شمعة الحب
07-03-2006, 09:05 AM
تنتشر بين الحين والآخر في أوساط الأكاديميين وصناع القرار بعض الوصفات التي تطلقها في شأن معين إحدى المنظمات الدولية، وهي في العادة صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، أو أحد مراكز البحوث، أو ربما أحد الاقتصاديين المرموقين. ومع مرور الوقت وسرعة الدوران تكتسب هذه الوصفات حصانة تضعها في مصاف المسلّمات التي لا تقبل التفنيد حتى ولو بانت نواقصها.
من هذه الوصفات التوصية الذائعة الصيت بأن تسعى كل دولة إلى جذب الاستثمار الأجنبي المباشر لضمان تحقيق تنمية سريعة ومستدامة. هذه الوصفة اكتسبت زخماً متسارعاً عقب استفحال أزمة المديونية الخارجية خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، وصارت توصف بطريقة شبه تلقائية لكل دولة، من دون الوقوف كثيراً عند ظروفها الخاصة التي قد لا تستوجب مثل هذه التوصية. فهل دول الخليج في حاجة حقاً إلى استثمار أجنبي مباشر؟
ليس بالضرورة. فهذه الوصفة تنطلق ابتداءً من الفرضية الكلاسيكية بأن مفتاح التنمية الاقتصادية يكمن في زيادة معدل التراكم الرأسمالي الذي يتحدد بدوره بمعدل الادخار. فكلما زاد معدل الادخار انتقلت دالة الإنتاج إلى مستوى أعلى يتيح فرصة أكبر لزيادة معدل النمو.
والأصل في الادخار، طبقاً لهذه الفرضية، هو الادخار المحلي. ولكن عند الضرورة يمكن الاستعانة بالادخار الأجنبي على سبيل الاستثناء. ويتدفق الادخار الأجنبي، كما هو معروف، في أشكال مختلفة أهمها القروض والاستثمار المباشر واستثمار المحفظة (الأوراق المالية). وقد يتدفق أيضاً في شكل ودائع لدى الجهاز المصرفي.
ولكن الاستثناء انقلب، في التطبيق، إلى قاعدة. فبسبب تواضع الادخار المحلي مقارنة بخطط التنمية الطموحة في الدول النامية، اعتمدت غالبية هذه الدول في شكل شبه كامل على الادخار الأجنبي في تمويل خطط التنمية. وكان الشكل السائد للتمويل حتى قبيل نهاية القرن العشرين هو الاقتراض. وساعدت على شيوعه عملية الاستقطاب السياسي التي تعرضت لها الدول النامية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، باعتبار الإقراض إحدى آلياتها، كما ساعد على انتشاره أيضاً العداء الأيديولوجي للشركات المتعددة الجنسية في البلاد التي تبنت النموذج الاشتراكي في التنمية.
وكان من شأن الاعتماد شبه الكامل على الاقتراض في الوقت الذي فشلت فه خطط التنمية في غالبية البلاد النامية، أن ظهرت واستفحلت أزمة المديونية الخارجية. وكانت لهذه الأزمة، مع إفلاس الفكر التدخلي، انعكاسات جوهرية على استراتيجيات التنمية والتمويل معاً. فتغيرت استراتيجيات التنمية من الانكفاء على الذات إلى الانفتاح على العالم الخارجي، ومن تدخل الدولة إلى اقتصاد السوق، ومن التركيز على إنتاج بدائل الواردات إلى الإنتاج من اجل التصدير. وانطلقت تبعاً لذلك موجة التصحيح الهيكلي في البلاد التي كانت تبنت نماذج التنمية التدخلية.
وصاحب هذا الانقلاب في استراتيجيات التنمية انقلاب مواز في استراتيجيات التمويل. فقد انحسر مد التمويل بالإقراض منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي لمصلحة التمويل في شكل استثمار أجنبي مباشر ومعه بالتوازي، وإن بدرجة اقل، التمويل في شكل استثمار المحفظة بضوابط. وانطلق السباق تبعاً لذلك بين دول العالم لاجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر سعياً إلى تحقيق تنميــة سريعــة ومستدامــة.
وشاركت دول الخليج في هذا السباق، أو شجعت على ذلك، على رغم خصوصية اقتصاداتها التي تغنيها عنه بالضرورة. فالتقارير الصادرة في شأن استراتيجيات التنمية فيها لا تخلو من هذه التوصية مع أنها تعاني عكس مشكلة التمويل، أي تخمة في المدخرات لا تعرف حقيقة كيف تتصرف فيها (الاندفاع الكاسح إلى الاكتتاب في أسهم شركة دانة غاز وأسهم بنك الريان دليل على ذلك). فطبقاً للبيانات المنشورة، بافتراض أنها صحيحة، يدور معدل الادخار المحلي في عمان حول 42 في المئة من الناتج المحلي، وفي الإمارات 39 في المئة وفي البحرين 30 في المئة، وفي السعودية 26 في المئة، في حين يبلغ معدل الاستثمار 23 في المئة، 26 في المئة، 16 في المئة، 21 في المئــة في الدول الأربع على التوالـــي. ولا يجـــد الخليجيـــون ما يستثمرونه في هذا الفائض الموجـــب في الادخار المحلــي في الداخل، ولذلـــك يصدرونــــه إلى الخارج في شكـــل استثمار المحفظــة وودائــع لدى المصــارف أساســاً.
فإذا كانت المدخرات المحلية تفيض على الحاجة في دول الخليج ويشكل الفائض مشكلة لها على هذا النحو، فلماذا يستدعى الادخار الأجنبي، في أي شكل كان، لتمويل التنمية وتزداد المشكلــة بذلـــك تعقيداً؟ ألا يقضي المنطق باستخدام فائض الادخار المحلي أولاً ثم يستعان بعد ذلك، إن لم يكفِ، بالادخار الأجنبي؟
إن ما تحتاج إليه بلاد الخليج حقيقة هو خبرة الأجانب في المجالات الفنية والتسويقية والإدارية اللازمة لتحويل ما لديها من فائض كبير في المدخرات الوطنية إلى استثمار مادي في داخل البلاد. ولذلك بدلاً من تبديد الوقت في التفكير في كيفية جذب الاستثمار الأجنبي المباشر يجب تركيز الجهود على كيفية جذب الخبرة الأجنبية.
وثمة بدائل عدة يمكن اللجوء إليها في هذا الخصوص نذكر منها ثلاثة، هي: توظيف الخبراء (Recruitment) وتكليف الشركات الأجنبية تنفيذ المطلوب (Outsourcing) والمشاركة مع الأجانب في ملكية المشاريع (Partnership). ولهذه الطرق الثلاث مزايا وعيوب.
فتوظيف الخبراء يكفل الاستفادة من المهارات المتاحة بتكلفة معقولة. ولكن الخبراء غالباً ما يكونون خارج دائرة اتخاذ القرار مما يجعل خبرتهم محاصرة ومهمشة وفي أحوال كثيرة عقيمة. وتكليف الشركات الأجنبية بالمهمات المطلوبة يكفل أداءها وفق المواصفات والمقاييس العالمية. ولكن هذه الشركات، فضلاً عن التكلفة العالية نسبياً، تحتفظ غالباً بأسرار الخبرة وتحجبها عن الوطنيين. أما المشاركة مع الأجانب فإنها تتيح فرص تدريب الوطنيين على عملية اتخاذ القرار ومشاركتهم فيها وفي تحمل المسؤولية مما يساعد على استيعابهم مع الوقت للخبرة الأجنبية في المجالات الثلاثة. وعيب المشاركة أنها تتوقف على مدى جاذبية مشاريع التنمية للأجانب. وهذا يفرض على متخذ القرار في هذه البلاد أن يختار المشاريع التي تخدم الصالح العام وتجذب في الوقت نفسه الشركاء الأجانب.
ولما كانت المشاركة ترجح البدائل الأخرى، في رأيي، من حيث المزايا والعيوب، فمن الأصوب أن تشكل المشاريع المشتركة رأس الحربة في عملية التنمية الاقتصادية في دول الخليج. ويقسم رأس المال إلى حصة نقدية، يتكفل بها الخليجيون وخصوصاً القطاع الخاص، وحصة عينية، وهي الخبرة الفنية والإدارية والتسويقية اللازمة، ويساهم بها الشركاء الأجانب. ويمكن بعد نجاح المشروع طرح جزء من رأس ماله للاكتتاب العام في البورصة.
كاتب مصري
من هذه الوصفات التوصية الذائعة الصيت بأن تسعى كل دولة إلى جذب الاستثمار الأجنبي المباشر لضمان تحقيق تنمية سريعة ومستدامة. هذه الوصفة اكتسبت زخماً متسارعاً عقب استفحال أزمة المديونية الخارجية خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، وصارت توصف بطريقة شبه تلقائية لكل دولة، من دون الوقوف كثيراً عند ظروفها الخاصة التي قد لا تستوجب مثل هذه التوصية. فهل دول الخليج في حاجة حقاً إلى استثمار أجنبي مباشر؟
ليس بالضرورة. فهذه الوصفة تنطلق ابتداءً من الفرضية الكلاسيكية بأن مفتاح التنمية الاقتصادية يكمن في زيادة معدل التراكم الرأسمالي الذي يتحدد بدوره بمعدل الادخار. فكلما زاد معدل الادخار انتقلت دالة الإنتاج إلى مستوى أعلى يتيح فرصة أكبر لزيادة معدل النمو.
والأصل في الادخار، طبقاً لهذه الفرضية، هو الادخار المحلي. ولكن عند الضرورة يمكن الاستعانة بالادخار الأجنبي على سبيل الاستثناء. ويتدفق الادخار الأجنبي، كما هو معروف، في أشكال مختلفة أهمها القروض والاستثمار المباشر واستثمار المحفظة (الأوراق المالية). وقد يتدفق أيضاً في شكل ودائع لدى الجهاز المصرفي.
ولكن الاستثناء انقلب، في التطبيق، إلى قاعدة. فبسبب تواضع الادخار المحلي مقارنة بخطط التنمية الطموحة في الدول النامية، اعتمدت غالبية هذه الدول في شكل شبه كامل على الادخار الأجنبي في تمويل خطط التنمية. وكان الشكل السائد للتمويل حتى قبيل نهاية القرن العشرين هو الاقتراض. وساعدت على شيوعه عملية الاستقطاب السياسي التي تعرضت لها الدول النامية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، باعتبار الإقراض إحدى آلياتها، كما ساعد على انتشاره أيضاً العداء الأيديولوجي للشركات المتعددة الجنسية في البلاد التي تبنت النموذج الاشتراكي في التنمية.
وكان من شأن الاعتماد شبه الكامل على الاقتراض في الوقت الذي فشلت فه خطط التنمية في غالبية البلاد النامية، أن ظهرت واستفحلت أزمة المديونية الخارجية. وكانت لهذه الأزمة، مع إفلاس الفكر التدخلي، انعكاسات جوهرية على استراتيجيات التنمية والتمويل معاً. فتغيرت استراتيجيات التنمية من الانكفاء على الذات إلى الانفتاح على العالم الخارجي، ومن تدخل الدولة إلى اقتصاد السوق، ومن التركيز على إنتاج بدائل الواردات إلى الإنتاج من اجل التصدير. وانطلقت تبعاً لذلك موجة التصحيح الهيكلي في البلاد التي كانت تبنت نماذج التنمية التدخلية.
وصاحب هذا الانقلاب في استراتيجيات التنمية انقلاب مواز في استراتيجيات التمويل. فقد انحسر مد التمويل بالإقراض منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي لمصلحة التمويل في شكل استثمار أجنبي مباشر ومعه بالتوازي، وإن بدرجة اقل، التمويل في شكل استثمار المحفظة بضوابط. وانطلق السباق تبعاً لذلك بين دول العالم لاجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر سعياً إلى تحقيق تنميــة سريعــة ومستدامــة.
وشاركت دول الخليج في هذا السباق، أو شجعت على ذلك، على رغم خصوصية اقتصاداتها التي تغنيها عنه بالضرورة. فالتقارير الصادرة في شأن استراتيجيات التنمية فيها لا تخلو من هذه التوصية مع أنها تعاني عكس مشكلة التمويل، أي تخمة في المدخرات لا تعرف حقيقة كيف تتصرف فيها (الاندفاع الكاسح إلى الاكتتاب في أسهم شركة دانة غاز وأسهم بنك الريان دليل على ذلك). فطبقاً للبيانات المنشورة، بافتراض أنها صحيحة، يدور معدل الادخار المحلي في عمان حول 42 في المئة من الناتج المحلي، وفي الإمارات 39 في المئة وفي البحرين 30 في المئة، وفي السعودية 26 في المئة، في حين يبلغ معدل الاستثمار 23 في المئة، 26 في المئة، 16 في المئة، 21 في المئــة في الدول الأربع على التوالـــي. ولا يجـــد الخليجيـــون ما يستثمرونه في هذا الفائض الموجـــب في الادخار المحلــي في الداخل، ولذلـــك يصدرونــــه إلى الخارج في شكـــل استثمار المحفظــة وودائــع لدى المصــارف أساســاً.
فإذا كانت المدخرات المحلية تفيض على الحاجة في دول الخليج ويشكل الفائض مشكلة لها على هذا النحو، فلماذا يستدعى الادخار الأجنبي، في أي شكل كان، لتمويل التنمية وتزداد المشكلــة بذلـــك تعقيداً؟ ألا يقضي المنطق باستخدام فائض الادخار المحلي أولاً ثم يستعان بعد ذلك، إن لم يكفِ، بالادخار الأجنبي؟
إن ما تحتاج إليه بلاد الخليج حقيقة هو خبرة الأجانب في المجالات الفنية والتسويقية والإدارية اللازمة لتحويل ما لديها من فائض كبير في المدخرات الوطنية إلى استثمار مادي في داخل البلاد. ولذلك بدلاً من تبديد الوقت في التفكير في كيفية جذب الاستثمار الأجنبي المباشر يجب تركيز الجهود على كيفية جذب الخبرة الأجنبية.
وثمة بدائل عدة يمكن اللجوء إليها في هذا الخصوص نذكر منها ثلاثة، هي: توظيف الخبراء (Recruitment) وتكليف الشركات الأجنبية تنفيذ المطلوب (Outsourcing) والمشاركة مع الأجانب في ملكية المشاريع (Partnership). ولهذه الطرق الثلاث مزايا وعيوب.
فتوظيف الخبراء يكفل الاستفادة من المهارات المتاحة بتكلفة معقولة. ولكن الخبراء غالباً ما يكونون خارج دائرة اتخاذ القرار مما يجعل خبرتهم محاصرة ومهمشة وفي أحوال كثيرة عقيمة. وتكليف الشركات الأجنبية بالمهمات المطلوبة يكفل أداءها وفق المواصفات والمقاييس العالمية. ولكن هذه الشركات، فضلاً عن التكلفة العالية نسبياً، تحتفظ غالباً بأسرار الخبرة وتحجبها عن الوطنيين. أما المشاركة مع الأجانب فإنها تتيح فرص تدريب الوطنيين على عملية اتخاذ القرار ومشاركتهم فيها وفي تحمل المسؤولية مما يساعد على استيعابهم مع الوقت للخبرة الأجنبية في المجالات الثلاثة. وعيب المشاركة أنها تتوقف على مدى جاذبية مشاريع التنمية للأجانب. وهذا يفرض على متخذ القرار في هذه البلاد أن يختار المشاريع التي تخدم الصالح العام وتجذب في الوقت نفسه الشركاء الأجانب.
ولما كانت المشاركة ترجح البدائل الأخرى، في رأيي، من حيث المزايا والعيوب، فمن الأصوب أن تشكل المشاريع المشتركة رأس الحربة في عملية التنمية الاقتصادية في دول الخليج. ويقسم رأس المال إلى حصة نقدية، يتكفل بها الخليجيون وخصوصاً القطاع الخاص، وحصة عينية، وهي الخبرة الفنية والإدارية والتسويقية اللازمة، ويساهم بها الشركاء الأجانب. ويمكن بعد نجاح المشروع طرح جزء من رأس ماله للاكتتاب العام في البورصة.
كاتب مصري