المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المترفون هم المفسدون في الأرض



مطيع الله
21-01-2010, 09:01 AM
على سبيل الترويح عن النفس يلجأ الإنسان أحيانا إلى قراءة قصص الصالحين في كتب التراث القديم، وفي هذه المرة كنت أقرأ كتاب رياض الرياحين في حكايات الصالحين لأبى السعادات عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني ، وهو كتاب حافل بقصص الكثير من الناس الذين أُترفوا في هذه الحياة الدنيا فطغوا وبغوا وأفسدوا ثم أفاقوا من غيّهم وتابوا وأنابوا ، وزهدوا في متاع الدنيا فانطلقوا إلى الصحارى والكهوف، وانقطعوا عن دنيا الناس مستغرقين في العبادة والتبتّل والبكاء حتى وافتهم المنية ، وتكاد نهاية قصص حياتهم جميعا أن تكون واحدة أو متشابهة ، يبكى الواحد منهم بحُرقة شديدة ثم يشهق شهقة واحدة ويسقط ميّتًا على الأرض ، وقد ينكر القارئ من هؤلاء الناس هذا السلوك المتطرف بين حالتين على طرفي نقيض ، تتمزق بينهما النفس الإنسانية بين أقصى الإفراط وأقصى التفريط ، ولكن لا يملك القارئ المدرك لأبعاد النفس الإنسانية وتقلّباتها إلا أن يشعر بالإعجاب الشديد لقوة الإرادة التي جعلت هؤلاء الناس ينتقلون من حالة الترف المطلق إلى حالة الزهد المطلق ، ويستمرون على هذه الحال الأخيرة حتى ينتهي أجلهم على النحو الذي ذكرناه ..

أعترف أن قصصا معينة في هذا الكتاب أسرتني فترة من الزمن كنت أعانى فيها من محنة شديدة الوطأة ، فقدْتُ فيها بالموت بعض من أحببتهم أشد الحب ، بكيتهم أحر البكاء وأنا أردد لنفسي بعض أبيات من الشعر وردت في هذه القصص وكأنها تصف حالهم وحالي معهم .. ووجدت في ذلك بعض السلوى . إلا أن هناك بعض قصص أخرى قليلة في الكتاب لا تجرى على نفس المنوال ولا تنتهي نفس النهايات الفاجعة ، بل لا تخلو من روح المتعة والفكاهة ، منها (الحكاية الخامسة والعشرون) التي وردت على لسان أبى القصّاب الصوفيّ .. قال:
دخلنا جماعةً إلى المارستان [مستشفي الأمراض العقلية] فرأينا فيه فتًى مصابا شديد الهوَسْ .. فوَلعْنا به .. وزدْنا في الوَلَعِ فاتّبعْناه .. فصاح وقال [ساخرا وهو يشير إلينا]: "انظروا إلى ثياب مطرّزة وأجساد معطّرة .. قد جعلوا الولَع بضاعة .. والسّخف صناعة .. وجانبوا العلم رأسا .. ليسوا من الناس ناسًا ..!" .. فقلنا له: أفتحْسن العلم فنسألك ..؟ فقال : إي والله إني لأُحسن علما جمّا فاسألوني .. فقلنا: من السّخيّ في الحقيقة ..؟ فقال: الذّي رزق أمثالكم وأنتم لا تساوون قوت يوم .. ! فضحكنا وقلنا: من أقل الناس شكرًا..؟ فقال: من عُوفي من بلية ثم رآها في غيره فترك العبرة والشكر واشتغل بالبطالة واللهو..! قال: فكسر قلوبنا .. وسألناه عن بعض الخصال المحمودة .. فقال: هي خلاف ما أنتم عليه.. ثم بكى وقال: يا رب إن لم تردّ عليّ عقلي فرُدّ عليّ يدي لعلّى أصفع كل واحد من هِؤلاء صفعة .. فتركناه وانصرفنا ...!
تُرَى ما الذي رآه هذا الفتى المجنون في هؤلاء الناس لكي يستحقوا منه هذه الإهانات..؟ أم أنه لم يكن ينظر إليهم كأفراد ، وإنما رأى فيهم المجتمع الذي قسَا عليه ولم يحتمله ، فانتزعه من أحضان أسرته وعزله في المارستان بعيدا عن تيار حياته وبيئته الطبيعية ..؟!
ومن ناحية أخرى ما الذي لفت نظر هؤلاء الزوار في شخصية هذا الفتى غريب الأطوار .. الذي تكشّف عن حكمة نادرة مع جرْأة لا تخلو من روح فكهة ..؟ وهل يمكن أن تكون قصة هذا الغلام هي التي أوحت بفكرة المثل الشائع الذي يقول: خذوا الحكمة من أفواه المجانين ..؟!
أقول: إذا كان هذا النوع الحكيم من الجنون هو إفراز مجتمع ما ذي خصائص معينة ، فلا بد أنه كان مجتمعا على مستوى رفيع من الفكر والحكمة ، لا بمقياس عصره فحسب بل بمقياس كل العصور.. لأن مجتمعا كالذي نشهده اليوم ، ونعاني من فساده وشروره وإحباطاته يستحيل على العقلاء احتماله ثم يبقون عقلاء أسوياء ، فما بالك بضعاف العقول ..!! تُرى لو كان هذا الغلام يعيش اليوم بين ظهرانينا ورآنا نقيم سورا من الصلب ينزل في أعماق الأرض من عشرين إلى ثلاثين مترا ويمتد على طول حدودنا مع قطاع غزة بحجة منع التهريب .. تُرى ماذا كان سيقول ؟! تُرى لو علم أن الذي قام بتصميم هذا السور أمريكا وأنها هي التي تنفق عليه ويشرف على إقامته مهندسون من الجيش الأمريكي .. وأن الغرض الحقيقي من إقامته هو إحكام الحصار على إخواننا الفلسطينيين (العرب والمسلمين) من أبناء غزة الصابرة الصامدة ، وأن هذا يتم لتحقيق مصالح إسرائيلية وأمريكية محضة .. تُرى لو قيل له أن رئيس ما يُعرف زورًا باسم السلطة الفلسطينية سعيد بهذا الإنجاز ، لأنه (في مخيلته المريضة) يخلّصه من شوكة حماس ، ولا يهمه في سبيل تحقيق هذه الرغبة الشاذة أن يموت سكان غزة من الجوع والمرض والحصار ، و من السموم التي زرعتها إسرائيل في أرض غزة خلال حربها على القطاع السنة الماضية ولا تزال آثارها المدمرة تتكشف للعالم حتى اليوم، تُرى لو عرف الغلام المسكين كل هذه الحقائق المزلزلة .. هل يبقى في جمجمة رأسه ذرّة من عقل..؟!! أم أن رأسه نفسه سينفجر ويسقط هو ميتا من الهلع ...؟!
تقول: ما صلة هذا كله بموضوع المترفين والمفسدين في الأرض .. وأقول لك لو تأمّلت قليلا لتبين لك أن هذا الكلام وثيق الصلة بالموضوع .. فلولا وجود هؤلاء وتفرّدهم بالسلطة هنا وهناك ما وُجد السور الفولاذيّ ولا الحصار ولا التجويع ولا إسرائيل نفسها أصلا ...!
بل ما قامت التكتلات الاحتكارية بين الشركات عابرة القارات ، وكل ما صدّعتُ به رأسك على مدى العام الماضي كله ...! والآن .. تُرى كيف نشأت الفكرة عندي .. وكيف تطورت وتمكنت من تفكيري ..؟ لا أذكر على وجه التحديد منذ متى بدأت تسترعى انتباهى بعض آيات من القرآن كلما مررت بها استوقفتني بشدة فمكثت أتأمل فيها مليّا .. وكلما توقفت عندها امتلأت يقينا بأنها تعنى كثيرا لموضوعات اهتمامي الفكري وأنا أكتب عن الاقتصاد السياسي وعن غول الشركات وعن التكتلات الاحتكارية ، وآثار كل هذا على مصير الإنسان المعاصر .. أول ما استرعى انتباهي بقوة هذه الآيات من سورة الكهف التي تحكى قصة رجلين أحدهما مؤمن رِزْقُهُ من المال محدود ، والآخر فائق الثراء ولكنه كافر بأنعم الله .. اقرأ معي وتأمّل: { وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } * لطالما توقفت طويلا عند هذه الآيات وقد تفجرت الاستفسارات والأسئلة والخواطر في عقلي .. وأنا أراها تتفاعل مع كل ما حصـّلته في حياتي من علم ومعرفة .. الآيات في حد ذاتها بسيطة لا تحتاج في تفسير معانيها إلى كبير عناء .. ولكن يشدّني إليها مع بساطتها ووضوح معانيها روعة ما في أعماقها من دلالات نفسية واجتماعية وكونية .. إنها ليست قصة رجلين فحسب ، وإنما قصة نموذجين من البشر ستجدهما في كل زمان وفي كل بقعة من بقاع الأرض .. ولو ذهبت تتعمق في طبيعة هذين النموذجين لاستطعت أن تبنى بقليل من الوعي تاريخ البشرية بأسره من يوم آدم إلى اليوم .. يقول الظالم لنفسه مباهيا المؤمن: (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) لا حظ أن المال والولد (أو النفر) عندما يجتمعان في التعبير القرآنى فليس المقصود بهما فقط المال العادي والولد العادي مما يفاخر به الرجال العاديّون ، فبعض المفسرين يرى أن هذا تعبير أيضا عن الثروة والسلطان مجتمعان .
لاحظ أيضا أن الرجل الظالم لنفسه لا يخطر بباله إلا أن جنته الأرضية خالدة لن تبيد أبدا ، وهو لا يؤمن بيوم القيامة ، وتبعا لذلك لا يؤمن بالحساب ولا الجنة ولا النار، ومع ذلك يعتقد أنه حتى لو كان هناك ربّ ورجع إليه في آخر المطاف فسوف يجد عنده خيرا من جنته الأرضية ...! استوقفتني هذه الحقيقة بل صدمتني بشدة وأخذت أسأل نفسي من أين جاء هذا الرجل بكل هذه الثقة..؟! ومن الذي وضع في رأسه هذه الفكرة الجهنمية ..؟! ، من أين جاءت إليه هذه الفكرة بالتميّز عن سائر البشر الذين يولدون ويموتون ويتوارون في التراب ..؟! .. لقد تبين لي من قراءاتي وخبرتي الطويلة أن هذا النوع من الناس الذين تميّزوا عن غيرهم بالثروة الطائلة والسلطة الواسعة يظنون أن تميّزهم هذا إنما هو علامة على تميّزهم الخلقى (بكسرة تحت الخاء مع سكون اللام) ، ويعتقدون أنهم خُلقوا أو جاءوا مؤهّلين بحكم الفطرة للثراء والسلطان من دون بقية البشر، وأنه على الآخرين أن يسلّموا بذلك لهم ولا يفكروا لحظة في منافستهم أو مشاركتهم فيه .. وباختصار يتوهمون أن فيهم شيئا من طبيعة الألوهية يجعلهم فوق مستوى البشر .. مما يخوّل لهم الاستحواذ والطغيان ، وهذا هو معنى الترف كما ورد في القرآن ..
لقد بحثت في القواميس اللغوية عن معنى الترف فوجدت فيها ما يشبه الإجماع على أن الترف لا يعنى الثراء أو الرفاهية والتنعّم فحسب ولكنه الثراء المصحوب بالطغيان والجشع والفساد ، والمترفون كانوا دائما في تاريخ الإنسانية كله مصدر الفساد والكوارث في الأرض.. ولن تجد في القرآن آية واحدة يُذكر فيها الترف إلا وهو مصحوب بلعنة الله وغضبه والتحذير منه ، مع تهديد ووعيد بعذاب شديد في الآخرة .. تذكّر هذه الحقيقة: أن المؤمن يمكن أن يكون ثريا ثراء واسعا مادام قد جمع ثروته من حلال وأنفق منها في حلال ، ويمكن أن يكون المؤمن مرفّهًا متنعمًا بنعم الله عليه دون سرف أو مخيلة ، [ولكن يستحيل أن يكون المؤمن مترفا أبدا] فلا تقع في هذا الخطأ (كما يفعل أكثر الناس عندما يخلطون في كلامهم وأفكارهم بين الغنى والرفاهية والتنعّم من ناحية وبين الترف من ناحية أخرى) ... تذكّر هذا جيدا حتى نلتقي إن شاء الله لنستكمل هذا الحديث ...!


بقلم الأستاذ محمد يوسف عدس

مطيع الله
21-01-2010, 09:11 AM
ينبّهنا القرآن إلى حقيقة بالغة الأهمية في تاريخ البشرية، خلاصتها أن هلاك المجتمعات والأمم السابقة كان يسبقه شيوع الترف المصحوب دائما بالطغيان والفساد بين الطغمة الحاكمة ، حتى أصبحت هذه قاعدة كونية لا مناص منها :
يبدأ الأمر أولا بشيوع الترف والفساد بين الطبقة التي تستأثر بالثروة والسلطة ، ثم يتبعهم بالتقليد الطبقة المتوسطة التي تعيش قريبا من أصحاب الثراء والسلطان ،والتي تسترزق بتسخير نفسها في خدمتهم ، وتحقيق مصالحهم وأهوائهم ، ثم تنتقل عدوى الفساد إلى العامة من الطبقات الدنيا ، وهؤلاء هم المستضعفون المهمّشون والمستعبدون ، وبذلك يستشرى الفساد في المجتمع بأسره ، هذا النمط من المجتمعات التي يتحكم فيها المترفون ، هى بحكم طبيعتها وتركيبها مجتمعات طاردة لأصحاب العقل والحكمة ، الذين يؤمنون بأن واجبهم هو التصدّى للفساد والطغيان ، ويرون من واجبهم أن يجمعوا حولهم عناصر من ذوى الفطرة السليمة والضمائر الحية ، لتشكيل نخبة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فإذا تخلّصت السلطة المستبدة من هذه القلة الراشدة ، بالقتل أو العزل عن المجتمع، استشرى الفساد ليعم المجتمع كله ، وأصبح مستحقّا للعقاب و الهلاك ...
تكاد تكون هذه هي القاعدة الإلهية التي يصفها القرآن بسنن الله .. سنن تبدو واضحة في كل قصص الأنبياء الذين بعثهم الله إلى أقوامهم
فتصدى لهم المترفون من ذوى السلطة والمال .. كذبوهم وحرّضوا عليهم الرعاع ، وعذبوا أتباعهم ، وتكررت القصة نفسها عبر التاريخ الإنساني حيث تجلّت واضحة في إنهيار الإمبراطوريات القديمة كلها ، وقد عرفناها في سقوط العواصم المسلمة أمام الغزو المغولي والصليبي في الشرق ، وسقوط الأندلس في الغرب ، كما شاهدناها حديثا في انهيار الإمبراطورية السوفييتية .
وقد شاء العليم الحكيم سبحانه أن يحذر المسلمين وينبّههم إلى هذه الحقيقة في قرآن تعهّد بحفظه ، وأمرنا بتلاوته في كل صلاة خمس مرّات (على الأقل) كل يوم ، حتى لا نقع في أخطاء الأمم السابقة فتجرى علينا سنن الله في الإهلاك والدمار .. اقرأ معي هذه الآية من سورة هود: [ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ] .. لاحظ أولا أن كلمة " لولا " التي تتصدر هذه الآية تفيد (فيما يرى المفسرون) معنى الأسف لعدم تحقيق ما كان ينبغي أن يتحقق في الأمم السابقة من جانب أصحاب العقل والحكمة وأصحاب الرأي ، إذْ كان من واجبهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ، ويتصدّوا للفساد في مجتمعاتهم ، ولكنهم لم يفعلوا ، إلا أقلية قليلة منهم اتّبعوا الرسل فنجوا معهم من العقاب والهلاك .

أما الذين ظلموا فقد اتّبعوا ما أُترفوا فيه : فعبدوا أهوائهم وشهواتهم، وانساقوا في طريق الترف والطغيان والفساد ، استأثروا بالثروة والسلطة من دون الناس ، وكما يقال في المثل الجاري " السلطة المطلقة مفسدة مطلقة" ، لكل هذا يصفهم القرآن بحق بأنهم مجرمون . وإذا أردنا أن نرتب هذه الخصائص في سلسلة الأسباب والمسببات لرأينا شبه إجماع من المفسرين على أن الترف هو الذي يؤدي إلى السرف والفساد ، وهذان يتجلّيان في الفسوق والظلم .
فإذا كان هذا يحدث على مستوى الأفراد في إطار فئة قليلة من الناس استطاعوا السطو على الثرة والسلطة ، ومن ثم استحقوا (منطقيا) أن تتنـزّّل عليهم وحدهم اللعنة ، وينفردوا وحدهم بالعقاب ، ولكننا نفهم من سياق الآية في خاتمتها أن المجتمع كله قد نزل به العقاب . وما كان الله حاشاه تبارك وتعالى أن يظلم مجتمعا بأسره وأهله جميعا أو أغلبهم مصلحون .
ولكن الواقع الذي يتبدّى لنا واضحا في قصص الأنبياء والرسل والمصلحين كما وردت في القرآن أن قُرى أو أُمما بأكملها قد أهلكها الله بوسائل شتى من وسائل التدمير ، فما السر في هذا التعميم والشمول .. ؟؟! ، ما الذي حدث حتى تستحق الأمة كلها الهلاك ..؟
لعل الآية التالية تجيب على هذا السؤال ، فاقرأ معي هذه الآية من سورة الإسراء: [ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ]
أودّ في البداية أن أستبعد فكرة خاطئة ربما تكون شائعة عند كثرة من القراء ، فالله تبارك وتعالى حاشاه أن يأمر بالفسق أو المعصية ، وإنما يستقيم المعنى في الذهن عندما نفهم أن الله لا يمكن إلا أن يأمر بالطاعة والاستقامة ، ولكن المترفين بحكم ما أصاب عقولهم وقلوبهم من انحراف فسقوا عن أمر ربهم ، ولما كان المترفون هم القادة وأصحاب المال والسلطان في المجتمعات ، وأن جمهور العامة دائما هم الأتباع المقلدون لكبرائهم وسادتهم ( والناس على دين ملوكهم) شاع الفساد واستشرى الفسق في الأمة كلها أو معظمها فاستحقت الهلاك، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ..؟ فقال نعم إذا كثر الخبث ...!
حدث هذا في الماضي عندما كانت المجتمعات تعيش حياة أقرب إلى البساطة البدائية ، وكان المترفون يعيشون حياتهم الخاصة خلف أسوار قصورهم بعيدا عن أنظار العامة ، ولكن النذر اليسير الذي تسرب من سيرهم إلى الناس كان كافيا لنشر الفساد في مجتمعاتهم ، فما بالك اليوم مع انتشار وسائل الإعلام وتغلغلها في كل مكان ، بحيث أصبحت الأسرار منعدمة في هذا الزمن ، وأصبحت فضائح الحكام وفساد المترفين تُعرض كل يوم على شاشات التلفزة بالصوت والصورة ، وتقتحم بيوت الأسر وتصدم عقول الأطفال وتنتهك براءتهم ...! أكثر من هذا أقول: ما بالك والأمر أخطر وأسوأ مما نظن : حيث تجرى عمليات إفساد المجتمعات وفق خطط علمية تصاغ في برامج تعليمية وتثقيفية موجّهة بعناية وإحكام إلى شباب الأمة وأطفالها ...!!


لاحظ أن بعض أساليب الإفساد الخفية ، تستهدف تشويش العقول والتلاعب بها عن طريق صياغة الأخبار صياغة تؤدي إلى طمس الحقائق وتزييفها ، وعن طريق تكرار الأكاذيب صباح مساء ، ولأن الناس لا يتلقّون تعليما صحيحا في مدارسهم أو في جامعاتهم فقدوا القدرة على الفهم والاستيعاب ، وفقدوا القدرة على النقد والتمييز، وفقدوا القدرة على مناقشة ما يلقى عليهم من افتراءات وأكاذيب .. حصيلتهم من الأفكار مشوشة ومعلوماتهم مسطّحة ، وهم على قدر كبير من السذاجة الفكرية والقابلية للاستهواء ، بحيث يستقبلون الدعايات الكاذبة بقبول واستسلام عجيبين .. ويعبر القرءان أصدق وأدق تعبير عن هذه الحقيقة النفسية الاجتماعية في موقف قوم فرعون من أكاذيب سيدهم وافتراءاته على نبيّ الله موسى عليه السلام ، اقرأ إن شئت هذه الآية36 من سورة فاطر [ فاستخفّ قومه فأطاعوه ، إنهم كانوا قوما فاسقين] .
أذكر لك على سبيل المثال لا الحصر بعض أمثلة قليلة مما يدور في وسائل الإعلام اليوم: فقد بدأت تردد سلسلة من الأكاذيب التي سبق أن رددتها من قبل منذ عام ، أثناء الغزو الإسرائيلي على غزة ، معتمدة في ذلك على غياب الوعي العام وضعف ذاكرة الجماهير، والسبب الحاضر اليوم هو الرد على الحملة الشعبية والعالمية ضد إقامة السور الفولاذي في الأراضي المصرية على الحدود مع غزة ، فقد اعتبر الناس أن هذا السور لا يخدم إلا الأهداف الإسرائيلية الأمريكية في إحكام الحصار حول غزة وتصفية الشعب الفلسطيني . عادت وسائل الإعلام تردد فرية مؤدّاها أن من بين الفلسطينيين الجوعى الذين اقتحموا الحدود المصرية العام الماضي تسللت مجموعة داخل مصر ، وتمكنت قوات الأمن من إلقاء القبض عليهم فوجدت معهم أسلحة وأحزمة ناسفة بغرض تنفيذ عمليات تخريب وقتل في الأراضي المصرية...!

أقول إذا كانت هذه الواقعة صحيحة فمن هم المتسللون الإرهابيون..؟ ما أسماؤهم ..؟ وأين توجد صورهم ..؟ وإذا كانوا قد اعترفوا بجرائمهم فأين نجد هذه الاعترافات..؟ وأين هو التحقيق والقضايا التي نظرت في المحاكم لإثبات جرمهم ...؟ أسئلة كثيرة لا يمكن أن تجد لها إجابات ..فهل سأل واحد منا هذه الأسئلة ليتحقق من صحة خبر التسلل الذي تروّج له وسائل الإعلام ، وتهلل له في كل نشراتها الإخبارية ، وتبنى عليه أحكاما وتبرّر به أفعالا تقوم بها السلطة ضد إخواننا الفلسطينيين في قطاع غزة ، الذين يتعرضون لحرب إبادة حقيقية تشنها إسرائيل عليهم بشتى الوسائل .. لقد أخذ الناس هذا الخبر الملفّق كحقيقة ثابتة ولم يتناولوه بالتمحيص والنقد ، وهم يستجيبون على نفس النمط لكل الأخبار الكاذبة والقضايا الملفقة التي نسمع عنها كل يوم ، وتدور حولها ضجة إعلامية ثم تتمخض عن لا شيء ، من هذا أشير إلى حالة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح أمين عام اتحاد الأطباء العرب الذي قُبض عليه وأُودع المعتقل بتهمة تتعلق بقضية أطلقوا عليها اسما مهولا هو "التنظيم الدولي للإخوان المسلمين" .. أمضى الرجل في السجن بضعة أشهر ، ولكنه لم يقدم للمحاكمة ولا رُفعت ضده قضية ولا حدث معه تحقيق .. وبعد أن نسي الناس الموضوع أُطلق سراح الرجل ..
وقد تبيّن أنها كانت عقوبة مزاجية لأن الرجل بحكم مركزه في قيادة اتحاد الأطباء العرب الذين رأوا أن من أوجب واجباتهم تجاه إخوانهم في غزة من ضحايا الحرب الإسرائيلية أن يقدموا إليهم بعض الأدوية والمعدات والأجهزة الطبية التي تفتقر إليها مستشفيات القطاع المنكوب ،ولكن السلطات كدأبها أعاقت قافلتهم وعلقتهم عند معبر رفح فترة طويلة من الزمن بدون أي مبرر .. إلا أنهم ثبتوا وأصرّوا على دخول المعبر.. وفضح الإعلام العربي والعالمي الموقف الشائن للسلطات المصرية ، وكانت هذه هي الجريمة الحقيقية التي عوقب من أجلها الدكتور أبو الفتوح ، أضمرتها السلطة لأن ما فعله الرجل لا يمكن أن يشكل جريمة يعاقب عليها أي قانون ، وكانت السلطات تعلم أن ذكر التهمة الحقيقية يشكل فضيحة مخذية لها ، لذلك لفقت للرجل تهمة غامضة وغير مفهومة ..لتنفّذ فيه عقوبة مزاجية بسجنه فترة من الوقت ، ثم أطلقت سراحه بدون محاكمة ، وهى تسعى الآن لإغلاق مقر اتحاد الأطباء العرب في القاهرة ، نكاية في الرجل ومحاولة لتكبيله بالقيود ومصادرة نشاطه وحركته .

أما المثال الثالث فلا تزال وقائعه المخزية تجري على الساحة لتؤكد استمرارية نفس سياسة إحكام الحصار على الفلسطينيين في غزة ، وهو ما يتجلى واضحا في موقف السلطات المصرية من قافلة "شريان الحياة" التي جاءت من أقصى الأرض لكسر الحصار على غزة ، يصحبها 420ناشطا من أحرار العالم الغربيّ يقودهم النائب البريطاني البطل جورج جالاوى ، خرجت القافلة من لندن في الخامس من شهر ديسمبر الجاري فاخترقت في طريقها بدون عائق عددا من الدول الأوربية حتى وصلت إلى تركيا فلم يعقها أحد بل أضاف إليها أهل الخير من هذه البلاد شاحنات جديدة محملة بالمعونات الطبية والغذائية حتى بلغ عدد الشاحنات الآن 250 شاحنة ، تبرعت تركيا وحدها بسبعين شاحنة منها، وكان استقبال الشعب التركي للقافلة كريما ورائعا.

عبرت القافلة سوريا والأردن بالحفاوة والتيسير ، حتى أصبحت قاب قوسين أو أدنى من ميناء نويبع ، وهنالك تفجر السلطات المصرية مفاجأة مذهلة ، فبعد أن كانت قد أعلنت موافقتها على دخول القافلة من نويبع إذا بها تشترط ضرورة تحويل مسار القافلة لتدخل من ميناء العريش ،عبر البحر الأحمر ثم قناة السويس ، ليتحمل المصاحبون للقافلة مزيدا من عذابات السفر بعد كل ما لاقوه من العناء والإرهاق في هذه الرحلة الطويلة ، علاوة على تبديد الوقت ، ومزيد من تكاليف النقل والسفر ، وتفاصيل أخرى كثيرة ومذهلة أوردها الكاتب الصحفي فهمي هويدي في مقال له اليوم منشور بصحيفة الشروق تحت عنوان " من العار إلى الخجل " أكتفي بنقل عبارة واحدة عميقة الدلالة في تلخيص الموقف المصري يقول فيها: " ما لم يكن هناك تفسير معقول لهذا التصرف المفاجئ الذي يصعب افتراض البراءة فيه فسيكون التفسير الوحيد هو أن مصر أرادت أن تعرقل العملية ، وأنها إذا كانت قد وافقت رسميا على استقبال [القافلة] لأسباب إعلامية ودعائية ، فإنها أرادت أن تجهضها من الناحية العملية" ..

وأودّ أن أضيف إلى هذا كله حقيقة لا يجب أن تغيب عن وعينا ، وهي أن الموقف المتعنّت للسلطات المصرية من قافلة جالاوى لكسر الحصار عن غزة يؤكد حقيقة نواياها من إقامة السور الفولاذي حولها ، ويكشف زيف كلام المسئولين في تبرير إقامة هذا السور ، تأمل في الكلام الاستعراضي لوزير الخارجية في التلفاز المصري وهو يبرر إقامة السور المذكور ، حيث يقول : إنه لضمان أمن مصر وحياة المصريّين ، ثم يدّعى بأن أمن مصر مقدس وحياة المصري مقدسة .. وقد نفوّت له مسألة أمن مصر المقدس ، ولكننا لا نستطيع أن نبتلع حكاية قداسة حياة المصري ، ونوجّه إليه هذه العبارة الشعبية الحكيمة: حياة المصري مقدسة ..[ بأمارة إيه ..؟!! ] هل كانت مقدسة حياة أكثر من ألف مصريي غرقوا مع العبّارة الكارثة ، وهل كانت مقدسة في كل حوادث القطارات نتيجة الإهمال الرسمي المروّع، وهل كانت مقدسة حياة المصريين في كل العشوائيات تحت انهيارات جبل المقطم في الدويقة ، أو في تبة فرعون وغيرها من آلاف العشوائيات التي يعيش فيها عشرات الألوف من المصريين تحت مستوى الحيوانات ، وهل هي مقدسة حياة عشرات الألوف من الأطفال المشردين بلا مأوى في القاهرة وفي جميع المدن الأخرى .. وغيرهم كثير يصعب إحصاء أعدادهم ...؟!.

أم أن هؤلاء ليسوا من المصريين الذين حياتهم مقدسة .. وأن الوزير يقصد فئة أخرى من البشر يعيشون على أرض مصر ، يملكونها وينهبون ثرواتها ويتسلطون على خلق الله فيها ..؟! هل يقصد السيد الوزير أولئك المترفين الطغاة الذين عرضنا لبعض ملامحهم في هذه المقالة ، هل يعتقد السيد الوزير أن هؤلاء فقط هم المصريون وما عداهم [زبالة] ..؟!

أعوذ بك ربى من سيئات أعمالنا وشرور أنفسنا ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم .

كاريرا
21-01-2010, 09:14 AM
يعني اي واحد غني فاسد :(

والاغنيا هم المخربين

والفقارى هم المصلحين:(

احياناً اتعجب فعلاً

مطيع الله
21-01-2010, 09:16 AM
" السلطة مرض " عبارة سمعتها أمس خلال حوار متلفز في برنامج " 48ساعة " على قناة المحور ، أطلقها عالم شهير في الطب النفسي وأحد أبرز خبراء العلاج النفسي في العالم العربيّ .. امتدت خبرته في هذا المجال لعدة عقود ، إنه الدكتور أحمد عكاشة .

أطلق الرجل هذه العبارة لا على سبيل المجاز أو المبالغة ، وإنما لتقرير حقيقة لمسها بنفسه من خلال تحليله للسّمات النفسية لشخصيات تشغل مناصب في قمة السلطة منهم الوزراء ، كأن الرجل كان يعبّر عما يجول في خواطري وأنا أستمع إليه ، ومن ثمّ عنّ لي أن أعرض النقط الأساسية في حديثه ، وسنرى أنها تتصل بموضوع هذه المقالة ..

أعرض الحديث كما فهمته من كلام صاحبه وحتى من إشاراته وإلْماحاته التي لم يصرّح بها ، بل آثر أن يتركها لذكاء المشاهدين ، وأعتقد أن الدكتور أحمد عكاشة لا تنقصه الجرأة لتصحيح ما سأذكره عنه أو ما أشاركه فيه من تحليلات ونتائج ...

يُرجع الدكتور عكاشة أسباب هذا المرض السلطويّ إلى أن هؤلاء الناس لا يستندون في اختيارهم لمراكز في السلطة إلى إرادة الشعب ورغبته .. بمعنى أنهم لم يجيئوا عن طريق صناديق الاقتراع العام ، كشأن الوزراء والحكومات في النظم الديمقراطية الحقيقية في العالم ، وإنما تمّ اختيارهم من قبل شخص واحد يجلس في قمة السلطة ، فهو وليّهم ، وصاحب الفضل عليهم ، ولذلك فإنهم لا يشعرون بأي التزام تجاه الشعب ، وإنما التزامهم الأوحد لوليّ نعمتهم .

إنهم ( بحسب تعبير الدكتور عكاشة) يعانون من أزمة هويّة .. أو أزمة انتماء ، فهم لا يشعرون بانتماء للشعب الذي يُفترض أنهم جاءوا لخدمته .. وقد ترتّب على هذا الوضع أنهم لا يهتمون بمصالح الناس ولا برضاهم ، ولا يعيرون سخطهم أي اهتمام ، وإنما تتركز أعينهم وكل اهتماماتهم على إرضاء صاحب السلطة العليا ، ولذلك تراهم مصابين بالقلق الدائم خشية أن يتغيّر مزاج وليّ النعمة فجأة فيسقطهم من مراكزهم دون سابق إنذار..

القلق إذن هو الذي يكمن وراء حالتهم المرضية .. فهم لا يدركون على وجه اليقين لماذا تم اختيارهم ..؟ هم بالذات دون غيرهم ..؟ ولا يدركون على وجه اليقين لماذا استُغني عنهم عندما يتمّ إخراجهم من السلطة ..؟

وتتعقّد الحالة المَرَضيّة عند بعضهم أكثر عندما يضطرون لقبول مركز في السلطة دون رغبة منهم فيه ، وفى غياب هدف وطنيّ عام أو مشروع تنمويّ واضح ، وفى غياب معايير جودة في الأداء، ولا معايير عامة للحساب والمساءلة ، وفى غياب رقابة شعبية حقيقية من المجلس النيابيّ ، وضعف القوانين ، بسبب هذا كله تتشوّش رؤِية المسئولين الكبار وتضطرب أعمالهم وتكثر أخطاؤهم ويتعاظم تأثير الأهواء والوساطة والنفاق ، ويشيع في المنظومة السياسية والإدارية كلّها أجواء الفساد والاستبداد ، وهذه هي النقطة الجوهرية التي أردت الوصول إليها من خلال تتبّعي لحديث الدكتور أحمد عكاشة ..

الفساد والاستبداد إذن هو النقطة الجوهرية التي تتصل اتصالا وثيقا بموضوع هذه المقالة.. الترف هو الأصل واستئثار المترفين بالسلطة والمال معا هو مصدر كل بلاء وكل مصيبة تصيب الأمم والمجتمعات البشرية .. فلا عجب أن يصوّر القرآن العظيم المترفين في صور تثير الكراهية لهم والاشمئزاز من سلوكهم .. فهو يقرنهم بالظلم ويصف سلوكهم بالإجرام : { واتّبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين} (سورة هود 116) .

وفى كل آيات القرآن التي جاءت على ذكر الترف و المترفين بعد سورة "هـــود" نرى تأكيدا على هذه الحقيقة التاريخية: أن الترف دائما متلازم مع الكفر وإنكار البعث واليوم الآخر ، وكان المترفون دائما هم الذين يتصدّون للأنبياء والرسل .. يشككون فيهم وفى صدق رسالتهم .. ويسخرون منهم ومن أتباعهم المؤمنين .. يضيّقون عليهم سبل الحياة .. ويخضعونهم للإرهاب والتعذيب : [ وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة وأتْرفْناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشرٌ مثلُكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون . ولئن أطعْـتُم بشرًا مثلكم إنكم إذن لخاسرون ] (المؤمنون:( آية 33- 34) .

أذكر أنني كنت كلّما جئت في قراءتي للقرآن إلى آية من هذه الآيات أتوقف عندها لأسأل نفسي هذا السؤال :

تُرى ما هي الحكمة لهذه الصورة التي يرسمها القرآن منفّرة كريهة سوداء للترف والمترفين ..؟ ألأنّ المترفين هم سبب كل بلاء ومصيبة تصاب بها المجتمعات الإنسانية والأمم ..؟ أم لأن الترف يفسد في الإنسان الفطرة السّوية التي خلق الله الإنسان عليها ..؟

أم لأنه يفسد المشاعر الإنسانية .. ويجفف في القلوب ينابيع الأحاسيس المرهفة التي تستقبل وتتأثّر وتستجيب ..؟ أم لكل هذا وأكثر منه ..؟؟

لقد كتبت في إحدى مقالاتي أن هناك حكومات لا تأبه بما يحل بشعوبهم من كوارث .. بل ذكرت أكثر من مرة مؤكّدا أن هذه الحكومات تعمد إلى إفقار الناس وإذلالهم وانتهاك كرامتهم ، بل تعمل على إمراضهم ، ولا تتورع من إشاعة الخوف والهلع بينهم، وقلت في مقالة أخرى : إن التخويف قد أصبح سياسة معتمدة عند بعض الحكومات إذ وجدتها سياسة مضمونة النجاح لإخضاع الشعوب وتذليلها لتنفيذ قرارات منكرة لم يكن في الإمكان تنفيذها في الظروف المعتادة ، والأمثلة على ذلك كثيرة هنا وهناك وفى كل مكان بالعالم .... وما كان كل ذلك ممكنا إلا لأن المترفين هم الذين يتحكمون في ثروات الشعوب ويستأثرون بالسلطة .. من الأمثلة التي ترد على الذهن مباشرة أذكر الآتي:

1ـ إنفلوانز الخنازير موجودة في كل بلاد الدنيا ، ونسبة انتشار الإصابات في بعضها أكثر من نسبتها عندنا ، ولكن الناس في هذه البلاد يحيون حياة طبيعية ، ولا يشعرون بالخوف والهلع كما يحدث عندنا .. ذلك لأن التركيز الإعلامي هنا يأخذ أبعادا لا مثيل لها في أي مكان آخر .. وهذا التركيز له وظيفة لا تخفى على المراقب اليقظ ، فليس من قبيل الصدفة أنه في نفس الوقت الذي تشتعل فيه معارك الإعلام الكروية ثم الخنزيرية ، وأكثرها معارك حول مخاطر مختلقة أو وهمية .. ليس من قبيل الصدفة أن تشتعل هذه المعارك بينما يتأهب النظام السياسي من وراء ستار لتنفيذ مشروع الجدار الفولاذيّ لإحكام الحصار على غزة ، وهو تكتيك مسرحيّ ، المقصود به أن يحرف نظر المشاهدين عن ركن آخر من المسرح تم تعتيمه ، حيث تجرى عمليات أخرى ستفاجئ المشاهدين بالظهور في الوقت المناسب ..

حاولت السلطات في أول الأمر أن تنكر حقيقة الجدار الفولاذيّ .. فلما انكشف أمره ، وعُرفت تفاصيله تحوّلت إلى الدفاع عنه بحجة أنه ضروريّ للحفاظ على الأمن الوطنيّ .. وجرت في هذا أكاذيب ومزاعم لا أساس لها من الصحة .. وتلك سمة ثابتة في النظام عندما يضطر للدفاع عن نفسه فيما تورّط فيه من آثام وفضائح .. ثم تبلغ ذروة المسخرة الدرامية في المشهد التالي:

2- يدخل الشيخ الكبير بصحبة جنرال الأوقاف (المندوب الأكبر للسلطة) المجمع اللاهوتي للمؤسسة الدينية .. يدخلان بخطوات متسارعة ووجوه ممسوحة من أي أثر لانفعال إنساني .. يتبعهما في الظهور على المسرح جوقة من المصورين الذين تم إعلامهم وتوجيههم مسبّقا لمهمة رسمية .. أعضاء المجمع وحدهم هم الذين لم يتم إخطارهم من قبل عن سبب استدعائهم للحضور إلى المجمع ، لذلك تراهم ينظرون في بلاهة إلى ما يدور حولهم من مناظر لم يألفوها من قبل في اجتماعاتهم العادية ..

لم يكن هناك جدول أعمال ولا مناقشات .. ولا أخذ أصوات .. يتنحنح الشيخ الأكبر ويطرح عمامته إلى الخلف قليلا لتهوية رأسه الذي ألهبته الكامرات بأضوائها الساخنة .. ثم يخرج من جيبه ورقة مجهّزة سابقا من جهة غير مُعلن عنها .. ثم يشرع في قراءتها ربما لأول مرة .. فإذا بها بيان باسم المجمع يعلن للعالم أن الجدار الفولاذي شرعي ، وأن انتقاد إقامته غير شرعي بالمرّة..! أظن أن الشيخ الذي لا يقرأ شيئا عن السياسة ولا يعبأ بهذا الجانب المعقد من الحياة لم يصل إليه الخبر بأن هذا الجدار الذي يتحدّث عنه قد صممته أمريكا وأنفقت عليه ، لهدف أصبح واضحا لكل الناس في مصر وخارج مصر وهو: إحكام الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة ،حتى لا يبقى لسكانه من الخيارات إلا الخضوع أو الإبادة .. والمهم هنا هو أن عملية إفساد المجتمع لم تستثن المؤسسة الدينية .. !! .. ثم اقرأ معي الفقرة الثالثة كنموذج آخر ..

3- في مقال بعنوان: "كلمتان في الضحك على العقول" المنشور بجريدة الشروق يوم السبت الثاني من يناير الجاري يقول الكاتب الصحفي فهمي هويدى معلّقًا على كلام الأمين العام للحزب الوطني في ادعائه بأن الحزب الوطني لا يسعى للانفراد بالسلطة أو احتكارها في حين أن كل تصرفات هذا الحزب على مدى ثلاثة عقود تقريبا لم يفعل أي شيء سوى الانفراد بالسلطة واحتكارها .. يقول فهمي هويدي: " إن المشكلة التي نواجهها في مصر الآن لم تعد تتمثل في احتكار الحزب الوطني للسلطة ، الذي أصبح حقيقة واقعة يلمسها كل ذي عينين ، وإنما هي في الإصرار على تأبـيد ذلك الاحتكار، من خلال وسيلتين: الأولى هي الإصرار على تدمير عناصر العافية في المجتمع وإخصائه حتى لا يلوح في الأفق أي بارقة أمل في إمكانية وجود بديل يمكن أن ينافس الحزب الوطني يوما ما ...

الوسيلة الثانية لضمان الاحتكار تمثّلت في اللعب بالقوانين والعبث في الدستور لإضفاء شرعية ما على ممارسات السلطة، بحيث أصبح الاحتكار محميّا بتشريعات مجرّحة ومغشوشة ومن ثَمّ فاقدًا للشرعية".
واضح من هذا الكلام أن السلطة التي لا تستطيع اكتساب شرعيتها عبر انتخابات حرة نزيهة تلجأ إلى إفساد الحياة السياسية وحياة المجتمع بأسره مما يؤكد ما ذهبنا إليه فيما يتعلق بفساد المترفين وإفسادهم لحياة المجتمعات والأمم ..

وهو ما أبرزه فهمي هويدي من تفاصيل في موقع آخر من مقالته حيث يقول : "إن أي مواطن عادى يعرف جيدا أن المعركة الوحيدة التي يخوضها الحزب الوطني بمنتهى القسوة والشراسة هي معركة تكريس الاحتكار من خلال الفوز بالأغلبية الساحقة في أي انتخابات تجرى في البلد، وأساليبه في ذلك معروفة، وهي تتراوح بين قمع المستقلين بكل وسائل الترهيب وبين التزوير والتلاعب في النتائج .

وفى هذا وذاك فالشرطة جاهزة للقيام بالواجب في خدمة الحزب ، وميليشيات الأمن التي تضم جيشا من العاطلين وأصحاب السوابق تنتظر فقط الإشارة لتأديب المستقلين والمعارضين وأنصارهم " .

ربما الذي أريد لفت النظر إليه هو وجود جيش العاطلين وأصحاب السوابق .. كيف وُجدوا ..؟ ومن أوجدهم في الأصل..؟ ولأي غرض وُجدوا.. ؟ لقد أجاب الدكتور أحمد عكاشة على السؤالين الأول والثاني جزئيا في حواره المتلفز ، حيث يرى أن انهيار التعليم وغياب مشروعات تنموية جادة وناجحة ، وسوء إدارة الخدمات الأخرى أدى إلى انتشار البطالة والأزمات المعيشية واليأس من المستقبل .. والبطالة واليأس بدورهما قادا إلى انتشار المخدّرات وارتفاع معدلات الجريمة في المجتمع ..

أما أنا فقد أجبت على السؤال الثالث حيث ذكرت في مقالات سابقة لي أن الأمر ليس فيه صدفة أو عجز عن إصلاح الحال ، إلا أن يكون عجزا مصطنعا لتبرير نكوص الحكومات عن أداء واجباتها الأساسية تجاه شعوبها ..

وأن وجود المتعطلين عن العمل والبلطجية وأصحاب السوابق له وظيفة حيوية في تهديد المجتمعات ووضع الناس والراغبين في الإصلاح والتغيير منهم على وجه التحديد تحت سطوة السلطة المستبدة ..

إن وجود هؤلاء (كعمالة رخيصة بلا عقل) في حوزة السلطة المستبدة يعتبر أداة من أدوات إرهاب المجتمع وتخويفه حتى يظل على الدوام خاضعا لسيطرة النخبة المترفة ، عبدا في خدمة أهوائها وانحرافاتها ...

وإلى لقاء آخر إن شاء الله .. ما دام فى العمر بقية

مطيع الله
21-01-2010, 09:17 AM
المشهد في بريطانيا: خلال فترة الحرب النابليونية اشتدت الهجمة على الإصلاحيين وكثرت القيود والإجراءات القمعية بدعوى (أن الأمة تحتاج إلى توحيد الصفوف خلف جيشها لهزيمة نابليون) وعندما انتهت حرب نابليون اعتقد الناس أن حجة الحكومة قد انتهت بعد هزيمة فرنسا وعودة السلام إلى إنجلترا .. ولكن مع السلام جاءت أزمات اقتصادية أشد ، وانتشر الجوع والفقر في أنحاء البلاد .. وهنا تهبّ السلطات الإنجليزية متذرِّعة بحجة جديدة ، فتخفّض أجور العمال لمواجهة الأزمة الاقتصادية [ لاحظ أن علاج الأزمات الاقتصادية في النُّظُم الاستبدادية دائما يكون على حساب جماهير الشعب الكادحة ، فهم الذين يدفعون فاتورة سوء الإدارة الحكومية ماليا وسياسيا ...!] ولكن كان رد الفعل من الشعب الذي استيقظ : انتفاضات واحتجاجات ، تفجّرت في طول البلاد وعرضها اعتراضاً على تقليص الأجور.
انطلقت الثورة في مناجم الفحم أولا ، ثم انتشرت في مواقع أخرى كثيرة ، واستمرت الاضطرابات مشتعلة لأكثر من ثلاثة أعوام من سنة 1815إلى سنة 1818.
ومن أغرب الملاحظات لمن يدرس هذه الفترة من تاريخ النضال الدستوري في إنجلترا : أن القيادات الشعبية كانت تسجّل أسماء جميع الذين قادوا حملات القمع والتعذيب من سلطات الأمن ، ولا تزال مسجّلة حتى اليوم ، تلطّخ سمعتهم وتُخْذيهم على مر السنين والأجيال ، فلا ينسى الناس أسماء الذين كانوا أسواطاً وجلادين في يد الطاغية المستبد...!
في منْشِسْتر سنة 1819 قرّر العمال الإضراب عن العمل معبّرين عن احتقانات متراكمة في صراعهم مع أصحاب الشركات المُدَعّمين بقوّة السلطة الحاكمة [ تذكّر أنه حيثما توجد منظومة مستبدة تبرز دائما ظاهرة زواج الثروة والسلطة ، سواء أكنّا في إنجلترا أو مصر أو بلاد واق واق ..] .. احتشد في إحدى هذه المظاهرات ستّون ألفاً في مسيرة سلمية فإذا بقوات عسكرية من سلاح الفرسان تقتحم المظاهرة ، وتقتل أحد عشر شخصا من المتظاهرين .. فاشتعل الصدام بين الجماهير الغاضبة وبين القوات العسكرية .. وانتشر التمرد في كل مكان .. كانت الجماهير تنشد فى حشودها ومسيراتها نشيدا من كلمات الشاعر الإنجليزى " بيرْسى شيلى" ، حاولتُ ترجمَتَه إلى العربية شعرًا فجاء أقرب إلى النثر منه إلى الشعر.. ولكن تفضل صديقى الدكتور "عاصم نبوى" فجعله نظما جميلا ، يدعو فيه شيلى جماهير المستضعفين لليقظة والاحتشاد ، ويصف أعداءهم بأنهم قلّة ضعيفة مذعورة كالفئران رغم تحصّنهم بقلاع السلطة والجاه .. وأن مصيرهم الأكيد هو الدمار والهلاك .. يقول:

تراكَمَ الغبــارُ فوقكَ تَلاً **** لِطـــولِ ما غِبْتَ غارقا في خيالِكْ
فحَطِّــم القيْـدَ وانفضْـهُ أرْضًا **** كما تنفُضُ الثّرَى عن ثِيابكْ
وانتفضْ مــارِدًا فالحَشْدُ يرْبـُـــو **** ويزدادُ قــوةً بانضمامِكْ
والعِــدَا فئرانُ جُحْرٍ مذعــــورةٌ ** تلوذ بالحصن خوف المعارك
قلةٌ تُظْهِرُ البأسَ زيفًا ومَيْنًا ***** لا يقيها الرَّدَى والجمعُ هَالِكْ

وأنا من جانبى أهدى هذا النشيد الثورى لقادة الإصلاح والتغيير فى كل مكان.
من الناحية التاريخية نعرف أن رِؤية شيلى الشاعر الرومانسي الثائر هي التى تحقّقت فى النهاية، ولا شك أن الشعب البريطاني قد خاض من أجل تحرّره بحارا من الآلام والتضحيات ، واشتبك مع السلطات الباغية فى معارك ضارية عبْر سنوات طويلة ، ولكنه انتصر في النهاية .. تحطمت قلاع الاستبداد وزالت قبضة المترفين الفاسدين عن السلطة .. انتصر الشعب.. وامتلك حريته ، وأقام أعظم ديمقراطية فى التاريخ الحديث . والعبرة الإلهية هنا كونية وشاملة .. فلا تستبعد أن يضرب الله لنا الأمثال فى أقصى بقاع الدنيا .. فالأرض جميعا قبضته وبعض مُلكه ، والكلّ عباد لله ، والقوانين الطبيعية والاجتماعية التى بثها الله فى الكون والمجتمعات الآنسانية حيثما كانت لا بد أن تأخذ مجراها ، وتُحقّق نتائجها وآثارها حيث تتوفّر شروطها : { إن الله لا يغيّر ما بقوْم حتى يغيّروا ما بأنفسهم } .

(2)
المشهد في تركيا: بدأت إرهاصات التغيير على الساحة السياسية فى تركيا خلال حكومة أرْبكان سنة 1996وقد عرفنا أن حزب أربكان المسمّى (حزب الرفاه) كان حزبا إسلاميا .. وكانت تلك ظاهرة شديدة الغرابة فى محيط سياسي واجتماعى ترسّخت فيه لعقود طويلة علمانية غليظة الرقبة منذ كمال أتاتورك.. أحزاب سياسية ذات توجهات قومية وعلمانية شرسة .. تنهض ضد كل ما هو إسلامي أو عروبي .. ومع أمريكا وإسرائيل فى كل سياساتهما المعادية للعرب والمسلمين .. وهى توجهات كان يدعمها الجيش التركى ، إو على وجه الدقة والتحديد جنرالات الجيش التركي ، الذى كان بحكم الدستور صاحب اليد العليا فى المشهد السياسي ، وحامى حمى العلمانية ، والأمين على تراث أتاتورك الإلحادي ..
هذه التركيبة من قيادات الأحزاب والجنرالات وكبار رجال المال والأعمال كانت تمثّل فى تركيا طبقة المترفين الفاسدين ، الذين احتكروا السلطة والثروة ، وأفسدوا كل شيء فى تركيا على مدى ما يقرب من ثمانين عاما .. وقد ظلت تركيا تتدهور وتنحط حتى بلغت الحضيض .. انهار اقتصادها .. وانهارت عُملتها وسمعتها فى العالم .. حتى جاء أربكان وأخذ يعيد بعض التوازن إلى الحياة السياسية والاقتصادية .. واستطاع فى فترة قصيرة أن يحقق إصلاحات ملموسة فى الداخل وفى سياسة تركيا الخارجية ..
وكانت له طموحات كبيرة فى التنسيق والتعاون مع الدول المسلمة .. وقد خطا فى هذا السبيل خطوات جريئة .. وكان هو نفسه رجلا جريئا وصريحا ، ربما أكثر مما تحتمله تلك المرحلة .. فلم يكن يعمل حسابا لشراسة الطبقة التى اعتادت السيطرة على الحكم ، ولم يقدّر سطوة جنرالات الجيش حق قدرها ، فأطاحوا به، واستصدروا حكما قضائيًّا بحرمانه من مزاولة أى نشاط سياسي.. ولم يكن قد تجاوز العامين فى الحكم .. ولكنه على أى حال كان أوفر حظا من رؤساء سابقين ثار عليهم الجيش وقتلهم ..
يلاحظ المراقب للساحة السياسية فى عهد أربكان ظاهرة شديدة البروز والغرابة أيضا .. خصوصا فى قلب نظام فاسد اعتاد على السلب والنهب وإهدار المال العام ، وإهمال مصالح جماهير الشعب الحيوية ، حتى أصبحت اسطنبول وهى أكبر مدن تركيا مدينة معوّقة .. يعانى سكانها من سوء الخدمات والانقطاع المتكرّر للمياه والكهرباء ، ومن غلاء المعيشة .. والتّسيّب وضعف سلطة القانون ، وانتشار الجرائم و الجريمة المنظمة والدعارة ..
أما الظاهرة العجيبة التي أشرت إليها فكان يمثّلها شخصية رجب طيب أردوجان محافظ أسطنبول فى عهد أربكان .. فما الذى فعله هذا الرجل فى هذه المدينة وفى غضون فترة قصيرة من الزمن ..؟
لقد أعاد الحياة إلى مدينة كبرى كانت تحتضر عندما زرتها سنة 1981 .. أصلح مرافقها فعادت إلى بيوتها المياه والكهرباء بلا انقطاع .. وانتهت مشاكل نقص الخبز ومواد الغذاء الشعبي .. ، وانفرجت أمام المواطنين العاديين فرص العمل والزواج والسكن والتعليم .. حتى الدعارة كانت له فيها حلول عبقرية ، فلم يلجأ إلى إصدار القوانين القصرية التي عادةً ما تلجأ إليها أنظمة الحكم البوليسية ، وتفشل فى الغالب الأعم .. كان أردوجان بحكم تربيته الأسرية وتعليمه الإسلامي ، ولعمق فهمه للفطرة الإنسانية ، مؤمنا بأن فى الإنسان مهما تورّط فى الآثام قوة ضمير كامنة .. قد تكون منهكة أو نائمة ، ومن ثَمّ تحتاج إلى من يوقظها ويقوّيها ويحسن التعامل معها ، باللين وتوفير القدوة وفتح أبواب كسب الرزق الحلال .. وهذا ما فعله أردوجان للقضاء على الرذيلة والفسق في اسطنبول .. وعندما سأله الصحفيون الغربيون : كيف استطعت أن تصنع كل هذه المنجزات التى تشبه المعجزات ، فى وقت قصير ، وقد كانت الحكومات السابقة تتذرّع لعجزها عن الاصلاح بنقص الاعتمادات المالية .. فمن أين جئت بكل هذه الأموال ..؟!
ترى ماذا كان جواب الطيب أردوجان ..؟ قال الرجل العظيم ببساطة وتواضع: كل ما فعلناه أننا أغلقنا أبواب الفساد فى الإدارة الحكومية ، وضربنا على أيدى الناهبين لمنعهم من نهب المال العام .. فتوفّرت لدينا أموال كثيرة ، كانت كافية للإنفاق على كل هذه الاصلاحات .. وبدأنا نحسّن حياة الناس ونساعد الشباب الراغبين فى الزواج على تحقيق أحلامهم فى الزواج والاستقرار والعمل ..
لقد استطاع أردوجان وصحبه بالقدوة الصالحة وبدأبهم فى السعى على مصالح الناس ورعاية شئونهم ، وبسياساتهم الرشيدة أن يبثّوا الأمل فى نفوس الناس ، وأن يحرّكوا المجتمع كله .. وأن يساعدوا الشباب على إبراز أقصى طاقاتهم في العمل والإنتاج والخدمة العامة .. لا بالأناشيد الوطنية الغبية ، ولكن بالعمل والإنجاز ، وإتاحة التمتع بثمرات هذا الإنجاز لكل العاملين المجتهدين ..
وكانت هذه التجربة العبقرية هي التي لفتت أنظار الشعب التركي إلى قيمة هذا الرجل وصحبه .. وإلى أن الأمل في التغيير والإصلاح ممكن إذا طرح الشعب جانبا طبقة الحكام المفسدين المترفين ، واختار لحكمه وإدارة شئونه هذه النخبة من الرجال الأتقياء الأنقياء .. وقد فعل ..
أما بقية القصة فنحن نعلمها ، ونعرف ماذا يفعل أردوجان وصحبه الآن فى تركيا .. إنهم رجال عقلاء استطاعوا باللين والحكمة أن يقلّموا أظافر الدكتاتورية العسكرية والسياسية .. وأن يحجّموا دور الجيش فى السياسة والحياة العامة ، دون تصادم أو تناطح مع هذه القوى الباطشة ، وأن يهذّبوا العلمانية البشعة ..
وقد استطاعوا أن يقنعوا الشعب التركيّ بتفسيرهم الخاص للعالمانية .. وأن ينهضوا باقتصاد بلادهم .. ويحققوا كرامة شعبهم .. ويضعوا تركيا على خريطة القيادة والريادة على المستويين الإقليمي والدوليّ .. ( لمزيد من التفاصيل اقرأ إن شئت مقالتين لي فى مجلّة المختار الإسلامي .. إحداهما عن تجربة حزب العدالة والتنمية ، والثانية بعنوان: تركيا على أبواب الاتحاد الأوربي).
أصبحت أخبار أردوجان تملأ الصحافة والإعلام العربيّ والعالميّ ، بمزيد من الاحترام والاعجاب الشعبيّ والرسميّ..
رأينا موقفه الإنساني الشجاع من قضية العدوان الإسرائيلي على غزة ، ورأيناه يذرف الدموع وهو يزور جرحى الحرب الفلسطينيين فى المستشفيات، ورأيناه يدافع عن قضيتهم فى المحافل الدولية .. ورأيناه يلقّن بيريز رئيس الكيان الصهيونى درسا فى منتدى دافوس العالمي .. ورأيناه ينفتح على جيرانه العرب والإيرانيين ، ويمد يده للتعاون والتنسيق بين القوى السياسية الفاعلة فى المنطقة ، يسانده فى سياساته الرشيدة شعب قويّ استعاد وعيه ورشده، وتدعّمه قوة فكرية واستراجية جديدة متفتتحة ، يمثلها وزير خارجيته ونخبة من المفكرين الاستراتيجين العظام من حزب العدالة والتنمية .. بينما تعاني دول عربية كبرى من العقم الفكرى والضلال والاضطراب .. ولا تفرز إلا شخصيات قميئة وسياسات غبية ، لا تأتي إلا بالفضائح والخزي، ولا تجلب إلا معادات الجيران والأخوة .. ولا تنتج إلا الفرقة بين الأشقاء .. ولو ذهبت تحلل مواقفها وسياساتها تحليلا نفسيا واجتماعيا لوجدت نفسك أمام كيانات تسعى إلى الانتحار باندفاع أعمى .. وتتحرك فى الساحة الإقليمية كما يتحرك الثور الأهوج ، وهو ينطح الوشاح الأحمر ، ولا يدري أن سيف مروّضه الذي سيدفع به في عمق رأسه أو قلبه ، بعد أن يبلغ منه الإنهاك مداه ، مخفيّ وراء ظهر (الماتادور) ، أو الصديق الأمريكي/ الإسرائيلي .. !
لو رجعنا إلى المشهد التركي لتحققنا أن عهد حزب العدالة والتنمية فى تركيا هو صفحة جديدة غير مسبوقة فى التطور التاريخي لهذا البلد .. لقد انطوت صفحة دكتاتورية الجنرالات، وانهارت العلمانية البشعة بسقوط "بولانت أجاويد" آخر ممثليها .. لقد آذنت منظومة المترفين الفاسدين المفسدين فى السلطة والمجتمع على الزوال ، وانبثق في تركيا فجر جديد .. أعتقد أن أصحابه يتمتعون بقدر كاف من الحكمة والحنكة والرؤية الواضحة ما يؤهلهم لقيادة بلادهم في أشد الظروف قسوة واضطرابا .. فهؤلاء الناس لا تُعمي بصائرَهم الأهواء أوالمطامع الشخصية عن المصالح الحقيقية لبلادهم وشعبهم ، ولا تستبد بهم هواجس التوريث والرغبة العارمة للانفراد بالسلطة..
ويستخدمون التغييرات الدستورية والقانونية لا لتأبيد احتكار السلطة ، وإنما لتكبيل القوى المعادية للديمقراطية والحرية ، التى دأبت على احتقار القانون وتجاوزه والاستهانة بالشعب ومصالحه وكرامته .
أحسب أن قادة حزب العدالة والتنمية قد وعَوْا حكمة "محمد إقبال" أحد فلاسفة الإسلام العظام فى العصر الحديث حيث قال: " هناك طريقان ممكنان لتوجيه البشر إلى الرُّقيّ : العمل من خلال التنظيم ، والعمل فى الضمائر الفردية ، وكان فوز الدين فى الماضي ناتجا عن جمعه بين هذين النمطين من العمل " .
و أحسب أنهم قد تمثّلوا قول عليّ بن أبى طالب رضى الله عنه حيث قال: " إن الأرض لا تخلو من قائم لله بالحُجّة ... وإن حجج الله تعالى هم أعلام الحق والفضيلة ومُثل العدل والخير ، فمنهم العالِم المستقلّ بالدليل وإن سخط المقلّدون ، والحاكم المُقيم للعدل وإن كثر حوله الجائرون ، والمصلح لما فسد من الأخلاق والآداب وإن غَـلَب المفسدون ، والباذل لروحه حتى يُقتل فى سبيل الحق وإن أحجم الجبناء والمُراءون ..."

(3)
نماذج من المترفين المفسدين فى الأرض: ليس اسمه مُهِمًّا ولكنّا نعرفه بأعماله وسيرته .. عندما هلك سنة 2008 كان قد بلغ من العمر ثمانين عاما ، قضاها فى معاداة الاسلام والمسلمين وخدمة الصهيونية .. اشتهر عنه أنه آخر من بقى من يهود الهولوكوست ، ولكن تجربة المحرقة لم تصلحه ، فساند إسرائيل فى كل جرائمها ومحارقها ضد العرب والفلسطينيين .. إنه أمريكي ولكنه يتحدّث الإنجليزية بلكنة مجرية واضحة .. كان عضوا بالكونجرس لسنوات طويلة عن الحزب الديمقراطي [ لايهمّ فكلّهم سواء جُمهومقراطيين ...!] ..
كان رئيسًا للجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس لمدة عشرين سنة .. فى السياسة الداخلية كان مؤيدا للزواج المِثْلى ( يعنى زواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة) .. ومؤيدا لإباحة مخدّر (الماروانا) قانونيا ، بحجة استخدامه فى العلاج ، ( وأصبح بيع الماروانا الآن متاحا فى سان فرانسسكو بولاية كاليفورنيا) .. وصوّت ضد اقتراح كلينتون رئيس حزبه الديمقراطي فوقف مع الجمهوريين فى رفض تجريم حمل السلاح .. نشيط جدا فى مجال حقوق الأنسان .. فقط فى دارفور السودان والسعودية ..
وبذل جهودا كبيرة لوقف وصول الأسلحة والمعونات عن طريق مصر لغزة وحماس ، للقضاء على المقاومة الفلسطينية .. وهدد مصر بقطع المعونات الأمريكية والمساعدات العسكرية خصوصا وأنها لم تقدّم جنودا لمساعدة القوات الدولية فى أفغانستان .. حرّض بقوة الرئيس الجمهوري بوش على الحرب والحزم في أفغانستان المسلمة وفي العراق العربية المسلمة ..
وكان أكبر مؤيد لحرب الخليج الأولى والثانية والثالثة .. كان مؤيدا لبوش الجمهوري فى كل سياساته الحمقاء ، ولكنه فى سنة 2006 تظاهر بالتراجع وبدأ يهاجم بوش ليبعد عن نفسه المسئولية عن حماقاته وإخفاقاته المتتالية [ لاحظ أن الانتهازية السياسية والتلوّن الحربائي بعض سِمات المترفين المفسدين الثابتة] ..
كان وراء مظاهرات الاحتجاج أمام السفارة السودانية فى واشنطون بدعوى الدفاع عن حقوق الإنسان في دارفور ، ولكنه لم ينطق بكلمة حق واحدة فى إهدار إسرائيل المتواصل لكل حقوق الشعب الفلسطينيّ ..
كان من أكبر الداعين لمحاكمة الرئيس السودانى أمام محكمة جرائم الحرب الدولية ، ولكنه صمت تماما عن جرائم الحرب المروّعة التى ارتكبها ساسة وجنرالات إسرائيل ولا يزالون ضد غزة .. ودافع بقوة لإيقاف المساعدات الأمريكية للبنان حتى تسمح حكومتها للقوات الدولية بالانتشار على الحدود السورية ، لمنع تدفق الأسلحة إلى حزب الله ( العدوّ الأكبر والأكثر نجاحا فى التصدّى للعدوان الإسرائيلى على لبنان والعربدة الإسرائيلية فى المنطقة...) .
إذا كان الاسم مُهمّا لديك فهو الصهيونيّ "توم لانتوس"..
وحتى يأذن الله بلقاء آخر تذكّر هذه الآية : {إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ويَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (الأنفال: ٣٦ – ٣٧)

مطيع الله
21-01-2010, 09:19 AM
يعني اي واحد غني فاسد :(

والاغنيا هم المخربين

والفقارى هم المصلحين:(

احياناً اتعجب فعلاً

هذا كلام علم من أعلام أمتنا،
لذلك أدعوك لقرائته كاملاً،
والاسبوع القادم مقال له أيضاً،

وإلى رقي ووعي بما حولنا بإذن الله

شكراً لقلمك

كاريرا
21-01-2010, 09:33 AM
هذا كلام علم من أعلام أمتنا،
لذلك أدعوك لقرائته كاملاً،
والاسبوع القادم مقال له أيضاً،

وإلى رقي ووعي بما حولنا بإذن الله

شكراً لقلمك



الأيمان بهدف شي مهم

ونشر الثقافه امر مهم

^بغض النظر عن اتفاقي مع تم نقله ولى لا فالامثله كثيره

شكراً لرحابة صدرك

سلمان_1
21-01-2010, 11:01 AM
[color="blue"]الحقيقة: أن المؤمن يمكن أن يكون ثريا ثراء واسعا مادام قد جمع ثروته من حلال وأنفق منها في حلال ، ويمكن أن يكون المؤمن مرفّهًا متنعمًا بنعم الله عليه دون سرف أو مخيلة ، [ولكن يستحيل أن يكون المؤمن مترفا أبدا] فلا تقع في هذا الخطأ (كما يفعل أكثر الناس عندما يخلطون في كلامهم وأفكارهم بين الغنى والرفاهية والتنعّم من ناحية وبين الترف من ناحية أخرى) ... تذكّر هذا جيدا حتى نلتقي إن شاء الله لنستكمل هذا الحديث ...!


بقلم الأستاذ محمد يوسف عدس

جزاك الله خير

مطيع الله
21-01-2010, 08:33 PM
شكراً لك سلمان

وندعو عشاق القراءة المفيدة لينهلو من معين هذا العالم