مطيع الله
10-12-2009, 11:14 AM
قال المسيري رحمه الله:
بقي بعد ذلك أهم الذئاب وأكثرها خطورة و ضراوة وجوانية ، وهو الذئب الهيجلي المعلوماتي ، وهو ذئب خاص جداً ، جواني لأقصى درجة ،
يعبِر عن نفسه في الرغبة العارمة في أن أكتب كتاباً نظرياً ، إطاره النظري واسع وشامل للغاية ولكنه في الوقت نفسه يتعامل مع أكبر قدر
ممكن من المعلومات والتفاصيل ، إن لم يكن كلها . أي أنني كنت أزمع في كتابة عمل يصل إلى أعلى مستويات التعميم والتجريد والشمول ، وفي
الوقت نفسه تصل إلى أقصى درجات التخصيص والدقة . وهذه صيغة مستحيلة لأنه إن اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ، فما بالك برؤية
بانورامية متسعة في غاية الاتساع وتفاصيل دقيقة في غاية الدقة . ويبدو أن هذا الذئب الهيجلي المعلوماتي
كان يطاردني منذ طفولتي ، فقد كنت أنوي أن أحصر كل ما تبقى من كتب لم أقرأها في مكتبة البلدية
بدمنهور ( بحُسبان أنها تحوي كل المعرفة الإنسانية ) حتى يمكنني أن أعرف كل ما خطته يد البشرية !
وأذكر في شبابي أنني بدأت في كتابة تاريخ الشعر الإنجليزي منذ البداية حتى النهاية من منظور ماركسي .
أقول " بدأت " لأنني لم أنته منه قط ، بل لم أجاوز الصفحة الثالثة ! وقد أصبت بصدمة عميقة ،
في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية ، حين عرفت أن أحد أساتذتي لم يكن قد قرأ
الأعمال الكاملة لشكسبير ! وحين بدأت كتابة رسالتي للماجستير مع الدكتور محمد مصطفى بدوي
عن أثر الشعر الرومانتيكي الإنجليزي وبودلير على جماعة أو للو وبخاصة إبراهيم ناجي ، ظهرت نزعتي الهيجلية المعلوماتية بشراسة ، فكنت أريد أن أقرأ كل شيء كمقدمة لكتابة الماجستير . فقرأت المعلقات وكثيراً من عيون الشعر العربي ، وبخاصة شعر المتنبي ، وكتبت دراسة عن الانقطاع في الشعر العربي . ثم قرأت كثيراً من الأعمال النقدية للعقاد والمازني وطه حسين وإبراهيم المصري ، وكتبت دراسة مطولة في الموضوع ، وقرأت بعض عيون التراث آنذاك . وبدأت في كتابة دراسة في شعر خليل مطران ، وأنهيت دراسة عن ترجمة ناجي لديوان أزهار الشر لبودلير وأثرها عليه . كما كتبت الدراسة التي قدمتها لبروفسير إيان جاك عن " الانتقال من الكلاسيكية الجديدة إلى الرومانسية " . وكان الدكتور بدوي يتركني أكتب ما أريد ، ولم ينقذني مؤقتاً من براثن الذئب سوى ذهابي إلى الولايات المتحدة .
وقد صرع هذا الذئب مجموعة من أعز أصدقائي أمام ناظري ، مات بعضهم دون أن ينبس ببنت شفة ، رغبةً منه في أن يحقق هذه الصيغة المستحيلة : عمل نظري شامل مجرد ينتظم كل المعلومات الممكنة . ولعل صديقي الأستاذ علي زيد – رحمه الله – مثل فريد على ذلك . كان – رحمه الله – يعرف كل شيء تقريباً ، ولا يعرفه كمعلومة ، وإنما في إطار نظري شامل كان يزداد اتساعاً على مر الأيام . كما أنه كان يعرف الكثير من اللغات الأوربية ( الإنجليزية – الفرنسية – الإسبانية – الإيطالية ) وكان تملكه لناصية اللغة العربية شيئاً مذهلاً . كنت كلما أطلب منه كتابة مقالة يجلس ليتحدث عن موضوعها ساعات طوالاً ، ويأتي بأطروحات مذهلة . ثم يذهب لكتابة المقال ، فيأتي بعشرات الكتب ويبدأ في البحث وتتسع الرؤى إلى ما لا نهاية ، فيلتهمه الذئب . وهذه إشكالية لا يواجهها متوسطو الذكاء ، فبعضهم يحشد التعميمات التي لا يربطها رابط ( أسميهاً " أفكاراً " في مقابل الفكر ) ، والبعض الآخر يحشد المعلومات التي لا يربطها رابط أيضاً . وأمثال هؤلاء يخطون بضعة كتب ( " ويرص كلاماً فوق كلام تحت كلام " على رأي صلاح عبد الصبور ) تُنشر مع مئات الكتب الأخرى التي تصدر ويقرؤها البعض ثم تموت . وهم يعيشون حياتهم في سعادة بالغة ورضا تام ! لكن أن يحاول المرء الجمع بين أعلى مستوى التعميمات وأدنى مستويات التخصيص فهذا مستحيل ، والمصير هو الفشل النبيل والصمت الدائم .
استمر الذئب الهيجلي المعلوماتي متربصاً بي ، وإن كان والحق يقال قد تم ترويضه قليلاً في الولايات المتحدة حيث كان علي أن أكتب أبحاثاً قصيرة لمقررات الدراسة العليا تقدم في نهاية كل فصل دراسي ، تعلمت من خلالها أنني لابد أن أكبح جماح ذاتي وإلا لما انتهيت من شيء . كما أن أستاذي المشرف على رسالة الدكتوراه كان لا يسمح لي بالانطلاق في أي اتجاه . فبعد أن كتبت دراسة مطولة عن وردزورث وويتمان وأصولهما التاريخية والدينية والفكرية ، أخبرني أن هذه " الخلفية " لا علاقة لها بالرسالة ذاتها ، وأنني بوسعي أن أقرأ ما يحلو لي بخصوص " الخلفية " ، طالما أن ما أقرأ له علاقة بموضوعي الأساسي ( الوجدان التاريخي و الوجدان المعادي للتاريخ ) ، ولكن على ألا أكتب سوى النزر اليسير عن هذه الخلفية ، لأنها ليست موضوع اختصاصي . كما أنني لاحظت أنني لو قرأت كل ما كتب عن موضوع تخصصي ( من مقالات ورسائل دكتوراه وكتب ) لقضيت سحابة أيامي أقرأ وأستوعب وأقرأ دون أن أنتج شيئاً .
ويظهر ترويض الذئب الهيجلي المعلوماتي في النصيحة التي أسديتها لصديقي كافين رايلي . فقد كان يكتب كتابه الغرب والعالم ، والذي استغرق معظم حياته الفكرية ، وكان لا يكف عن الإضافة والتعديل ولا يجرؤ على نشره . فأخبرته : " كافين ، يحين وقت في حياة الإنسان ، يكون الكتاب الوحيد الذي يستحق القراءة هو الكتاب الذي يؤلفه " . وهي عبارة تهدف إلى أن أبين له أن المعرفة لا حدود لها وأن المعلومات بحر يمكن أن يبتلع المرء ، ومن هنا يجب أن يتوقف المرء عند نقطة ما . وقد كان ، إذ توقف كافين ونشر كتابه ، وحقق نجاحاً كبيراً وذيوعاً منقطع النظير .
وفي هذه الآونة ، قرأت قصة قصيرة لكاتب أمريكي ( اسمه ألان سيجر Allan Seager ) بعنوان " عن هذه المدينة وسلامنكا This Town and Salamanca " وتدور أحداث القصة حول رهط من الشباب ينشئون في نفس المدينة ، ولكن أحدهم كان بوهيميّا ، لا يتردد في الانتقال من بلده إلى مدن وموانئ بعيدة ( سلامنكا هنا هي رمز هذا العالم البعيد الذي يرتاده صاحبنا ) . وكان صاحبنا يعود من آونة لأخرى ليقص على رفاقه قصص المغامرات المختلفة التي خاضها . أما هم فيبقون في مدينتهم ليعلموا أبناءها وليبنوا بيوتاً وجسوراً . وتدعونا القصة للإعجاب بالبطل البوهيمي ، ولكن تعاطفنا الحقيقي يتوجه لهؤلاء الذين بقوا وعلموا وبنوا . وقد تعلمت من هذه القصة أن التحليق البانورامي ليس دائماً صفة إيجابية ، وأنه يمكن أن يقنع المرء بالقليل وينجزه . ولذا حين عدت من الولايات المتحدة كان عندي ثلاث متتاليات : أن أكون ناقداً أديباً جامعياً وأباً وزوجاً متميزاً ، فإن أخفقت فلأكن أستاذاً جامعياً وأباً وزوجاً متميزاً ، فإن أخفقت فلأكن أباً وزوجاً متميزاً . وغني عن القول أن متتالية حياتي كانت مختلفة عن " خطتي " ( فلم أصبح ناقداً أديباً ولم أستمر في التدريس في الجامعة ، ولا أدري هل كنت أباً وزوجاً متميزاً أم لا ، ولأترك الحكم لأولادي وزوجتي ) . ولكن المهم أنني روضت الذئب الهيجلي ، والنزعة النيتشوية الفاوستية : أن أجوب كل الآفاق وأن أجر كل التجارب وأن أجاوز كل الحدود ، وبدلاً من ذلك ، قبلت الحدود الإنسانية واحتمالات الانتصار والانكسار .
وبرغم إدراكي لمخاطر الذئب الهيجلي ، وبرغم نجاحي في ترويضه ( ومن هنا نجحت في نشر بعض الكتب التي لا تحتوي على دراسات " شاملة كاملة ضخمة " ... إلخ ) ، فإنه ظل رابضاً داخلي ، فكنت كلما انتهيت من إحدى دراساتي عن الصهيونية ، أعلن أن هذه آخر دراسة ، أملاً في أن أبدأ دراستي النظرية الشاملة والتطبيقية في ذات الوقت . ومع هذا ظلت الصهيونية ( كموضوع للدراسة ) تلاحقني ، وكلما انتهيت من كتابة دراسة ما عن الصهيونية كنت أجد نفسي مضطراً لكتابة الثانية ثم الثالثة وهكذا ( كنت أشعر أحياناً أن من يدفعني إلى ذلك هو الله سبحانه وتعالى ، وأن هذه مشيئته ) . وقد قررت عام 1984 أن أذبح الذئب الهيجلي المعلوماتي تماماً ، فقبلت الاستمرار في الكتابة في حقل الصهيونية وحسب ، أي أنني تخليت عن المشروع النظري التطبيقي الطموح . والطريف أنني حينما فعلت ذلك ، تداخلت كل الأطروحات الأيديولوجية والفلسفية ( وهي على كلٍّ كانت متداخلة منذ البداية ) وتبلورت النماذج التحليلية ، وبدأت أحاول الإجابة عن التساؤلات التي تطرح نفسها عليّ من خلال دراساتي في اليهودية واليهود والصهيونية التي تحولت تدريجياً من الموضوع الأساسي للموسوعة إلى مجرد " دراسة حالة " ، أي أنني أتصور أنني كتبت دراسة تتسم بقدر معقول من التجريد والشمول ومن التعيُّن والتخصيص ، وأن الحلم الهيجلي ( أو بعض جوانبه ) قد تحقق دون أن ينهشني الذئب . ولهذا فمعظم كتبي القادمة – بإذن الله – ستكون عن موضوعات نظرية عامة مثل العلمانية الشاملة والحلولية وما بعد الحداثة ، وتتعامل في الوقت ذاته مع نصوص وحالات معينة .
ومع هذا ، لاشك في أن هناك بقايا " هيجلية " تتبدى في إعجابي الشديد بالفلسفة الألمانية ومقولاتها التحليلية . كما يتبدى في كثير من مقولاتي التحليلية مثل نهاية التاريخ والفردوس الأرضي والثالوث الحلولي واهتمامي بالبعد المعرفي الكلي والنهائي للظواهر . واهتمامي بالصهيونية لم يكن قط سياسياً بل أتناولها من خلال مقولات مثل : إشكالية الإنسان وعلاقته بالطبيعة والتاريخ – الغنوصية – الواحدية المادية – الأسطورة المنفصلة عن التاريخ – الداروينية – العلم المنفصل عن القيمة والغاية ... إلخ . ولكن هذه المقولات التحليلية الكبرى ليست مجرد مقولات نظرية ساكنة عامة ، وإنما لها تجلياتها المتعينة في تفاصيل التاريخ والواقع الكثيرة . ومن هنا قولي إنها مجرد " بقايا هيجلية " لأنني أرفض الواحدية الهيجلية ، أرفض كلاً من المثالية الخالصة والمادية الخالصة ، فكلاهما بمفرده واحدي اختزالي ولكن حينما يتقاطعان فإننا ندخل عالماً مركبة أبعاده ، عالم الإنسان والأسرار .
كتاب رحلتي الفكرية
لـ عبد الوهاب المسيري – رحمه الله –
166- 176 .
ادعوكم للتأمل في ما كتب المسيري والبحث في أنفسكم عن هذا الذئب،
وسبيل النجاة منه ما دام في العمر متسع،
بقي بعد ذلك أهم الذئاب وأكثرها خطورة و ضراوة وجوانية ، وهو الذئب الهيجلي المعلوماتي ، وهو ذئب خاص جداً ، جواني لأقصى درجة ،
يعبِر عن نفسه في الرغبة العارمة في أن أكتب كتاباً نظرياً ، إطاره النظري واسع وشامل للغاية ولكنه في الوقت نفسه يتعامل مع أكبر قدر
ممكن من المعلومات والتفاصيل ، إن لم يكن كلها . أي أنني كنت أزمع في كتابة عمل يصل إلى أعلى مستويات التعميم والتجريد والشمول ، وفي
الوقت نفسه تصل إلى أقصى درجات التخصيص والدقة . وهذه صيغة مستحيلة لأنه إن اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ، فما بالك برؤية
بانورامية متسعة في غاية الاتساع وتفاصيل دقيقة في غاية الدقة . ويبدو أن هذا الذئب الهيجلي المعلوماتي
كان يطاردني منذ طفولتي ، فقد كنت أنوي أن أحصر كل ما تبقى من كتب لم أقرأها في مكتبة البلدية
بدمنهور ( بحُسبان أنها تحوي كل المعرفة الإنسانية ) حتى يمكنني أن أعرف كل ما خطته يد البشرية !
وأذكر في شبابي أنني بدأت في كتابة تاريخ الشعر الإنجليزي منذ البداية حتى النهاية من منظور ماركسي .
أقول " بدأت " لأنني لم أنته منه قط ، بل لم أجاوز الصفحة الثالثة ! وقد أصبت بصدمة عميقة ،
في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية ، حين عرفت أن أحد أساتذتي لم يكن قد قرأ
الأعمال الكاملة لشكسبير ! وحين بدأت كتابة رسالتي للماجستير مع الدكتور محمد مصطفى بدوي
عن أثر الشعر الرومانتيكي الإنجليزي وبودلير على جماعة أو للو وبخاصة إبراهيم ناجي ، ظهرت نزعتي الهيجلية المعلوماتية بشراسة ، فكنت أريد أن أقرأ كل شيء كمقدمة لكتابة الماجستير . فقرأت المعلقات وكثيراً من عيون الشعر العربي ، وبخاصة شعر المتنبي ، وكتبت دراسة عن الانقطاع في الشعر العربي . ثم قرأت كثيراً من الأعمال النقدية للعقاد والمازني وطه حسين وإبراهيم المصري ، وكتبت دراسة مطولة في الموضوع ، وقرأت بعض عيون التراث آنذاك . وبدأت في كتابة دراسة في شعر خليل مطران ، وأنهيت دراسة عن ترجمة ناجي لديوان أزهار الشر لبودلير وأثرها عليه . كما كتبت الدراسة التي قدمتها لبروفسير إيان جاك عن " الانتقال من الكلاسيكية الجديدة إلى الرومانسية " . وكان الدكتور بدوي يتركني أكتب ما أريد ، ولم ينقذني مؤقتاً من براثن الذئب سوى ذهابي إلى الولايات المتحدة .
وقد صرع هذا الذئب مجموعة من أعز أصدقائي أمام ناظري ، مات بعضهم دون أن ينبس ببنت شفة ، رغبةً منه في أن يحقق هذه الصيغة المستحيلة : عمل نظري شامل مجرد ينتظم كل المعلومات الممكنة . ولعل صديقي الأستاذ علي زيد – رحمه الله – مثل فريد على ذلك . كان – رحمه الله – يعرف كل شيء تقريباً ، ولا يعرفه كمعلومة ، وإنما في إطار نظري شامل كان يزداد اتساعاً على مر الأيام . كما أنه كان يعرف الكثير من اللغات الأوربية ( الإنجليزية – الفرنسية – الإسبانية – الإيطالية ) وكان تملكه لناصية اللغة العربية شيئاً مذهلاً . كنت كلما أطلب منه كتابة مقالة يجلس ليتحدث عن موضوعها ساعات طوالاً ، ويأتي بأطروحات مذهلة . ثم يذهب لكتابة المقال ، فيأتي بعشرات الكتب ويبدأ في البحث وتتسع الرؤى إلى ما لا نهاية ، فيلتهمه الذئب . وهذه إشكالية لا يواجهها متوسطو الذكاء ، فبعضهم يحشد التعميمات التي لا يربطها رابط ( أسميهاً " أفكاراً " في مقابل الفكر ) ، والبعض الآخر يحشد المعلومات التي لا يربطها رابط أيضاً . وأمثال هؤلاء يخطون بضعة كتب ( " ويرص كلاماً فوق كلام تحت كلام " على رأي صلاح عبد الصبور ) تُنشر مع مئات الكتب الأخرى التي تصدر ويقرؤها البعض ثم تموت . وهم يعيشون حياتهم في سعادة بالغة ورضا تام ! لكن أن يحاول المرء الجمع بين أعلى مستوى التعميمات وأدنى مستويات التخصيص فهذا مستحيل ، والمصير هو الفشل النبيل والصمت الدائم .
استمر الذئب الهيجلي المعلوماتي متربصاً بي ، وإن كان والحق يقال قد تم ترويضه قليلاً في الولايات المتحدة حيث كان علي أن أكتب أبحاثاً قصيرة لمقررات الدراسة العليا تقدم في نهاية كل فصل دراسي ، تعلمت من خلالها أنني لابد أن أكبح جماح ذاتي وإلا لما انتهيت من شيء . كما أن أستاذي المشرف على رسالة الدكتوراه كان لا يسمح لي بالانطلاق في أي اتجاه . فبعد أن كتبت دراسة مطولة عن وردزورث وويتمان وأصولهما التاريخية والدينية والفكرية ، أخبرني أن هذه " الخلفية " لا علاقة لها بالرسالة ذاتها ، وأنني بوسعي أن أقرأ ما يحلو لي بخصوص " الخلفية " ، طالما أن ما أقرأ له علاقة بموضوعي الأساسي ( الوجدان التاريخي و الوجدان المعادي للتاريخ ) ، ولكن على ألا أكتب سوى النزر اليسير عن هذه الخلفية ، لأنها ليست موضوع اختصاصي . كما أنني لاحظت أنني لو قرأت كل ما كتب عن موضوع تخصصي ( من مقالات ورسائل دكتوراه وكتب ) لقضيت سحابة أيامي أقرأ وأستوعب وأقرأ دون أن أنتج شيئاً .
ويظهر ترويض الذئب الهيجلي المعلوماتي في النصيحة التي أسديتها لصديقي كافين رايلي . فقد كان يكتب كتابه الغرب والعالم ، والذي استغرق معظم حياته الفكرية ، وكان لا يكف عن الإضافة والتعديل ولا يجرؤ على نشره . فأخبرته : " كافين ، يحين وقت في حياة الإنسان ، يكون الكتاب الوحيد الذي يستحق القراءة هو الكتاب الذي يؤلفه " . وهي عبارة تهدف إلى أن أبين له أن المعرفة لا حدود لها وأن المعلومات بحر يمكن أن يبتلع المرء ، ومن هنا يجب أن يتوقف المرء عند نقطة ما . وقد كان ، إذ توقف كافين ونشر كتابه ، وحقق نجاحاً كبيراً وذيوعاً منقطع النظير .
وفي هذه الآونة ، قرأت قصة قصيرة لكاتب أمريكي ( اسمه ألان سيجر Allan Seager ) بعنوان " عن هذه المدينة وسلامنكا This Town and Salamanca " وتدور أحداث القصة حول رهط من الشباب ينشئون في نفس المدينة ، ولكن أحدهم كان بوهيميّا ، لا يتردد في الانتقال من بلده إلى مدن وموانئ بعيدة ( سلامنكا هنا هي رمز هذا العالم البعيد الذي يرتاده صاحبنا ) . وكان صاحبنا يعود من آونة لأخرى ليقص على رفاقه قصص المغامرات المختلفة التي خاضها . أما هم فيبقون في مدينتهم ليعلموا أبناءها وليبنوا بيوتاً وجسوراً . وتدعونا القصة للإعجاب بالبطل البوهيمي ، ولكن تعاطفنا الحقيقي يتوجه لهؤلاء الذين بقوا وعلموا وبنوا . وقد تعلمت من هذه القصة أن التحليق البانورامي ليس دائماً صفة إيجابية ، وأنه يمكن أن يقنع المرء بالقليل وينجزه . ولذا حين عدت من الولايات المتحدة كان عندي ثلاث متتاليات : أن أكون ناقداً أديباً جامعياً وأباً وزوجاً متميزاً ، فإن أخفقت فلأكن أستاذاً جامعياً وأباً وزوجاً متميزاً ، فإن أخفقت فلأكن أباً وزوجاً متميزاً . وغني عن القول أن متتالية حياتي كانت مختلفة عن " خطتي " ( فلم أصبح ناقداً أديباً ولم أستمر في التدريس في الجامعة ، ولا أدري هل كنت أباً وزوجاً متميزاً أم لا ، ولأترك الحكم لأولادي وزوجتي ) . ولكن المهم أنني روضت الذئب الهيجلي ، والنزعة النيتشوية الفاوستية : أن أجوب كل الآفاق وأن أجر كل التجارب وأن أجاوز كل الحدود ، وبدلاً من ذلك ، قبلت الحدود الإنسانية واحتمالات الانتصار والانكسار .
وبرغم إدراكي لمخاطر الذئب الهيجلي ، وبرغم نجاحي في ترويضه ( ومن هنا نجحت في نشر بعض الكتب التي لا تحتوي على دراسات " شاملة كاملة ضخمة " ... إلخ ) ، فإنه ظل رابضاً داخلي ، فكنت كلما انتهيت من إحدى دراساتي عن الصهيونية ، أعلن أن هذه آخر دراسة ، أملاً في أن أبدأ دراستي النظرية الشاملة والتطبيقية في ذات الوقت . ومع هذا ظلت الصهيونية ( كموضوع للدراسة ) تلاحقني ، وكلما انتهيت من كتابة دراسة ما عن الصهيونية كنت أجد نفسي مضطراً لكتابة الثانية ثم الثالثة وهكذا ( كنت أشعر أحياناً أن من يدفعني إلى ذلك هو الله سبحانه وتعالى ، وأن هذه مشيئته ) . وقد قررت عام 1984 أن أذبح الذئب الهيجلي المعلوماتي تماماً ، فقبلت الاستمرار في الكتابة في حقل الصهيونية وحسب ، أي أنني تخليت عن المشروع النظري التطبيقي الطموح . والطريف أنني حينما فعلت ذلك ، تداخلت كل الأطروحات الأيديولوجية والفلسفية ( وهي على كلٍّ كانت متداخلة منذ البداية ) وتبلورت النماذج التحليلية ، وبدأت أحاول الإجابة عن التساؤلات التي تطرح نفسها عليّ من خلال دراساتي في اليهودية واليهود والصهيونية التي تحولت تدريجياً من الموضوع الأساسي للموسوعة إلى مجرد " دراسة حالة " ، أي أنني أتصور أنني كتبت دراسة تتسم بقدر معقول من التجريد والشمول ومن التعيُّن والتخصيص ، وأن الحلم الهيجلي ( أو بعض جوانبه ) قد تحقق دون أن ينهشني الذئب . ولهذا فمعظم كتبي القادمة – بإذن الله – ستكون عن موضوعات نظرية عامة مثل العلمانية الشاملة والحلولية وما بعد الحداثة ، وتتعامل في الوقت ذاته مع نصوص وحالات معينة .
ومع هذا ، لاشك في أن هناك بقايا " هيجلية " تتبدى في إعجابي الشديد بالفلسفة الألمانية ومقولاتها التحليلية . كما يتبدى في كثير من مقولاتي التحليلية مثل نهاية التاريخ والفردوس الأرضي والثالوث الحلولي واهتمامي بالبعد المعرفي الكلي والنهائي للظواهر . واهتمامي بالصهيونية لم يكن قط سياسياً بل أتناولها من خلال مقولات مثل : إشكالية الإنسان وعلاقته بالطبيعة والتاريخ – الغنوصية – الواحدية المادية – الأسطورة المنفصلة عن التاريخ – الداروينية – العلم المنفصل عن القيمة والغاية ... إلخ . ولكن هذه المقولات التحليلية الكبرى ليست مجرد مقولات نظرية ساكنة عامة ، وإنما لها تجلياتها المتعينة في تفاصيل التاريخ والواقع الكثيرة . ومن هنا قولي إنها مجرد " بقايا هيجلية " لأنني أرفض الواحدية الهيجلية ، أرفض كلاً من المثالية الخالصة والمادية الخالصة ، فكلاهما بمفرده واحدي اختزالي ولكن حينما يتقاطعان فإننا ندخل عالماً مركبة أبعاده ، عالم الإنسان والأسرار .
كتاب رحلتي الفكرية
لـ عبد الوهاب المسيري – رحمه الله –
166- 176 .
ادعوكم للتأمل في ما كتب المسيري والبحث في أنفسكم عن هذا الذئب،
وسبيل النجاة منه ما دام في العمر متسع،