مطيع الله
27-12-2009, 07:54 AM
إن عدل الله سبحانه وتعالى يشمل الوجود كله، فبه قامت السماوات والأرض، وهو ميزان استقرار الكون وناموس استمرار الحياة البشرية، وعدل الله تعالى يشيع في كل تشريعاته، ومنها تعدد الزوجات، فهو منوط في الإسلام، بالعدل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا))(1)، وتلك
------------------
(1) سورة ق: من الآية 37.
(2) صحيح مسلم ج3(ط2 دار الفكر بيروت 1398هـ) ص 1453، سنن النسائي بشرح زهر الربى للسيوطي ط1(1383هـ)ط م البابلي الحلبي، ج8 ص 195، 196؛ والمستدرك على الصحيحين للنيسابوري، م النصر الحديثة بالرياض ج4 ص 88 (من حديث عبد الله بن عمر).
===================================
مسألة يندر وجودُها مع التعدُّدالفطريّ أو في التشريعات السابقة على الإسلام، ذلك الدينُ الذي قضى بصريح نصِّ القرآن الكريم ]فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة[(1) والعدلُ المقصود هو العدل في المعاملة، على تفصيل، أما العدل في المحبة القلبية فهذا بيد مقلِّب القلوب ولا سلطانَ لبشر عليه.
وهذا العدلُ كان منفياً قبلَ الإسلامِ، رغمَ أن التعدد كانَ قائماُ ومعترفاً به فطرةً وتشريعاً، ولقد تعدد الزوجات عند العرب قبل الإسلام من غير تقييد عدديٍّ، وكانت قبائلُ العربِ في الجاهليةِ تُفاخرُ به، رغمَ ما كانَ يكتنفُه من سَوقِ النساء سوقاًّ إلى حيث العذابُ الذي لا رحمةَ معه والظلمُ الذي ينتفي معه كل عدلٍ، ولقد أسلمَ غيلانُ بنَ سلمةَ وعندَه عشرُ نسوة، وقيلَ ثمانيَ نسوة اسلمن معه، كما أسلمَ الحارثُ بنُ قيس وعنده ثماني نسوةٍ، و أسلمَ عٌميرٌ الأسديَّ وعنده ثماني نسوة، وقد أمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باختيار أربع منهن فقط، على ما يلي(2).
ولم تمنعْ شريعةُ موسى عليهالسلامُ تعدُّد الزوجات ولأنها شريعةٌ ربانية فقد اشترطت العدلَ شرعاً، ولكنه ضاعَ واقعاً وعملاً، ولم يكن للتعدد حدودٌ في الشريعة الموسويَّة، وليس في شريعة عيسى عليه السلامُ ما ينفي التعدُّدَ، وتتبُّع سير أنبياء الله عليهم السلامُ يدلُّ على أن التعدُّد كان قائماً على نحو يُخرصُ كافًّةَ ألسنة المستشرقين.
ولى سبيل المثال فإن إبراهيمَ أبا الأنبياء عليه السلامُ قد تزوُّج بسارة ثم تزوُّجَ بهاجَر في حياة سارة(3)، ولو كان النكاحُ الثاني غيرَ جائزٍ لما أبقاهُ الله، والثابتُ أنَّ الله تعالى لم يأمره بفسخه، كما لم يقضِ ببطلانه، وليس هناكَ من يجادلُ في زواجه
-----------------------
(1) النساء: من الآية 3.
(2) انظر أحمد بن عبد العزيز الحصين، المرأة المسلمة أمام التحديات، دار البخاري للنشر والتوزيع ط5 ص 171 والمصادر التي أشار إليها.
(3) إبن كثير (الإمام أبو الفداء إسماعيل ..) قصص الأنبياء، تحقيق وتعليق عبدالقادر عطا ط1 1401 م حسان ص 220 وما بعدها.
=================
عليه السلامُ من سارةَ وبأن الله سبحانَه وتعالى قد رزقه بإسماعلي من هاجرَ، ولا شكَّ أنَّ وقوفَ المستشرقينَ عندَ التعدد في الإسلام ونقده وحدَه، يستلزمُ تيَقَّنَ المسلم الصادق والمسلمة الصادقة أنَّ وراءَ ذلكَ رغبةٌ في هدمِ هضه العقيدةِ بدليلِ أنَّ التعدُّدَ لم يكن بدْعاً في الإلسامِ.
ومن شاءَ فليتدبر أمرَ يعقوبَ عليه السلامُ فقد تزوَّجَ أربعَ نسوة، هنَّ ليا وراحيل، وهما أختان لم يحرمهما اللهُ تعالى عليه لحكمة يعلمها جلَّ شأنُه، وبلها وزلفا وكانتا جاريتين، وهذا التعدُّد من يعقوبَ عليه السلامَ ليسَ له إلا معنىً واحداً يلقم المستشرقين حجراً، وهو ثبوتُ تعدُّد الزوجات بدليل (( جواز مثل هذا التزاوج في شريعته)(1) عليه السلام.
وجدعون بن يوآش كان له زوجاتُّ كثيراتٌّ انجب منهن سبعينَ ابناً(2)، ونُبُوَّةُ جدعون جيئَتْ في الإصحاح السادسِ والسابع من سفرِ القضاةِ، الذي تبيَّن منه أنه أوحيَ إلَيه وألْهِمَ(3).
كذلك فإنَّ نبيَّ الله داودَ عليه السلامُ قد تزوجَ نساءً كثيراتٍ، فقد تزوَّج منحالَ بنتَ شاولُ، ثم تزوج في نفس الوقت نساءاً أخرياتٍ هن أحينقام ونيبال ومعكا ابنة تلمى ملك جاشور وججيت وأبيطل وعجلاَ، على ما جاء في الباب الثالث من سفر سموئيل الثاني(3/14-16) بل وردَ في الآية الثالثة عشرة من الباب الخامس من هذا السفرما نصَّه "وأخذ أيضاً داوُد نسواناً وسراريَّ من أورشليم من بعد أن أتى من
--------------------
(1) رحمتُ الله بن خليل الرحمن الكيرانوي العثماني الهندي(ت 1308 هـ مكة المكرمة) إظهار الحق ج4 تحقيق د. محمد أحمد محمد عبد القادر خليل ملكاوين طبع الرئاسة العامة للإفتاء زز بالرياض 1410 هـ ص 1322.
(2) قاموس الكتاب المقدس لمجموعة من الاساتذة و اللاهوتيين، مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، ط2، بيروت 1971م ص292.
(3) ففي الإصحاص السادس من سفر القضاة 22-" فقال جدعون آه يا سيدي الرب لأني قد رأيت ملاك الرب وجهاً لوجه"
===================================
حبرون وَوُلِدَ لداوُدَ أيضاً بنون وبنات" بل تزوَّج في آخرِ عمرِه شابَّةً عذرءَ أخرى تدعى بيشاغَ الشونامية(1).
وسليمانُ عليه السلامُ تزوُّج بألف امرأة منهن سبعمائة حُرَّات من بنات السلاطين وثلاثمائةٍ من الجواري، على ماهو ثابت في سفر الملوك الأول(2).
ويقول المحققون في شريعة موسى عليه السلامُ أنه لا يُفهم "من موضع من مواضع التوراة حرمة التزوج بأزيدَ من امرأة واحدة، ولو كان حراماً لصرُّح موسى عليه السلامُ بحرمته كما صرَّح بسائر المحرمات، .. بل يفهم جوازه في مواضع .. (فالأبكار) التي كانتْ في غنيمة الميانيين كانت اثنين وثلاثين ألفاً، وقسمتْ على بني إسرائيلَ سواء كانوا ذوي زوجاتٍ أو لم يكونوا .."(3).
وجاءَ في الباب الحادي والعشرين من سفر التثنية ".. وإن كانت لرجل امرأتان الواحدة محبوبة والأخرى مبغوضة ويكونُ لهما منه بنون وكان ابنُ المبغوضة بكراً وأرادَ يُقسِمُ رزقَه بين أولاده فلا يستطيعُ يَعْمَلُ ابنَ المحبوبة بكراً ويقدِّمَه على ابن المبغوضةِ .." فالشاهدُ أنَّ التعدُّد كانَ قائماً "فثبت أنَّ كثرةَ الأزواج ما كانت محرمة في شريعة موسى، فلذلك أخذ جدعونُ وداوُد وغيرهما من صالحي الأمة الموسَوَّة نساءً متعددات"(4).
ولما كان عيسى بنُ مريم عليهما السالمُ قد جاءَ مكملاً لشريعة موسى عليه السلامُ، فإنَّه لم يردْ بالإنجيلِ، أيُّ نصٍّ يُحرِّمُ الزوجات، ولكنَّ حظر التعدَّدتمَّ على يد رجال الكنيسة، وقرارات المجامع الكنسية وهو حظرٌ من عمل البشر لا من عند الله تعالى، مع ملاحظة أن التحريفَ الذي حلَّ بما يُسمى الكتب المقدسة أو
---------------------------------
(1) قاموس الكتاب المقدس، المرجع السابق ص22 وص530.
(2)1/1-4.
(3) رحمتُ الله بن خليل الرحمين .. الهندي، إظهار الحق، المرجع السابق ص1326.
(4) المرجع السابق ص1327.
======================================
الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وملحقاتهما، قد ورد -أساساً- على التبشير بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وبعقيدة التوحيد ووحدانية الله تعالى، فقد رُفع كل ما يتعلق بذلك. ويقول جورجي زيدان، إنَّ النصرانية ليس فيهما نصُّ صريحٌ يمنع أتباعها من التزويج بامرأتين فأكثر ولو شاؤوا لكان تعدُّد الزوجاتِ جائزاً عندَهم(1).
وحاصلُ ما تقدَّمَ أن التعدُّد كانَ واقعاً تشريعياً لدى كثير من أنبياء الله عليهمُ السلامُ وبخاصة في شريعة موسى وشريعة عيسى عليهما السلام، وهذا امرٌ فطريٌ أيضاً، فليسَ في القطرةِ الإنسانية السوية ما ينافي التعدُّد في الزوجاتِ، بل أن التعدد ارتبط بالتقدم الحضاريِّ على ما حققه بعض الفقهاء.
بيان ذلك انَّ نظامَ تعدد الزوجات كان ((معمولاً به لدى كثير من المجتمعات القديمة وخاصةً العبريينَ والعرَبَ في الجاهلية والصقالبة وبعض الشعوب السكسونية .. وهولم يظهر بصورة واضحة إلا في الشعوب المتقدمة في الحضارة على حين أنَّه كان قليلَ الانتشارَ أو منتعدماً في الشعوب المتأخرة البدائية(2). ولكن على العكس من هذه الحقيقة، يحاولُ المستشرقونَ الربْطَ بينَ تعدد الزوجات والتأخرن استناداً إلى أن الدولة الرومانية كانت دولة متقدمة، وكان من نتيجة ذلد أن ((حافظ الرومان دائماً على مبدأ عدم تعدد الزوجات))(3)، وهذا وهمٌ، فأما أن الرومانَ حافظوا على عدم التعدد، فأمرٌ في جانبٌ كبير من الحقيقة، وسبب ذلك أن الرجالَ
------------------------
(1) مصطفى السباعي، المرأة بين الفقه والقانون ط1 ص74، وانظر ص92 في بيان أن الكنيسة في أوروبا حرمت التعدد وأباحته على هواها، وبمقتضى ذلك اتخذ ديار ميت ملك إيرلندا زوجتينن وملك فرنسا، والملك فردريك الثاني، وقد أباحت الكنيسة في منتصف القرن الرابع الميلادي للمواطنين كافة أن يتزوجوا عدة زوجات إن شاؤوا ذلك. وقد اعترفت الكنيسة للملك شارلمان بأبناء شرعيين من عدة زوجات وبقي التعدد باعتراف الكنيسة حتى القرن السابع عشر، والبروتستانت يعتبرون التعدد أمراً طبيعياً.
(2) الشيخ علي عبد الواحد وافي: الأسرة والمجتمع، القاهرة 1948 ص80.
(3) انظر في العبارة لمقتبسة، د. محمد عبد المنعم بدر، د. عبدالمنعم البدراوي، مبادئ القانون الروماني، 1951 بند 128 ص220.
==========================
كان يمكنهم دائماً إشباعَ رغباتهم الجنسية من الأسيرات، وعبر دور العهارة، و أمَّا أنَّ الدولة الرومانية كانت متقدمة، بأشن المرأة على نحو حالَ دون التعدد، فهذا تزييفُّ للحقيقة، وتكفي للدلالة على ظلم المرأة الفادح أنَّ زواجها كان يتمُّ في حالة الزواج بالسيادة إماَّ عن طريق الزواج الدينيِّ بالنسبة للأشراف، وإما عن طريق الشراء وهذا هو زواج العامة، وأما من خلال المعاشرة غير المشروعة ملدة معينة فيكسبُ بعدها السيادة عليها. كما كان الزواج يتم في حالة الزواج بلا سيادة من خلال زواج عرفيٌ حيث كانت الزوجةُ تدخُل في اسرة زوجها باعتبارها ابنةً له، وظلت المرأة دائما ناقصة الأهلية حتى العصر البيزنطيِّ، فأيُّ تقدم في هذا!! حسبنا أن نقرأ قول علماء القانون أن هذه الأحكامَ كانت ((تتضمن بقايا نظام تعسفي مخالف للطبيعة ولروح العدالة))(1)، وإذا صح ذلك فإنه يمكن القول ان حظر الكنيسة تعدد الزوجات يحمل في طياته نزعة رمانيةًن نزع إليها رجال الدين، على خلاف نصوص الإنجيل الذي لم يوجب الاقتصار على زوجة واحدة أبداً فذلك ضد حقائق الدين وفطرة البشر(2) وهي نزعة لازالت تحركَ أقلام المستشرقين ضد الإسلام دون وجه حق(3).
وفطرة الناس تنزع إلى الحق الذي تأتي به الشرائع، لذلك فإنَّ تعدد الزوجات ساد لدى البابليين نتيجة اختلاطهم باليهود وعلمهم بإباحة التعدد في شريعتهم،بل إن القوانين الوضعية في بعض البلاد ذات الحضارة القديمة أباحت التعدد كقانون ماوا في الهند، فقد أقر ذلك القانون، تعدد الزوجات باختلاف رتبة الزوج، فالكهنة كان ((يحق لهم أن يتزوجوا بأربع وهم الأعلون، ومن دونهم يحق لهم
-----------------------
(1) المرجع السابق بند 305 ص267، انظر نفس المرجع من بند 228 ص220 حتى بند 304 ص266.
(2) انظر مصطفى الفلابيني: الإسلام روح المدنية ط1 بيروت 1960م؛ زاهر عزب: الإسلام ضرورة عالمية، مصر 1971 ص199.
(3) عفيف عبد الفتاح طبارة، روح الدين الإسلامي، ط20 تموز 1980 بيروت ص372، ويؤخذ على المؤلف وصفه التعدد بأنه عادة وليس شريعة.
==================================
التزوج بثلاث، ومن دونهم باثنتين والمنبوذون أصحاب الطبقةالدنيا لهم لحق في واحدة))(1) وساد مثل ذلك في قانون حمورابي وغيره من الشرائع الوضعية القديمة.
والحاصل أن الإسلام عندما عدد الزوجات، فإنه أضفى طابعاً شرعياً ابدياً عليه، بعد أن خلَّصه مما داخله من ظلم إنساني نجم عن النأي عن المنهج الرباني، فأتى بنظام يقيد الإطلاق الشرعي والوضعي السابق للتعدد، ويحيطه بهالة من الأخلاق، حفظاً لكرامة المرأة، وصوناً لعفتها، وغيرة على طهرها، ونأياً بها عن كل ما يدنس كرامتها أو يسيء لإنسانيتها، وتلك أمور لم تعرفها الأنظمة الوضعية السابقة على الإسلام أو اللاحقة له، فسبحان الشارع العظيم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ويشرع للناس مايرحمهم وينتشلهم من وهدة الضياع التي يتردى فيها كل من ينأى عن شرع الله الحكيم وحبله المتين.
-------------------------
(1) الحسين بولعابة، تطور الزواج على مر العصور، محاضرات وزارة العدل بتونس لعام 1968 ص14.
------------------
(1) سورة ق: من الآية 37.
(2) صحيح مسلم ج3(ط2 دار الفكر بيروت 1398هـ) ص 1453، سنن النسائي بشرح زهر الربى للسيوطي ط1(1383هـ)ط م البابلي الحلبي، ج8 ص 195، 196؛ والمستدرك على الصحيحين للنيسابوري، م النصر الحديثة بالرياض ج4 ص 88 (من حديث عبد الله بن عمر).
===================================
مسألة يندر وجودُها مع التعدُّدالفطريّ أو في التشريعات السابقة على الإسلام، ذلك الدينُ الذي قضى بصريح نصِّ القرآن الكريم ]فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة[(1) والعدلُ المقصود هو العدل في المعاملة، على تفصيل، أما العدل في المحبة القلبية فهذا بيد مقلِّب القلوب ولا سلطانَ لبشر عليه.
وهذا العدلُ كان منفياً قبلَ الإسلامِ، رغمَ أن التعدد كانَ قائماُ ومعترفاً به فطرةً وتشريعاً، ولقد تعدد الزوجات عند العرب قبل الإسلام من غير تقييد عدديٍّ، وكانت قبائلُ العربِ في الجاهليةِ تُفاخرُ به، رغمَ ما كانَ يكتنفُه من سَوقِ النساء سوقاًّ إلى حيث العذابُ الذي لا رحمةَ معه والظلمُ الذي ينتفي معه كل عدلٍ، ولقد أسلمَ غيلانُ بنَ سلمةَ وعندَه عشرُ نسوة، وقيلَ ثمانيَ نسوة اسلمن معه، كما أسلمَ الحارثُ بنُ قيس وعنده ثماني نسوةٍ، و أسلمَ عٌميرٌ الأسديَّ وعنده ثماني نسوة، وقد أمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باختيار أربع منهن فقط، على ما يلي(2).
ولم تمنعْ شريعةُ موسى عليهالسلامُ تعدُّد الزوجات ولأنها شريعةٌ ربانية فقد اشترطت العدلَ شرعاً، ولكنه ضاعَ واقعاً وعملاً، ولم يكن للتعدد حدودٌ في الشريعة الموسويَّة، وليس في شريعة عيسى عليه السلامُ ما ينفي التعدُّدَ، وتتبُّع سير أنبياء الله عليهم السلامُ يدلُّ على أن التعدُّد كان قائماً على نحو يُخرصُ كافًّةَ ألسنة المستشرقين.
ولى سبيل المثال فإن إبراهيمَ أبا الأنبياء عليه السلامُ قد تزوُّج بسارة ثم تزوُّجَ بهاجَر في حياة سارة(3)، ولو كان النكاحُ الثاني غيرَ جائزٍ لما أبقاهُ الله، والثابتُ أنَّ الله تعالى لم يأمره بفسخه، كما لم يقضِ ببطلانه، وليس هناكَ من يجادلُ في زواجه
-----------------------
(1) النساء: من الآية 3.
(2) انظر أحمد بن عبد العزيز الحصين، المرأة المسلمة أمام التحديات، دار البخاري للنشر والتوزيع ط5 ص 171 والمصادر التي أشار إليها.
(3) إبن كثير (الإمام أبو الفداء إسماعيل ..) قصص الأنبياء، تحقيق وتعليق عبدالقادر عطا ط1 1401 م حسان ص 220 وما بعدها.
=================
عليه السلامُ من سارةَ وبأن الله سبحانَه وتعالى قد رزقه بإسماعلي من هاجرَ، ولا شكَّ أنَّ وقوفَ المستشرقينَ عندَ التعدد في الإسلام ونقده وحدَه، يستلزمُ تيَقَّنَ المسلم الصادق والمسلمة الصادقة أنَّ وراءَ ذلكَ رغبةٌ في هدمِ هضه العقيدةِ بدليلِ أنَّ التعدُّدَ لم يكن بدْعاً في الإلسامِ.
ومن شاءَ فليتدبر أمرَ يعقوبَ عليه السلامُ فقد تزوَّجَ أربعَ نسوة، هنَّ ليا وراحيل، وهما أختان لم يحرمهما اللهُ تعالى عليه لحكمة يعلمها جلَّ شأنُه، وبلها وزلفا وكانتا جاريتين، وهذا التعدُّد من يعقوبَ عليه السلامَ ليسَ له إلا معنىً واحداً يلقم المستشرقين حجراً، وهو ثبوتُ تعدُّد الزوجات بدليل (( جواز مثل هذا التزاوج في شريعته)(1) عليه السلام.
وجدعون بن يوآش كان له زوجاتُّ كثيراتٌّ انجب منهن سبعينَ ابناً(2)، ونُبُوَّةُ جدعون جيئَتْ في الإصحاح السادسِ والسابع من سفرِ القضاةِ، الذي تبيَّن منه أنه أوحيَ إلَيه وألْهِمَ(3).
كذلك فإنَّ نبيَّ الله داودَ عليه السلامُ قد تزوجَ نساءً كثيراتٍ، فقد تزوَّج منحالَ بنتَ شاولُ، ثم تزوج في نفس الوقت نساءاً أخرياتٍ هن أحينقام ونيبال ومعكا ابنة تلمى ملك جاشور وججيت وأبيطل وعجلاَ، على ما جاء في الباب الثالث من سفر سموئيل الثاني(3/14-16) بل وردَ في الآية الثالثة عشرة من الباب الخامس من هذا السفرما نصَّه "وأخذ أيضاً داوُد نسواناً وسراريَّ من أورشليم من بعد أن أتى من
--------------------
(1) رحمتُ الله بن خليل الرحمن الكيرانوي العثماني الهندي(ت 1308 هـ مكة المكرمة) إظهار الحق ج4 تحقيق د. محمد أحمد محمد عبد القادر خليل ملكاوين طبع الرئاسة العامة للإفتاء زز بالرياض 1410 هـ ص 1322.
(2) قاموس الكتاب المقدس لمجموعة من الاساتذة و اللاهوتيين، مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، ط2، بيروت 1971م ص292.
(3) ففي الإصحاص السادس من سفر القضاة 22-" فقال جدعون آه يا سيدي الرب لأني قد رأيت ملاك الرب وجهاً لوجه"
===================================
حبرون وَوُلِدَ لداوُدَ أيضاً بنون وبنات" بل تزوَّج في آخرِ عمرِه شابَّةً عذرءَ أخرى تدعى بيشاغَ الشونامية(1).
وسليمانُ عليه السلامُ تزوُّج بألف امرأة منهن سبعمائة حُرَّات من بنات السلاطين وثلاثمائةٍ من الجواري، على ماهو ثابت في سفر الملوك الأول(2).
ويقول المحققون في شريعة موسى عليه السلامُ أنه لا يُفهم "من موضع من مواضع التوراة حرمة التزوج بأزيدَ من امرأة واحدة، ولو كان حراماً لصرُّح موسى عليه السلامُ بحرمته كما صرَّح بسائر المحرمات، .. بل يفهم جوازه في مواضع .. (فالأبكار) التي كانتْ في غنيمة الميانيين كانت اثنين وثلاثين ألفاً، وقسمتْ على بني إسرائيلَ سواء كانوا ذوي زوجاتٍ أو لم يكونوا .."(3).
وجاءَ في الباب الحادي والعشرين من سفر التثنية ".. وإن كانت لرجل امرأتان الواحدة محبوبة والأخرى مبغوضة ويكونُ لهما منه بنون وكان ابنُ المبغوضة بكراً وأرادَ يُقسِمُ رزقَه بين أولاده فلا يستطيعُ يَعْمَلُ ابنَ المحبوبة بكراً ويقدِّمَه على ابن المبغوضةِ .." فالشاهدُ أنَّ التعدُّد كانَ قائماً "فثبت أنَّ كثرةَ الأزواج ما كانت محرمة في شريعة موسى، فلذلك أخذ جدعونُ وداوُد وغيرهما من صالحي الأمة الموسَوَّة نساءً متعددات"(4).
ولما كان عيسى بنُ مريم عليهما السالمُ قد جاءَ مكملاً لشريعة موسى عليه السلامُ، فإنَّه لم يردْ بالإنجيلِ، أيُّ نصٍّ يُحرِّمُ الزوجات، ولكنَّ حظر التعدَّدتمَّ على يد رجال الكنيسة، وقرارات المجامع الكنسية وهو حظرٌ من عمل البشر لا من عند الله تعالى، مع ملاحظة أن التحريفَ الذي حلَّ بما يُسمى الكتب المقدسة أو
---------------------------------
(1) قاموس الكتاب المقدس، المرجع السابق ص22 وص530.
(2)1/1-4.
(3) رحمتُ الله بن خليل الرحمين .. الهندي، إظهار الحق، المرجع السابق ص1326.
(4) المرجع السابق ص1327.
======================================
الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وملحقاتهما، قد ورد -أساساً- على التبشير بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وبعقيدة التوحيد ووحدانية الله تعالى، فقد رُفع كل ما يتعلق بذلك. ويقول جورجي زيدان، إنَّ النصرانية ليس فيهما نصُّ صريحٌ يمنع أتباعها من التزويج بامرأتين فأكثر ولو شاؤوا لكان تعدُّد الزوجاتِ جائزاً عندَهم(1).
وحاصلُ ما تقدَّمَ أن التعدُّد كانَ واقعاً تشريعياً لدى كثير من أنبياء الله عليهمُ السلامُ وبخاصة في شريعة موسى وشريعة عيسى عليهما السلام، وهذا امرٌ فطريٌ أيضاً، فليسَ في القطرةِ الإنسانية السوية ما ينافي التعدُّد في الزوجاتِ، بل أن التعدد ارتبط بالتقدم الحضاريِّ على ما حققه بعض الفقهاء.
بيان ذلك انَّ نظامَ تعدد الزوجات كان ((معمولاً به لدى كثير من المجتمعات القديمة وخاصةً العبريينَ والعرَبَ في الجاهلية والصقالبة وبعض الشعوب السكسونية .. وهولم يظهر بصورة واضحة إلا في الشعوب المتقدمة في الحضارة على حين أنَّه كان قليلَ الانتشارَ أو منتعدماً في الشعوب المتأخرة البدائية(2). ولكن على العكس من هذه الحقيقة، يحاولُ المستشرقونَ الربْطَ بينَ تعدد الزوجات والتأخرن استناداً إلى أن الدولة الرومانية كانت دولة متقدمة، وكان من نتيجة ذلد أن ((حافظ الرومان دائماً على مبدأ عدم تعدد الزوجات))(3)، وهذا وهمٌ، فأما أن الرومانَ حافظوا على عدم التعدد، فأمرٌ في جانبٌ كبير من الحقيقة، وسبب ذلك أن الرجالَ
------------------------
(1) مصطفى السباعي، المرأة بين الفقه والقانون ط1 ص74، وانظر ص92 في بيان أن الكنيسة في أوروبا حرمت التعدد وأباحته على هواها، وبمقتضى ذلك اتخذ ديار ميت ملك إيرلندا زوجتينن وملك فرنسا، والملك فردريك الثاني، وقد أباحت الكنيسة في منتصف القرن الرابع الميلادي للمواطنين كافة أن يتزوجوا عدة زوجات إن شاؤوا ذلك. وقد اعترفت الكنيسة للملك شارلمان بأبناء شرعيين من عدة زوجات وبقي التعدد باعتراف الكنيسة حتى القرن السابع عشر، والبروتستانت يعتبرون التعدد أمراً طبيعياً.
(2) الشيخ علي عبد الواحد وافي: الأسرة والمجتمع، القاهرة 1948 ص80.
(3) انظر في العبارة لمقتبسة، د. محمد عبد المنعم بدر، د. عبدالمنعم البدراوي، مبادئ القانون الروماني، 1951 بند 128 ص220.
==========================
كان يمكنهم دائماً إشباعَ رغباتهم الجنسية من الأسيرات، وعبر دور العهارة، و أمَّا أنَّ الدولة الرومانية كانت متقدمة، بأشن المرأة على نحو حالَ دون التعدد، فهذا تزييفُّ للحقيقة، وتكفي للدلالة على ظلم المرأة الفادح أنَّ زواجها كان يتمُّ في حالة الزواج بالسيادة إماَّ عن طريق الزواج الدينيِّ بالنسبة للأشراف، وإما عن طريق الشراء وهذا هو زواج العامة، وأما من خلال المعاشرة غير المشروعة ملدة معينة فيكسبُ بعدها السيادة عليها. كما كان الزواج يتم في حالة الزواج بلا سيادة من خلال زواج عرفيٌ حيث كانت الزوجةُ تدخُل في اسرة زوجها باعتبارها ابنةً له، وظلت المرأة دائما ناقصة الأهلية حتى العصر البيزنطيِّ، فأيُّ تقدم في هذا!! حسبنا أن نقرأ قول علماء القانون أن هذه الأحكامَ كانت ((تتضمن بقايا نظام تعسفي مخالف للطبيعة ولروح العدالة))(1)، وإذا صح ذلك فإنه يمكن القول ان حظر الكنيسة تعدد الزوجات يحمل في طياته نزعة رمانيةًن نزع إليها رجال الدين، على خلاف نصوص الإنجيل الذي لم يوجب الاقتصار على زوجة واحدة أبداً فذلك ضد حقائق الدين وفطرة البشر(2) وهي نزعة لازالت تحركَ أقلام المستشرقين ضد الإسلام دون وجه حق(3).
وفطرة الناس تنزع إلى الحق الذي تأتي به الشرائع، لذلك فإنَّ تعدد الزوجات ساد لدى البابليين نتيجة اختلاطهم باليهود وعلمهم بإباحة التعدد في شريعتهم،بل إن القوانين الوضعية في بعض البلاد ذات الحضارة القديمة أباحت التعدد كقانون ماوا في الهند، فقد أقر ذلك القانون، تعدد الزوجات باختلاف رتبة الزوج، فالكهنة كان ((يحق لهم أن يتزوجوا بأربع وهم الأعلون، ومن دونهم يحق لهم
-----------------------
(1) المرجع السابق بند 305 ص267، انظر نفس المرجع من بند 228 ص220 حتى بند 304 ص266.
(2) انظر مصطفى الفلابيني: الإسلام روح المدنية ط1 بيروت 1960م؛ زاهر عزب: الإسلام ضرورة عالمية، مصر 1971 ص199.
(3) عفيف عبد الفتاح طبارة، روح الدين الإسلامي، ط20 تموز 1980 بيروت ص372، ويؤخذ على المؤلف وصفه التعدد بأنه عادة وليس شريعة.
==================================
التزوج بثلاث، ومن دونهم باثنتين والمنبوذون أصحاب الطبقةالدنيا لهم لحق في واحدة))(1) وساد مثل ذلك في قانون حمورابي وغيره من الشرائع الوضعية القديمة.
والحاصل أن الإسلام عندما عدد الزوجات، فإنه أضفى طابعاً شرعياً ابدياً عليه، بعد أن خلَّصه مما داخله من ظلم إنساني نجم عن النأي عن المنهج الرباني، فأتى بنظام يقيد الإطلاق الشرعي والوضعي السابق للتعدد، ويحيطه بهالة من الأخلاق، حفظاً لكرامة المرأة، وصوناً لعفتها، وغيرة على طهرها، ونأياً بها عن كل ما يدنس كرامتها أو يسيء لإنسانيتها، وتلك أمور لم تعرفها الأنظمة الوضعية السابقة على الإسلام أو اللاحقة له، فسبحان الشارع العظيم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ويشرع للناس مايرحمهم وينتشلهم من وهدة الضياع التي يتردى فيها كل من ينأى عن شرع الله الحكيم وحبله المتين.
-------------------------
(1) الحسين بولعابة، تطور الزواج على مر العصور، محاضرات وزارة العدل بتونس لعام 1968 ص14.