنه محبط للعمل ، ماحق للبركة ، جالب للهم ، موقعك فى سخط الله وغضبه ، فانشغل بنفسك ، فالمؤمن يسر وينصح والمنافق يهتك ويفضح ، وتمنى لأخيك ما تتمناه لنفسك .
فنسأل الله سبحانه أن يرزقنا سلامة الصدر ، فهى التى لا نطيق ، فعن أنس بن مالك رضى الله عنه ، قال : كنا جلوساً مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" . فطلع رجل من الأنصار تنظف لحيته من وضوئه وقد تعلق نعليه فى يده الشمال فلما كان الغد قال النبى صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ،فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى ، فلما كان اليوم الثالث قال النبى صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً ، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى ، فلما قام النبى صلى الله عليه وسلم تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص فقال : إنى لاحيت أبى فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاُ ، فإذا رأيت إن تؤوينى عليك حتى تمضى ، فقال : نعم ، قال أنس : وكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الليالى الثلاث ، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر ،قال عبدالله : غير أنى لم أسمعه يقول إلا خيراً .
فلما مضت الثلاث ليالى وكدت أن أنصرف قلت : يا عبدالله ، إنه لم يكن بينى وبين أبى غضب ولا هجر ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنك ثلاث مرات : "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" فطلعت أنت الثلاث مرات ، فإردت أن أوى إليك لأنظر ما عملك فاقتدى به ، فلم ارك تعمل كثير عمل ، فما الذى بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هو إلا الذى رأيت ، قال : فلما وليت مكانى ، فقال : ما هو إلا ما رأيت غير أنى لا أجد فى نفسى لأحد من المسلمين غشاً ، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه ، فقال عبدالله : هذه التى بلغت بك وهى التى لا نطيق ، (رواه أحمد) وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
منقووول
نسأل الدعاء لكل من ساعد و ساهم فى نقل الموضوع