المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : معضلة أسعار صرف العملات الخليجية



إنتعاش
15-12-2009, 01:02 PM
معروف أن دول مجلس التعاون الخليجي تتبع سياسة نقدية قائمة على تثبيت fixing صارم لسعر الصرف، بعملة أو مجموعة عملات. وقد مكن هذا التثبيت، أو ما يسمى أحيانا بالربط peg، وغالبا بالدولار، اقتصادات الخليج من استيراد السياسة النقدية لأمريكا المستقرة نسبيا فترة طويلة من الزمن. إلا أنه مع تغير الظروف ترتفع الأصوات لتعديل سياسة ونظام الصرف الحالي.

الهدف هنا المساعدة على فهم أبعاد المشكلة، وليس تبني نظام صرف بعينه، وبالمناسبة هناك ما يقارب تسعة أو عشرة أنظمة صرف تتفاوت بين أعلى درجة من التعويم إلى أعلى درجة من التثبيت، كما هو الوضع في المملكة العربية السعودية.

ما من سياسة سعر صرف (واقتصادية عموما) إلا ولها آثار مرغوب فيها وآثار غير مرغوب فيها، وقوة الآثار تتغير بتغير الزمان والمكان.

تسعى سياسة أسعار الصرف في دول الخليج إلى استقرار سعر الصرف، ولكن الحصول على سعر صرف مستقر عبر هذه السنين لم يأت دون ثمن باهظ. مثلا، كما ينظر الآن إلى أن الريال مسعر إزاء الدولار بأقل من قيمته اعتمادا على الظروف السائدة، فإننا، تبعا للمنهجية نفسها، نقول إن الريال كان مسعرا بأعلى من قيمته التي تعكسها ظروف انخفاض أسعار النفط وارتفاع أسعار الدولار إبان عقد التسعينيات من القرن الميلادي الماضي.

وحتى عندما خفضت السلطات النقدية السعودية سعر الصرف عام 1986، من 0.29 إلى 0.27 دولار تقريبا للريال (3.5 إلى 3.75 ريال للدولار) فالتخفيض يبدو أقل من اللازم، مقارنة أولا بالرفع السابق في أواسط عقد السبعينيات من نحو 0.22 إلى 0.29 دولار للريال، (4.5 إلى 3.5 ريال للدولار تقريبا)، ومقارنة ثانيا بالتدهور الشديد الذي حصل لأسعار النفط آنذاك، وتبعات ذلك على الاقتصاد السعودي.

هل التسعير يتطلب التثبيت بالعملة نفسها؟ أقوى مناقشة، حسب علمي، تدافع عن استمرار دول الخليج في تثبيت عملاتها بالدولار أن النفط مسعر بالدولار. لكن هذه الحجة تتجاهل الدورات الحادة في تذبذب أسعار النفط. كما أنه يمكن مناقشة تلك الحجة بكون التسعير بالدولار لا يجبر الدول على تسلم عائداتها بالدولار.

يتسبب وجود تلك الدورات الحادة في أسعار النفط في وجود صعوبات ومتاعب كبيرة في سياسات إدارة سعر الصرف، وخاصة على المدى البعيد. ذلك أن هذه الظروف تؤثر في حركة سعر الصرف الحقيقي. واستقرار سعر الصرف الحقيقي له دور محوري في استقرار الاقتصاد وفي النمو الاقتصادي، نظرا لتعلقه بحركة رأس المال مع العالم الخارجي والمزايا النسبية في التجارة الدولية، وخاصة على المدى البعيد.

وباختصار ينظر إلى سعر الصرف الحقيقي على أنه مقياس للتنافسية، ولذا يتطلب رسم السياسات الاقتصادية الكلية واستراتيجيات التنمية في الدول النامية النظر بدرجة أكبر إلى سعر الصرف الحقيقي.

ومن المعروف أن ارتفاع الصادرات يضغط على أسعار الصرف الحقيقية للارتفاع، ولكن مع تثبيت سعر الصرف تثبيتا تاما كحالة الريال، فإن تلك الضغوط لارتفاع أسعار الصرف الحقيقية تتركز على الأسعار النسبية بين الدول، بأن ترتفع أسعار ما لا يقبل الاستيراد بصورة أكبر من ارتفاع أسعار ما يقبل الاستيراد، لأن المنافسة في هذه الأخيرة أقوى، ولذا تميل معدلات الربح إلى أن تكون في الغالب أعلى في الأولى (ما لا يقبل الاستيراد). وطبعا هذا تضخم غير مستورد.

ارتفاع سعر الصرف الحقيقي يقلل من تنافسية الاقتصاد المحلي، وهذا أحد أوجه ما يسمى المرض الهولندي، Dutch disease، ويتخذ أكثر من صورة. وبالنسبة للاقتصادات الخليجية، يمكن أن نقول عنه بعبارة مبسطة جدا أن صادرات الموارد الطبيعية تتيح الحصول على النقد الأجنبي بسهولة، دون تطوير القطاعات الاقتصادية للسلع والخدمات التي يمكن أن تدخل في التجارة الدولية (تستورد أو تصدر)، ومن ثم يتركز الاستثمار والنشاط الاقتصادي في قطاعين كبيرين: قطاع الموارد الطبيعية، وقطاع الخدمات والعقارات التي لا يمكن أو تصعب منافستها من الخارج (لا تقبل المتاجرة دوليا).

ومن المعضلات الأخرى لسعر الصرف في الدول الناهضة اقتصاديا أنها حين تتطلع إلى نمو اقتصادي راسخ، فهذا يتطلب قدرات تنافسية خاصة مع الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية.

ويعزز القدرات التنافسية كون العملة مقومة بأقل من قيمتها. استهداف النمو الاقتصادي بعملة رخيصة نسبيا سياسة سارت عليها الصين وسارت عليها دول كثيرة. وهي سياسة قريبة من أن تكون ضرورية لنمو وتنويع مصادر الدخل، ولاكتساب القوة التنافسية في قطاعات السلع والخدمات القابلة لأن تستورد، خاصة مع شدة الاعتماد على الاستيراد، حتى ما لا يصعب إنتاجه محليا.

ولكن قد لا تستغل هذه التنافسية كما ينبغي، كأن توجد مشكلات تسويقية، أو تكتلات احتكارية محلية ترفع الأسعار على المستهلكين. أو مع استمرار وجود عوائق أمام الاستثمار، مثل نقص الأراضي الصناعية المطورة، كما هو حاصل في المملكة حاليا.

وباختصار، سعر الصرف المنخفض نسبيا عامل مهم للحصول على قوة تنافسية في مساعي نمو وتنويع مصادر الدخل لدول الخليج، وخاصة للسعودية وعمان، ولكنه لا ينبغي أن ينظر إليه بمعزل عن عوامل أخرى مؤثرة, وبالله التوفيق.

د. صالح السلطان
*نقلا عن صحيفة الاقتصادية السعودية.