المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاندلس سابقا .. اسبانيا حاليا .. تصدقون يا جماعه ان مسجد قرطبه ممنوع فيه الصلاه!



هدهد سليمان
13-05-2010, 08:43 PM
http://www.yabdoo.com/users/623/gallery/2649_p129982.gif

تمعنوا في الخريطه جيدا !! .. ما رأيكم اليست خساره عظيمه !!

ندخل الآن في الموضوع الا وهو عن ..
http://2.bp.blogspot.com/_JZrrR5I6Yik/SMcyTJOEYbI/AAAAAAAAArA/9XzAxQK5rJI/s400/elandalus8ryjh0.gif

يالها من خساره .. لكن الأمل بالله كبير .. ووعد الله لنا كمسلمين بنصرنا اذا نصرناه فنسأل الله العلي العظيم ان ننصر الله ورسوله .. سأبدأ معكم بدايه اتمنى ان تحوز على رضاكم وهي الطريق الى الاندلس وسوف يتم في نهاية القصه وضع اسم الكاتب والكتاب ..

إن التحدث عن التاريخ الإسلامي يجعلنا نتحدث عن جزء مهم من التاريخ الإسلامي وهو تاريخ الأندلس، ولكن لماذا نتحدث عن تاريخ الأندلس بالتحديد؟ السبب في ذلك أن تاريخ الأندلس يشمل أكثر من ثمانمائة سنة كاملة، وتحديدًا من سنة 92هـ/ 711م إلى سنة 897هـ/ 1492م، أي ثلثي التاريخ الإسلامي، فكيف لا نتحدث عنه إذن؟!

لماذا سميت هذه البلاد ببلاد الأندلس؟ وعن سبب تسميتها بالأندلس نسبة إلى قبائل الفندال أو الوندال، فسميت هذه البلاد بفانداليسيا، ومع الأيام حُرّف إلى أندوليسيا فأندلس.

ولكن ما هي علاقة المسلمين بالأندلس؟ اتجه إليها المسلمون لنشر الدين الإسلامي في هذه البقاع. وهناك اعتراض من قائل يقول: لندع الناس يعبدون ما يشاءون، لماذا نشغل أنفسنا وننشر رسالتنا هناك؟ والجواب: أن الله سبحانه وتعالى جعل للمسلم رسالة عليه أن يؤديها، فهذه هي رسالته في الدنيا والآخرة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].

وقد يولد ذلك عند بعض الناس استنتاجًا بأن الإسلام انتشر بحدّ السيف، ولكن كيف وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة: 256]؟! وأن رسالة المسلمين هي نشر الحب والتسامح والعدل بين الناس؛ فنجد المسلم لا يقتل طفلاً ولا شيخًا ولا امرأة، ولا يقطع شجرة، فكيف - إذن - انتشر بحدّ السيف؟!

متى فُتحت الأندلس؟

في سنة اثنتين وتسعين من الهجرة، ويتوافق تاريخ فتح الأندلس مع فترة من فترات الدولة الأموية، وتحديدًا في خلافة الوليد بن عبد الملك - رحمه الله - الخليفة الأموي الذي حكم من سنة 86 هـ/ 705 م إلى 96هـ/ 715 م

الأوضاع في الأندلس قبل الفتح الإسلامي:

إن الأندلس قبل الفتح الإسلامي كان يسودها الضعف والانحلال وانتشار الظلم وكثرة الثورات، كل هذه الأوضاع تجعلها في حاجة للإسلام؛ لكي يخلصها مما هي فيه من ظلم وفساد؛ لأن الدول العظمى التي تتحكم في الأمم تجعل الظلم قاعدة من القواعد التي ترسّخها في العالم، ولهذا تحتاج إلى الإسلام؛ لأنه دين الرحمة والتسامح ونشر العدل بين الناس.

وتدعي بعض الدول أن ما فعله المسلمون بالأندلس كان اعتداءً على الحرية، وأن ما يفعلونه بالشعوب هو الحرية، ولكن هذا الزعم غير صحيح، فإن ما قام به المسلمون هو نشر العدل والمساواة بين الناس، وعدم المساس بحرية غير المسلمين، أما ما تفعله الدول الأخرى من اعتداء على حقوق المسلمين، ووصفهم بالإرهابيين، ووضعهم في المعتقلات هو - بلا شك - الاعتداء على الحرية.

بالمناسبه قبل ان اتم سرد المقدمه .. اردت ان تعلموا عندما ذهب بعض اصدقائي للخروج في سبيل الله الى قرطبه .. وعندما حان موعد الصلاه كانوا بالمسجد الذي اصبح متحفاً بكل اسف وارادوا ان يصلوا فتم منعهم من قبل الحرس هناك وقالوا لهم هذا متحف وممنوع فيه الصلاه !!! يا خساره ارأيتم الى اين الذل !!

نعود الى موضوعنا ..

فموضوع هذه الصفحات هو الحديث عن حِقبة من التاريخ الإسلامي هي من أهم الحِقَب في تاريخ المسلمين. إنها " تاريخ الأندلس ".

وقد يسأل سائل: لماذا الحديث عن التاريخ أصلا؟!

فكثير من الناس يلوم على المسلمين كثرة الخوض في الحديث عن التاريخ، يقولون: أنتم تبكون على اللبن المسكوب، هذا ماضٍ قد انتهى، فلنعش في حاضرنا، ولننظر إلى مستقبلنا.

والواقع أن هذه الآية مقلوبة تمامًا؛ لأننا إذا نظرنا إلى كتاب الله سبحانه وتعالى نجد أمرًا عجبًا، نجد أن ثلث القرآن الكريم جاء في صورة قصص، وهو أمر لافت للأنظار، فإذا كان ثلث القرآن الكريم قصصًا فإن هذا ولا ريب يشير إلى أسلوب رباني فريد من نوعه في التربية.

وإنني أرى أن مناهج التربية يجب أن يأتي ثلثُها في صورة قصص، حتى تحاكي أسلوب الخالق سبحانه وتعالى في تربية الخلق أجمعين. وإلا فلماذا ينزل ثلث القرآن الكريم قصصًا؟ ولماذا يكون هذا هو أسلوب المولى سبحانه وتعالى في القرآن الكريم - وفي هذا الثلث بالذات - في تعليم الناس وتربيتهم، وإرشادهم إلى الطريق القويم؟

إن الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم قصّ قصصًا كثيرة، قصّ قصص الصالحين والطالحين، وقصص الأنبياء ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم قصص الذين خرجوا عن منهجه سبحانه وتعالى، وكيف عاقبهم عز وجل، وكيف كانت نهايتهم وخاتمهم...

والقرآن الكريم ككتاب هو في الحقيقة منهج حياة، فيه كثير من الآيات التي تشير إلى منهج المسلم في تَلَقّي القصص، يقول سبحانه وتعالى: [فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]{الأعراف:176}. ويقول في آية أخرى: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] {يوسف:111}. فقد خصّ سبحانه وتعالى العبرة بطائفة معينة فقال: [لِأُولِي الأَلْبَابِ] أي: لأصحاب العقول والأفهام.

إذن حينما نقصّ القصص بصفة عامة، سواءً القصص القرآني أو التاريخ الإسلامي أو التاريخ غير الإسلامي - حينما نقصّ هذا القصص لا بدّ أن نأخذه من خلال هذا الفهم وهذا المنطلق، منطلق الدراسة والتفكر والتدبّر والنظر في الأمور.

فليس غرضنا في هذا الصفحات في هذا الموضوع - تاريخ الأندلس - تحريك العواطف، ولا إلهاب المشاعر، ولا مجرد البكاء على ما سبق من الحضارات، أو البكاء على اللبن المسكوب، أو غيره، وإنما هي دعوة إلى التفكر، دعوة إلى التدبّر والتأمل، دعوة إلى أخذ العبر والدروس.

وهي أيضا طريق نبدأ فيه سويًا بالتنقيب عن صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي، صفحة تاريخ الأندلس، وهي وإن كانت غير كافية لتغطية كل تاريخ الأندلس بكل أحداثه وتفصيلاته، إلا إنها تضع أرجلنا على الطريق لدراسة هذا التاريخ العظيم هو وغيره - بمشيئة الله - من تواريخ أخرى لاحقة.

وأسال الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، إنه ولى ذلك والقادر عليه، وهو نعم المولى ونعم النصير.

وفي بداية حديثنا عن تاريخ الأندلس وفي محاولةٍ لتحليل التاريخ تحليلا دقيقًا، نحاول أن نقلّب صفحاتٍ، ونُظهر أحداثًا قد علاها التراب أعوامًا وأعوامًا، نحاول أن نظهر ما حاول الكثيرون أن يطمسوه، أو يخرجوه لنا في صورة باطل وهو حق، أو إظهار الحق وكأنه باطل.

فكثير من الناس يحاولون أن يزورواْ التاريخ الإسلامي، وهي جريمة خطيرة جدّ خطيرة يجب أن يتصدّى لها المسلمون.

http://www.pitt.edu/~asian/week-8/cordoba.jpg

سنن الله في خلقه

في بداية الحديث أيضًا يهمنا أن نتعرف على سنن الله في خلقه، وسننه سبحانه وتعالى في أرضه، فلله سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، كما يقول سبحانه وتعالى: [فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا] {فاطر:43}.

فهذا أمر الله سبحانه وتعالى قرره في كتابه وجعله من سننه الثوابت، وكمثال عملي على ذلك نجد أن الماء يغلي عند درجة مائة مئوية، وسيظل يغلي عند هذه الدرجة إلى يوم القيامة، فمن رحمته سبحانه وتعالى أن ثبّت لنا هذا الأمر؛ إذ لو كان الماء يغلي اليوم عند درجة ثلاثين - مثلا - وغدًا عند درجة خمسين، وبعد غد عند سبعين فلن تستقيم حياة الناس مع هذا الأمر، ولن تستقر أمورهم؛ لأن كل يوم مغاير للآخر، وكل شكل فيه تبدّل وتحوّل لم يُعهد.

والله سبحانه وتعالى وضع قواعدَ محكمةً وسُننًا ثابتةً.

فالنار تحرق وستظل تحرق إلى يوم القيامة، إلا أن هناك استثناءات لا ينبني عليها، فتلك النار التي من أهم خصائصها الإحراق لم تحرق إبراهيم عليه السلام، وهذا استثناء، والمؤمن الكيّس الحصيف لا يبني على الاستثناءات، ولا يتخذها قواعد، إنما يبني على قواعد أصولية ثابتة راسخة.

فهل يستطيع المؤمن في حياته أن يبني على الاستثناء ويضع يده - مثلا - في النار؟ ثم يقول: قد يحدث لي مثلما حدث مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، هذا غير جائز على الإطلاق، ولا يصح أن يتفوّه به أحد.

إذن، هي ثوابت الله التي لا تتبدل ولا تتغير، وقِسْ على ذلك ما شئت، فالإنسان والحيوان بصفة عامةٍ لا يستطيع أن يعيش بدون طعام أو بدون شراب، ولو عاش أي إنسان دون طعام وشراب أيامًا كثيرة فمآله لا محالة إلى الموت.

كذلك وبالمثل فإن سنن الله تعالى في تغيير الأمم هي سننٌ ثابتة، فقد جعل اللهُ عز وجلّ لتغيير الأمم وتبديلها من الفساد إلى الصلاح، ومن الصلاح إلى الفساد سننًا ثابتةً لا تتغير، فإن أنت سرت في طريق معيّن كانت الخاتمة معلومة وواضحة جدًا ؛ إذ هي ثابتة عند الله سبحانه وتعالى.

وحينما تقرأ التاريخ، وحينما تُقلِّب في صفحاته تشاهد سنن الله سبحانه وتعالى في التغيير والتبديل، فالتاريخ يكرّر نفسه بصورة عجيبة، حتى والله لكأنك تقرأ أحداثًا حدثت منذ ألف عام أو أكثر، فتشعر وكأنها هي هي، نفس الأحداث التي تتم في هذا الزمن، مع اختلاف فقط في بعض الأسماء أو المسمّيات.

فأنت حين تقرأ التاريخ كأنك تقرأ المستقبل بأحداثه وتفصيلاته؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد قرأه لك بسننه الثوابت، وحدد لك كيف ستكون العواقب، وما نهاية هذا الطريق الذي ستبدؤه وتتبعه.

والمؤمن الحصيف لا يقع في أخطاء السابقين، والمؤمن العاقل الواعي هو الذي يكرر ما فعله السابقون من المحامد والإيجابيات، فيفلح بفلاحهم واقتدائه بهم، وهو نفسه الذي لا يقع في أخطاء من عارض منهج الله سبحانه وتعالى، أو وقع في خطأ مقصود كان أو غير مقصود.

cobra
13-05-2010, 08:50 PM
للاسف توالت السقطات في الاسلام حتى وقتنا الحالي

من بعد الاندلس اتت فلسطين فالشيشان فافغانستان فالعراق

لايبدل الله حال قوم حتى يبدلوا مافي أنفسهم..

هدهد سليمان
13-05-2010, 08:50 PM
بني أمية ( 40 - 132 هـ= 660 - 750 م ) وحسناتهم

الدولة الأموية كغيرها من الدول الإسلامية لها الأيادي البيضاء والفضل الكبير على المسلمين في شتى بقاع الأرض، ونظرة واحدة على عدد المسلمين الذين دخلوا الإسلام في زمن حكمها تكفي للرد على الافتراءات والمزاعم التي حِيكت في حقها، فهذا إقليم شمال إفريقيا بكامله دخل الإسلام في عهد بني أمية، ابتداء من ليبيا وحتى المغرب، وإذا كانت الفتوح الإسلامية لهذه البلاد قد بدأت في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه فإن هذه البلاد قد ارتدّت على عقبها ثم فُتحت من جديد في عهد بني أمية، ومع إقليم شمال إفريقيا كانت أفغانستان وأيضا جمهوريات جنوب روسيا، كل هذه البلدان وغيرها وصلتهم رسالة الإسلام ودخلوا فيه في زمن بني أمية، فقد كان الجهاد في أيامهم أمرًا طبيعيًا جدًا، وهو في كل أيام العام صيفًا وشتاءً، يخرج إليه الناس وكأنهم ذاهبون إلى أعمالهم، وإضافة إلى ذلك أيضًا فقد دُوّنت السنة النبوية في مدتهم، وحُكِّم شرع الله وطُبّق في دولتهم،

ومع كل هذا فإنا لا نقرّ بتبرئتهم من كل خطأ أو عيب؛ فالنقص والخطأ شيمة البشر، ومن المؤكد أن هناك أخطاء كثيرة في تاريخ بني أمية، لكن - بلا شك - كل هذه الأخطاء تذوب في بحر حسناتهم، وبحر أفضالهم على المسلمين، فقد امتدّ حكم بني أمية اثنين وتسعين عامًا، من سنة 40 هـ= 660 م إلى سنة 132 هـ= 750 م وكان أول خلفاء بني أمية الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ورضي الله عن أبيه أبي سفيان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الخليفة الذي لم يسلم من ألسنة كثير من الناس، فطعنوا في تاريخه وفي خلافته رضي الله عنه، ولقد كذبوا، فليتنا نصل إلى معشار ما فعله معاوية بن أبي سفيان للإسلام والمسلمين.

وإن كان هذا ليس هو مجال الحديث عن بني أمية إلا أن هذه المقدمة البسيطة قد تفيد - بمشيئة الله - في الحديث عن الأندلس، فبعد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تتابع الحكامُ الأُميون وكان أشهرهم عبد الملك بن مروان رحمه الله، ومن تبعه من أولاده، وكان منهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام، وقد تخللهم الخليفة الراشد المشهور عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وهو خليفة أموي من أبناء الدولة التي يطعنون فيها وهو الذي ملأ الأرض عدلًا ورحمةً وأمنًا ورخاءً...

أما الجانب السيئ من تاريخ دولة بني أمية فإنه يكمن في السنين السبع الأخيرة فقط من تاريخهم، تلك التي كان فيها كثير من المآسي، وكثير من الاختلاف على المنهج الإسلامي، وكانت سنّة الله تعالى فحين فسد الأمر في بني أمية قامت دولة أخرى وهي دولة بني العباس، أما الأندلس وفتح الأندلس فيبقى حسنة من حسنات بني أمية.

أوروبا قُبَيْلَ الفتح الإسلامي للأندلس

من المفيد جدًا أن نتعرف على حالة أوروبا والوضع الذي كانت عليه - خاصة بلاد الأندلس - عند الفتح الإسلامي وكيف كان؟ وكيف تغيرّ هذا الوضع وهذا الحال بعد دخول أهل هذه البلاد في الإسلام؟

الواقع أن أوروبا في ذلك الوقت كانت تعيش فترة من فترات الجهل الفاضح والتخلّف البالغ، فكان الظلم هو القانون السائد، فالحكّام يمتلكون الأموال وخيرات البلاد، والشعوب تعيش في بؤسٍ كبير، والحكّام بنوا القصور والقلاع والحصون، بينما عامة الشعب لا يجد المأوى ولا السكن، وإنما هم في فقر شديد، بل إنهم يباعون ويشترون مع الأرض، وبالنسبة للفرد نفسه، فالأخلاق متدنية والحرمات منتهكة، وبُعدٌ حتى عن مقومات الحياة الطبيعية، فالنظافة الشخصية - على سبيل المثال - مختفية بالمرة، حتى إنهم كانوا يتركون شعورهم تنسدل على وجوههم ولا يهذبونها، وكانوا - كما يذكر الرحّالة المسلمون الذين جابوا هذه البلاد في هذا الوقت - لا يستحمّون في العام إلا مرة أو مرتين، بل يظنون أن هذه الأوساخ التي تتراكم على أجسادهم هي صحة لهذا الجسد، وهي خير وبركة له!!

وكان بعض أهل هذه البلاد يتفاهمون بالإشارة، فليست لهم لغة منطوقة أصلًا فضلًا عن أن تكون مكتوبة، وكانوا يعتقدون بعض اعتقادات الهنود والمجوس من إحراق المتوفى عند موته وحرق زوجته معه وهي حية، أو حرق جاريته معه، أو من كان يحبه من الناس، والناس يعلمون ذلك ويشاهدون هذا الأمر، فكانت أوربا بصفة عامّة قبل الفتح الإسلامي يسودها التخلف والظلم والفقر الشديد، والبعد التام عن أي وجه من أوجه الحضارة أو المَدَنية...

وقبل الفتح الإسلامي لأسبانيا بسنة أو تزيد قام أحد رجال الجيش واسمه لُذريق بالاستيلاء على السلطة وعزل الملك غَيْطَشَة، وغداة الفتح الإسلامي كان لُذريق هو حاكم البلاد، لكن أتباع الملك السابق ومؤيديه لم يرضوا عن هذا الحكم الجديد، وكانوا يتحينون الفرصة لاستعادة ملكهم، ووجدوها في الفتح الإسلامي ووهموا أن المسلمين طلاب غنائم فلن يستقرّوا في إسبانيا لكنهم لم يجدوا لهذا الوهم إشارة، فالمسلمون حَمَلَة عقيدة يعملون على نشرها وإعلائها.

كانت أسبانيا - إذن - قبل الفتح الإسلامي تشكو الاضطراب والفساد الاجتماعي، والتأخر الاقتصادي وعدم الاستقرار، نتيجة السياسة ونظام المجتمع السائد.

لكن هذا لا يعني أن هذه السلطة لم تكن قادرة على الدفاع، كما لا يعني انعدام قوتها السياسية والعسكرية، بل كان بإمكانها أن تصد جيشًا مهاجمًا وتحاربه وتقف في وجهه.

أقام القوط في أسبانيا دولة اعتبرت أقوى الممالك الجرمانية حتى أوائل القرن السادس الجرماني، وبقيت بعد ذلك تتمتع بقوة عسكرية مدربة وقوية، تقارع الأحداث وتقف للمواجهات...

لماذا تاريخ الأندلس؟

قد يبرز هنا سؤال آخر، لماذا تاريخ الأندلس بالذات؟ لماذا ندرس تاريخ الأندلس دون غيره؟

فنقول: إن تاريخ الأندلس يشمل أكثر من ثمانمائة سنة كاملة، ثمانمائة سنة من تاريخ الإسلام، وتحديدًا من سنة 92 ه، 711 م إلى سنة 897 هـ= 1492 م أي ثمانمائة وخمس سنين، هذا إذا أغفلنا التداعيات التي أعقبت ما بعد 897 هجرية، فهي إذن فترة ليست بالهيّنة من تاريخ الإسلام.

فمن العجيب إذن ألا يعرف المسلمون تفاصيل فترة هي أكثر من ثلثي التاريخ الإسلامي، هذا أمر. والأمر الآخر أن تاريخ الأندلس لكبر حجمه وسعة مساحته، مرت فيه كثير من دورات التاريخ التي اكتملت ثم انتهت، فسنن الله في تاريخ الأندلس واضحة للعيان، فقد قامت فيه كثير من الأمم وارتفع نجمها، وسقطت فيه أيضا كثير من الأمم وأفل نجمها، كثير من الدول أصبحت قوية، ومن ثم راحت تفتح ما حولها من البلاد، وكثير من الدول سقطت وهوت، وأصبحت في تعداد الدول المنهزمة والتي نسمع عن مثلها في هذه الآونة، أيضًا ظهر في تاريخ الأندلس المجاهد الشجاع، وظهر في تاريخها الخائف الجبان، ظهر في تاريخ الأندلس التقي الورع، وظهر في تاريخ الأندلس المخالف لشرع ربه سبحانه وتعالى، ظهر في تاريخ الأندلس الأمين على نفسه وعلى دينه وعلى وطنه، وظهر في تاريخ الأندلس الخائن لنفسه ولدينه ولوطنه، ظهرت كل هذه النماذج، وتساوى فيها الحكام والمحكومون والعلماء وحتى عوام الناس.

وما من شك أن دراسة مثل هذه الأمور يفيد كثيرًا في استقراء المستقبل للمسلمين.

هل سمعت عما جرى في الأندلس؟

والآن، تُرى كم من المسلمين يسمع عن موقعة وادي بَربَاط؟ تلك الموقعة التي تُعدّ من أهمّ المواقع في التاريخ الإسلامي، فالموقعة التي فُتحت فيها الأندلس تُشَبّه في التاريخ بموقعتي اليرموك والقادسية، ومع ذلك فإن الكثير من المسلمين لا يسمع من الأساس عن وادي برباط.

وتُرى، هل قصة حرق السفن التي يُقال أنها حدثت في عهد طارق بن زياد - رحمه الله - هل هي حقيقة أم من نسج الخيال؟ كثير من الناس لا يعلم حقيقة وتفاصيل هذه القصة، وكيف حدثت؟ إن كانت قد حدثت، وإذا لم تكن حدثت في الأصل فلماذا انتشرت بين الناس؟!

ثم، من هو عَبْدُ الرَّحْمَن الدَّاخِل رحمه الله؟ وكم من الناس يعرف تاريخه؟ ذلك الرجل الذي قال عنه المؤرخون: لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام بالكلية من بلاد الأندلس.

ومن هو عَبْدُ الرَّحْمَن الناصر؟ أعظم ملوك أوروبا في القرون الوسطى على الإطلاق. ماذا تعرف عن حياته؟ كيف وصل إلى هذه الدرجة العالية؟ وكيف أصبح أكبر قوة في العالم في عصره؟

يوسف بن تَاشْفِين رحمه الله القائد الرباني، صاحب موقعة الزَلَّاقَة، كيف نشأ؟ كيف ربّى الناس على حياة الجهاد؟ كيف تمكّن من الأمور؟ بل كيف ساد دولة ما وصل المسلمون إلى أبعادها في كثير من الفترات؟

أبو بكر بن عمر اللمتوني، من يسمع عن هذا الاسم؟؟ من يسمع عن هذا المجاهد الذي دخل الإسلام على يده أكثر من خمس عشرة دولة إفريقية؟! إنه أبو بكر بن عمر اللمتوني، من يسمع عنه؟

من يسمع عن أبي يوسف يعقوب المنصور، صاحب موقعة الأَرْكِ الخالدة، تلك التي دُكّت فيها حصون النصارى وانتصر فيها المسلمون انتصارًا ساحقًا؟

من يسمع عن دولة المرابطين المجاهدة؟ ومن يسمع عن دولة الموحّدين وكيف قامت؟

من يسمع عن مسجد قرطبة؟ ذلك المسجد الذي كان يُعدّ أوسع مساجد العالم، ثم كيف حُوّل إلى كنيسة ما زالت قائمة إلى اليوم؟

من يسمع عن مسجد إشبيلية؟ من يسمع عن جامعة قرطبة والمكتبة الأموية؟ من يسمع عن قصر الزهراء ومدينة الزهراء؟ من يسمع عن قصر الحمراء؟ وغيرها من الأماكن الخالدة التي أمست رسومًا وأطلالًا، وهي اليوم في عداد أفضل المناطق السياحية في إسبانيا وتُزار من عموم الناس سواء مسلمين أو غير مسلمين.

ثم من يسمع عن موقعة العِقَاب؟ تلك التي مُني فيها المسلمون بهزيمة ساحقة، رغم تفوقهم على عدوهم في العدد والعدة، وكأن حُنَيْن عادت من غابر التاريخ لتروي أحداثها في موقعة العقاب، تلك الموقعة التي قال عنها المؤرخون: بعد موقعة العقاب لم يُر في الأندلس شابٌ صالحٌ للقتال.

من يعلم أن عدد المسلمين الذين هلكوا في هذه الموقعة الضخمة قد تجاوز ثمانين ألف مسلم؟

كيف سقطت الأندلس؟ وما هي عوامل السقوط التي إن تكررت في أمّة من المسلمين سقطت لا محالة بفعل سنن الله الثابتة.

ثم كيف وأين سطعت شمس الإسلام بعد سقوط الأندلس؟ كيف جاء غروب شمس الإسلام في الأندلس في غرب أوروبا متزامنًا مع إشراقها وسطوعها في القسطنطينية شرق أوروبا؟

ما هي مأساة بَلَنْسِيَّة؟ وكيف قُتل ستون ألف مسلم في يوم واحد؟ وما هي مأساة أوبذّة؟ وكيف قُتل ستون ألف مسلم آخرين في يوم واحد؟

ما هي مأساة بَرْبُشْتُر، وكيف قُتل أربعون ألف مسلم في يومٍ واحدٍ، وسُبي سبعة آلاف فتاة بكر من فتيات بَرْبُشْتُر؟ وإننا لنشاهد هذه الأحداث الغابرة تتحدث الآن عن نفسها في * البوسنة والهرسك وغيرها من بلاد المسلمين...

ماذا كان ردّ فعل المسلمين، وكيف تصرفوا، وكيف قاموا من هذه المآسي المفزعة، أسئلة كثيرة وكثيرة، لو استطعنا الإجابة عنها لعرفنا كيف ننهض الآن ونقوم.

إن تاريخ الأندلس بصفحاته الطويلة - أكثر من ثمانمائة سنة - يُعدّ ثروةً حقيقية، وثروة ضخمة جدًّا من العلم والخبرة والعِبرة، ومن المستحيل في هذه الدراسة أن نلمّ بكل أحداثه وتفصيلاته، بل لا بدّ وأن نُغفل منه بعض الجوانب، ليس تقليلًا من شأنها وإنما اختصارًا للمساحة.

ومن الواجب على الجميع أن يبحث في هذا التاريخ، تاريخ الأندلس، تاريخ ثمانمائة سنة؛ إذ هو يحتاج أكثر وأكثر مما أفردنا له، فلا بدّ من القراءة والاستزادة من المصادر التاريخية وغيرها.

وتاريخ الأندلس هذا يُعدّ جزءًا ضئيلًا جدًا من تاريخ الدولة الإسلامية ذات الألف وأربعمائة عام من الزمن، وذات الأبعاد الجغرافية الهائلة من المساحة، فانظر أيها المسلم إلى العمل الذي يجب أن تفعله، ولا تركن أبدًا إلى الدَّعة والكسل، لا تركن أبدًا إلى السكون، فأمامك طريق طويل جدًا حتى تتعرف على سنن الله سبحانه وتعالى.

مها88
13-05-2010, 08:52 PM
لا حول ولا قوة إلا بالله ..

الأيام دول ..

من ينصر الله .. ينصره ولو بعد حين ..

هدهد سليمان
13-05-2010, 08:56 PM
طبيعة الجهاد في الإسلام

قبل الخوض في تاريخ الأندلس من حيث ترتيب الأحداث منذ الفتح وحتى السقوط، منذ عام 92 هـ= 711 م حتى عام 897 هـ= 1492 م قبل الخوض في تفصيلات هذه الأحداث، هناك بعض الأسئلة التي قد تدور في أذهان البعض نحاول الإجابة عليها، ومن أهمّها: لماذا حمل المسلمون سيوفهم وخرجوا بجيوشهم متوجهين إلى الأندلس لفتحها؟

فالأندلس دولة مستقلّة ذات سيادة ويحكمها القوط النصارى في ذلك الزمن، والمسلمون دولة كبيرة جدًا وهم جيرانهم، فلماذا يحمل المسلمون سيوفهم ويتوجهون إلى فتح هذه البلاد ليعرضوا عليها ثلاثتهم المعهودة: الإسلام أو الجزية أو الحرب؟

فهذا العمل يُعَدّ الآن في مصطلح الشرعية الدولية بمثابة تعدٍ على حدود دولة مجاورة ذات سيادة. فلماذا إذن حمل المسلمون السيف وانتقلوا إلى البلاد المجاورة؟ ومن هذا السؤال بالذات يتولد عند كثير من الناس استنتاج واستنباط هو في غير محلّه على الإطلاق ومجافٍ للحقيقة تمامًا، إنه قولهم: إن الإسلام انتشر بحدّ السيف. فهذه مشكلة كبيرة تعترض كثيرا من الدعاة، خاصة من قِبل أصحاب المناهج العلمانية.

ولكن كيف وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ] {البقرة:256}.

ويبقى السؤال: كيف نوفّق بين حمل المسلمين سيوفهم وخروجهم إلى هذه البلاد، وبين قوله تعالى في الآية السابقة: [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] {البقرة:256}.

ولتوضيح هذا الأمر نقول: الجهاد في الإسلام نوعان، نوع يسمى جهاد الدفع، وآخر يسمى جهاد الطلب، وجهاد الدفع هو: ذلك الجهاد الذي يتبادر إلى الذهن من أول وهلة، ويعني الدفاع عن الأرض، وهو أمر مقبول ومفطور على فهمه عوام الناس سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين.

أما النوع الآخر والذي لا يستوعبه كثير من الناس فهو ما يُسمّى بجهاد الطلب أو جهاد نشر الدعوة، أو جهاد تعليم الآخرين هذا الدين، فالإسلام هو الدين الخاتم، وهو كلمة الله الأخيرة إلى الناس، وقد كلّف الله هذه الأمة - أمة الإسلام - أمر نشر هذا الدين في ربوع العالم، وتعليم الناس - كل الناس - مراد ربهم عزّ وجلّ الذي أنزله على نبيه محمد خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم.

ومن سنن الله سبحانه وتعالى أن يكون هناك أقوام ممن يَحكمون شعوبًا غير إسلامية يحولون دون وصول هذه الدعوة إلى شعوبهم، ويقفون بكل ما أوتوا من قوة في الحدّ من انتشارها، وفي هذه الحالة شُرع للمسلمين أن يتوجهوا بجيوشهم وسيوفهم؛ لحماية الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لنشر هذا الدين وتعليمه للآخرين، فمَنْ لهؤلاء الذين يولدون في بلادٍ يعلمونهم أن المسيح هو الله؟ ومَنْ لهؤلاء الذين يولدون في بلاد يعلمونهم أن البقرة هي الإله؟ ومَنْ لهؤلاء الذين يولدون في بلاد يتعلمون أنهم خُلقوا من عدم، وأن ليس للكون إله، وأن الطبيعة هي رب الكون؟

مَنْ لهؤلاء؟ وَمَنْ يعلمهم إذا لم يعلمهم المسلمون أصحاب الرسالة الخاتمة؟ وقد جعل الله محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل، ولن يكون هناك نبي أو رسول يبعثه الله عز وجل من بعده صلى الله عليه وسلم، فمَن لهؤلاء إذن غير هذه الأمة الشاهدة؟ وقد قال سبحانه وتعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] {البقرة:143}.

إنها مهمّة أمة الإسلام، أمّة الشهادة، ستشهد على الأمم عند الله سبحانه وتعالى وتقول: يارب، ذهبت إليهم وعلمتهم وشرحت لهم، وجاهدت في سبيلك، لكنهم أنكرو، أو اتبعوا. فهذه الأمة شاهدة بهذا الجهاد وبتوصيل دعوتها الربانية إلى هذه الأمم.

والطبيعي أن يكون هناك من يمنعك ويصدّك، ويقف بكل ما أوتي من قوة حائلًا بينك وبين مَن تريد توصيل الدعوة إليهم؛ وذلك لأنهم- وهم الحكام- مستفيدون من عبادة هؤلاء الناس لغير الله سبحانه وتعالى، فإذا حُكِّمَ شرعُ الله انتقلت الحاكمية من هؤلاء الناس- الحكام - إلى الله سبحانه وتعالى وهم لا يريدون ذلك، ومن هنا سيقفون أمامك بجيوشهم وسيوفهم، ولن تجد من سبيل إلا أن تقف أنت أيضًا أمامهم بجيشك وسيفك حتى تحمي الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

والمسلمون كما تربوا لا يقاتلون الشعوب، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخاطب الجيوش الفاتحة فيقول: اتقوا الله في الفلاحين، اتقوا الله في عموم الناس. وهم المغلوبون على أمرهم، الذين لا يهمهم مصلحة الحاكم هذا أو ذاك، إنما يريدون أن يتعلموا أين الخير فيتبعوه، اتقوا الله في هؤلاء، يقول: ولا تقتلوا إلا من قاتلكم.

فكان المسلمون يتجنبون تماما إيذاء أيّ أحدٍ لم يقاتلهم، ولو أذًى يسيرًا، فتجنبوا الأطفال والنساء والعُبّاد في الصوامع والضعفاء والكهول الذين لا يستطيعون قتالًا، بل إنهم تجنبوا الأقوياء الذين لم يعاونوا، أو يشتركوا في قتال المسلمين، وكان المسلمون يقاتلون الجيوش فقط، يقاتلون الحُكّام الذين عَبّدوا الناس لغير الله سبحانه وتعالى.

لماذا تكون الدعوة إلى الله مصحوبةً بالجيش؟

وهنا قد يسأل سائل: إذا سمح لك هؤلاء الحكام بالدعوة إلى الله في بلادهم، كأن تقوم مجموعة من الدعاة المسلمين بالذهاب إلى هذا البلد أو غيره، والدعوة إلى الله فيه دون جيش أو قتال أو جزية، ويختار الناس ما يشاءون، إذا سُمح بذلك فهل يقبل المسلمون هذا ويتخلّون عن الجيش والسيف؟ وما هو موقفهم؟ ولماذا لم يبعث المسلمون أناسًا يدعون إلى الله بدون جيش؟ لماذا لم يبعثوا من يدعو إلى الله في الأندلس وفي الروم دون أن يخرج خلفهم جيش؟ أليس الإسلام قد انتشر في إندونيسيا والفلبين وماليزيا، وغيرها من الدول بالتجارة ودون سيف؟

وفي حقيقة الأمر فإن في هذا الكلام افتراض غير واقعي وغير عملي، ففكرة أن الدعاة إلى الله يخرجون إلى مثل هذه البلاد بدون جيش أمر يُعدّ مخالفًا لسنن الله سبحانه وتعالى في أرضه وفي خلقه، بل إنه مخالف للتاريخ والواقع؛ ففي التاريخ نجد أن دولًا ضخمةً جدًا دخلت في الإسلام عن طريق الفتوحات الإسلامية، أما القلّة الاستثنائية فهي التي دخلت الإسلام عن طريق التجارة، وللأسف فإن هناك كثير من الناس خاصة مِن المسلمين مَنْ يصوّر الأمر بغير ذلك - عن وعي منهم أو عن غير وعي - استحياء من فتح المسلمين للبلاد الأخرى.

لكن الدين الإسلامي وهو دين الله الكامل الشامل ليس فيه ثغرات وليس فيه ما نستحي منه أو نخفيه عن الآخرين، فهذه دولة فارس والتي تشمل الآن: العراق وإيران وباكستان وأفغانستان وكل دول الاتحاد السوفيتي الجنوبية والتي تمثّل أكثر من خمسة عشر إلى ستة عشر من جملة الاتحاد السوفيتي السابق، كل هذه البلدان من هذه الدولة الفارسية أسلمت ودخلها المسلمون عن طريق الفتح الإسلامي العسكري، بالجيوش والجهاد والاستشهاد والحروب المريرة لسنواتٍ طويلة، ومثلها أيضًا دولة الروم، وكذلك بلاد الشام التي تشمل فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وأجزاء من جنوب تركيا، بالإضافة أيضا إلى بلاد آسيا الصغرى، كل ذلك فُتح بالجهاد في سبيل الله، دولة الروم فُتحت فتحًا عسكريًا، وليس فتح القسطنطينية خافيًا عن العيون، وكذلك أيضًا كل بلدان شرق أوروبا، وكان منها على سبيل المثال: بُلغاريا واليونان ورومانيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وأجزاء من النمسا ويوغوسلافيا بكاملها وقبرص ومالطا، كل هذه البلدان فُتحت بالجهاد في سبيل الله في زمن الخلافة العثمانية، وعاش فيها الإسلام ردحًا من الزمن، ثم ما لبث أن اختفى منها.

وأيضا دول شمال إفريقيا كلها فُتحت بالجهاد في سبيل الله، ابتداءً بمصر ومرورًا بليبيا ثم تونس ثم الجزائر ثم المغرب، ومثلها أيضًا دول وسط وغرب إفريقيا فقد فُتحت أيضًا بالجهاد في سبيل الله.

ثم على سبيل الاستثناء دخل الإسلام ماليزيا وإندونيسيا عن طريق التجارة، أبعد ذلك يُغلَّب هذا الأمر الذي حدّث على سبيل الاستثناء على سنة الله سبحانه وتعالى في نشر دينه عن طريق الجهاد في سبيل الله؟! فهذا أمر لا يُعقل، ولا يمكن أن يُقرّه أحد.

إذن بقيت القاعدة التي تقول: إن هؤلاء الحكام الذين يحكمون الشعوب المجاورة للدولة الإسلامية لن يتركوا المسلمين أبدًا يدعون إلى الله سبحانه وتعالى في حراسة جيش من الجيوش، ومن هنا شرع الله سبحانه وتعالى الجهاد فأصبح سنّة ماضية إلى يوم القيامة.

هدهد سليمان
13-05-2010, 09:07 PM
http://www-2.cs.cmu.edu/afs/cs.cmu.edu/user/dmg/www/alhambra.gif


حقيقة الحرية في البلدان الغربية

إذا نظرنا إلى الأمر نظرة واقعية نجد أن الناس اليوم قد فُتنوا بما أُشيع عن حرية التعبير في البلدان الغربية مثل أمريكا وفرنسا وإنجلترا، ودول الغرب بصفة عامة، حتى ظنوا أن طريق الدعوة مفتوح، ومن ثم راحوا يقولون: ابعثوا من يدعو إلى الله في هذه الدول فلن يكون هناك من يعوقهم.

لكن الحقيقة أن هذا الأمر ليس متروكًا هكذا بدون وعي منهم أو إدراك، فإنهم ما تركوا مثل هذه الحرية المزعومة إلا لمعرفتهم أن المسلمين لم يصلوا بعد إلى القوة المؤثرة المغيِّرة في هذه البلاد، ولو وصل المسلمون إلى المستوى الذي يرى حكامُ الغرب فيه أنه سيؤثّر على سياسة بلادهم فلن يكون هناك حرية، ولن يكون هناك سماح بالدعوة للإسلام، بل سيقفون لهم بالمرصاد، فهذه الدول لا تسمح بقيام دول إسلامية خارج حدودها، فما الحال لو قامت هذه البلاد الإسلامية أو الدول الإسلامية أو مجرد الفكر الإسلامي المنهجي داخل هذه البلاد؟ فها هي السودان البلد الفقير والضعيف نسبيًا بالمقارنة بغيره من الدول حينما أعلنت تطبيق الشريعة الإسلامية في بعض ولاياتها قامت الدنيا ولم تقعد، وقامت دول الغرب هذه وأمريكا على رأسها بضرب مصنع الأدوية الموجود في الخرطوم بحجة أنه يصنّع موادًا كيماوية.

فهذه مجرد بادرة قيام لدولة إسلامية في مكان ضعيف معزول وبعيد تمام البعد عن هذه البلاد الغربية. ومثلها فعلت فرنسا بلد الحريات والتنوير، وبلد الحضارة كما ملأوا أسماعنا، فحين بدأت الفتيات الصغيرات يدخلن المدارس محجبات صالت صولتهم وتم منعهن من دخول المدارس، أما إذا دخلن بلباس فاضح فبها ونعمت. ولِمَ يكون ذلك؟ إنهم يحاولون بكل ما يستطيعون من قوة وقف المدّ إسلامي، ويعرفون جيدًا أن هذا الفكر الإسلامي هو الذي يتناسب مع الفطرة السليمة ومن السهل أن ينتشر ويُكتب له النجاح والغَلَبَة ومن ثَمّ فهم يسعون لإيقافه، والحادثة مشهورة ومعروفة للجميع.

وفي أمريكا منذ سنوات قليلة كانوا في الكونجرس يسعون لتمرير قانون يسمح بالقبض على من يُخلّ بالأمن القومي الأمريكي بدون دليل، أي قانون يشبه قانون الطوارئ المعروف، وهذا أمر غير شرعي عندهم؛ إذ لا بد أن يكون هناك دليل قبل أن يُدان الإنسان أو يُتّهم أو تُقيّد حريتُه، ولقد كان هناك بعض الدلائل التي تشير إلى إمكانية تطبيق هذا القانون، والذي بموجبه يمكن الإمساك بالناشطين في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بحجة مسّ الأمن القومي الأمريكي أو الإرهاب.

وتشير بعض الشواهد إلى أن هذا القانون ربما يتمّ تمريره وتطبيقه في وقت قريب

فهذه البلاد لن تسمح على الإطلاق للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى بالقيام بدورهم في هداية الناس وتعريفهم بربهم، ولن يستطيع الدعاة القيام بهذه المهام إلا إذا كانوا محميين بقوة تحوطهم وتحرسهم، هذه القوة هي قوة الجيش الإسلامي والفتح الإسلامي وقوة الجهاد في سبيل الله، ثم إذا افترضنا أن بلدًا مما ذُكر سابقًا من أدعياء الحرية سُمح فيه بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وسمح فيه بالمقال الإسلامي، والكتاب الإسلامي، والشريط الإسلامي، ثم يخرج عليك بعد ذلك في مقابل المقال الإسلامي بعشرة آلاف مقال علماني، وفي مقابل الصورة الإسلامية الهادفة عشرة آلاف صورة فاضحة تثير شهوات الناس وتبعدهم عن دين الله سبحانه وتعالى بل وعن الأخلاق الإنسانية، وفي مقابل دعوتك إلى أن الله سبحانه وتعالى واحد تجد عشرات المؤلفات التي تقول إن الله هو المسيح - معاذ الله من هذا القول ومن الشرك به سبحانه وتعالى - فإن كان هذا الأمر على هذا النحو فهل ستؤدي الدعوة الإسلامية نتيجتها وسط هذا الركام الضخم جدًا من المضادات المناوئة لها، ودعوة الإسلام إنما هي محاولة لإدخال كل البشر وكل الخلق في دين الله سبحانه وتعالى، وتعبيدهم له وحده، ومن هنا شُرع الجهاد في سبيل الله، وشُرع فتح البلاد المجاورة لأمة الإسلام حتى وإن أبت في بادئ الأمر.

زمن فتح الأندلس

في أي زمان تم فتح الأندلس؟ سؤال مهم جدا ونقصد به: مع أي العصور الإسلامية يتوافق تاريخ فتح الأندلس وهو اثنتان وتسعون من الهجرة؟ والجواب أن هذه الفترة كانت من فترات الدولة الأموية، وتحديدًا في خلافة الوليد بن عبد الملك رحمه الله الخليفة الأموي الذي حكم من سنة 86 هـ= 705 م إلى 96 هـ= 715 م وهذا يعني أن فتح الأندلس كان في منتصف خلافة الوليد الأموي رحمه الله.

وهذا التاريخ يجرّنا إلى الحديث عن الدولة الأموية المظلومة في التاريخ الإسلامي، تلك الدولة التي أُشيع عنها الكثير والكثير من الافتراءات والأكاذيب والأحداث المغلوطة التي تشوه صورتها، وبالتالي صورة التاريخ الإسلامي كله، وذلك حتى يتسنى للمتربصين القول بأن التاريخ الإسلامي لم يكن إلا في عهد أبي بكر وعمر، حتى وصل الأمر إلى الطعن في تاريخ أبي بكر وعمر أنفسِهما مع علم الجميع بفضلهما.

ولا يخفى على الجميع المراد من ذلك وهو أن يترسّخ في الأذهان عدم الاعتقاد بقيام أمة إسلامية أو دولة إسلامية من جديد، فإذا كان هذا شأن السابقين القريبين من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذا كان هذا شأن دولة بني أمية وبني العباس وغيرهما من الدول التي لم تستطع أن تقيم حكمًا إسلاميًا صالحًا - في زعمهم - فكيف بالمتأخرين؟ وهي رسالة يريدون أن يصلوا بها إلى كل المسلمين، وليس لهم من غرض وراء ذلك إلا أنهم [ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] {التوبة:32}.


حروبنا وحروبهم

http://www.hdrmut.net/vb/imgcache/2/21252alsh3er.jpg
ووسط كل هذا يخرج من يتشدق بالقول: إن هذا الزمان ليس زمن الحروب العسكرية أو التغيير العسكري أو الفتوحات المزعومة، إنما هو زمن السلم وزمن السياسات والمفاوضات.

لكن واقع الأمر يشهد بأن هناك حروبًا عسكرية دائرة وتدور في كل وقت، ومع ذلك يُلام المسلمون على فتوحاتهم الإسلامية السابقة في الشمال الإفريقي، وفي فارس، وفي الأندلس، وفي غيرها، ولا تُلام إسرائيل - مثلا - على ما تفعله في فلسطين، وعلى ما فعلته في عام سبعة وستين وتسعمائة وألف في مصر وسوريا، وعلى ما فعلته في لبنان ثماني عشرة سنة.

المسلمون يلامون وقد دخلوا البلاد لينشروا فيها العدل والرحمة والدين ويعبّدوا الناس لرب العالمين، ولا تُلام إسرائيل وقد دخلت البلاد التي احتلتها فقتلت ونهبت وسرقت، وفعلت الكثير والكثير من الموبقات.

أيُلام المسلمون على هذه الفتوحات المجيدة التي علّموا فيها الناس دينهم وهدوهم إلى طريق ربهم ولا تُلام إسرائيل على ضرب المفاعل النووي - مثلا - في العراق أو ضرب تونس؟! أو على ضرب أمريكا لمصنع الأدوية - كما ذكرنا - في السودان؟! ألا تُلام أمريكا ودول الغرب على حروب متتالية ضد دولة العراق؟! ألا تُلام أمريكا على تدمير العراق وشعبه، وتدمير بنيته التحتية، ووفاة أكثر من نصف مليون طفل عراقي بسبب نقص التطعيمات ونقص الغذاء؟!

لا يُلامون على ذلك، ويُلام المسلمون على نشرهم العلم والدين والرحمة والعدل في ربوع العالم أجمع! وهم (أمريكا) الذين صوروا لنا أنهم دخلوا العراق شفقة على الكويت، فجندوا إليها الأجناد في العالم، وأتوا بنصف مليون جندي شفقة على شعب الكويت من العراق.

لا يلام الصرب على أفعالهم في البوسنة والهرسك، وعلى ما فعلوه في كوسوفا من قتل مائتي ألف أو أكثر في كل واحدة من الاثنتين، وعلى هتك عرض خمسين ألف فتاة مسلمة، ويُلام المسلمون على الحريات العظيمة التي أعطوها للنصارى واليهود في حكم الدولة الإسلامية!

ألا تلام روسيا على اجتياح الشيشان واجتياح أفغانستان، وتدمير المنشآت المدنية في هذه البلاد، وقتل المدنيين ليل نهار، ويُلام المسلمون على نشر العلم والمدنية في ذات البلاد وكانت من قبل تعبد النار؟!

أيُلام المسلمون على فتحهم لجمهوريات جنوب روسيا بصفة عامة ولا يلام الروس والصينيون الذين احتلوا أجزاءً كثيرة من هذه البلاد، وحكموا الناس فيها بالحديد والنار أعوامًا وأعوامًا، حتى أنهم قتلوا كل من كان يخفي في بيته مصحفًا؟! أيوجه هذا اللوم إلى المسلمين أم إلى هؤلاء الذين حكموا باسم الحضارة الحديثة والمدنية والتقدّم وما إلى ذلك من أسماء؟!!

تاريخ المسلمين مليء بصفحات الشرف والعزة والمجد، وهؤلاء إنما يريدون تغيير هذه الصفحات المشرقة عن عمد؛ حتى يشعر المسلمون بشيء من الاستحياء تجاه تاريخهم، وإنما التاريخ الإسلامي صفحات بيضاء ناصعة، يُشرّف كل المسلمين ويعلي من قدرهم، وإنما الاستحياء كل الاستحياء يجب أن يكون من أدعياء الحضارة والمدنية وفُعّال الفحش والموبقات.

رسالة المسلمين

وهناك اعتراض آخر من قائل يقول: لندع الناس يعبدون ما يشاءون، لماذا نشغل أنفسنا بتعليمهم أن الله سبحانه وتعالى واحد؟ لماذا نجيّش الجيوش حتى نعلمهم هذا المفهوم؟ لماذا لا ندعهم أحرارًا يعبدون ما يعبدون من دون الله سبحانه وتعالى؟

والجواب: أن الله سبحانه وتعالى جعل للمسلم رسالة عليه أن يؤديها، وهذه الرسالة لََخّصها رِبعِي بن عامر في حواره مع قائد عسكر الفرس في موقعة القادسية حين قال رضي الله عنه: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة.

فهذا هو مراد المسلم وهذه هي رسالته في الدنيا، روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] {آل عمران:110}. قَالَ: خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ، تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ.

أي إذا كان الناس يأبون الدخول في الإسلام تأتي بهم ولو في السلاسل حتى يدخلوا فيه، فتنقذهم من أن يخلدوا في نار خالدة، وتنقذهم من العيش في جور الأديان، ومن ظلم الحكام إلى العيش في عدل الإسلام، والعيش في سَعة الدنيا والآخرة، تمامًا كمن يريد أن يلقي بنفسه من مكان مرتفع جدًا فأسرعت أنت وجذبته من يده وأنقذته، هل يأتي من يلوم عليك إيلام يده، أو أنك جذبت يده بقوة؟ وإذا كنت قد أنقذته من هاوية الموت المحقق الذي لن يلومك عليه أحد، فبالأحرى أن تنقذه من هاوية أبدية إنها هاوية الجحيم، بالأحرى إذن أن تنقذه من أن يخلد في نار جهنم، وتهديه إلى هذا الدين وتُعَلّمه إياه، وبالأحرى أن تأتي له بالجيش الذي يؤثّر فيه حتى يسمع كلام الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وكثير من الناس لا يسمع إلا إذا كان الداعي محاطًا بقوة وبجيش كبيرين، وهنا يبدأ يسمع ويفكّر فيجد أن ما كان يرفضه هو النجاة، وما كان يريد اتباعه هو الهلاك المحقق الذي لا فكاك منه، والكثير من الأمم التي دخلت في دين الله أفواجًا حين دخل الفاتحون دخلوا غير مكرَهين ولا مضطرين.

وقد يقول قائل: إن هذا الفتح ودخول هذا الجيش يتعارض مع قوله تعالى:

[لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] {البقرة:256}. والحقيقة أن هذا الفتح وهذا الدخول للجيش لا يتعارض مطلقًا مع هذه الآية الكريمة، فالمسلمون حين يدخلون هذه البلاد يعرّفونهم أولا دينَ الله سبحانه وتعالى، ثم يُخيّرونهم جميعًا بين أن يظلّوا على إيمانهم بمعتقداتهم أو يعبدوا الله سبحانه وتعالى، فمن أراد أن يبقى في ظلم الشرك وفي ظلم الجاهلية بقي فيه، ومن أراد أن يدخل في نور الإسلام دخل فيه وكانت له سعادة الدنيا والآخرة.

هدهد سليمان
13-05-2010, 09:21 PM
حاجة الجميع للإسلام

http://www.nuevaacropolismalaga.org/fondos/Al-Andalus_800.jpg

إن الناس اليوم جميعًا في حاجة ماسّة إلى الإسلام، وإن أبوا ذلك فالعالم بلا شكٍ يتجه إلى كارثةٍ محققة، والدول العظمى التي تتحكم في هذه الأمم اليوم تكيل بأكثر من مكيال، وتجعل الظلم قاعدة من القواعد التي ترسّخها في العالم، والأدواء والأمراض الأخلاقية لا حصر لها.

لعلكم قرأتم أو سمعتم عن المؤتمر الأخير لمرضى الإيدز (مرض نقص المناعة المكتسبة) يكفيكم الله شره .. الذي جاء فيه أنه في خلال العشرين سنة الماضية (من سنة ثمانين وتسعمائة وألف إلى سنة ألفين) قُتل عشرون مليونًا من البشر بسبب الإيدز، وأن أقلّ معدلات الإصابة بهذا المرض كانت في البلاد الإسلامية، ولعل ذلك كان نتيجة طبيعية؛ لأن هذا المرض الأخلاقي ينتشر بسبب غياب الوازع الديني، وبُعد الناس عن دين الله سبحانه وتعالى وعن شرعه عزّ وجلّ، فعموم الناس في الدول الإسلامية مرتبطة بشرع الله سبحانه وتعالى، حتى إن كان هذا الارتباط ضعيفًا، بعكس ما في الدول غير الإسلامية والتي تنكر بالكلية منهج الله سبحانه وتعالى، ونظرة واحدة على تاريخ كل المعارك والفتوحات الإسلامية لا تجد ضحاياها يقتربون من واحد على مائة من العشرين مليونا السابقة، هذا غير سبع وثلاثين مليونا آخرين من حاملي هذا المرض اللعين ينتظرون الموت.

وبعيدا عن الأمراض الأخلاقية وضحاياها كانت هناك المذابح والمجازر والانقلابات التي تحدث في إفريقيا وفي أمريكا الجنوبية وغيرها من البلاد، كثير من القتلى يموتون في بشاعة منقطعة النظير، لماذا؟ لأنه ليس هناك إسلام يحكم أو يسود، لم يكن هناك دين الرحمة والعدل والإنسانية، لم يكن هناك ما يجعل الناس يعيشون في سعادة دنيوية، ومن ثم سعادة أخروية، ومع هذا الظلم من الإنسان لغيره كان أيضًا ظلمه لنفسه، وهو الشرك بربه خالقه سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى على لسان لقمان: [يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] {لقمان:13}.

التعريف ببلاد الأندلس

وفي بداية الحديث عن تاريخ الأندلس نجيب أولًا عما قد يُثار من أسئلة حول معنى هذه الكلمة والمراد منها، فبلاد الأندلس هي اليوم دولتي إسبانيا والبرتغال، أو ما يُسمّى شبه الجزيرة الأيبيرية، ومساحتها (مجموع الدولتين) ستمائة ألف كيلو متر، أي أقل من ثُلثي مساحة مصر.

ويفصل شبه الجزيرة عن المغرب مضيق أصبح يُعرف منذ الفتح الإسلامي بمضيق جبل طارق ( ويسميه الكتاب والمؤرخون العرب باسم درب الزقاق ) مب درب الزلق !:) وهو بعرض 12.8 كم بين سبتة وجبل طارق.

وعن سبب تسميتها بالأندلس فقد كانت هناك بعض القبائل الهمجية التي جاءت من شمال إسكندناف من بلاد السويد والدنمارك والنرويج وغيرها، وهجمت على منطقة الأندلس وعاشت فيها فترة من الزمن، ويقال أن هذه القبائل جاءت من ألمانيا، وما يهمنا هو أن هذه القبائل كانت تسمى قبائل الفندال أو الوندال باللغة العربية؛ فسميت هذه البلاد بفانداليسيا على اسم القبائل التي كانت تعيش فيها، ومع الأيام حُرّف إلى أندوليسيا فأندلس.

وقد كانت هذه القبائل تتسم بالوحشية والهمجية وفي الإنجليزية إلى الآن همجية ووحشية وتخريب تعني (Vandalism) وتعني أيضا أسلوب بدائي أو غير حضاري، وهو المعنى والاعتقاد الذي رسخته قبائل الفندال، وقد خرجت هذه القبائل من الأندلس وحكمها طوائف أخرى من النصارى عُرفت في التاريخ باسم قبائل القوط (GOTHS) أو القوط الغربيين، وظلّوا يحكمون الأندلس حتى قدوم المسلمين إليها.

لماذا تَوَجّهَ المسلمون إلى الأندلس دون غيرها

لماذا اتّجه المسلمون في فتوحاتهم إلى بلاد الأندس خاصّة من بلاد العالم، وأيضًا لِمَ هذا التوقيت بعينه أي سنة 92 هـ= 711 م؟

http://kids.islamweb.net/subjects/Images/TarekEbnZeiad/01.jpg

كان المسلمون في هذا الوقت قد فتحوا الشمال الإفريقي كله، ففتحوا مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، ووصلوا إلى حدود المغرب الأقصى والمحيط الأطلسي، ومن ثَمّ لم يكن أمامهم في سير فتوحاتهم إلا أحد سبيلين، إما أن يتجهوا شمالًا، ويعبروا مضيق جبل طارق ويدخلوا بلاد إسبانيا والبرتغال وهي بلاد الأندلس آنذاك، وإما أن يتجهوا جنوبًا صوب الصحراء الكبرى ذات المساحات الشاسعة والأعداد القليلة من السكان...

ولما كان هدف المسلمين هو البحث عن التجمعات البشرية حتى يعلموهم دين الله سبحانه وتعالى، ولم يكن من أهدافهم البحث عن الأراضي الواسعة أو جمع الممتلكات، ولأن المسلمين قد وصلوا إلى الحدود القريبة من الأندلس مباشرة، واستتبّ لهم الأمر في أواخر الثمانينيات من الهجرة فيما دون ذلك من البلاد التي فتحوها - كما سيأتي تفصيله بإذن الله - فالأندلس إذن هي البلاد التي تلي بلاد المسلمين مباشرة والله تعالى يقول في كتابه الكريم: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ] {التوبة:123}.

على هذا النهج سار المسلمون في كل فتوحاتهم، ويجسد هذا المنهج ذلك الحوار الذي دار بين معاذ بن جبل رضي الله عنه وبين ملك من ملوك الروم قبل موقعة اليرموك وكان رسولا إليه، سأل ملك الروم رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل: ما الذي دعاكم إلى الولوغ في بلادِنا وبلادُ الحبشة أسهل عليكم؟ وقد كانت الروم آنذاك تقتسم العالم مع فارس، فيسأل ملكُ الروم متعجبا كيف تَطْرقون أبواب القوة العظمى وتتركون الحبشة وهي الأسهل والأيسر؟! فأجابه معاذ بن جبل قائلا: قال لنا ربنا في كتابه الكريم: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ] {التوبة:123}. أنتم البلاد التي تلينا، ثم بعد الانتهاء من بلاد الروم سنجَوِّزها إلى الحبشة وغيرها من البلاد. أي أننا لم ننس الحبشة ولكن أنتم المجاورون لنا، وهكذا كان الحال بالنسبة إلى الأندلس؛ حيث كانت هي التي تلي بلاد المسلمين.

فكرة فتح الأندلس: إن فكرة فتح الأندلس فكرة قديمة جدًّا تعود إلى زمن عثمان بن عفان

رضي الله عنه، إذ قال: إن من يفتح الأندلس شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر.

ولكن من الذي نفذ عملية الفتح؟ الذي قام بذلك هو موسى بن نصير وطارق بن زياد، حيث نجد أن موسى بن نصير منذ أن أصبح واليًا على إفريقيا وهو يعمل على تثبيت دعائم الإسلام في الأندلس بتعليمه للبربر، وتحصين الأماكن التي تفتح؛ لكي يستطيع استكمال فتح الأندلس. وواجهته مشاكل عديدة مثل قلة عدد السفن، وقلة عدد المسلمين إلا أنه استطاع التغلب على هذه المشاكل ببناء أسطول بحري، والاعتماد على البربر في الجيش.

كيف فتحت بلاد الأندلس؟ تحرك طارق بن زياد وعبر المضيق - الذي عُرف فيما بعد باسم مضيق جبل طارق - وانتصر على الجيش الجنوبي للأندلس في الجزيرة الخضراء، ثم انتصر طارق بن زياد على لُذريق في موقعة وادي بَرْباط، وهنا شاعت القصة المشهورة وهي قصة حرق السفن، وهل هي حقيقية أم لا؟!

والحقيقة أن هذه القصة قصة باطلة؛ لأنه لا يوجد لها سند في التاريخ الإسلامي، وادَّعاها الأوربيون للتقليل من انتصار المسلمين على لذريق.

بعد ذلك توجه طارق بن زياد إلى الشمال ليستكمل فتح بلاد الأندلس حتى وصل إلى طليطلة، وهنا تظهر بعض الإشاعات بأن موسى بن نصير أمر طارق بن زياد بالكف عن الفتح خوفًا أن ينسب إليه فتح الأندلس، ولكن هذا غير صحيح؛ فطارق بن زياد واليه، وأن هذا الانتصار يضاف إلى حسنات موسى بن نصير، وأن هذه الإشاعات هدفها إحداث الفرقة بين صفوف المسلمين، وقد تنبه موسى بن نصير وطارق بن زياد لذلك، واتجه القائدان معًا لاستكمال فتح الأندلس. ويجب علينا أن نستفيد من دروس التاريخ، وأن لا ندع للعدو فرصة أن يستخدم معنا سياسة "فَرِّقْ تَسُدْ".
ولكن حدث شيء غريب أثناء الفتح!

اكمل ولا اكتفيتوا بهذا القدر !!

omega
13-05-2010, 09:37 PM
أكمل بارك الله فيك

بس يا ليت وزعهم على كم يوم يكون احسن

شكرا لمجهودك

مطيع الله
13-05-2010, 09:41 PM
http://www.yabdoo.com/users/623/gallery/2649_p129982.gif

تمعنوا في الخريطه جيدا !! .. ما رأيكم اليست خساره عظيمه !!

وقد يسأل سائل: لماذا الحديث عن التاريخ أصلا؟!

فكثير من الناس يلوم على المسلمين كثرة الخوض في الحديث عن التاريخ، يقولون: أنتم تبكون على اللبن المسكوب، هذا ماضٍ قد انتهى، فلنعش في حاضرنا، ولننظر إلى مستقبلنا.

والواقع أن هذه الآية مقلوبة تمامًا؛ لأننا إذا نظرنا إلى كتاب الله سبحانه وتعالى نجد أمرًا عجبًا، نجد أن ثلث القرآن الكريم جاء في صورة قصص، وهو أمر لافت للأنظار، فإذا كان ثلث القرآن الكريم قصصًا فإن هذا ولا ريب يشير إلى أسلوب رباني فريد من نوعه في التربية.

وإنني أرى أن مناهج التربية يجب أن يأتي ثلثُها في صورة قصص، حتى تحاكي أسلوب الخالق سبحانه وتعالى في تربية الخلق أجمعين. وإلا فلماذا ينزل ثلث القرآن الكريم قصصًا؟ ولماذا يكون هذا هو أسلوب المولى سبحانه وتعالى في القرآن الكريم - وفي هذا الثلث بالذات - في تعليم الناس وتربيتهم، وإرشادهم إلى الطريق القويم؟

إن الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم قصّ قصصًا كثيرة، قصّ قصص الصالحين والطالحين، وقصص الأنبياء ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم قصص الذين خرجوا عن منهجه سبحانه وتعالى، وكيف عاقبهم عز وجل، وكيف كانت نهايتهم وخاتمهم...

والقرآن الكريم ككتاب هو في الحقيقة منهج حياة، فيه كثير من الآيات التي تشير إلى منهج المسلم في تَلَقّي القصص، يقول سبحانه وتعالى: [فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]{الأعراف:176}. ويقول في آية أخرى: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] {يوسف:111}. فقد خصّ سبحانه وتعالى العبرة بطائفة معينة فقال: [لِأُولِي الأَلْبَابِ] أي: لأصحاب العقول والأفهام.

إذن حينما نقصّ القصص بصفة عامة، سواءً القصص القرآني أو التاريخ الإسلامي أو التاريخ غير الإسلامي - حينما نقصّ هذا القصص لا بدّ أن نأخذه من خلال هذا الفهم وهذا المنطلق، منطلق الدراسة والتفكر والتدبّر والنظر في الأمور.


أحسنت
اكتب ونحن نقرأ

هدهد سليمان
13-05-2010, 09:59 PM
ان شاء الله ستتم الكتابه على مراحل .. لكن الآن نكمل ما تيسر .. جزاكم الله خير ..

أثناء الفتح فُوجئ موسى بن نصير وطارق بن زياد بأمر غريب، وهى رسالة الوليد بن عبد الملك، فلقد أرسل الوليد بن عبد الملك إلى طارق بن زياد وموسى بن نصير رسالة يأمرهم فيها بالعودة وعدم استكمال الفتح. ولكن لماذا يرسل الوليد بن عبد الملك هذه الرسالة، وفي هذا التوقيت؟! السبب كان يكمن في خوفه على المسلمين من التوغل في هذه البلاد، كما أنه سمع أن موسى بن نصير يريد فتح أوربا. ولكن حدث بعد ذلك ما لم يكن بالحسبان، وهو أن ترك الأندلس دون استكمال فتحها، وخاصة منطقة "الصخرة"؛ مما أدى بعد ذلك إلى أن تصبح هذه المنطقة نواة للممالك النصرانية التي ستكون سببًا في سقوط الأندلس.

المسلمون في الشمال الإفريقي

لكي نفهم الفتح الإسلامي للأندلس لا بدّ أن نتعرف على طبيعة الوضع في البلاد الملاصقة لهذا البلد وهي بلاد الشمال الإفريقي، فقد دخلها الإسلام قبل فتح الأندلس بسبعين سنة، أي سنة 23 هـ= 644 م وكان يسكن هذا الإقليم (إقليم الشمال الإفريقي) قبائل ضخمة تسمى قبائل البربر - سنفصّل الأمر فيها قريبًا بمشيئة الله - وهذه القبائل كانت دائمة الارتداد عن دين الله سبحانه وتعالى، فتدخل في الإسلام، ثم ترتد، ثم تسلم، ثم ترتد، ودارت الحروب بين هذه القبائل والمسلمين وانتهت باستقرار الإسلام في هذا الإقليم أواخر سنة 85 أو 86 هـ= 704 أو 705 م على يد موسى بن نصير رحمه الله.

مُوسَى بن نُصَير 19 - 97 هـ= 640 - 716 م

مُوسَى بن نُصَير ذلك القائد المسلم البارع التقي الورع الذي ثبّت الله به أقدام الإسلام في هذه البلاد المترامية الأطراف في الشمال الإفريقي، وهو من التابعين، وقد روى عن بعض الصحابة كتميم الداري رضي الله عنه...

قال عنه ابن خلّكان: كان عاقلاً كريماً شجاعاً ورعاً تقياً لله تعالى، لم يُهزم له جيشٌ قطّ.

أما أبوه فهو نُصَير ذلك الغلام النصراني الذي أسره خالد بن الوليد رضي الله عنه في موقعة عين التمر، وكان قبلها يتعلم الإنجيل والدراسات النصرانية في الكنيسة، وفي الأَسْرِ عرف الإسلام وأُعجب به، فأسلم وهو ابن ثلاثة عشر أو أربعة عشر عامًا، وكان معه وعلى شاكلته سيرين أبو محمد بن سيرين التابعي المشهور.

وهنا وقفة لطيفة نشير إليها في معرض هذا الحديث، وهي تلك الثمرة التي هي من ثمار ومن تبعات الفتوحات الإسلامية، ومصداقا لقوله تعالى: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] {فصِّلت:33}. تلك الثمرة التي منّ الله بها على نُصَير وعلى ولده من بعده، ومن ثَمّ على المسلمين أجمعين.

فانظر ماذا فعل الإسلام بنُصَير وغيره؟ وماذا كان سيكون مصير نُصير إذا ظل على ما كان عليه؟ وكيف أصبح في حسنات خالد بن الوليد رضي الله عنه وقد توفي بعده بسنوات وسنوات. وإنه لثمرة من ثمرات الجهاد الإسلامي في بلاد فارس (وهي التي أُسر فيها نُصير). وإن فتح الأندلس على يد موسى بن نصير ليشاركه فيه - بإذن الله - الأجرَ خالد بن الوليد رضي الله عن الجميع.

أما نُصير، فلما أسلم ازداد حبه للإسلام، فأخذ ينهل منه ويتعلم حتى أصبح عالِمًا، وفي ذات الوقت من الفرسان الأشداء والمجاهدين الأكفاء، وظل يترقى من حال إلى حال حتى صار في زمن الدولة الأموية قائدًا لجيوش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وظل في هذه القيادة سنوات طويلة...

قال المقرّي في نفح الطيب عن موسى بن نصير: وكان والده نصير على جيوش معاوية، ومنزلته لديه مكينة، ولمّا خرج معاوية لصفين لم يخرج معه - أي نصير - فقال له: ما منعك من الخروج معي ولي عندك يدّ لم تكافئني عليها؟ فقال: لم يمكني أن أشكرك بكفري من هو أولى بشكري منك، فقال: من هو؟ فقال: الله عزّ وجلّ، فأطرق مليّاً ثم قال: أستغفر الله، ورضي عنه.

في هذا الوقت كان مُوسَى بن نصير يتربى في بيت الخلافة مع أولاد معاوية وأولاد الأمراء والخلفاء، فنشأ على حب الجهاد في سبيل الله ونشر الدين، حتى أصبح شابًا يافعًا يتقلد الرتب والمناصب، فتقلد قيادة جيوش الأمويين في مصر في عهد عبد العزيز بن مروان الأموي، ثم بعد ذلك واليًا على إفريقيا وذلك في سنة 85 هـ= 704 م.

كانت الفرصة مواتية لموسى بن نصير أن ينجز ما عجز السابقون عن إنجازه فتوّجه ناحية المغرب وأعاد تنظيم القوات الإسلامية، وحشد جيوشه جميعًا ووقف فيهم خطيبًا وكان مما قال: إنما أنا رجل كأحدكم، فمن رأى مني حسنة فليحمد الله، وليحضّ على مثلها ومن رأى مني سيئة فلينكرها فإني أخطئ كما تخطئون، وأصيب كما تصيبون... ومن كانت له حاجة فليرفعها إلينا وله عندنا قضاؤها على ما عزّ وهان مع المواساة إن شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قال ابن خلّكان في وفيات الأعيان: وكانت البلاد في قحط شديد، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء، ومعه سائر الحيوانات، وفرق بينها وبين أولادها، فوقع البكاء والصراخ والضجيج، وأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صلى وخطب بالناس، ولم يذكر الوليدَ بنَ عبد الملك، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين فقال: هذا مقام لا يُدعى فيه لغير الله عزوجل، فسقوا حتى رووا.

مُوسَى بن نُصَير وتثبيت دعائم الإسلام في إفريقيا

منذ أصبح موسى بن نصير واليًا على إفريقيا أصبح كلُّ همّه لماذا يرتدّ الناس بين الحين والآخر عن الإسلام بعد أن يكونوا قد دخلوا فيه؟! بل كيف يعودون ويقاتلون المسلمين بعد أن كانوا مسلمين؟! ومن هنا فقد أراد أن يجد حلًا لهذه الأمور، ويعمل على تثبيت دعائم الإسلام في هذا الإقليم الذي كان قد فتحه عقبة بن نافع رحمه الله، والذي اغتيل في القيروان من هذا الإقليم على يد البربر وهو في طريق عودته من المغرب الأقصى.

وفي بحثه عن معرفة أسباب هذه الردّة المتكررة وجد مُوسَى بن نُصَير خطأين وقع فيهما من سبقوه.

الخطأ الأول: هو أن عقبة بن نافع ومن معه كانوا يفتحون البلاد فتحًا سريعًا، ويتوغلون داخلها طمعًا في فتح أماكن أخرى كثيرة، دون أن تتوفر الحماية لظهورهم في هذه المناطق التي فتحوها، ومن ثم كانت النتيجة أن البربر فَقِهوا هذا الأمر واستغلّوه جيدًا، فانقلبوا على عقبة وأحاطوا به وقتلوه، وحتى يتغلب على هذا الأمر بدأ مُوسَى بن نُصَير يفتح البلاد في أناةٍ شديدة، وفي هدوء وحذرٍ كحذر خالد بن الوليد رضي الله عنه، فبدأ يتقدم خطوة ثم يُأَمِّن ظهره، ثم خطوة فيأمّن ظهره، حتى أتمّ فتح هذا الإقليم في سبع أو في ست سنوات، بينما استغرق عقبة بن نافع في فتحه شهورًا معدودات.

أما الخطأ الثاني : فقد وجد أن سكان هذا الإقليم لم يتعلموا الإسلام جيدًا ولم يعرفوه حق المعرفة، فبدأ بتعليمهم الإسلام؛ فكان يأتي بعلماء التابعين من منطقة الشام والحجاز ليعلمونهم الإسلام ويعرفونهم به، فأقبلوا على الإسلام وأحبّوه ودخلوا فيه أفواجًا، حتى أصبح البربر الذين يحاربون المسلمين جند الإسلام وأهله، وهكذا عمل مُوسَى بن نُصَير على تثبيت دعائم الإسلام وتوطيده في الشمال الإفريقي، وأتمّ فتح الإقليم بكامله عدا مدينة واحدة وهي مدينة "سَبْتَة" (مدينة "سَبْتَة" الآن من مدن المغرب العربي التي تحتلها إسبانيا، وتقع على مضيق جبل طارق)، فقد فتح ميناء طنجة ولم يفتح ميناء "سَبْتَة" المماثل له في الأهمية، وللموقع الاستراتيجي لمدينة "سَبْتَة" ولّى موسى بن نصير على ميناء طنجة (القريب جدًا من "سَبْتَة" والقريب في ذات الوقت من الأندلس) أمهر قادة طارق بن زياد رحمه الله، وطارق بن زياد لم يكن عربيًا، بل كان من قبائل البربر التي استوطنت الشمال الإفريقي - كما ذكرنا - والتي كان يميزها اللون الأبيض والعيون الزرقاء والشعر الأشقر، بعكس ما يُتخيل من كونهم يشبهون الزنوج، حتى إن البعض ينسبونهم إلى أصول أوروبية، وقد حمل طارق بن زياد القائد الفذّ هذه الصفات الشكلية، إضافة إلى ضخامته الجسمية ووسامته الشديدة، تلك التي لم تمنعه عن الانشغال بحب الجهاد في سبيل الله، ونشر هذا الدين.

من خلال ما سبق نرى أن موسى بن نصير رحمه الله قد تولّى أمر إفريقية وهي تضطرم نارًا، فكان أول عمل له هو تأمين قواعد انطلاقه، ثم انصرف لإخماد الفتن والقضاء على الثورات وتصفية قواعد العدوان، وبناء المجتمع الإسلامي الجديد، ووجد بعد ذلك في إفريقية طاقات ضخمة وإمكانات جبّارة فأفاد من حرية العمل المتوافرة له وانصرف إلى متابعة حشد القوات وتعبئتها وقيادتها من نصر إلى نصر، وإشراكها في شرف الفتوح وتحميلها أعباء نشر الإسلام...

كان موسى بن نصير - إذن - من أعظم رجال الحرب وافدارة المسلمين في القرن الأول للهجرة، وقد ظهرت براعته الإدارية في جميع المناضب التي تقلّدها، كما ظهرت براعته الحربية في جميع الحملات البرية والبحرية التي قادها، على أن هذه المواهب تبدو بنوع خاص في حكمه لإفريقية، حيث كانت الحكومة الإسلامية تواجه شعبًا شديد المراس يضطرم بعوامل الانتفاض والفتنة، وإذا كان موسى قد أبدى في معالجة الموقف وإخماد الفتنة كثيرًا من الحزم والشدة فقد أبدى في الوقت نفسه خبرة فائقة بنفية الشعوب وبراعة في سياستها وقيادتها، وكان موسى فوق مواهبه الإدارية والعسكرية غزير العلم والأدب، متمكنًا من الحديث والفقه، عالمًا بالفلك، مجيدًا للنثر والنظم...

طارق بن زياد يتوغل في الشمال فاتحًا

توجه طارق بن زياد بعد فتح إشبيلية إلى مدينة "أَسْتجّة" وهي أيضا من مدن الجنوب، وفي "أَسْتجّة" قاتل المسلمون قتالًا عنيفًا، لكنه - بلا شك - أقل مما كان في وادي بَرْبَاط؛ فقد فَقَدَ النصارى معظم قواتهم في موقعة وادي بَرْبَاط، وقبل أن ينتصر المسلمون في أواخر المعركة فتح النصارى أبوابهم وقالوا قد صالحنا على الجزية.

وثمة فارق كبير جدًا بين أن يصالح النصارى على الجزية، وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحًا؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة فتحًا (أي بالقتال) لكان لهم أن يأخذوا كل ما فيها، أمّا إن صالح النصارى على الجزية، فإنهم يظلّون يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلا الجزية، والتي كانت تقدّر آنذاك بدينار واحد في العام كما وضحنا سابقًا.

ومن أَسْتجّة وبجيش لا يتعدى التسعة آلاف رجل يبدأ طارق بن زياد بإرسال السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى، وينطلق هو بقوة الجيش الرئيسة في اتجاه الشمال حتى يصل إلى طُلَيْطِلَة عاصمة الأندلس في ذلك الزمن، فقد بعث بسرية إلى قُرْطُبَة، وسرية إلى غِرْنَاطَة، وسرية إلى مَالْقة، وسرية إلى مُرْسِيَه، وهذه كلها من مدن الجنوب المنتشرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والمطلة على مضيق جبل طارق، وكان عدد الرجال في هذه السرايا لا يزيد عن سبعمائة رجل، ومع ذلك فقد فُتحت قُرْطُبَة على قوتها وعظمتها بسرية من تلك التي لا تتعدى السبعمائة رجل [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى] {الأنفال:17}. ثم استمرّ طارق بن زياد رحمه الله في التوجه ناحية الشمال حتى وصل إلى مدينة جَيّان وهي من مدن النصارى الحصينة جدًا.

طارق بن زياد على أعتاب طُلَيْطِلَة

http://www.maktoobblog.com/userFiles/g/o/goutaliezzedine/images/1218545188.jpg

طُلَيْطِلَة: مدينة قديمة في أسبانيا تقع في وسط شبه جزيرة أيبريا على مسافة 91 ك جنوبي غربي مدريد ويحيط بها نهر (التاجو) من جهات ثلاث في واد عميق يسقي مساحات شاسعة من أراضيها.

كان موسى بن نصير رحمه الله الذي اتّسم بالحكمة والأناة قد أوصى طارق بن زياد ألّا يتجاوز مدينة "جَيّان" أو لا يتجاوز مدينة "قُرْطُبَة"، و أمره ألا يسرع في الفتح في طريقه إلى العاصمة "طُلَيْطِلَة" حتى لا يحوطه جيش النصارى.

لكن طارق بن زياد وجد أن الطريق أمامه مفتوحًا، ووجد أن الطريق إلى طُلَيْطِلَة ليس فيه من الصعوبة شيء؛ فاجتهد برأيه، وعلى خلاف رأي الأمير موسى بن نصير وجد أن هذا هو الوقت المناسب لفتح "طُلَيْطِلَة" العاصمة، وكانت تُعدّ أحصن مدن النصارى على الإطلاق، فرأى أنه إن هاجمها في هذه الفترة التي يكتنف النصارى فيها الضعف الشديد الذي لا يستطيعون معه مقاومة جيش المسلمين فإنه قد يتمكن من فتحها، الأمر الذي قد يتعذر بعد ذلك فلا يستطيع فتحها.

وكان الأفضل في هذا الأمر أن يستشير طارقُ بن زياد موسى بن نصير في المغرب، وأن يرسل إليه ولو رسالة يشرح له فيها طبيعة الموقف، وأن الطريق مهيّأ أمامه لفتح "طُلَيْطِلَة"، ويستوضح رأيه ورده في ذلك.

لكنه أسرع في اتجاه طُلَيْطِلَة دون استئذان من موسى بن نصير، وكان موسى بن نصير قد علم بتقدم طارق لفتح طُلَيْطِلَة، ولكن نظرًا لطول المسافات لم يستطع أن يلحق به فيكون مددًا له.

http://www.middle-east-online.com/pictures/biga/_30097_toledo_12-4-2005.jpg

كانت مدينة طُلَيْطِلَة من أحصن مدن الأندلس، بل هي أحصن مدينة في الأندلس؛ فقد كانت محاطة بجبال من جهة الشمال والشرق والغرب، أما الجهة المفتوحة وهي الجنوب فعليها حصن كبير جدًا.

ومع ذلك فقد فتحت أبوابها لطارق بن زياد وصالحت على الجزية.

http://spainguides.com/toledo.jpg

موسى بن نصير يأمر طارقًا بالكفّ عن الفتوحات ويجهّز نفسه لمدده تَقَدُّمُ طارق بن زياد بهذه السرعة في بلاد الأندلس لم ينل قبولًا لدى موسى بن نصير؛ إذ وجد فيه تهورًا كبيرًا لا يُؤْمن عواقبه، وكان قد عُرف عن موسى بن نصير الأناة والحكمة والصبر في كل فتوحاته في شمال أفريقيا حتى وصل إلى المغرب، ومن ثم فقد بعث برسالة شديدة اللهجة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالكفّ عن الفتح والانتظار حتى يصل إليه؛ وذلك خشية أن تلتف حوله الجيوش النصرانية.

وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير يُعدّ العدة لإمداد طارق بن زياد بعد أن انطلق إلى هذه الأماكن البعيدة الغائرة في وسط الأندلس، فجهّز من المسلمين ثمانية عشر ألفًا.

ولكن من أين جاءوا وقد كان جيش الفتح لا يتعدى الاثنا عشر ألفًا؟!

وذلك أن الناس من مشارق الأرض ومغاربها قد انهمروا على أرض الأندلس حين علموا أن فيها جهادًا، فقد كان جلّ الاثني عشر ألف مسلم الذين فتحوا الأندلس مع طارق بن زياد من البربر، أما هؤلاء الثمانية عشر ألفًا فهم من العرب الذين جاءوا من اليمن والشام والعراق، اجتازوا كل هذه المفاوز البعيدة حتى وصلوا إلى بلاد المغرب، ثم عبروا مع موسى بن نصير إلى بلاد الأندلس نصرةً ومددًا لطارق بن زياد.

موسى بن نصير وأعمال عظام في طريقه إلى طارق بن زياد ..

عبر موسى بن نصير بجيشه إلى بلاد الأندلس وكان ما توقعه؛ فقد وجد أن النصارى قد نقضوا عهدهم مع طارق في إشبيليّه، وهي المدينة الحصينة الكبيرة التي كانت قد صالحت طارقًا على الجزية، وكانوا قد جهّزوا العدة كي يأتوا طارقًا من خلفه، ولكن يُقدّر الله أن يفاجَئوا بجيش موسى بن نصير رضي الله عنه وهو قادم فيحاصر إشبيليّه.

http://www.alukah.net/userfiles/kh_1.JPG

كان موسى بن نصير قائدًا محنّكا، له نظرة واعية وبُعد نظر ثاقب، ولم يكن يومًا كما يدّعي أناس أنه عطّل طارق بن زياد عن الفتح حسدًا أن يُنسب إليه وحده فتح بلاد الأندلس، ومن ثَمّ أراد أن يُشْرَك في الأمر معه.

فإن طارق بن زياد من عمّال موسى بن نصير، وواليه على الأندلس، وحسنات طارق بن زياد تُعدّ في ميزان موسى بن نصير رحمهما الله؛ فقد دخل الإسلام على يديه، وقد كان أقصى مراد موسى بن نصير هو النصر لجيش المسلمين وعدم الهلكة له بعيدًا عن أرضه. ومن ثَمّ فقد قدم موسى بن نصير وحاصر إشبيليه حصارا شديدا غاب مداه شهورًا حتى فتحت أبوابها أخيرًا، ثم جوّزها موسى بن نصير إلى الشمال، ولم يكن يفتح المناطق التي فتحها طارق بن زياد، وإنما اتجه ناحية الشمال الغربي وهو الاتجاه الذي لم يسلكه طارق بن زياد؛ فقد أراد استكمال الفتح ومساعدة طارق بن زياد وليس أخذ النصر أو الشرف منه.

واصل موسى بن نصير سيره نحو طارق بن زياد وفي طريقه فتح الكثير من المناطق العظيمة حتى وصل إلى منطقة تسمى "مَارْدَه"، كل هذا وطارق بن زياد في "طُلَيْطِلَة" ينتظر قدومه، وكانت "ماردة" هذه من المناطق التي تجمّع فيها كثير من القوط النصارى، فحاصرها موسى بن نصير حصارًا بلغ مداه أيضًا شهورًا، كان آخرها شهر رمضان، ففي أواخره وفي عيد الفطر المبارك وبعد صبر طويل فتحت المدينة أبوابها، وصالح أهلها موسى بن نصير على الجزية، وهكذا كانت تمر الأعياد على المسلمين.

لم يكتف موسى بن نصير بذلك، بل أرسل ابنه عبد العزيز بن موسى بن نصير رضي الله عنهم والذي تربى كأبيه وجدّه على الجهاد؛ ليفتح مناطق أوسع ناحية الغرب، وقد توغّل عبد العزيز في الغرب كثيرًا، حتى إنه في فترات معدودة فتح كل غرب الأندلس والتي تسمى حاليًا دولة البرتغال، فقد وصل إلى "لَشْبُونَة" وفتحها ثم فتح البلاد الواقعة في شمالها، وبهذا يُعدّ عبد العزيز بن موسى بن نصير فاتح البرتغال.

موسى بن نصير وطارق بن زياد.. لقاء الأبطال واستكمال الفتح

هدهد سليمان
13-05-2010, 10:09 PM
تذكر بعض المصادر أنه لما التقى موسى بن نصير وطارق بن زياد أمسك موسى بطارق وعنفه ووبّخه، بل تذكر أيضًا أنه قيّده وضربه بالسوط. والحقيقة أن مثل هذا لم يأت إلا من خلال الروايات الأوروبية فقط، وهو لم يحدث على الإطلاق، والذي حدث أن موسى بن نصير قد عنّف طارق بن زياد بالفعل على معصيته له بعدم البقاء في قُرْطُبَة أو جيّان واستمراره حتى طُلَيْطِلَة كما ذكرنا، وقد كان تعنيفًا سريعًا إلا أنه كان لقاء حارًا بين بطلين افترقا منذ سنتين كاملتين، منذ رمضان سنة 92 هـ= يوليو 711 م وحتى ذي القعدة سنة 94 هـ= أغسطس 713 م فقد أخذت الحملة التي قادها طارق بن زياد حتى وصل إلى "طُلَيْطِلَة" عامًا كاملًا، وكذلك استغرقت الحملة التي قادها موسى بن نصير حتى قابل طارقًا في نفس المكان عامًا كاملًا.

وبعد اللقاء اتحدّا سوّيًا واتجها معًا إلى فتح منطقة الشمال والشمال الشرقي والشمال الغربي، فبدآ بمنطقة الشمال ومرّا بمناطق عدة، كان منها على سبيل المثال منطقة برشلونة ففتحاها سويا (الكثير لا يعلم عن برشلونة إلا أن هذا اسم فريق كرة قدم متميّز، ولم يدر بخلده أنه في يوم ما كان قد دخلها المسلمون الفاتحون وحكّموا فيها شرع الله سبحانه وتعالى).

هكذا كانت همم الأجداد المسلمين التي ناطحت السحاب، فقد اتجها بعد ذلك سويًا إلى مدينة سَرَقُسْطَة وهي أعظم مدن الشمال الشرقي ففتحوها، واتجها أيضا إلى منطقة شمال الوسط، ثم إلى الشمال الغربي.

وفي منطقة الشمال قام موسى بن نصير بعمل يُحسد عليه؛ فقد أرسل سرّية خلف جبال البِرِينيه، وهي الجبال التي تفصل بين فرنسا وبلاد الأندلس، وتقع في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، عبرت هذه السرية جبال البرينيه ثم وصلت إلى مدينة تُسمّى "أربونة"، وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وبذلك يكون موسى بن نصير قد أسس نواة لمقاطعة إسلامية سوف تكبر مع الزمان كما سيأتي بيانه بمشيئة الله.

وبعد هذه السرية الوحيدة التي فتحت جنوب غرب فرنسا اتجه موسى بن نصير بجيشه إلى الشمال الغربي حتى وصل إلى آخره، وقد ظل المسلمون يفتحون مدن الأندلس المدينة تلو الأخرى حتى تم الانتهاء من فتح كل بلاد الأندلس، إلا منطقة واحدة في أقصى مناطق الشمال الغربي وتُسمى منطقة "الصخرة" أو "صخرة بلاي"، وهي تقع على خليج "بسكاي" عند التقائه مع المحيط الأطلنطي.
ففي زمن قُدّر بثلاث سنوات ونصف السنة، ابتدأ من سنة 92 هـ= 711 م وانتهى في آخر سنة 95 هـ= 714 م كان قد تم للمسلمين فتح كل بلاد الأندلس عدا "صخرة بلاي" هذه، ورغم أن المسلمين حاصروها حصارًا طويلًا إلا أنهم لم يستطيعوا أن يفتحوها، وعزم موسى بن نصير رحمه الله على أن يتم فتح هذه الصخرة ويستكمل الفتح إلى نهايته، إلا أنه فُوجئ بما لم يكن يتوقعه...

رسالة الوليد بن عبد الملك ووقف الفتوحات

من أقصى بلاد المسلمين من دمشق من أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك تصل رسالة إلى موسى بن نصير وطارق بن زياد بأن يعودا أدراجهما إلى دمشق ولا يستكملا الفتح، أمر عجيب وغريب! حزن له موسى بن نصير وأسف أشد الأسف، لكن لم يكن بُدّا من الاستجابة والعودة كما أُمر.

ولنا أن نندهش مع موسى بن نصير لماذا هذا الأمر الغريب؟! ولماذا كان في هذا التوقيت بالذات؟! إلا أن هذه الدهشة سرعان ما تتبخر حين نعلم سبب ذلك عند الوليد بن عبد الملك، وكان ما يلي:

1- كان الوليد بن عبد الملك يشغله همّ توغل المسلمين بعيدًا عن ديارهم، فهو المسئول عن المسلمين الذين انتشروا في كل هذه المناطق الواسعة، وقد رأى أن المسلمين توغّلوا كثيرًا في بلاد الأندلس في وقت قليل، وخشي رحمه الله أن يلتفّ النصارى من جديد حول المسلمين، فإن قوة المسلمين مهما تزايدت في هذه البلاد، فهي قليلة وبعيدة عن مصدر إمدادها، فأراد ألا يتوغّل المسلمون أكثر من هذا.

2- كان من الممكن للوليد بن عبد الملك أن يوقف الفتوح دون عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد، لكن كان هناك أمر آخر عجيب قد سمعه الوليد بن عبد الملك جعله يُصرّ على عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، وهو أنه قد وصل إلى علمه أن موسى بن نصير يريد بعد أن ينتهي من فتح بلاد الأندلس أن يفتح كل بلاد أوروبا حتى يصل إلى القسطنطينية من الغرب.

كانت القسطنطينية قد استعصت على لمسلمين من الشرق، وكثيرًا ما ذهبت جيوش الدولة الأموية إليها ولم تُوفّق في فتحها. وهنا فكّر موسى بن نصير أن يخوض كل بلاد أوروبا، فيفتح فرنسا ثم إيطاليا ثم يوغوسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم منطقة تركيا، حتى يصل إلى القسطنطينية من جهة الغرب، أي أنه سيتوغّل بالجيش الإسلامي في عمق أوروبا منقطعًا عن كل مدد، فأفزع هذا الأمر الوليد بن عبد الملك، وفكّر فيما لو احتاج هذا الجيش إلى مدد؟ فالمدد على بعد شهور منه، ويفصل بينه وبين بلاد المسلمين بحار وجبال وأراض واسعة، فخشي الوليد بن عبد الملك على جيش المسلمين من الهلكة وعجل بأمر عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد.

هِمّة عالية

هنا لا بد لنا أن نقف وقفة عند هذه الهمّة العالية التي كانت عند موسى بن نصير، خاصة إذا علمنا أنه عندما كان يفكر هذا التفكير كان يبلغ من العمر خمسة وسبعين سنة.

فلله درّه.. شيخ كبير ومع ذلك يجاهد في سبيل الله ويركب الخيول ويفتح المدينة تلو المدينة، يحاصر إشبيلية شهورًا ويحاصر "ماردة" شهورًا، ثم يفتح برشلونة وسرقسطة والشمال الشرقي، ثمّ يتجه إلى الشمال الغربي ويتجه إلى الصخرة فيحاصرها، ثم يريد أن يفتحها ويتجه إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها حتى يصل إلى القسطنطينيّة.

أي همّة هذه التي عند هذا الشيخ الكبير والتي تجعله يفعل كل هذا ويؤمّل لهذا التفكير وعمره خمس وسبعون سنة! إنه ليضرب المثل لرجالات المسلمين اليوم وشيوخهم الذين بلغوا مثل عمره أو أقل منه وظنوا أنهم قد (خرجوا على المعاش) وانتهت رسالتهم بخروجهم هذا، فهي رسالة واضحة لهم بأن رسالتهم في الحياة لم تنته بعد، فمن لتعليم الأجيال؟! ومن لتوريث الخبرات؟! ومن لتصحيح المفاهيم؟!

فقد بدأ موسى بن نصير فتح الشمال الإفريقي وقد تجاوز أكثر من ستين سنة، أي تجاوز سن المعاش في زمننا هذا، ثم وهو في سن الخامسة والسبعين يحزن حزنا شديدًا ولكن على أي شيءٍ كان حزنه؟

حزن أولًا على أمر الوليد بن عبد الملك له بتركه أرض الجهاد، فقد كان متشوقًا جدًا له؛ ليتعرض للشهادة لكنها لم تصبه. ثم حزن ثانيًا حزنًا شديدًا لأن الصخرة لم تفتح بعد، ثم حزن ثالثًا وكان حزنه أشدّ لأنه لم يستكمل حلم فتح القسطنطينية من قِبَل الغرب كما كان يتمنى.

وفي هذا يذكر المقرّي صاحب نفح الطيب أن موسى بن نصير ترك الأندلس وهو مع ذلك متلهف على الجهاد الذي فاته، أسيفٌ على ما لحقه من الإزعاج، وكان يؤمل أن يخترق ما بقي عليه من بلد إفرنجة، ويقتحم الأرض الكبيرة حتى يتصل بالناس إلى الشام مؤملاً أن يتخذ مخترقه بتلك الأرض طريقاً مهيعاً - سهلًا وبيّنًا - يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم من المشرق وإليه على البر لا يركبون بحراً...

عودة وأُمنية

لم يجد موسى بن نصير إلا أن يسمع و يطيع لأمر الوليد بن عبد الملك، فأخذ طارق بن زياد وعاد أدراجه إلى دمشق، وعندما وصل وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت، وما هي إلا ثلاثة أيام حتى مات وتولى الخلافة من بعده أخوه سليمان بن الملك، وكان على رأي أخيه في استبقاء موسى بن نصير في دمشق خوفًا على هلكة جيش المسلمين في توغله داخل بلاد أوروبا نحو القسطنطينية.

وبعد عام من قدوم موسى بن نصير سنة 97 هـ= 716 م كان سليمان بن عبد الملك ذاهبًا إلى الحج، الأمر الذي وافق اشتياقًا كبيرًا من قِبَل موسى بن نصير؛ فقد عاش في أرض الجهاد في شمال أفريقيا وبلاد الأندلس أكثر من عشر سنين لم يعد فيها مرة واحدة، فما كان منه إلا أن رافق سليمان بن عبد الملك في طريقه إلى الحج في ذلك العام.

وفي طريقه إلى هناك قال موسى بن نصير: اللهم إن كنت تريد ليَ الحياة فأعدني إلى أرض الجهاد، وأمتني على الشهادة، وإن كنت تريد ليَ غير ذلك فأمتني في مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم. ووصل رضي الله عنه إلى الحج، وبعد حجه وفي طريق عودته مات في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دفن مع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

وهكذا كانت همم الصالحين وقلوب الموصولين برب العالمين، بلغ من الكبر عِتِيّا إلا أنه قَدّم أكثر مما عاش، ظل قلبه معلقا بحب ربه سبحانه وتعالى حتى دعاه فكانت الخاتمة وكانت الإجابة، عاش بين الأسنّة في أقصى بلاد الأندلس إلا أنه مات بعد الحج في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلله درّه من قائد وقدوة.

لقد مات القائد المسلم موسى بن نُصير بعد أن ملأ جهادُه - بقيادة المدّ الإسلامي المبارك - وديانَ المغرب الإسلامي ( الشمال الإفريقي والأندلس ) وجباله وسهوله وهضابه، ووجه دعاة الحق لإسماع ساكنيه نداء الخير فيخرجهم من الظلمات إلى النور المبين.

كان موسى بن نصير يقود هذا الجهاد في شبه الجزيرة الأندلسية وهو يبلغ من العمر خمسة وسبعين سنة، ممتطيًا جواده يهبط في وديانها ويرتفع على صخراتها، يتحرّك فيه إيمان بالله العلي الكبير، فتسمو نفسه وتجدد طاقته، وتحدوه لإعلاء كلمة الله ورفع رايته في كل مكان، فيندفع قوي الجنَان رغم ما علا رأسه من الشيب الوقور، يقوده إصرار العقيدة السمحة، وهمة الإيمان الفتي...

أما رفيق الدرب طارق بن زياد فقد انقطعت أخباره كليّة عند هذه المرحلة عند عودته إلى دمشق مع موسى بن نصير، ولا أحد يدري هل عاد مرة أخرى إلى الأندلس أم بقي في دمشق؟! وإن كان هناك بعض الروايات التي لم يتوثق من صحتها تقول أنه توفي سنة 102 هـ= 721 م أي بعد العودة من الأندلس بخمس أو ست سنين تقريبًا، لكن لم يعرف إن كان قد مات في دمشق أم في غيرها.

nyzk
14-05-2010, 10:10 AM
هدهد سليمان جزاك الله خير لقيت صور لجامع قرطبه معلق فيها الصليب انا لله وانا اليه راجعون

http://img253.imageshack.us/img253/8303/1433025149c119847ac3b.jpg


http://img258.imageshack.us/img258/305/4584557615fa9976cb1b.jpg

http://img20.imageshack.us/img20/7278/84787052605c1847ceo.jpg




فـجائعُ الـدهر أنـواعٌ مُـنوَّعة *** ولـلـزمان مـسرّاتٌ وأحـزانُ


ولـلحوادث سُـلوان يـسهلها *** ومـا لـما حـلّ بالإسلام سُلوانُ


*********
حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما *** فـيـهنَّ إلا نـواقيسٌ وصُـلبانُ


حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ *** حـتى الـمنابرُ ترثي وهي عيدانُ

هدهد سليمان
14-05-2010, 01:31 PM
هدهد سليمان جزاك الله خير لقيت صور لجامع قرطبه معلق فيها الصليب انا لله وانا اليه راجعون

http://img253.imageshack.us/img253/8303/1433025149c119847ac3b.jpg


http://img258.imageshack.us/img258/305/4584557615fa9976cb1b.jpg

http://img20.imageshack.us/img20/7278/84787052605c1847ceo.jpg




فـجائعُ الـدهر أنـواعٌ مُـنوَّعة *** ولـلـزمان مـسرّاتٌ وأحـزانُ


ولـلحوادث سُـلوان يـسهلها *** ومـا لـما حـلّ بالإسلام سُلوانُ


*********
حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما *** فـيـهنَّ إلا نـواقيسٌ وصُـلبانُ


حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ *** حـتى الـمنابرُ ترثي وهي عيدانُ

لا حول ولا قوة الا بالله ..
ان شاء الله سيكسر هذا الصليب .. ويرجع المسجد للصلاه .. صبرا جميل والله المستعان

هدهد سليمان
14-05-2010, 01:40 PM
الصخرة.. والدرس الصعب

عاد موسى بن نصير وطارق بن زياد من الأندلس بعد أن تخطّى المسلمون بلاد الأندلس ووصلوا بفتوحاتهم إلى غرب فرنسا، إلا أنه كانت هناك منطقة صغيرة جدا في أقصى الشمال الغربي من بلاد الأندلس لم تفتح بعد، ولم يخطر على بال أحد من المسلمين أنه سيأتي يوم ما وتكون تلك المنطقة هي نواة الممالك النصرانية التي ستنشأ فيما بعد، وصاحبة اليد الطولى في سقوط الأندلس بعد ذلك بقرون.

تلك هي منطقة "الصخرة" التي لم يستكمل المسلمون فتحها وتهاونوا فيها، وكان فيها طائفة كبيرة من النصارى، و أغلب الظن أنه لو كان موسى بن نصير أو طارق بن زياد في هذا المكان ما تركوها، إلا أننا نستطيع أن نقول: إن التهاون في أمر بسيط جدًا قد يؤدي إلى ويلات عظيمة على مرور الزمن، فلا بد أن يأخذ المسلمون كل أمورهم بالعزم والحزم وعدم الطمأنينة إلا في استكمال النهايات على أتَمّها.

انتهاء عهد الفتح ( 95 هـ= 714 م )

برجوع موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق تكون قد انتهت فترة هي من أهم الفترات في تاريخ الأندلس، وقد أُطلق عليها في التاريخ عهد الفتح؛ حيث إن تاريخ الأندلس يُقسّم إلى فترات أو عهود بحسب طريقة الحكم وبحسب نظام المُلك في هذه الفترات، وعهد الفتح هذا كان قد بدأ سنة 92 هـ ، 711 م وانتهى سنة 95 هـ= 714 م.

وبهذا يكون عهد الفتح قد ظل ثلاث سنوات ونصف السنة فقط، وهذا بحساب كل العسكريين يُعدّ معجزة عسكريّة بكل المقاييس، معجزة عسكرية أن تفتح كل هذه البلاد بكل الصعوبات الجغرافيّة التي فيها من جبال وأنهار وأرض مجهولة للمسلمين، معجزة عسكرية أن يتمكن المسلمون في ثلاث سنوات ونصف فقط من السيطرة على بلاد الأندلس عدا هذه المنطقة الصغيرة في أقصى الشمال الغربي والتي تسمى منطقة "الصخرة" أو "صخرة بليه"، معجزة عسكرية لم توجد إلا في تاريخ المسلمين.

فكرة فتح الأندلس

لم تكن فكرة فتح الأندلس وليدة أيام موسى بن نصير، بل إنها فكرة قديمة جدًا، فمنذ أن استعصت القسطنطينية على الفتح زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه - وكانت الحملات الإسلامية قد وصلت إليها - قال قولته: إن القسطنطينية إنما تُفتح من قِبَل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر.

فكان عثمان رضي الله عنه يعني أن المسلمين سيفتحون الأندلس أولًا (غرب أوروبا) ثم يتوجهون منها صوب القسطنطينية (شرق أوروبا) فيفتحونها من قِبَل الغرب لا من قِبَل الشرق، من جهة البحر الأسود في ذلك الوقت، لكن المسلمين لم يستطيعوا أن يصلوا إلى هذه المنطقة من المغرب العربي إلا في أيام بني أمية وفي فترة حكم موسى بن نصير على الشمال الإفريقي.

مُوسَى بن نُصَير وعقبات فتح الأندلس

بعد أن استتبّ الأمر لموسى بن نصير في شمال إفريقيا، وانطلاقًا من قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ] {التوبة:123} أخذ موسى بن نصير الفكرة وهيَّأَ نَفْسَهُ لفتح بلاد الأندلس تلك التي تلي الشمال الإفريقي مباشرةً، وفي طريقه إليها كانت هناك عدة عقباتٍ كان أهمها ما يلي:

العقبة الأولى: قلّة السفن

وجد موسى بن نصير أن المسافة المائية التي سيقطعها بين المغرب والأندلس لا تقلّ عن ثلاثة عشر كيلو مترا، ولم يكن لديه سفنًا كافيةً لعبور هذه العقبة المائية، فمعظم فتوحات المسلمين - باستثناء بعض المواقع مثل ذات الصواري وفتح قبرص - كانت برّية، ومن ثَمّ لم يكن هناك حاجة كبيرة إلى سفن ضخمة، أَمَا والحالة هذه فهم بحاجة إليها لتنقل الجنود وَتَعْبر بهم مضيق جبل طارق ليصلوا إلى الأندلس.

العقبة الثانية: وجود جزر البليار النصرانية في ظهره إن دخل الأندلس

كان موسى بن نصير قد تعلّم من أخطاء سابقيه؛ فلم يخطو خطوة حتى يأمن ظهره أولًا، وفي شرق الأندلس كانت تقع جزر تسمى جزر البليار - هي عدة جزر تقع أمام الساحل الشرقي لأسبانيا وأهمها ثلاثة جزر هي: ميورقة ومنورقة ويابسة وتسمى في المصادر العربية بالجزر الشرقية - وهي قريبة جدًا من الأندلس، ومن هنا فإن ظهره لن يكون آمنًا إن هو دخل الأندلس، وكان عليه أولًا أن يحمي ظهره حتى لو كانت هذه الجزر تابعة للرومان.

العقبة الثالثة: وجود ميناء "سَبْتَة" المطل على مضيق جبل طارق في يد نصارى على علاقة بملوك الأندلس

كان ميناء "سَبْتَة" المطل على مضيق جبل طارق والذي لم يُفتح مع بلدان الشمال الإفريقي، وكان يحكمه ملك نصراني يُدعى يُليان أو جريان، وكان لهذا الملك علاقات طيبة بملك الأندلس الأسبق غَيْطَشَة، وغيطشة هذا كان قد انقلب عليه لُذريق أو رودريقو - كما يُنطق في بعض الأحيان - وتولى حكم الأندلس، وكانت العقبة تكمن في خوف موسى بن نصير من أن ينقلب عليه "يُليان" صاحب ميناء "سَبْتَة" والذي سيكون في ظهره ويتحد مع لُذريق صاحب الأندلس، حتى وإن كان على خلاف معه، فمن يضمن ألا يدخل "يُليان" مع لُذريق في حربه ضد موسى بن نصير نظير مقابل مادي أو تحت أي بند آخر؟

العقبة الرابعة: قلة عدد المسلمين

كانت العقبة الرابعة التي واجهت موسى بن نصير هي أن قوات المسلمين الفاتحين التي جاءت من جزيرة العرب ومن الشام واليمن محدودة جدًا، وكانت في نفس الوقت منتشرة في بلاد الشمال الإفريقي، ومن ثَمّ قد لا يستطيع أن يتم فتح الأندلس بهذا العدد القليل من المسلمين، هذا مع خوفه من أن تنقلب عليه بلاد الشمال الإفريقي إذا هو خرج منها بقواته.

العقبة الخامسة: كثرة عدد النصارى

في مقابل قوة المسلمين المحدودة كانت قوات النصارى تقف بعدتها وضخامتها عقبة في طريق موسى بن نصير لفتح الأندلس، وكان للنصارى في الأندلس أعدادٌ ضخمةٌ، هذا بجانب قوة عدّتهم وكثرة قلاعهم وحصونهم، وإضافة إلى ذلك فهم تحت قيادة لُذريق القائد القوي المتكبر.

العقبة السادسة: طبيعة جغرافية الأندلس وكونها أرض مجهولة بالنسبة للمسلمين وقف البحر حاجزًا بين المسلمين وبين بلاد الأندلس، فلم تعبر سفنهم هذه المنطقة من قبل فضلًا عن أن يرتادوها أصلا، ومن ثَمّ لم يكن لهم علم بطبيعتها وجغرافيتها، الأمر الذي يجعل من الصعوبة الإقدام على غزو أو فتح هذه البلاد، وفضلًا عن هذا فقد كانت بلاد الأندلس تتميز بكثرة الجبال والأنهار، تلك التي ستقف عقبة كئود أمام حركة أي جيش قادم، خاصةً إذا كانت الخيول والبغال والحمير هي أهمّ وسائل ذلك الجيش في نقل العدة والعتاد.

مُوسَى بن نُصَير ومواجهة العقبات

رغم هذه العقبات التي كانت موجودة بالفعل في طريق فتح الأندلس إلا أن موسى بن نصير لم يكسل ولم يقف مكبّل اليدين، بل أصرّ على الفتح وعلى إتمام الطريق الذي بدأه قبله الفاتحون، ومن هنا بدأ وفي أناةٍ شديدة يرتّب أموره ويحدد أولوياته، فعمل على حلّ المعضلات السابقة على هذا النحو:

أولا: بناء الموانئ وإنشاء السفن

عمد موسى بن نصير أول أمره في سبيل تجاوز عقبات الطريق إلى الأندلس إلى إنشاء السفن؛ فبدأ في سنة 87 أو 88 هـ= 706 أو 707 م ببناء الموانئ الضخمة التي يبنى فيها السفن، وإن كان هذا الأمر ربما يطول أمده إلا أنه بدأه بهمة عالية وإرادة صلبة؛ فبنى أكثر من ميناء في الشمال الإفريقي...

ثانيا: تعليم البربر الإسلام

وفي أثناء ذلك أيضًا عمد موسى بن نصير إلى تعليم البربر الإسلام في مجالس خاصة لهم كالدورات المكثّفة تمامًا، حتى إنه بدأ في تكوين جيش الإسلام منهم، وهذا الصنيع من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن نجده عند غير المسلمين؛ فلم توجد دولة محاربة أو فاتحة غير الدول الإسلامية تُغيّر من طبائع الناس وحبّهم وولائهم الذي كانوا عليه، حتى يصبحوا هم المدافعين عن دين هذه الدولة المحاربة أو الفاتحة، خاصّة إذا كانوا حديثي عهد بهذا الفتح أو بهذا الدين الجديد، فهذا أمر عجيب حقًا، ولا يتكرر إلا مع المسلمين وحدهم، فقد ظلّت فرنسا - على سبيل المثال - في الجزائر مائة وثلاثين عامًا ثم خرجت جيوشها بينما ظلّ الجزائريون كما كانوا على الإسلام لم يتغيروا، بل زاد حماسهم له وزادت صحوتهم الإسلامية...

علّم مُوسَى بن نُصَير البربر الإسلام عقيدةً وعملًا، وغرس فيهم حبّ الجهاد وبذل النفس والنفيس لله سبحانه وتعالى، فكان أن صار جُلّ الجيش الإسلامي وعماده من البربر الذين كانوا منذ ما لا يزيد على خمس سنين من المحاربين له.

ويحسن بنا في هذا الموقف أن نتعرف على البربر بشئٍ من التفصيل، فكلمة بربر إذا ما أُطلقت تشمل كل من يتكلم لغة أو لهجة معقدة، لا تفهم إلا عند بني جنسه، ويدخل في هذا الإطلاق أمة اليونان، وأمة الرومان وأمة السودان.

جلمود
14-05-2010, 01:41 PM
تسلم ياهدهد سليمان معلومات قيمة جداُ

الله لايهينك

راعي البيرق
14-05-2010, 01:47 PM
حياك الله وبارك الله في معلوماتك بس الا يحسب هذا الفتح في ميزان الحجاج بن يوسف بحكم ان موسى بن نصير احد قواده حيث صادف فتح الاندلس مع فتح السند بقيادة ابن اخيه محمد بن القاسم
وشكرا

هدهد سليمان
14-05-2010, 02:03 PM
يقول الأستاذ الطاهر أحمد الزاوي:

"وكلمة البربر أُطلقت بأربعة إطلاقات في أربعة عهود مختلفة، فأُطلقت في عهد (هومير ) على القبائل المعقدة اللغة واللهجة حيثما وجدت وأطلقت في عهد (هيردوت) على الأمم الغريبة عن لغة اليونان وحضارتهم، وأطلقت في عهد (بلتوس) على الروم ما عدا سكان روما وأطلقها العرب في عهدهم على الأمة التي تسكن الساحل الإفريقي - وهم المقصودون هنا - لأنهم يتكلمون بلغة ليست مفهومة للعرب، والعرب يطلقون كلمة البربر على الأصوات المتجمعة غير المفهومة" د. على الصلابي حركة الفتح الإسلامي في الشمال الإفريقي


ثالثا: تولية طارق بن زياد على الجيش

القائد هو قبلة الجيش وعموده، بهذا الفَهْم ولّى مُوسَى بن نُصَير على قيادة جيشه المتجه إلى فتح بلاد الأندلس القائد البربري المحنّك طارق بن زياد (50 - 102 هـ، 670 - 720 م ) ذلك القائد الذي جمع بين التقوى والورع والكفاءة الحربية وحبّ الجهاد والرغبة في الاستشهاد في سبيل الله، ورغم أنه كان من البربر وليس من العرب إلا أن مُوسَى بن نُصَير قدّمه على غيره من العرب، وكان ذلك لعدة أسباب منها:

1- الكفاءة:

لم يمنع كون طارق بن زياد غير عربي أن يولّيه مُوسَى بن نُصَير على قيادة الجيش؛ فهو يعلم أنه ليس لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر فضل إلا بالتقوى، فقد وجد فيه الفضل على غيره والكفاءة في القيام بهذه المهمة على أكمل وجه، وقد ذكرنا بعضًا من صفاته قبل قليل، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن دعوة الإسلام ليست دعوة قبلية أو عنصرية تدعو إلى التعصب وتفضل عنصرًا أو طائفةً على طائفة؛ إنما هي دعوة للعالمين: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.

2- قدرته على فَهم وقيادة قومه:

إضافة إلى الكفاءة التي تميّز بها طارق بن زياد كان كونه من البربر أدعى للقضاء على أيٍ من العوامل النفسية التي قد تختلج في نفوس البربريين الذين دخلوا الإسلام حديثًا، ومن ثَمّ يستطيع قيادة البربر جميعًا وتطويعهم للهدف الذي يصبو إليه، ثُمّ ولكونه بربريًا فهو قادر على فهم لغة قومه؛ إذ ليس كل البربر يتقنون الحديث بالعربية، وكان طارق بن زياد يجيد اللغتين العربية والبربرية بطلاقة، ولهذه الأسباب وغيرها رأى مُوسَى بن نُصَير أنه يصلح لقيادة الجيش فولّاه إياه.

4- فتح جزر البليار وضمها إلى أملاك المسلمين

من أهمّ الوسائل التي قام بها مُوسَى بن نُصَير تمهيدًا لفتح الأندلس وتأمينًا لظهره كما عهدناه، قام بفتح جزر البليار التي ذكرناها سابقًا وضمها إلى أملاك المسلمين، وبهذا يكون قد أمّن ظهره من جهة الشرق، وهذا العمل يدل على حنكته وحكمته وبراعته في التخطيط والقيادة ومع هذا كلّه فقد أُغفل دوره في التاريخ الإسلامي كثيرًا.


مشكلة

استطاع مُوسَى بن نُصَير أن يتغلب على قلّة عدد الجيش من خلال البربر أنفسِهم، كذلك تغلب على العقبة المتمثلة في قلة السفن نسبيًا ببناء موانئ وسفن جديدة، وبقيت أرض الأندلس كما هي أرضًا مجهولة له، وكذلك ظلت مشكلة ميناء "سَبْتَة" قائمة لم تُحلّ بعد، وهي -كما ذكرنا - ميناء حصين جدًا يحكمه النصراني "يُليان"، وقد استنفد موسى بن نصير جهده وطاقته وفعل كل ما في وسعه ولم يجد حلًا لهاتين المشكلتين، وهنا فقط كان لا بدّ للأمر الإلهي والتدبير الرباني أن يتدخل: [إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] {الحج:38}. [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى] {الأنفال:17}. وهذا ما حدث بالفعل وتجسّد في فعل "يُليان" صاحب "سَبْتَة" وكان على النحو التالي:

- فكّر "يُليان" جدّيًا في الأمر من حوله، وكيف أن الأرض بدأت تضيق عليه وتتآكل من قِبَل المسلمين الذين يزدادون قوة يومًا بعد يوم، وإلى متى سيظل صامدًا أمامهم إن هم أتوا إليه؟

- كان "يُليان" مع ذلك يحمل الحقد الدفين على لُذريق حاكم الأندلس ذلك الذي قتل غَيْطَشة صاحبه الأول، وقد كان بينهما علاقات طيبة، حتى إن أولاد غيطشة من بعده استنجدوا بيُليان هذا ليساعدهم في حرب لُذريق، ولكن هيهات فلا طاقة لـ ( يُليان ) بـ ( لُذريق ) ولا طاقة لأولاد غيطشة أيضًا به، ومن هنا فكان ثمة عداءٍ متأصلٍ بين صاحب "سَبْتَة" وحاكم الأندلس؛ ومن ثَمّ فإلى أين سيفرّ "يُليان" إن استولى المسلمون على ميناء "سَبْتَة"؟

- الأمر الأخير الذي دار في خلد "يُليان" هو أن أولاد غيطشة القريبين منه كان لهم من الضياع الضخمة في الأندلس الكثير والتي صادرها وأخذها منهم لُذريق قاتل أبيهم، وكان "يُليان" يريد أن يستردّها لهم، وكان "لُذريق" أيضًا قد فرض على شعبه الضرائب الباهظة وأذاقهم الأمرّين؛ فعاشوا في فقر وبؤس شديد بينما هو في النعيم والمُلك يتصرف فيه كما يحلو له؛ ومن هنا كان شعبه يكرهه ويتمنى الخلاص منه.

ومن تدبير ربّ العالمين أن اختمرت هذه الأفكار جيدًا في عقل "يُليان" - ومُوسَى بن نُصَير آنذاك كان قد استنفد جهده وتحيّر في أمره - وإذا بيُليان يُرسل إلى طارق بن زياد والي طنجة (على بعد عدة كيلو مترات من ميناء "سَبْتَة") برسل من قِبَله يعرض عليه عرضًا للتفاوض، أما تدبير العناية الإلهية والمفاجأة الحقيقية فكانت في بنود هذا العرض وهذا الطلب العجيب الذي نصّ على ما يلي:

1- نسلّمُك ميناء "سَبْتَة". وكانت تلك معضلة حار المسلمون أعوامًا في الاهتداء إلى حلٍ لها؛ حيث كانت فوق مقدرتهم.

2- نَمدُّك ببعض السفن التي تساعدك في عبور المضيق - والذي سُمي بعد ذلك بمضيق جبل طارق - إلى الأندلس. وكأنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يقول: سأتمّ ما لم يستطع المسلمون إتمامه ووقفتْ عنده قدراتُهم، حتى ولو كان ذلك من قِبَل أعدائهم، وقد علمنا مدى احتياج مُوسَى بن نُصَير لهذه السفن.

3- نمدُّك بالمعلومات الكافية عن أرض الأندلس.

أما المقابل فهو: ضيعات وأملاك غَيْطَشَة التي صادرها لُذريق. وكان لغَيْطَشَة ثلاث آلاف ضيعة (ضيعة تعني عقَارُ وأرضٌ مُغِلَّةُ)، وكانت ملكًا لأولاده من بعده، فأخذها منهم لُذريق وصادرها.

ما أجمل العرض وأحسن الطلب:

وبهذا العرض فقد أراد "يُليان" صاحب "سَبْتَة" أن يتنازل للمسلمين عن "سَبْتَة" ويساعدهم في الوصول إلى الأندلس، ثم حين يحكمها المسلمون يسمع "يُليان" ويطيع، على أن يردّ المسلمون بعد ذلك ضيعات وأملاك غَيْطَشَة، فما أجمل العرض وما أحسن الطلب! وما أعظم السلعة وما أهون الثمن!

إن المسلمين لم يفكروا يومًا في مغنم أو ثروة أو مالٍ حال فتوحاتهم البلاد، ولم يرغبوا يومًا في دنيا يملكها "غيطشة" أو "يُليان" أو "لُذريق" أوغيرهم، فقد كان هدفهم تعليم الناس الإسلام وتعبيدهم لربِّ العباد سبحانه وتعالى، فإذا دخل الناس في الإسلام كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، بل لو لم يدخلوا في الإسلام وأرادوا دفع الجزية فحينئذٍ يُترك لهم كل ما يملكون، وسنتحدث عن الجزية في الإسلام بعد قليل.

ومن هنا كان الثمن هينًا جدًا والعرض غاية الآمال، فبعث طارق بن زياد إلى "مُوسَى بن نُصَير" وكان في القيروان عاصمة الشمال الإفريقي آنذاك (وهي في تونس الآن) يخبره هذا الخبر، فسُرَّ سرورًا عظيمًا، ثم بعث "مُوسَى بن نُصَير" بدوره إلى الخليفة الأموي "الوليد بن عبد الملك" يطلعه أيضًا الخبر ويستأذنه في فتح الأندلس.

وهنا أذن له "الوليد بن عبد الملك" إلا أنه شرط عليه شرطًا كان قد فكّر فيه قبل ذلك "مُوسَى بن نُصَير" نفسُه، وهو: ألا تدخل بلاد الأندلس حتى تختبرها بسرية من المسلمين، فما يدريك أن المعلومات التي سيقدّمها لك "يُليان" عن الأندلس ستكون صحيحة؟ ومن يضمن لك ألا يخون "يُليان" عهده معك أو يتفق من ورائك مع لُذريق أو مع غيره؟!!

سَرِيّةُ طَرِيف بن مَالِك أول سَرِيّةٍ للمسلمين إلى الأندلس
http://www.maktoobblog.com/userFiles/g/o/goutaliezzedine/images/1215256344.jpg
جهّز موسى بن نصير بالفعل سريةً من خمسمائة رجل وجعل على رأسهم طَريف بن مالك- أو ملوك كما جاء في روايات أخرى -وكان طريف أيضا من البربر كما كان القائد طارق بن زياد، وهذه ميزة تفرد بها الإسلام كما ذكرتُ، خاصّة وأن طريف من البربر حديثي العهد بالإسلام وهو الآن وبعد أن كان يحارب الإسلام صار قائدًا مدافعًا عن الإسلام وينشره في ربوع الأرض، سار طريف بن مالك من المغرب على رأس خمسمائة من المسلمين صوب الأندلس، وقد وصلها في رمضان سنة 91 هـ= يوليو 710 م، وقام بمهمته على أكمل وجه في دراسته لمنطقة الأندلس الجنوبية والتي سينزل بها الجيش الإسلامي بعد ذلك، * وعرفت هذه الجزيرة فيما بعد باسم هذا القائد فسُميّت جزيرة طريف ثم عاد بعد انتهائه منها إلى مُوسَى بن نُصَير وشرح له ما رآه، وفي أناةٍ شديدةٍ وعملٍ دءوبٍ ظلَّ مُوسَى بن نُصَير بعد عودة "طريف بن مالك" عامًا كاملًا يجهّز الجيش ويعدّ العدّة، حتى جهّزَ في هذه السنة سبعةَ آلافِ مقاتلٍ، وبدأ بهم الفتح الإسلامي للأندلس رغم الأعداد الضخمة لقواتِ النصارى هناك.

الصدام الأول وبدايات الفتح الإسلامي للأندلس

في شعبان من سنة 92 هـ= يونية 711 م تحرّك هذا الجيش المكون من سبعة آلاف فقط من جنود الإسلام، وعلى رأسه القائد طارق بن زياد...

يقول ابن الكردبوس: "وكان موسى بن نصير حين أنفذ طارقًا مكبًّا على الدعاء والبكاء والتضرّع لله تعالى والابتهال إليه في أن ينصر جيش المسلمين..."

تحرّك هذا الجيش وعبر مضيق جبل طارق، والذي ما سُمّي بهذا الاسم (مضيق جبل طارق) إلا في هذا الوقت؛ وذلك لأن طارق بن زياد حين عبر المضيق نزل عند هذا الجبل، وقد ظلّ إلى الآن حتى في اللغة الإسبانية يسمى جبل طارق ومضيق جبل طارق، ومن جبل طارق انتقل طارق بن زياد إلى منطقة واسعة تسمى الجزيرة الخضراء، وهناك قابل الجيش الجنوبي للأندلس، وهو حامية جيش النصارى في هذه المنطقة فلم تكن قوة كبيرة، وكعادة الفاتحين المسلمين فقد عرض طارق بن زياد عليهم: الدخول في الإسلام ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ويتركهم وأملاكهم، أو يدفعون الجزية ويترك لهم أيضا ما في أيديهم، أو القتال، ولا يؤخرهم إلا ثلاث، لكن تلك الحامية أخذتها العزة وأبت إلا القتال، فكانت الحرب سجالًا بين الفريقين حتى انتصر عليهم طارق بن زياد، فأرسل زعيم تلك الحامية وكان اسمه ( تُدْمير ) رسالة عاجلة إلى لُذْرِيق وكان في طُلَيْطِلَة عاصمة الأندلس، يقول له فيها: أدركنا يا لُذريق؛ فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟!

حقًا فهم أناس غرباء، فقد كان من المعروف عندهم أن الفاتح أو المحتلّ لبلد آخر إنما تقتصر مهمته على السلب والنهب لخيرات البلد، والذبح والقتل في كثير من الأحيان، أما أن يجدوا أناسًا يعرضون عليهم الدخول في دينهم ويتركون لهم كل شيء، أو أن يدفعوا لهم الجزية ويتركون لهم أيضا كل شيء بل ويحمونهم من الأعداء، فهذا ما لم يعهدوه من قبل في حياتهم بل ولا في تاريخهم كله، وفضلًا عن هذا فقد كانوا في قتالهم من المهرة الأكفّاء، وفي ليلهم من الرهبان المصلين، وقد أبدى قائد تلك الحميّة دهشته وعجبه الشديد من أمر هؤلاء المسلمين وتساءل في رسالته إلى لُذريق عن شأنهم: أهُم من أهل الأرض، أم هم من أهل السماء؟! وصدق وهو كذوب؛ فهم من جند الله ومن حزبه [أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ] {المجادلة:22}.

هدهد سليمان
14-05-2010, 02:26 PM
موقعة وادي بَرْبَاط ( 92 هـ= 711 م ) وفتح الأندلس

حين وصلت رسالة قائد الحامية إلى لذريق وقعت عليه كالصاعقة وجن جنونه، وفي غرور وصلف جمّع جيشًا قوامه مائة ألف من الفرسان، وجاء بهم من الشمال إلى الجنوب يقصد جيش المسلمين، كان طارق بن زياد في سبعة آلاف فقط من المسلمين جلهم من الرّجّالة وعدد محدود جدًا من الخيل، فلما أبصر أمرَ لُذريق وجد صعوبة بالغة في هذا القياس، سبعة آلاف أمام مائة ألف، فأرسل إلى موسى بن نصير يطلب منه المدد، فبعث إليه طريف بن مالك على رأس خمسة آلاف آخرين رجّالة أيضًا...

وصل طريف بن مالك إلى طارق بن زياد وأصبح عدد الجيش الإسلامي اثنى عشر ألف مقاتل، وبدأ طارق بن زياد يستعد للمعركة، فكان أول ما صنع أن بحث عن أرض تصلح للقتال حتى وجد منطقة تُسمّى في التاريخ "وادي بَرْبَاط"، وتسمى في بعض المصادر "وادي لُقّة" أو "لِقة" بالكسر، وتسميها بعض المصادر أيضا "وادي لُكّة"، وكان لاختيار طارق بن زياد لهذا المكان أبعاد استراتيجية وعسكرية عظيمة، فقد كان مِن خلفه وعن يمينه جبل شاهق، وبه حمى ظهره وميمنته فلا يستطيع أحد أن يلتفّ حوله، وكان في ميسرته أيضا بحيرة عظيمة فهي ناحية آمنة تمامًا، ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي (أي في ظهره) فرقة قوية بقيادة طريف بن مالك؛ حتى لا يباغت أحد ظهر المسلمين، ومن ثم يستطيع أن يستدرج قوات النصارى من الناحية الأمامية إلى هذه المنطقة، ولا يستطيع أحد أن يلتفّ من حوله...

ومن بعيد جاء لُذريق في أبهى زينة، يلبس التاج الذهبي والثياب الموشاة بالذهب، وقد جلس على سرير محلّى بالذهب يجرّه بغلان، فهو لم يستطع أن يتخلى عن دنياه حتى وهو في لحظات الحروب والقتال، وقدم على رأس مائة ألف من الفرسان، وجاء معه بحبالٍ محمّلةٍ على بغالٍ!! ولا تتعجب كثيرًا إذا علمت أنه أتى بهذا الحبال ليقيّد بها أيدي المسلمين وأرجلهم بعد هزيمتهم المحققة في زعمه ثم يأخذهم عبيدًا، وهكذا في صلف وغرور ظن أنه حسم المعركة لصالحه؛ ففي منطقه وبقياسه أنّ اثني عشر ألفًا يحتاجون إلى الشفقة والرحمة، وهم أمام مائة ألف من أصحاب الأرض ومصدر الإمداد.

وفي 28 من شهر رمضان سنة 92 هـ= 19 يوليو سنة 711 م يتم اللقاء في "وادي بَرْبَاط"، وتدور معركة هي من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين، وإن الناظر العادي إلى طرفي المعركة ليدخل في قلبه الشفقة حقًا على المسلمين الذين لا يتعدى عددهم الاثني عشر ألفًا وهم يواجهون مائة ألف كاملة، فبمنطق العقل كيف يقاتلون فضلًا عن أن يَغلبوا؟!

بين الفريقين

رغم المفارقة الواضحة جدًا بين الفريقين إلا أن الناظر المحلل يرى أن الشفقة كل الشفقة على المائة ألف، فالطرفان [خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ] {الحج:19} وشتان بين الخصمين، شتان بين فريق خرج طائعًا مختارًا، راغبًا في الجهاد، وبين فريق خرج مُكرهًا مضطرًا مجبورًا على القتال، شتان بين فريق خرج مستعدًا للاستشهاد، مسترخصا الحياة من أجل عقيدته، متعاليًا على كل روابط الأرض ومنافع الدنيا، أسمى أمانيه الموت في سبيل الله، وبين فريق لا يعرف من هذه المعاني شيئًا، أسمى أمانيه العودة إلى الأهل والمال والولد، شتان بين فريق يقف فيه الجميع صفًا واحدًا كصفوف الصلاة، الغني بجوار الفقير، والكبير بجوار الصغير، والحاكم بجوار المحكوم، وبين فريق يمتلك فيه الناس بعضهم بعضًا ويستعبد بعضهم بعضًا، فهذا فريق يقوده رجل رباني طارق بن زياد يجمع بين التقوى والحكمة، وبين الرحمة والقوة، وبين العزة والتواضع، وذاك فريق يقوده متسلط مغرور، يعيش مترفًا مُنعّمًا بينما شعبه يعيش في بؤس وشقاء وقد ألهب ظهره بالسياط، هذا جيش توزع عليه أربعة أخماس الغنائم بعد الانتصار، وذاك جيش لا ينال شيئًا، وإنما يذهب كله إلى الحاكم المتسلط المغرور وكأنما حارب وحده، هذا فريق ينصره الله ويؤيده ربه خالق الكون ومالك الملك سبحانه وتعالى، وذاك فريق يحارب الله ربه ويتطاول على قانونه وعلى شرعه سبحانه وتعالى، وبإيجاز فهذا فريق الآخرة وذاك فريق الدنيا، فعلى من تكون الشفقة إذن؟! على من تكون الشفقة وقد قال سبحانه وتعالى: [كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] {المجادلة:21}. على من تكون الشفقة وقد قال سبحانه وتعالى: [وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا] {النساء:141}. فالمعركة إذن باتت وكأنها محسومة قبلًا.

وادي بَرْبَاط وشهر رمضان

هكذا وفي شهر رمضان بدأت معركة وادي بَرْبَاط الغير متكافئة ظاهريًا والمحسومة بالمنطق الرباني، بدأت في شهر الصيام والقرآن، الشهر الذي ارتبط اسمه بالمعارك والفتوحات والانتصارات، ولكن وللأسف تحوّل هذا الشهر الآن إلى سباقٍ مع الزمن لإنتاج أحدث المسلسلات والأفلام وغيرها، تحوّل إلى نوم بالنهار وسهر بالليل لا للقرآن أو للقيام، ولكن لمتابعة أو ملاحقة المعروضات الجديدة على الفضائيات وغير الفضائيات، تحول إلى شهر المراوغة من العمل، وقد كان المسلمون ينتظرونه للقيام بأشق الأعمال وأكدّها، تحول إلى شهر الضيق وافتعال المضايقات، وهو شهر الصبر والجهاد وتهذيب للنفس، ففي هذا الشهر الكريم وقبل العيد بيوم أو يومين - وهكذا كانت أعياد المسلمين - وعلى مدى ثمانية أيام متصلة دارت رحى الحرب، وبدأ القتال الضاري الشرس بين المسلمين والنصارى، أمواج من النصارى تنهمر على المسلمين، والمسلمون صابرون صامدون

[رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] {الأحزاب:23}.

الغانم 533
14-05-2010, 02:28 PM
موضوع جميل ومنسق

هدهد سليمان
14-05-2010, 02:39 PM
وعلى هذا الحال ظلّ الوضع طيلة ثمانية أيام متصلة انتهت بنصر مؤزّر للمسلمين بعد أن علم الله صبرهم وصدق إيمانهم، وقُتل لُذريق وفي رواية أنه فرّ إلى الشمال، لكنه اختفى ذكره إلى الأبد، وقد تمخّضَ عن هذه المعركة عدّة نتائج كان أهمها:

1- طوت الأندلس صفحة من صفحات الظلم والجهل والاستبداد، وبدأت صفحة جديدة من صفحات الرقيّ والتحضرِ من تاريخ الفتح الإسلامي.

2- غنم المسلمون غنائم عظيمة كان أهمها الخيول، فأصبحوا خيّالة بعد أن كانوا رجّالة.

3- بدأ المسلمون المعركة وعددهم اثنا عشر ألفا، وانتهت المعركة وعددهم تسعة آلاف، فكانت الحصيلة ثلاثة آلاف من الشهداء رَوَواْ بدمائهم الغالية أرض الأندلس، فأوصلوا هذا الدين إلى الناس، فجزاهم الله عن الإسلام خيرًا.

طارق بن زياد وقضية حرق السفن:

قبل الانتقال إلى ما بعد "وادي بَرْبَاط" لا بدّ لنا من وقفةٍ أمام قضية اشتهرت وذاع صيتها كثيرًا في التاريخ الإسلامي بصفةٍ عامةٍ والتاريخ الأوروبي بصفةٍ خاصةٍ، وهي قضية حرق طارق بن زياد للسفن التي عَبَر بها إلى بلاد الأندلس قبل موقعة "وادي بَرْبَاط" مباشرة.

فما حقيقة ما يُقال من أن طارق بن زياد أحرق كل السفن التي عبر عليها؟ وذلك حتى يحمّس الجيش على القتال، وقد قال لهم: البحر من ورائكم والعدو من أمامكم فليس لكم نجاة إلا في السيوف.

في حقيقة الأمر هناك من المؤرخين من يؤكد صحة هذه الرواية، ومنهم من يؤكد بطلانها، والحق أن هذه الرواية من الروايات الباطلة التي أُدخلت إدخالاً على تاريخ المسلمين، وذلك للأسباب الآتية:

أولًا:أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح في التاريخ الإسلامي، فعلم الرجال وعلم الجرح والتعديل الذي تميّز به المسلمون عن غيرهم يحيلنا إلى أن الرواية الصحيحة لا بد أن تكون عن طريق أناس موثوق فيهم، وهذه الرواية لم ترد أبدًا في روايات المسلمين الموثوق في تاريخهم، وإنما أتت إلينا من خلال المصادر والروايات الأوروبية التي كتبت عن موقعة "وادي بَرْبَاط".

ثانيًا: أنه لو حدث إحراق لهذه السفن بالفعل كان لا بدّ أن يحدث ردّ فعل من قِبَل موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك استفسارًا عن هذه الواقعة، كان لا بد أن يكون هناك حوار بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية، ولا بد أن يكون هناك تعليق من الوليد بن عبد الملك، وأيضًا لا بد أن يكون هناك تعليق من علماء المسلمين: هل يجوز هذا الفعل أم لا يجوز؟ وكل المصادر التاريخية التي أوردت هذه الرواية وغيرها لم تذكر على الإطلاق أي ردّ فعل من هذا القبيل؛ مما يعطي شكًّا كبيرًا في حدوث مثل هذا الإحراق.

ثالثًا: أن المصادر الأوروبيّة قد أشاعت هذا الأمر؛ لأن الأوروبيين لم يستطيعوا أن يفسروا كيف انتصر اثنا عشر ألفًا من المسلمين الرجّالة على مائة ألف فارس من القوط النصارى في بلادهم وفي عقر دارهم، وفي أرض عرفوها وألِفوها؟!

ففي بحثهم عن تفسير مقنع لهذا الانتصار الغريب قالوا: إن طارق بن زياد قام بإحراق السفن لكي يضع المسلمين أمام أحد أمرين: الغرق في البحر من ورائهم، أو الهلاك المحدق من قبل النصارى من أمامهم، وكلا الأمرين موت محقق؛ ومن ثَمّ فالحل الوحيد لهذه المعادلة الصعبة هو الاستماتة في القتال للهروب من الموت المحيط بهم من كل جانب، فكانت النتيجة الطبيعية الانتصار، أما إذا كانت الظروف طبيعية لكانوا قد ركبوا سفنهم وانسحبوا عائدين إلى بلادهم.

وهكذا فسّر الأوروبيون النصارى السرّ الأعظم - في زعمهم - في انتصار المسلمين في "وادي بَرْبَاط"، وهم معذورون في ذلك؛ فهم لم يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمسجلة في كتابه سبحانه وتعالى والتي تقول: [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] {البقرة:249}.

فالناظر في صفحات التاريخ الإسلامي يجد أن الأصل هو أن ينتصر المسلمون وهم قلّة على أعدائهم الكثيرين، بل ومن العجيب أنه إذا زاد المسلمون على أعدائهم في العدد فتكون النتيجة هي الهزيمة للمسلمين، وهذا هو ما حدث يوم حنين [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ َعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] {التوبة:25}.

ومن هنا فقد حاول الأوروبيون على جهلٍ منهم وسوء طوية أن يضعوا هذا التفسير وتلك الحجة الواهية حتى يثبتوا أن النصارى لم يُهزموا في ظروفٍ متكافئةٍ، وأن المسلمين لم ينتصروا إلا لظروف خاصة جدًا.

رابعًا: متى كان المسلمون يحتاجون إلى مثل هذا الحماس التي تُحرّق فيه سفنُهم؟! وماذا كانوا يفعلون في مثل هذه المواقف- وهي كثيرة - والتي لم يكن هناك سفن ولا بحر أصلًا؟! فالمسلمون إنما جاءوا إلى هذه البلاد راغبين في الجهاد طالبين الموت في سبيل الله؛ ومن ثَمّ فلا حاجة لهم بقائد يحمّسُهم بحرق سفنهم وإن كان هذا يعدّ جائزًا في حق غيرهم.

خامسًا: ليس من المعقول أن قائدًا محنّكًا مثل طارق بن زياد رحمه الله يقدم على إحراق سفنه وقطع خط الرجعة على جيشه، فماذا لو انهزم المسلمون في هذه المعركة وهو أمر وارد وطبيعي جدًا؟ ألم يكن من الممكن أن تحدث الكرّة على المسلمين خاصة وهم يعلمون قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] {الأنفال:15،16}

فهناك إذن احتمال أن ينسحب المسلمون من ميدان المعركة؛ وذلك إما متحرّفين لقتال جديد، وإمّا تحيزًا إلى فئة المسلمين، وقد كانت فئة المسلمين في المغرب في الشمال الأفريقي، فكيف إذن يقطع طارق بن زياد على نفسه التحرّف والاستعداد إلى قتال جديد، أو يقطع على نفسه طريق الانحياز إلى فئة المسلمين؟!
http://i.ytimg.com/vi/Kqwd-dNo544/0.jpg
ومن هنا فإن مسألة حرق السفن هذه تعد تجاوزًا شرعيًا كبيرًا لا يقدم عليه من هو في ورع وعلم طارق بن زياد رحمه الله، وما كان علماء المسلمين وحكّامهم ليقفوا مكتوفي الأيدي حيال هذا الفعل إن كان قد حدث.

سادسا: وهو الأخير في الردّ على هذه الرواية أن طارق بن زياد كان لا يملك كل السفن التي كانت تحت يديه؛ فبعضها كان قد أعطاها له "يُليان" صاحب "سَبْتَة" بأجرةٍ ليعبر عليها ثم يعيدها إليه بعد ذلك فيعبر بها هو "يُليان" إلى إسبانيا كما وضحنا سابقًا، ومن ثَمّ فلم يكن من حق طارق بن زياد إحراق هذه السفن.

لكل هذه الأمور نقول: إن قصة حرق السفن هذه قصة مخْتَلَقة، وما أُشيعت إلا لتُهَوّن من فتح الأندلس وانتصار المسلمين.

طارق بن زياد بعد وادي بَرْبَاط

بعد النصر الكبير الذي أحرزه المسلمون في وادي بَرْبَاط ورغم فقدهم ثلاثة آلاف شهيد، وجد طارق بن زياد أن هذا الوقت هو أفضل الفرص لاستكمال الفتح وإمكان تحقيقه بأقل الخسائر؛ وذلك لما كان يراه من الأسباب الآتية:

1- النتيجة الحتمية لانتصار اثني عشر ألفًا على مائة ألف، وهي الروح المعنوية العالية لدى جيش المسلمين.

2- وفي مقابل ذلك ما كان من أثر الهزيمة القاسية على القوط النصاري، والتي جسّدت انعدام تلك الروح وفقدانها تمامًا.

3- وإضافة إلى انعدام الروح المعنوية فقد قُتِل من القوط النصارى وتفرّق منهم الكثير؛ فأصبحت قوتهم من الضعف والهوان بمكان...

4- وجد طارق بن زياد أن كون لُذريق المستبدّ بعيدًا عن الناس وعن التأثير فيهم؛ وذلك أنه قُتل أو فرّ، وكون الناس كارهين له - وجد أن في هذا فرصة كبيرة لأن يُعلّم الناسَ دين الله سبحانه وتعالى، ومن ثَمّ فهم أقرب إلى قبلوه والدخول فيه.

5- لم يضمن طارق بن زياد أن يظل "يُليان" صاحب "سَبْتَة" على عهده معه مستقبلًا؛ ومن ثَمّ فعليه أن يستفيد من هذه الفرصة ويدخل بلاد الأندلس مستكملًا الفتح.

لهذه الأسباب أخذ طارق بن زياد جيشه بعد انتهاء المعركة مباشرة واتّجه شمالًا لفتح بقيّة بلاد الأندلس، فاتجه إلى إشبيلية وكانت أعظم مدن الجنوب على الإطلاق، وكانت تتميّز بحصانتها وارتفاع أسوارها وقوّة حاميتها، لكن رغم كل هذا تحقق فيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه البخاري ((عن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً )).

ففتحت المدينة أبوابها للمسلمين دون قتال، وصالحت على الجزية، ولا بدّ هنا - قبل استكمال مسيرة الفتح - من وقفة مع مصطلح الجزية لبيان كُنْهه وحقيقته...

الجزية في الإسلام

لم يكن المسلمون بدعًا بين الأمم حين أخذوا الجزية من البلاد التي فتحوها ودخلت تحت ولايتهم، فإن أخذ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أمر حدث كثيرًا ويشهد به التاريخ، ورغم ذلك فقد كثر الكلام حول أمر الجزية في الإسلام، وحول دعوة القرآن لأخذها من أهل الكتاب، حتى رأى البعض أن الجزية هذه ما هي إلا صورة من صور الظلم والقهر، والإذلال للشعوب التي دخلت تحت ولاية المسلمين، وفي هذا إجحاف كبير ومغايرة للحقيقة، نحن بصدد الكشف عنه وبيانه فيما يلي:

أولا: تعريف الجزية

الجزية في اللغة مشتقة من مادة (ج ز ي) بمعنى جَزاهُ بما صنع، تقول العرب: جزى يجزي، إذا كافأ عما أسدي إليه، والجزية مشتق من المجازاة على وزن فِعلة، بمعنى أنهم أعطوها جزاءَ ما مُنحوا من الأمن.

وهي في الاصطلاح تعني: ضريبة يدفعها أهل الكتاب بصفة عامة، ويدفعها المجوس والمشركون في آراء بعض الفقهاء الغالبة، نظير أن يدافع عنهم المسلمون، وإن فشل المسلمون في الدفاع عنهم تُردّ إليهم جزيتُهم وقد تكرّر هذا في التاريخ الإسلامي كثيرًا.

ثانيا: على من تُفرَضُ الجزيةُ:

من رحمة الإسلام وعدله أن خصّ بالجزية طائفةً ومنع أخذها من آخرين، فهي:

- تؤخذ من الرجال ولا تؤخذ من النساء.

- تؤخذ من الكبار البالغين ولا تؤخذ على الأطفال.

- تؤخذ من الأصحاء ولا تؤخذ من المرضى وأصحاب العاهات الغير قادرين على القتال.

- تؤخذ من الغني ولا تؤخذ من الفقير، بل إن الفقير من أهل الكتاب (النصارى واليهود) والمجوس والمشركين قد يأخذون من بيت مال المسلمين إن كانوا في بلد يُحكم فيها بالإسلام.

فهي تؤخذ من القادرين الذين يستطيعون القتال فقط، ولا تؤخذ من القادرين الذين تفرّغوا للعبادة.

ثالثا: قيمة الجزية

لا حَظَّ - إذن - لمن طعن في أمر الجزية وقال بأنها من صور الظلم والقهر والإذلال للشعوب، خاصّة حين يعلم أنها تُدفع في مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون، بل ما الخطب إذا علم أن قيمة الجزية هذه أقل بكثير من قيمة ما يدفعه المسلمون في الزكاة؟

في هذا الوقت الذي دخل فيه المسلمون الأندلس كان قيمة ما يدفعه الفرد (ممن تنطبق عليه الشروط السابقة) من الجزية للمسلمين هو دينارًا واحدًا في السنة، بينما كان المسلم يدفع 2.5% من إجمالي ماله إن كان قد بلغ النصاب وحال عليه الحول، و في حالة إسلام الذمي تسقط عنه الجزية، وإذا شارك مع المسلمين في القتال دفعوا له أجره، فالمبالغ التي كان يدفعها المسلمون في الزكاة كانت أضعاف ما كان يدفعه أهل الكتاب وغيرهم في الجزية، تلك الزكاة التي هي نفسها أقل من أي ضريبة في العالم؛ فهناك من يدفع 10 و20% ضرائب، بل هناك من يدفع 50 وأحيانا 70% ضرائب على ماله، بينما في الإسلام لا تتعدى الزكاة 5ر2%، فالجزية كانت أقل من الزكاة المفروضة على المسلمين، وهي بهذا تُعدّ أقل ضريبةٍ في العالم، بل كانت أقل بكثير مما كان يفرضه أصحاب الحكم أنفسُهم على شعوبهم وأبناء جلدتهم.

وفوق ذلك فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يُكلّف أهل الكتاب فوق طاقاتهم، بل توعّد صلى الله عليه وسلم من يظلمهم أو يُؤذيهم فقال في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود والبيهقي في سننهما: "أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوْ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". أي أنا الذي أخاصمه وأحاجّه يوم القيامة. والحديث أورده الألباني في السلسلة الصحيحة.

ما اعظم الدين الاسلامي وما أعدله ..

مطيع الله
14-05-2010, 10:39 PM
الأخ الفاضل هدهد
يا ليت تقفز مباشرة إلى فترة الخليفة عبد الرحمن الناصر
أوأقرب قليلاً الحاجب المنصور
لأن الأحداث العظام حدثت في عهدهما

تطويل الموضوع سوف يكون سبباً في العزوف عن القرآة.


شكراً لك.

هدهد سليمان
15-05-2010, 04:35 AM
الأخ الفاضل هدهد
يا ليت تقفز مباشرة إلى فترة الخليفة عبد الرحمن الناصر
أوأقرب قليلاً الحاجب المنصور
لأن الأحداث العظام حدثت في عهدهما

تطويل الموضوع سوف يكون سبباً في العزوف عن القرآة.


شكراً لك.

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

بالعكس اخي في الله مطيع الله .. يجب ذكر كل صغيره وكبيره .. واذا اردنا ان نذهب لما اردته فسوف يكون هناك ظلم كبير في تاريخ الاندلس .. ربما البعض يمل لكن هذه هي حقائق يجب معرفتها .. وان شاء الله سأحاول الاختصار لكن بشكل لا يضر بالتاريخ ..

هدهد سليمان
15-05-2010, 04:43 AM
ماذا نقصد بعهد الولاة؟ يعني أن يحكم الأندلس ولاة يتبعون الخليفة الأموي في دمشق. وينقسم إلى فترتين: فترة ازدهار وتقدم وهي الفترة الأولى، وفترة ضعف واضمحلال وهي الفترة الثانية.
الفترة الأولى من عهد الولاة من سنة 95 هـ/ 714م حتى سنة 123 هـ/ 741م
لماذا كانت فترة تقدم وازدهار؟ وذلك يرجع إلى الاهتمام بنشر الدين الإسلامي، وإلغاء الطبقية، ونشر الحرية العقائدية، والاهتمام بالحضارة المادية، واتخاذ قرطبة عاصمة للمسلمين، ونشأة جيل المولدين الذي أدى لامتزاج العرب بالأندلسيين، وتقليد الأسبان للمسلمين في كل شيء.
ويُعدّ الجهاد في فرنسا من أهم عوامل ازدهار هذه الفترة؛ لأنه إذا اهتمت الدول بالجهاد ونشر تعاليم الإسلام، يكون ذلك سببًا في تقدمها، أما إذا تركت ذلك فسيكون هلاكُها.
وكان هناك ولاة لهم دور في الجهاد مثل: السمح بن مالك الخولاني (ت 107هـ/ 725م) الذي فتح كل منطقة الجنوب الغربي لفرنسا. و بسبب انشغال المسلمين بالغنائم، فكانت هزيمة المسلمين. وبعد موقعة بلاط الشهداء تولى عقبة بن الحجّاج السلولي، وقد قام بأكثر من سبع حملات داخل فرنسا، ولقد استشهد سنة 123هـ/ 741م.عَنْبَسَة بن سُحَيْم (ت 107هـ/ 725م) الذي وصل في جهاده إلى مدينة سانس. ولا ننسى عَبْد الرّحْمَن الغَافِقِيّ (ت 114هـ/ 732م) الذي يعدّ من أشهر ولاة الأندلس؛ إذ إنه وحّد صفوف المسلمين، وفتح مدنًا كثيرة إلا أنه هزم في بلاط الشهداء؛ وأثناء انشغال المسلمين بهذه الفتوحات لم تحدث أي ثورة من قبل أهل الأندلس، ولعل السبب في ذلك أن أهل الأندلس كانوا يعيشون قبل الإسلام في ظلم وجهل، وجاء الإسلام وأخرجهم من هذا الظلم، فلماذا يقومون بثورات إذن؟!
الفترة الثانية من عهد الولاة: من سنة 123هـ/ 741م حتى سنة 138هـ/ 755م
وهي فترة الضعف والانهيار، ويرجع السبب في ذلك إلى حب الدنيا والسعي إليها، وتفاقم العنصرية والقبلية، وظلم الولاة وترك الجهاد، وكنتيجة طبيعية لذلك فُقدت كل الأراضي الإسلامية في فرنسا باستثناء مقاطعة "سبتمانيا"، وظهرت مملكة نصرانية تسمى مملكة ليون، وانقسمت الأندلس إلى فرق عديدة متناحرة.
ومن ثَمَّ نجد تشابهًا كبيرًا بين الأمس واليوم، فالنزاعات بيننا على أشدها، وترك الجهاد، والانقسام إلى فرق وطوائف، وحب الدنيا؛ ولذلك كان لا بد من قراءة التاريخ للاستفادة منه.
بعد انتهاء عهد الفتح السابق يبدأ عهد جديد في تاريخ الأندلس يسمى في التاريخ عهد الولاة، وهو يبدأ من سنة 95 هـ= 714 م ويستمر مدة اثنين وأربعين عامًا حيث ينتهي سنة 138 هـ= 755 م.

وعهد الولاة يعني أن حُكم الأندلس في هذه الفترة كان يتولّاه رجل يتبع الحاكم العام للمسلمين، وهو الخليفة الأموي الموجود في بلاد الشام في دمشق.

كان أول الولاة على الأندلس هو عبد العزيز بن موسى بن نصير ( ت 97 هـ= 716 م ) وذلك بأمر من سليمان بن عبد الملك رحمه الله، وكان كأبيه في جهاده وتقواه وورعه، كان يقول عنه أبوه موسى بن نصير: عرفته صوّاما قوّاما...

وقال عنه الزركلي في الأعلام: أمير فاتح. ولاه أبوه إمارة الأندلس، عند عودته إلى الشام سنة 95 هـ= 714 م فضبطها وسدد أمورها وحمى ثغورها، وافتتح مدائن، وكان شجاعا حازما، فاضلا في أخلاقه وسيرته...

وقد حكم عبد العزيز بن موسى بن نصير الأندلس ووطّد فيها الأركان بشدة، وتوالى من بعده الولاة.

وإذا نظرنا إلى عهد الولاة الذي استمر اثنين وأربعين عامًا نرى أنه قد تعاقب فيها على حكم الأندلس اثنان وعشرون واليًا.. أو عشرون واليًا تولى اثنان منهم مرتين.. فيصبح مجموع فترات حكم الأندلس اثنين وعشرين فترة خلال اثنتين وأربعين سنة، أي أن كل والٍ حكم سنتين أو ثلاث سنوات فقط.

ولا شكّ أن هذا التغيير المتتالي للحكام قد أثّر تأثيرًا سلبيًا على بلاد الأندلس، إلا أن هذا التغيير في الواقع كان له ما يبررّه؛ حيث كان هناك في بادئ الأمر كثير من الولاة الذين يستشهدون أثناء جهادهم في بلاد فرنسا، وبعد مرحلة ما كان هناك أيضا كثير من الولاة الذين يُغيَّرون عن طريق المكائد والانقلابات والمؤامرات وما إلى ذلك.

أي أن هناك فترتين من عهد الولاة، الفترة الأولى تختلف بالكلية عن الفترة الثانية، ومن هنا نستطيع أن نقسّم عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة وطريقة الحكم إلى فترتين رئيسيتين، الفترة الأولى وهي فترة جهاد وفتوح وعظمة للإسلام والمسلمين، وتمتد من بداية عهد الولاة من سنة 95 هـ= 714 م وحتى سنة 123 هـ= 741 م أي سبع وعشرين سنة.

أما الفترة الثانية فهي فترة ضعف ومؤامرات ومكائد وما إلى ذلك، وتستمر من سنة 123 هـ= 741 م وحتى سنة 138 هـ 755 م أي مدة خمس عشرة سنة، وفي تناولنا لفترتي عهد الولاة هاتين لن ندخل في ذكر تفاصيل كل منهم، وإنما سنقتصر فقط على بعض الولاة لما لهم من الأهمية في دراستنا هذه.

الفترة الأولى من عهد الولاة

بصفة عامة تميزت الفترة الأولى من عهد الولاة بعدة أمور، كان من أهمها:

1- نشر الإسلام في بلاد الأندلس

وذلك أن المسلمين بعد أن تمكنوا من توطيد أركان الدولة الإسلامية في هذه البلاد بدءوا يُعلّمون الناس الإسلام، ولأن الإسلام دين الفطرة فقد أقبل عليه أصحاب الفِطَر السوية من الناس عندما عرفوه، واختاروه بلا تردد...

وجد الأسبان في الإسلام دينًا متكاملًا شاملًا ينتظم كل أمور الحياة، وجدوا فيه عقيدة واضحة وعبادات منتظمة، وجدوا فيه تشريعات في السياسة والحكم والتجارة والزراعة والمعاملات، وجدوا فيه تواضعًا كبيًرا جدًا للقادة، ووجدوا فيه كيفية التعامل والتعايش مع الأخ والأب والأم والزوجة والأبناء والجيران والأقرباء والأصدقاء، وجدوا فيه كيفية التعامل مع العدو والأسير، ومع كل الناس...

لقد تعوّد الأسبان في حياتهم قبل ذلك فصلًا كاملًا بين الدين والدولة، فالدين عندهم لا يعدو أن يكون مجرد مفاهيم لاهوتيه غير مفهومه، يتعاطونها ولكن لا يستطيعون تطبيقها، وفي التشريعات والحكم يشّرع لهم من يحكمهم وفق هواه وحسبما يحقق مصالحه الشخصية، أما في الإسلام فقد وجدوا أن الأمر يختلف عن ذلك كثيرًا؛ فلم يستطيعوا أن يتخلّفوا عن الارتباط به والانتساب إليه فدخلوا فيه أفواجًا...

وفي مدةٍ قليلة أصبح عموم أهل الأندلس (السكان الأصليين) يدينون بالإسلام، وأصبح المسلمون من العرب والبربر قلّة بينهم، وأصبح أهل الأندلس هم جند الإسلام وأعوان هذا الدين، وهم الذين اتّجَهُوا بعد ذلك إلى فتوحات بلاد فرنسا.

2- نشأة جيل المولّدين

كان من جرّاء انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين أن نشأ جيل جديد عُرف باسم "جيل المولَّدين"، فقد كان الأب عربي أو بربري والأم أندلسية.

3- إلغاء الطبقية ونشر الحرية العقائدية

ألغى المسلمون الطبقية التي كانت سائدة قبل ذلك؛ حيث جاء الإسلام وساوى بين الناس جميعًا حتى كان الحاكم والمحكوم يقفان سويًا أمام القضاء للتحاكم في المظالم، وعمل المسلمون في هذه الفترة على إتاحة الحريّة العقائدية للناس، فتركوا للنصارى كنائسهم، وما هدموها أبدًا، وما كانوا يحوّلونها إلى مساجد إلا إذا وافق النصارى على بيعها لهم، وكان بيع الكنائس للمسلمين يقدّر بأثمان باهظة، أما إن رفضوا بيعها تركها المسلمون لهم.

وهذه المواقف العظيمة إنما كانت تحدث والنصارى محكومون من قِبَل المسلمين، وعلينا أن نَعِي هذا الأمر جيدًا ونقارن صنيع المسلمين هذا بما فعله النصارى بعد انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس فيما عُرف باسم محاكم التفتيش الأسبانية.

4- الاهتمام بالحضارة المادية

اهتمّ المسلمون في هذه الفترة كذلك بتأسيس الحضارة المادية أو المدنية، فأسسوا الإدارة وأقاموا العمران وأنشأوا القناطر والكباري، ومما يدل على براعتهم في هذا الأمر تلك القنطرة العجيبة التي تسمى قنطرة قُرْطُبَة، وهي من أعجب القناطر الموجودة في أوروبا في ذلك الزمن، كذلك أنشأ المسلمون ديارًا كبرى للأسلحة وصناعة السفن، وبدأت الجيوش الإسلامية تقوى وتتعاظم في هذه المنطقة.

5- تقليد الأسبان للمسلمين في كل شيء

كان من السمات المميّزة أيضا في هذه الفترة الأولى من عهد الولاة أن الأسبان بدءوا يقلدون المسلمين في كل شيء، حتى أصبحوا يتعلمون اللغة العربية التي يتكلمها الفاتحون، بل كان الأسبان النصارى واليهود يفتخرون بتعليم اللغة العربية في مدارسهم.

6- اتخاذ المسلمين قُرْطُبَة عاصمة لهم

كذلك كان من بين السمات المميزة لهذه الفترة أيضًا أن اتخذ المسلمون "قُرْطُبَة" عاصمةً لهم؛ وقد كانت "طُلَيْطِلَة" في الشمال قبل ذلك هي عاصمة الأندلس، ولكن وجد المسلمون أنها قريبة من فرنسا وقريبة من منطقة الصخرة وهما من مصادر الخطر عليهم، فرأوا أن "طُلَيْطِلَة" بذلك مدينة غير آمنة ومن ثَمّ فلا يمكن أن تكون هي العاصمة، فكان أن اختاروا مدينة قُرْطُبَة في اتجاه الجنوب لانتفاء الأسباب السابقة، وأيضا حتى تكون قريبة من المدد الإسلامي في بلاد المغرب.

7- الجهاد في فرنسا

الجهاد في فرنسا كان من أهم السمات المميزة جدًا لهذه الفترة الأولى من عهد الولاة، وقد كانت له خطوات كبيرة في هذه الفترة، ونذكر هنا بعض الولاة الذين كان لهم سبق وظهور حاضر في عملية الجهاد في بلاد فرنسا، فكان منهم على سبيل المثال: السمح بن مالك الخولاني، وعنبسة بن سحيم، وعبد الرحمن الغافقي.
السمح بن مالك الخولاني (ت 102هـ/ 721م)

من حسنات الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ( 61 - 101 هـ=781 - 720 م ) ولاية السَّمْحُ بن مالِك الخوْلاني رحمه الله على الأندلس، فقد حكم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه المسلمين سنتين ونصف على الأكثر، من سنة 99 هـ= 718 م إلى سنة 101 هـ= 720 م وفي هذه الفترة الوجيزة عمّ الأمن والرخاء والعدل كل بلاد المسلمين...

اختار عمر بن عبد العزيز رحمه الله السمحَ بن مالك الخولاني، ذلك القائد الربّاني المشهور في التاريخ الإسلامي، وهو القائد الذي انطلق إلى بلاد فرنسا مجاهدًا، وكان بفرنسا مدينة إسلامية واحدة هي مدينة "أربونة"، تلك التي فتحها موسى بن نصير رحمه الله بسرية من السرايا، لكن السمح بن مالك الخولاني فتح كل منطقة الجنوب الغربي لفرنسا، ثم أسّس مقاطعة ضخمة جدًا وهي مقاطعة "سبتمانيا"، وتسمى الآن بساحل "الريفييرا"، وتعدّ من أشهر المنتجعات السياحية في العالم.

أخذ السمح الخولاني في استكمال الفتوح في جنوب غرب فرنسا، وفي ذات الوقت أرسل يعلم الناس الإسلام، سواء في فرنسا أو في الأندلس إلى أن لقي ربه شهيدًا يوم عرفة سنة 102 هـ= 9 من يونية 721 م

عنبسة بن سحيم (ت 107هـ/ 725م)

تولى بعد السمح الخولاني بعض الولاة نتجاوزهم حتى نصل إلى عَنْبَسَةُ بْن ُسُحَيْم رحمه الله، وكان قائدًا تقيًا ورعًا، وهو الإداري العسكري المشهور، كان مجاهدًا حق الجهاد، وقد حكم بلاد الأندلس من سنة 103 هـ= 721 م إلى سنة 107 هـ= 725 م، وقد وصل في جهاده إلى مدينة "سانس"، وهي تبعد عن العاصمة "باريس" بنحو ثلاثين كيلو مترًا، و"باريس" هذه ليست في وسط فرنسا وإنما تقع في أقصى الشمال منها، وهذا يعني أن عَنْبَسَةُ بْن ُسُحَيْم رحمه الله قد وصل إلى ما يقرب من70 % من أراضي فرنسا، ويعني هذا أيضا أن 70 % من أراضي فرنسا كانت بلادًا إسلامية، * فقد أوغل عنبسة بن سحيم رحمه الله - كما يذكر صاحب الأعلام - في غزو الفرنج، ويرى " إيزيدور " أسقف باجة في ذلك العصر، أن فتوحات عنبسة كانت فتوحات حذق ومهارة أكثر منها فتوحات بطش وقوة، وقال المتشرق رينو لذلك تضاعف في أيامه خراج بلاد الغال - فرنسا - وافتتح قرقشونة صلحًا بعد أن حاصرها مدة. وأوغل في بلاد فرنسا فعبر نهر " الرون " إلى الشرق، وأصيب بجراحات في بعض الوقائع، فاستشهد عَنْبَسَةُ بْن ُسُحَيْم رحمه الله وهو في طريق عودته.

عبد الرحمن الغافقي (ت 114هـ/ 732م)

بعد استشهاد عَنْبَسَةُ بْن ُسُحَيْم رحمه الله بدأت الأمور في التغيّر؛ فقد تولّى حكم الأندلس من بعده مجموعة من الولاة على غير عادة السابقين، كان آخرهم رجل يدعى الهيثم الكلابي، وكان عربيًا متعصبًا لقومه وقبيلته.

ومن هنا بدأت الخلافات تدبُّ بين المسلمين، فالمسلمون العرب من جهة والمسلمون البربر من جهة أخرى، خلافات بحسب العرق وبحسب العنصر، وهو أمر لم يحدث في تاريخ المسلمين منذ فتح المسلمون هذه المناطق حتى هذه اللحظة.

لم تمرّ خلافات العصبيات هذه مرور الكرام، وإنما دارت معارك ومشاحنات بين المسلمين العرب وبين المسلمين البربر، حتى منّ الله على المسلمين بمن قضى عليها ووحّد الصفوف من جديد، و بدأ يبثّ في الناس روح الإسلام الأولى التي جمعت بين البربر وبين العرب، والتي لم تفرّق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، ذلك هو عَبْدُ الرّحْمَن الغَافِقِيُّ رحمه الله.

مَنْ هُو عَبْدُ الرَّحْمَن الغَافِقِيّ؟

هو عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغافقي العكي، ينتسب إلى قبيلة (غافق) وهي فرع من قبيلة (عك) باليمن، ويكنى أبو سعيد، أمير الأندلس، من كبار القادة الغزاة الشجعان، وهو أحد التابعين رحمه الله..

مولده: ربما يكون ولد في اليمن ورحل إلى إفريقية. ثم وفد على سليمان بن عبد الملك الأموي، في دمشق. وعاد الى المغرب، فاتصل بموسى بن نصير وولده عبد العزيز، أيام إقامتهما في الأندلس، وولي قيادة الشاطئ الشرقي من الأندلس...

فكر الغافقي العسكري:

يتميز القائد عبد الرحمن الغافقي من الناحية العسكرية بالحسم، وهو مبدأ في غاية الأهمية، ويحتاج إليه القائد حتى لا تتشتت الأمور ويبعد الهدف في ظل التراخي عن اتخاذ القرار وتأخير ذلك عن وقته..

أيضا تميز أسلوبه العسكري النابع من فكره الصائب بالتوازن بين ما يملك من قوى وما يريد من أهداف، إضافة إلى اعتماد مبدا الإعداد قبل التلاقي أي إعداد الجنود والشعب كله قبل المعركة إعدادً قويًا من كافة النواحي، والتأكد من توافر كل أنواع القوة، بداية من قوة الإيمان بالله، مرورًا بقوة التماسك والأخوة بين أفراد الجيش جميعًا، بل وأفراد الشعب، وانتهاءًا بقوة الساعد والسلاح، وهي القوة المادية وعدم الاستهانة أو التقليل من شأن أي نوع من أنواع هذه القوى، فإن أي قصور في أي نوع منها كفيل بجلب الهزيمة على الجيش كله...

الأخلاقيات "الإنسان"

كان التابعي الجليل والقائد العظيم عبد الرحمن الغافقي، من أحسن الناس خلقًا، وكانت إنسانيته هذه تنبع من تربيته الإسلامية الصحيحة على يد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا عجب إذن إذا رأينا منه حسن السيرة في أخلاقه مع رعيته، لاعجب إذا رأينا العدل والورع والصبر على الرعية وإسداء المعروف للناس دون انتظار أي مقابل فهو ليس بحاجة إلى أحد من الناس فهو أمير وقائد ويمتلك مقومات كثيرة غير أنه ينتظر الأجر من الله سبحانه وتعالى...

قالوا عن عبد الرحمن الغافقي...

قال عنه ابن الأثير المؤرخ:

اشتهر عبد الرحمن الغافقي بورعه وتقواه وصلاحه وإيمانه القوي...

وقال عنه الذهبي في تاريخ الإسلام:

عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أمير الأندلس وعاملها لهشام بن عبد الملك. روى عن ابن عمر. وعنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عياض.

وذكره عبد الواحد المراكشي فيمن دخل الأندلس من التابعين قال:

ومنهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي يروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب.

وقال عنه الحميدي في كتابه "جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس":

وعبد الرحمن الغافقي هذا من التابعين يروى عن عبد الله، عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عياض، استشهد في قتال الروم بالأندلس سنة خمس عشرة ومائة، ذكر ذلك غير واحد، وكان رجلاً صالحاً جميل السيرة في ولايته، كثير الغزو للروم، عدل القسمة في الغنائم، وله في ذلك خبر مشهور؛ أخبرنا به في الإجازة لفظاً وكتابة أبو القاسم عبد الرحمن بن المظفر بالقسطاط بسنده قال: غزا عبد الرحمن يعنى ابن عبد الله العكى إفرنجه، وهم أقاصي عدو الأندلس، فغنم غنائم كثيرة، وظفر بهم، وكان فيما أصاب رجل من ذهب مفصصة بالدر والياقوت والزبرجد، فأمر بها فكسرت، ثم أخرج الخمس وقسم سائر ذلك في المسلمين الذين كانوا معه، فبلغ ذلك عبيدة يعنى بن عبد الرحمن القيسي الذي هو من قبله فغضب غضباً شديداً، وكتب إليه كتاباً يتواعده فيه، فكتب إليه عبد الرحمن: إن السموات والأرض لو كانتا رتقاً لجعل الرحمن للمتقين منها مخرجًا.

بعد أن وحّد عبد الرحمن الغافقي المسلمين وتيقن أن قوة الإيمان قد اكتملت، توجّه بهم ناحية فرنسا ليستكمل الفتح من جديد، ودخل مناطق لم يدخلها السابقون، فوصل إلى أقصى غرب فرنسا، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة، ففتح مدينة "آرل" ثم مدينة "بودو" (وهي موجودة الآن) ثم مدينة "طلوشة" ثم مدينة "تور" ثم وصل إلى "بواتيه"، وهي المدينة التي تسبق باريس مباشرة، والفارق بينها وبين باريس حوالي مائة كيلو متر تقريبًا إلى الغرب منها، وبينها وبين "قُرْطُبَة" حوالي ألف كيلو متر، أي أنه توغّل كثيرًا جدًا في بلاد فرنسا في اتجاه الشمال الغربي.

وفي مدينة "بواتيه" عسكر عبد الرحمن الغافقي في منطقة تسمى البلاط (البلاط في اللغه الأندلسية تعني القصر)، عند قصر قديم مهجور كان بها، ثم بدأ في تنظيم جيشه لملاقاة جيش النصارى، وكان عدد جيشه يصل إلى خمسين ألف مقاتل؛ ولذا تُعدّ حملة عَبْدُ الرّحْمَن الغَافِقِيُّ هي أكبر حملة تدخل إلى بلاد فرنسا.

هدهد سليمان
15-05-2010, 04:53 AM
الكثرة والغنيمة من عوامل الهزيمة:

عندما وصل عَبْدُ الرّحْمَن الغَافِقِيُّ بالجيش إلى "بواتيه" ظهرت ثمة أمور أخرى جديدة؛ فقد تجددت العصبيات التي كانت قد اندحرت في بلاد الأندلس بين العرب والبربر من جديد؛ وذلك بسبب كثرة الغنائم، فقد اختلفوا في توزيعها رغم أنه أمر معروف ومتفق عليه، أخذ كلّ ينظر إلى ما بيد الآخر، وكلّ يريد الأكثر، يقول العرب أنهم أحق لأفضليتهم، ويقول البربر نحن الذين فتحنا البلاد، ونسي الجميع أن الفاتحين الأوائل ما فرقوا أبدًا بين عرب وبربر، بل ما فرّقوا بينهم وبين من دخل الإسلام من الأندلسيين بعد ذلك، وإضافة إلى العصبية وحب الغنائم والحرص عليها فقد اجتمع إلى جوارهما الزهو والاغترار بالكثرة والعدد الضخم، فخمسون ألفًا من المجاهدين عدد لم يسبق في تاريخ الأندلس، فأخذتهم العزة، وظنوا أنهم لن يغلبوا بسبب كثرتهم هذه، ومن بعيد تلوح في الأفق حُنينًا جديدة [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] {التوبة:25} فالمسلمون لم ينتصروا أبدًا بعددهم ولا عتادهم، وإنما كانوا ينتصرون بطاعتهم لله ومعصية عدوهم له سبحانه وتعالى، وللأسف الشديد فرغم وجود هذا القائد الرباني التقيّ الورِع عَبْدُ الرّحْمَن الغَافِقِيُّ إلا أن عوامل الهزيمة داخل الجيش الإسلامي كانت أقوى منه.

وهزم الغافقي.. سقط شهيدا في ساحة " بلاط الشهداء " إحدى معارك التاريخ الخالدة الفاصلة.. وتداعت أحلام المسلمين في فتح أورب، وطووا صفحتهم في هذا الطريق.. وكان ذلك لنفس السبب الذي استفتحنا به دروس الهزيمة.. أعني بسبب الغنيمة.

ومنذ تم الاستقرار في المغرب العربي، وإسبانيا الإسلامية، وهم يطمحون إلى اجتياز جبال البرانس وفتح ما وراءه، هكذا أراد " موسى بن نصير " لكن الخليفة الوليد بن عبد الملك " خشي أن يغامر بالمسلمين في طريق مجهولة ثم فكر على نحو جدي " السمح بن مالك الخولاني " والي الأندلس ما بين عامي ( 100 - 102 هجرية )، وتقدم فاستولى على ولاية ( سبتماية ) إحدى المناطق الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط جنوب فرنس، وعبر - بذلك - " السمح " جبال البرانس، وتقدم فنزل في أرض فرنسا منعطفا نحو الغرب حيث مجرى نهر الجارون، مستوليا في طريقه على ما يقابله من البلدان، حتى وصل إلى - تولوز - في جنوب فرنسا - لكن لم يستطع أن يستقر فيه، وقتل السمح، وتراجعت فلول جيشه تحت قيادة أحد قواده ( عبد الرحمن الغافقي ) فكأن السمح لم ينجح إلا في الاستيلاء على سبتماية.

بلاط الشهداء أشرس معركة إسلامية على الإطلاق

ما رأيناه كان الحال الذي عليه جيش المسلمين، أما جيش النصارى فقد قَدِم من باريس بنحو أربعمائة ألف مقاتل، أي ما يقرب من ثمانية أضعاف الجيش الإسلامي، وكان على رأسهم رجل يسمى تشارل مارتل، ويطلقون عليه في العربية: قارلة، أما مارتل فهو لقبه ويعني المطرقة، وقد لقّبه به بابا إيطاليا؛ لأنه كان شديدًا على أعدائه، وكان من أقوى حكام فرنسا على الإطلاق، كانت ضخامة جيش الأعداء أمر قد اعتاد عليه المسلمون أو الفاتحون الأوائل، فلم تكن لتهزّهم مثل هذه الأرقام التي قدم بها النصارى من باريس، لكن جيش المسلمين كان فيه من عوامل الضعف الكثير، وفوق ذلك فهو يبعد عن أقرب مركز إمداد له وهو قُرْطُبَة بنحو ألف كيلو متر كما ذكرنا قبل قليل.

في منطقة "بواتيه"، وفي موقعة من أشرس المواقع الإسلامية على الإطلاق، التقى الجمعان ودارت رحى حرب عظيمة، جَمْع المسلمين بما فيه من العوامل التي ذكرناها سابقًا من جهة، وجَمْع النصارى الذي يفوق جيش المسلمين بنحو ثمانية أضعاف كاملة من جهة أخرى، وكانت البداية في شهر رمضان من سنة 114 هـ= نوفمبر 732 م واستمر القتال لمدة عشرة أيّام متصلة، ورغم عدم تكافؤ القوتين لصالح النصارى، إلا أن الغلبة في بداية المعركة كانت للمسلمين على قلّة عددهم، لكن النصارى في نهاية المعركة فَطِنوا إلى كمية الغنائم الضخمة التي كانت خلف الجيش الإسلامي، فالتفّوا حول الجيش وهاجموا الغنائم وبدءوا يسلبونها، ولأن حبّ الغنائم كان قد أخذ موقعًا في قلوب بعض المسلمين، فكان أن ارتَبَك المسلمون وأسرعوا لحماية الغنائم الكثيرة، فحدثت هزة في وحدة صفّ الجيش الإسلامي وحدث ارتباك شديد كانت نهايته هزيمة قاسية للجيش الإسلامي في هذه الموقعة، موقعة بواتيه، أو موقعة بلاط الشهداء (بلاط هو القصر الذي دارت عنده الحرب، والشهداء لكثرة شهداء المسلمين في هذه المعركة).

لم تذكر الروايات الإسلامية حصرًا دقيقًا لشهداء المسلمين في بلاط الشهداء، إلا أن بعض الروايات الأوروبية بالغت كثيرًا في أعداد قتلى المسلمين فيها، فتذكر بعضها أن قتلى المسلمين في بلاط الشهداء بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة ألف مسلم، وهو بلا شك رقم مبالغ فيه جدًا؛ لأن جيش المسلمين في الأساس لم يتعد حاجز الخمسين ألفًا.

وفي رواياتهم يقول الأوروبيون متخوّفين أنه لو انتصر المسلمون في بلاط الشهداء على الفرنسيين لفتحت أوروبا كلها، ولدُرِّس القرآن في جامعات أوكسفورد وغيرها من الجامعات الأوروبية، ووالله إنها لتعاسة لهم وخسران أن المسلمين لم ينتصروا في هذه المعركة، ولو انتصروا لانتشر الخير في هذه البلاد، لكنهم ظلّوا في ضلالاتهم وظلوا في غيّهم يعمهون ويعبدون غير الله سبحانه وتعالى ويشركون به.

بعد هذه المعركة انسحب المسلمون إلى الداخل، ومع أنهم هُزموا وانسحبوا إلا أنها لم تكن هزيمة ساحقة كما صورها الأوربيون، ومما يدل على ذلك أن جيش النصارى لم يتبع جيش المسلمين حين انسحبوا، وكان من عادة الجيوش أنها تتتبع الجيش الفارّ، ولكنهم اكتفوا بما أخذوه من الغنائم وما أصابوه من القتلى...

انتصار الفرنجة هو سبب تخلّفهم عن ركب الحضارة:

ربما يبدو هذا العنوان غريبًا على البعض لكنه في الحقيقة كان ما أثبته الواقع وشهد به التاريخ، ولقد فطن إلى هذا المعنى بعض المنصفين من مؤرخي أوربا، قال أناتول فرانس:

إن أهم تاريخ في حياة فرنسا هو معركة بواتييه - بلاط الشهداء - حين هزم شارل مارتل الفرسان العرب - المسلمين - في بواتييه سنة 732 م، ففي ذلك التاريخ بدأ تراجع الحضارة العربية أمام الهمجية والبربرية الأوربية... شوقي أبو خليل - بلاط الشهداء ص 44


وقفة مع معركة بلاط الشهداء

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ] {فاطر:5}. فالملاحظ أن المسلمين قد اغتروا بهذه الدنيا التي فتحت عليهم فتنافسوها، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ. وصدق رسول الله هذا هو حالنا الآن..

فسنّة لله تعالى في خلقه أنه إن فُتحت الدنيا على المسلمين وتنافسوها كما تنافسها من كان قبلهم من الأمم السابقة، فإنها ستهلكهم لا محالة كما أهلكت تلك الأمم السابقة [فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا] {فاطر:43}.

أمر آخر كان في جيش المسلمين وكان من عوامل الهزيمة وهو العنصرية والعصبيّة القبليّة التي كانت بين العرب والبربر في هذه الموقعة، ولقد شاهد الفرنسيون أثر هذا الذي نشأ بين العرب وبين البربر، ووعت الكتب الفرنسية هذا الأمر جيدًا، وظل في ذاكرتها على مدار التاريخ حتى مرت الأيام والسنوات ودخلت فرنسا بلاد الجزائر واحتلتها من سنة 1830 م حتى سنة 1960 وقامت الحركات الاستقلاليّة منذ سنة 1920 م وما بعدها وفكرت فرنسا في القضاء على هذه الحركات الاستقلالية الناشئة ولم تجد أمامها إلا إشاعة الفتنة بين العرب والبربر وضرب بعضهم ببعض، فكانت تشيع داخل البربر أنهم قريبون من العنصر الآري (وهو العنصر الأوروبي)، وبعيدون عن العنصر السامي (وهم العرب)، أي أنتم منا ونحن منكم والعرب بيننا غرباء؛ وذلك للتشابه الكبير بين البربر والأوروبيين في الشكل الخارجي الأمر الذي لا يعترف به الإسلام ولا يقرّه على الإطلاق فمعيار التفاضل في الإسلام هو التقوى.

ولم تكتف فرنسا بذلك، بل قامت بتكثيف تعليم اللغة الفرنسية في مناطق البربر، في حين منعت تعليم اللغة العربية في هذه المناطق؛ وذلك حتى يتم فصل البربر عن العرب تمامًا في منطقة الجزائر، وهي وإن كانت قد نجحت في أمر اللغة بعض الشيء إلا إنها لم تفلح على الإطلاق في تحويل ديانة البربر الإسلامية إلى النصرانية، فظل البربر على إسلامهم وإن كانت لغتهم قد تغيّرت، في بادئ الأمر كان البربر الذين يعيشون في منطقة الجزائر تسمى قبائل الأمازيغ، وكانوا يمثّلون 15 % من شعب الجزائر، ورغم أن لهم لغة خاصة بهم وهي الأمازيغية إلا أنهم كانوا يتمسكون بالعربية، لكن حين قامت فرنسا بهذا الأمر بدأت تُذْكي الروح البربريّة في اللغة المنفردة لهذه القبائل؛ فبدأت تعلم اللغة الأمازيغية، حتى إنها أنشأت في فرنسا عام 1967 م أكاديمية خاصة لتعليم اللغة الأمازيغية، وبدأت تكتب اللغة الأمازيغية بحروف لاتينية رغم أنها كانت لغة منطوقة وليست مكتوبة، قامت فرنسا كذلك بحذف الكلمات العربية التي كانت قد دخلت هذه اللغة وأبدلتها بأخرى أصيلة في اللغة البربرية، وبدأت بالفعل في اجتذاب الشباب من البربر لتعليمهم اللغة الأمازيغية في فرنسا، حتى إنه في عام 1998 م أنشأت ما يُسَمّى بالأكاديمية العالمية للبربر، فبدأت تجمع البربر من مناطق المغرب العربي وغرب إفريقيا وتعلمهم اللغة الخاصة بهم، وكل ذلك لفصل العرب عن البربر، تلك الجموع التي ما هي إلا جموع إسلامية ارتبطت برباط العقيدة والدين، لكنها رأت آثار ذلك في وادي برباط وما تلاها فلم تتوان، وفي ذات الوقت الذي تعمل فيه فرنسا جاهدة على إقامة لغة غير العربية في بلد عربي، كانت هي نفسها التي رفضت المشروع الذي تقدم به "جوسبان" رئيس وزرائها إلى شيراك سنة 1999 م بإقرار بعض اللغات المحلية داخل فرنسا، والذي ردّ عليه شيراك بقوله: إنك بهذا تريد بلقنة فرنسا، أي جعلها كدول البلقان، بلاد متفرقة بحسب العرق وبحسب العنصر، فهذا الأمر حلال على الجزائر حرام على فرنسا!!

تميم بن خالد
15-05-2010, 05:14 AM
موضوع كبير وعظيم .. تشكر عليه اخي ..

عندي مداخله بسيطة .. كل الدول الاسلاميه سقطة بسبب ضعف الخليفه وابتعاده عن دينه ولهوه بدنياه الزائله لدرجة العصيان بالله .. والعياذ بالله .. . سقوط الدولة الامويه بسبب لهو الخليفه بالبناء والزينه وسقطت وضعفت اطراف الدولة الاسلاميه ثم سقطت .. ومن ثم الدولة العباسيه الخليفه العباسي ترك الامه والعباد وهذه الدولة المترامية الاطراف وجلس يمارس هوايته المفضله تربية الحمام والرقص والمجون ..

ومن ثم الدولة العثمانيه لهو حكامها بانفسهم وتركوا الولاة يمارسون بطشهم وظلمهم بالعباد ولا ننسا تصادم والي البصرة مع الشيخ جاسم رحمة الله .. وسقطت الدولة العثمانيه رغم اخر خليفة كان خائف الله وهو الخليفه عبدالحميد لكن فرطت الامور من يده .. وتعاونا نحن العرب مع الانجليز لسقوط دولتنا ..
بقيادة لورنس الغرب .. الذي يتسما ويتفاخر به الجهله انه محرر لبلدانننا ...

هدهد سليمان
15-05-2010, 01:25 PM
موضوع كبير وعظيم .. تشكر عليه اخي ..

عندي مداخله بسيطة .. كل الدول الاسلاميه سقطة بسبب ضعف الخليفه وابتعاده عن دينه ولهوه بدنياه الزائله لدرجة العصيان بالله .. والعياذ بالله .. . سقوط الدولة الامويه بسبب لهو الخليفه بالبناء والزينه وسقطت وضعفت اطراف الدولة الاسلاميه ثم سقطت .. ومن ثم الدولة العباسيه الخليفه العباسي ترك الامه والعباد وهذه الدولة المترامية الاطراف وجلس يمارس هوايته المفضله تربية الحمام والرقص والمجون ..

ومن ثم الدولة العثمانيه لهو حكامها بانفسهم وتركوا الولاة يمارسون بطشهم وظلمهم بالعباد ولا ننسا تصادم والي البصرة مع الشيخ جاسم رحمة الله .. وسقطت الدولة العثمانيه رغم اخر خليفة كان خائف الله وهو الخليفه عبدالحميد لكن فرطت الامور من يده .. وتعاونا نحن العرب مع الانجليز لسقوط دولتنا ..
بقيادة لورنس الغرب .. الذي يتسما ويتفاخر به الجهله انه محرر لبلدانننا ...

للأسف هذا الكلام صحيح 100% .. لكن نتأمل خيرا بإذن الله .. المشكله ان التاريخ العربي والاسلامي خاصة قد شوه وزور منه الكثير والكثير .. لكن نحاول ولو الشيء اليسير من التعديل بالمصادر الموثوقه ان استطعنا .. ناهيك عن تشوي الشيء الكثير عن ديننا الاسلامي بسماحته وعدله بكل شيء .. ويجب ان نبدأ بأنفسنا قبل ان نبدأ بغيرنا .. جزاك الله خير للأضافه الرائعه والصريحه والجريئه .. كل التقدير لشخصكم الكريم ..

هدهد سليمان
15-05-2010, 01:49 PM
الأحداث بعد بلاط الشهداء وعودة المسلمين إلى الأندلس

بعد عودة المسلمين إلى الأندلس، قام فيهم عقبة بن الحجّاج السلولي رحمه الله وتولّى الولاية من سنة 116 هـ= 734 م إلى سنة 123 هـ= 741 م ويُعدّ آخر المجاهدين بحقٍّ في فترة عهد الولاة الأُول.

وقد خُيّر هذا الرجل بين إمارة إفريقيا بكاملها ( كل الشمال الأفريقي ) وبين إمارة الأندلس ففضل إمارة الأندلس؛ لأنّها أرض جهاد حيث ملاصقتها لبلاد النصارى، فأقام مجاهدًا فاتحًا حتى بلغ أربونة وفتح معها جليقية وبنبلونة وكان إذا أسر الاسير لم يقتله حتى يعرض عليه الإسلام، ويقبح له عبادة الأصنام - الأعلام للزركلي جـ 4 ص 220

وأقام عقبة بالأندلس بأحسن سيرة وأجملها، وأعظم طريقة وأعدلها...

وولي عقبة بن الحجاج السّلولي من قبل عبيد الله بن الحبحاب، فأقام خمس سنين محمود السيرة مجاهداً مظفّراً...

وقد قام رحمه الله خلال سنوات إمارته السبع بأكثر من سبع حملات داخل فرنسا، وكان ينزل إلى الأسرى بنفسه يعلّمهم الإسلام، حتى إنه أسلم على يديه ألفان من الأسرى، لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ، فكيف بألفين!

ولقد استشهد عقبة بن الحجّاج رحمه الله سنة 123 هـ= 741 م وباستشهاده يكون قد انتهى عهد الولاة الأُول أو الفترة الأولى من عهد الولاة.

الفترة الثانية من عهد الولاة وأهم سماتها

تبدأ هذه الفترة من انتهاء العهد الأول من عهد الولاة سنة 123 هـ= 741 م وحتى سنة 138 هـ= 755 م وترجع بذور هذا العهد إلى موقعة "بلاط الشهداء"، حيث حبّ الغنائم والنزعة العنصرية والقبلية...

أهم سمات هذه الفترة:

1- حب الدنيا: في أول هذا العهد كانت الأموال كثيرة والغنائم ضخمة، وفتحت الدنيا عليهم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِمَّا أَخَاُف عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا. وهكذا فُتحت الدنيا على المسلمين وانخرطوا فيها؛ فتأثّر بذلك إيمانُهم.

2- تفاقم العنصرية والقبلية: وتبعًا لتأثّر الإيمان ظهرت العنصرية بصورة كبيرة، وحدثت انقسامات كثيرة في صفوف المسلمين داخل الأندلس، حدثت انقسامات بين العرب والبربر، وكانت جذور هذه الانقسامات منذ بلاط الشهداء، ثم حدثت انقسامات بين العرب أنفسِهم، بين المضريين والحجازيين، وبين العدنانيين (أهل الحجاز) والقحطانيين (أهل اليمن)، حتى إنه كان هناك خلافات وحروب كثيرة بين أهل اليمن وأهل الحجاز.

ولقد وصل الأمر إلى أن حدثت انقسامات بين أهل الحجاز أنفسِهم، بين الفهريين وبين الأمويين، بين بني قيس وبني ساعدة، وهكذا انقسم أهل الحجاز بعضهم على بعض.

3- ظلم الولاة: وإضافة إلى حبّ الغنائم وتفاقم القبلية والنزعة العنصرية، وكخطوة لاحقة لهذا ظهر ما يمكن أن نسميه ظلم الولاة، فقد تولّى أمر المسلمين في الأندلس ولاة ظلموا الناس وألهبوا ظهورهم بالسياط، كان منهم - على سبيل المثال - عبد الملك بن قَطَن، ملأ هذا الوالي الأرض ظلمًا وجورًا، قسم الناس بحسب العنصرية وبحسب القبلية، أعطى المضريين وحدهم من الغنائم ومنع البربر وغيرهم، فانقسم الناس عليه وانقلبوا.

وعلى دربه سار يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي تولى من سنة 130 هـ= 748 م وحتى آخر هذه الفترة وآخر عهد الولاة كلية سنة 138 هـ= 755 م فقد انفصل هذا الوالي بالحكم كليّة عن الخلافة الأموية، وادعى أن إمارة الأندلس إمارة مستقلة، بالإضافة إلى إذاقة الناس من العذاب ألوانًا، فحدثت انكسارات جديدة وثورات عديدة بلغت أكثر من ثلاثين ثورة داخل بلاد الأندلس.

4- ترك الجهاد: منذ قليل كنا نتحدث عن الانتصارات الإسلامية والتاريخ المجيد، وفتح الأندلس وفتح فرنسا، ثم ها هي الدنيا إذا تمكنت من القلوب، وها هي العنصرية، وها هو ظلم الولاة يسلم الناس إلى هذه الثورات، وكرد فعل طبيعي جدا لكلِّ هذا، ترك الناس الجهاد، وتوقفت الفتوحات في فرنسا، وتوقفت الحروب ضد النصارى في الشمال الغربي في منطقة الصخرة، والتي كان يتمركز بها مجموعة لا بأس بها من النصارى منذ الفتح الأول لبلاد الأندلس، وكقاعدة ربانية وسنة إلهية فما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، يروي أبو داود عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ (نوع من الربا) وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ. وهكذا كان حين ترك المسلمون الجهاد في فرنسا وأرض الأندلس، فسلط الله عليهم الذلّ، وانقسموا على أنفسهم، وانشغلوا بدنياهم.

أهم أحداث الفترة الثانية من عهد الولاة

نظرًا لتفاعل الأمور السابقة بعضها مع بعض نستطيع بإيجاز شديد أن نلّخص أهمّ الأحداث التي تمخّضت عنها الفترة الثانية والأخيرة من عهد الولاة فيما يلي:

أولا: فُقدت كل الأراضي الإسلامية في فرنسا باستثناء مقاطعة "سبتمانيا"، والتي كانت قد فُتحت بسرية من سرايا موسى بن نصير، كما ذكرنا قبل ذلك.

ثانيا: ظهرت مملكة نصرانية في المنطقة الشمالية الغربية عند منطقة الصخرة تسمى مملكة ليون.

ثالثا: انفصل إقليم الأندلس عن الخلافة الإسلامية - الأموية في ذلك الوقت - وذلك على يد يوسف بن عبد الرحمن الفهري، كما ذكرنا قبل قليل.

رابعا: انقسمت الأندلس إلى فرق عديدة متناحرة، وثورات لا نهائية، كلٌّ يريد التملك والتقسيم وفق عنصره وقبيلته.

خامسا: أمر خطير جدًا وهو ظهور فكر الخوارج الذين جاءوا من الشام واعتناق البربر له، وذلك أن البربر كانوا يعانون ظلمًا شديدًا وعنصرية بغيضة من قِبل يوسف بن عبد الرحمن الفهري؛ فاضطروا إلى قبول هذا الفكر الخارج عن المنهج الإسلامي الصحيح واعتناقه؛ خلاصًا مما يحدث لهم ممن ليسوا على فكر الخوارج.

سادسا: زاد من خطورة هذا الموقف ذلك الحدث الجسيم الذي صدع الأمة الإسلامية في سنة 132 هـ= 750 م وهو سقوط الخلافة الأموية وقيام الخلافة العباسية، والذي كان قيامًا دمويًا رهيبًا، انشغل فيه العباسيون بالقضاء على الأمويين، ومن ثَمّ فقد ضاعت قضية الأندلس وغابت تمامًا عن الأذهان.

انتهى عهد الولاة والأندلس في حالة من الفوضى والدمار، وتحديدًا في الفترة الثانية من عهد الولاة، وظن البعض أن الإسلام انتهى من الأندلس، ولكنَّ رحمة الله ظهرت بظهور رجلٍ أعاد للإسلام مكانته مرة ثانية، وذلك الرجل هو عبد الرحمن الداخل. ولكن من هو عبد الرحمن الداخل؟ ولماذا كان له كل هذه الشهرة؟

كان عبد الرحمن الداخل من الأمويين الذين فروا من بطش العباسيين، وقرر أن يذهب إلى الأندلس ليبدأ في تأسيس دولته، فراسل كل الأمويين ومحبي الدولة الأموية في كل مكان يعرض عليهم فكرته، وبدأ يستعد لدخول الأندلس، ولقد واجهت عبد الرحمن الداخل صعوبات في تأسيس دولته كأي دولة ناشئة، فتعرضت الدولة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الداخل لعدد كبير منالثورات، تزيد على خمس وعشرين ثورة تغلّب عليها جميعها.

وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يجوز لعبد الرحمن الدَّاخِل أن يقاتل الثائرين، وإن كانوا من المسلمين؟!

وحقيقة الأمر أن موقفه هذا في قتال الثائرين داخل أرض الأندلس لا غبار عليه؛ لأن الجميع كانوا قد اتفقوا عليه أميرًا للبلاد، وقد جاءفي صحيح مسلم عن عَرْفَجَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ -أي مجتمع -عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ".

ومن الثورات التي واجهت عبد الرحمن الداخل ثورة العلاء بن مغيث الحضرمي الذي أرسله الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور كي يقتل عبد الرحمن بن معاوية، لكن عبد الرحمن الداخل انتصر عليه، ومن هنا سماه الخليفة العباسي صقر قريش، وكانت هذه الحروب بين العباسيين والأمويين بسبب قيام العباسيين بقتل الأمويين في بداية تأسيس الخلافة العباسية، وكان من المفترض أن يقوم العباسيون بالاستفادة من الأمويين في خدمة الإسلام بدلاً من القيام بقتلهم، وإحداث الفرقة بين صفوف المسلمين.

ولكن ما سبب نجاح عبد الرحمن الداخل في بناء دولته؟ يرجع السبب في ذلك إلى الاهتمام بإنشاء جيش قوي لكي يكون قادرًا على الجهاد، والاهتمام بالعلم والعلماء، والاهتمام بالحضارة المادية، وفكره العسكري الذي تعلمه، إضافة إلى أخلاقه العالية؛ ولذلك قال عنه المؤرخون: "لولا عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية". وقد عاش حياته كلها مجاهدًا، وتُوُفِّي بقرطبة، ودفن بها في جمادى الأولىسنة 172هـ/ أكتوبر 788م.

أصبح أمر الأندلس يحتاج في إصلاحه إلى معجزة إلهية، وبالفعل حدثت المعجزة بفضل من الله ومَنٍّ وكرمٍ منه على المسلمين، وذلك بدخول رجل يدعى عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي إلى أرض الأندلس، وذلك في شهر ذي الحجة من سنة 138 هـ= مايو 756 م.

عبد الرحمن بن معاوية ودخول الأندلس

في سنة سنة 136 هـ= 753 م بدأ عبد الرحمن بن معاوية يعدّ العدة لدخول الأندلس، فعمل على الآتي:
أولًا: أرسل مولاه بدر إلى الأندلس لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثرة في الحكم فيها.

ثانيًا: راسل كل محبي الدولة الأموية في أرض الأندلس بعد أن علِمَهم من مولاه بدر، والحق أن كثيرًا من الناس في عهد الدولة الأموية وفي غيرها كانوا يحبون الأمويين كثيرًا، فمنذ ولاية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على الشام في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، والمسلمون في أقطار الدولة الإسلامية يحبون بني أمية حبًا شديدًا، فقد اشتهر بنو أمية على مرّ العصور بالسخاء الشديد والسياسة والحكمة، واكتساب ثقة الناس وحسن معاملتهم، والجهاد في سبيل الله ونشر الدين وفتح البلاد، فكان لبني أمية داخل بلاد الأندلس الكثير من المريدين والكثير من المحبين حتى من غير بني أمية من القبائل الأخرى المختلفة.

ثالثًا: في ذكاءٍ شديد وحرصٍ أشدّ راسل عبد الرحمن بن معاوية البربر، يطلب معونتهم ومساعدتهم، وكانوا في ذلك الوقت على خلاف شديدٍِ جدًا مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري؛ لأنه فرّق بينهم وبين العرب، فهم يريدون أن يتخلّصوا من حكم يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي عاملهم بهذه العنصرية.

رابعًا: راسل كل الأمويين في كل الأماكن التي هربوا إليها يعرض عليهم فكرته، وأنه يعزم على دخول الأندلس ويطلب معونتهم ومددهم.

وبالفعل بدأ في تجميع الأعوان، واستغرق ذلك عامين حتى قدم عليه رسول من عند مولاه بدر سنة 138هـ= 755 م يقول له إن الوضع قد تجهّز لاستقبالك هناك، وحينما سأله عن اسمه فقال: غالب التميمي، فردّ مؤملا مستبشرًا بهذا الاسم: الحمد لله، غلبنا وتم أمرنا. وبدأ يعدّ العدّة ويجهّز السفينة التي أخذته منفردًا إلى بلاد الأندلس.


عبد الرحمن الداخل في الأندلس

نزل عبد الرحمن بن معاوية رحمه الله على ساحل الأندلس بمفرده، واستقبله هناك مولاه بدر، ثم انطلق معه إلى "قرطبة"، كان يحكم الأندلس في ذلك الوقت يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكالعادة كان في الشمال يقمع ثورة من الثورات، ذلك الوقت الذي قال عنه المؤرخون - كما ذكرنا -: كاد الإسلام أن ينتهي من بلاد الأندلس في عام ثمانية وثلاثين ومائة.

ويدخل عبد الرحمن بن معاوية الأندلس ويبدأ في تجميع الناس من حوله، محبّي الدولة الأموية، والبربر، وبعض القبائل المعارضة ليوسف بن عبد الرحمن الفهري، وقد جاء بعض الأمويين من بقاع الأرض المختلفة، ومع ذلك لم يجد العدد كافيًا والذي يستطيع به أن يغيّر من الأوضاع.

فكّر عبد الرحمن بن معاوية في اليمنيين الذين كانوا على خلاف مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري الحجازي رغم كونه أيضًا من الحجاز، لكنهم رأوا أنهم ليس لهم طاقة بيوسف بن عبد الرحمن الفهري، فقبلوا أن يتّحدوا مع عبد الرحمن بن معاوية.

كان على رأس اليمنيين في ذلك الوقت أبو الصباح اليحصبي، وكان المقرّ الرئيسي لهم أشبيلية، وهي المدينة الكبيرة التي تعدّ حاضرة من حواضر الإسلام في ذلك الوقت، فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى إشبيلية واجتمع طويلًا مع أبي الصباح اليحصبي، واتفقا على أن يقاتلا سويًا ضد يوسف بن عبد الرحمن الفهري.

قبل القتال كان عبد الرحمن بن معاوية قد أرسل عدة رسائل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري يطلب ودّه وأن يسلم له الإمارة ويكون الفهري رجلًا من رجاله في بلاد الأندلس، بحكم أنه (عبد الرحمن) حفيد هشام بن عبد الملك من رموز الخلافة الأموية، لكن يوسف الفهري رفض كل ذلك، وجهز جيشًا وجاء ليحارب عبد الرحمن بن معاوية ومن معه.

موقعة المسَارة

من المؤسف حقًا أن يلتقي المسلمون بسيوفهم، لكن كثرة الثورات وكثرة الفتن والانقلابات جعلت الحلّ العسكري هو الحلّ الحتمي في ذلك الوقت.

ففي ذي الحجّة سنة 138 هـ= مايو 756 م وفي موقعة كبيرة عُرفت في التاريخ باسم موقعة المسارة أو المصارة، دار قتال شرس بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري من جهة وعبد الرحمن بن معاوية الذي يعتمد بالأساس على اليمنيين من جهة أخرى.

وقبل القتال كان أبو الصباح اليحصبي (رئيس اليمنيين) قد سمع بعض المقولات من اليمنيين تقول: إن عبد الرحمن بن معاوية غريب عن البلاد، ثم إن معه فرس عظيم أشهب، فإن حدثت هزيمة فسيهرب من ساحة القتال ويتركنا وحدنا للفهريين.

وصلت عبد الرحمن بن معاوية تلك المقولة، فقام وفي ذكاءٍ شديد يفوق سن الخامسة والعشرين وذهب بنفسه إلى أبي الصباح اليحصبي وقال له: إن جوادي هذا سريع الحركة ولا يمكّنني من الرمي، فإن أردت أن تأخذه وتعطيَني بغلتك فعلت، فأعطاه الجواد السريع وأخذ منه البغلة يقاتل عليها، حينئذ قال اليمنيون: إن هذا ليس بمسلك رجل يريد الهرب، إنما هو مسلك من يريد الموت في ساحة المعركة، فبقوا معه وقاتلوا قتالًا شديدًا، ودارت معركة قوية جدًا، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية، وفَرّ يوسف الفهري.

عبد الرحمن الداخل وأمارات نجابة وعلم وذكاء

كان عادة المحاربين في ذلك الزمن أن يتبع الجيشُ المنتصرُ فلول المنهزمين والفارّين، ليقتلوهم ويقضوا عليهم، ومن ثَمّ على ثورتهم، وحين بدأ اليمنيون يجهّزون أنفسَهم ليتتبعوا جيش يوسف الفهري منعهم عبد الرحمن بن معاوية وقال لهم قولةً ظلّت تتردد في أصداء التاريخ، أمارةً على علم ونبوغ، وفهم صحيح وفكر صائب في تقدير الأمور، قال لهم:

لا تتّبعوهم، اتركوهم، لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوة منهم.

يريد رحمه الله أن هؤلاء الذين يقاتلوننا اليوم سيصبحون غدًا من جنودنا، ومن ثَمّ عونًا على أعدائنا من النصارى وغيرهم في ليون وفرنسا وغيرها. فهكذا رحمه الله كان ذو نظرة واسعة جدًا تشمل كل بلاد الأندلس، بل تشمل كل أوروبا، بل إني أراه بذلك التفكير يستطيع أن يعيد ملك الشام بعد ذلك أيضًا إلى أملاك الأمويين، وذلك لما يلي:

أولًا: ليس في قلبه غلّ ولا حقد على من كان حريصًا على قتله منذ ساعاتٍ قليلة.

ثانيا: الفهم العميق للعدو الحقيقي وهو النصارى في الشمال.

ثالثا: رغم كونه لم يتجاوز الخامسة والعشرين إلا إنه كان يمتلك فهمًا واعيًا وإدراكًا صحيحًا، وفقهًا وعلمًا وسعة اطلاع، علم به أنه إن جاز له شرعًا أن يقاتلهم لتجميع المسلمين حول راية واحدة، فهو في ذات الوقت لا يجوز له شرعًا أن يتتبعهم، أو أن يقتل الفارّين منهم، ولا أن يُجْهِزَ على جريحهم، ولا أن يقتل أسيرهم، لأن حكمهم حكم الباغين في الإسلام وليس حكم المشركين، وحكم الباغي في الإسلام أنه لا يتتبع الفارّ منهم، ولا يُقتل أسيره، ولا يجهز على جريحه، بل ولا تؤخذ منه الغنائم.

هدهد سليمان
15-05-2010, 07:28 PM
بين عبد الرحمن الداخل وأبي الصباح اليحصبي

بعد انتهاء موقعة المسارة قام أبو الصباح اليحصبي في اليمنيين وقال لهم: لقد انتصرنا على عبد الرحمن الفهري وجاء وقت النصر على غيره، يُعرّض بعبد الرحمن بن معاوية، هذا الذي كان يقاتل معه منذ ساعات، ويرى أنه إن انتصر عليه وقتله (عبد الرحمن الداخل)دانت لهم بلاد الأندلس كلها.

لكن اليمنيين لم يوافقوه على ذلك؛ ليس حبًا في عبد الرحمن الداخل وإنما خوفًا منه، فقالوا له: إن هذا الرجل ليس بالسهل. وتصل هذه الأنباء إلى عبد الرحمن بن معاوية، فما كان منه إلا أن أسرّها في نفسه، ولم يُبْدها لهم، ولم يُعلمهم أنه يعلم بما يضمرونه له، لكنه أصبح على حذرٍ شديدٍ من أبي الصباح اليحصبي.

لم يرد عبد الرحمن بن معاوية أن يحدث خللًا في الصفّ المسلم في هذه الأوقات، لم يرد أن يحدث خللًا بين الأمويين ومحبي الدولة الأموية وبين اليمنيين في ذلك الوقت المليء بالثورات والمعارك الداخلية، إنما كان كل همّه هو تجميع الناس ثم حرب النصارى بعد ذلك، وبالفعل وهناك وبعد إحدى عشرة سنة من هذه الأحداث عزل أبا الصباح اليحصبي عن مكانه، واستطاع أن يتملك زمام الأمور كلها في الأندلس.

عبد الرحمن الداخل وبداية فترة الإمارة الأموية

بعد موقعة المسارة والسيطرة على منطقة قرطبة والجنوب الأندلسي لُقّب عبد الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل؛ لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكمًا، كما كان له كثير من الأيادي البيضاء على الإسلام في بلاد الأندلس كما سنرى.

ومنذ أن تولّى عبد الرحمن الداخل الأمور في بلاد الأندلس عُرفت هذه الفترة بفترة الإمارة الأموية، وتبدأ من سنة 138هـ= 755 م وتنتهي سنة 316 هـ 928 م وسميت "إمارة" لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية، سواء كانت في عصر الخلافة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس.

بدأ عبد الرحمن الداخل ينظّم الأمور في بلاد الأندلس، كانت هناك ثورات كثيرة جدًا في كل مكان من أرض الأندلس، وبصبر شديد وأناة عجيبة أخذ عبد الرحمن الداخل يروّض هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى، وبحسب ما يتوافق معها أخذ يستميل بعضها ويحارب الأخرى.

وفي فترة حكمه التي امتدت أربعة وثلاثين عامًا متصلة، من سنة 138هـ= 755 م وحتى سنة 172 هـ= 788 م كانت قد قامت عليه أكثر من خمس وعشرين ثورة، وهو يقمعها بنجاح عجيبٍ الواحدة تلو الأخرى، ثم تركها وهي في فترة من أقوى فترات الأندلس في التاريخ بصفة عامة.

مجمل الثورات التي كانت ضد عبد الرحمن الداخل

تعرضت الدولة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الداخل لعدد كبير من الثورات، تزيد على خمس وعشرين ثورة تغلّب عليها جميعها، ومن هذه الثورات:

ثورة القاسم بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري ورزق بن النعمان الغساني

سنة 143 هـ 760 م

يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة 143 هـ 760 م

ثورة هشام بن عروة الفهري سنة 144 هـ 761 م

ثورات تتابعت عليه من سنة 144 هـ حتى 146هـ

ثورة العلاء بن مغيث اليحصبي سنة 146 هـ 763 م

ثورة سعيد اليحصبي اليماني سنة 149 هـ 766 م

ثورة أبي الصباح حيّ بن يحيى اليحصبي سنة 149 هـ 766 م

ثورة البربر في الأندلس بزعامة شقيا بن عبد الواحد المكناسي

سنة 151 هـ 768 م

ثورة اليمانية في إشبيلية بزعامة عبد الغافر اليحصبي وحيوة بن ملامس الحضرمي

سنة 156 هـ 773 م

ثورة سليمان بن يقظان في برشلونة سنة 157 هـ 774 م

ثورة عبد الرحمن بن حبيب الفهري سنة 161 هـ 777 م

ثورة الحسين بن يحيى الأنصاري سنة 166 هـ 782 م

ثورة محمد بن يوسف الفهري سنة 168 هـ 784 م

ثورة بربر نفزة سنة 170 هـ 786 م

وثورات أخرى كثيرة قامت ضده، لكنه ما لبث أن أخمدها كلها وقضى عليها...



صقر قريش وثورة العباسيين

كانت هناك واحدة فقط من هذه الثورات الخمس والعشرين هي التي سنقف عندها؛ وذلك لأهميتها الشديدة في فهم هذا الانفصال الذي حدث للأندلس عن الخلافة العباسية، وهذه الثورة حدثت في سنة 146 هـ= 763 م، أي بعد حوالي ثمان سنوات من تولي عبد الرحمن الداخل حكم الأندلس، وقام بها رجل يُدعى العلاء بن مغيث الحضرمي.

كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (وهو الخليفة العباسي الثاني أو المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية بعد أبي العباس السفاح) قد راسل العلاء بن مغيث الحضرمي كي يقتل عبد الرحمن بن معاوية، ومن ثم يضم الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية.

وبالنسبة لأبي جعفر المنصور فهذا يعدّ أمرًا طبيعيًا بالنسبة له؛ إذ يريد ضم بلاد الأندلس - وهي البلد الوحيد المنشق من بلاد المسلمين - إلى حظيرة الخلافة العباسية الكبيرة، فجاء العلاء بن مغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي وعبر بلاد الأندلس، ثم قام بثورة ينادي فيها بدعوة العباسيين، ويرفع الراية السوداء التي أرسلها له الخليفة أبو جعفر المنصور.

لم يتوان عبد الرحمن الداخل، فقامت لذلك حرب كبيرة جدًا بين العلاء بن مغيث الحضرمي وعبد الرحمن بن معاوية، وكعادته في قمع الثورات انتصر عليه عبد الرحمن بن معاوية، ووصلت الأنباء إلى أبي جعفر المنصور، وكان في الحج بأن عبد الرحمن الداخل قد هزم جيش العلاء الحضرمي هزيمة منكرة، وأن العلاء بن مغيث الحضرمي قد قُتل.

وهنا قال أبو جعفر المنصور: قَتْلَنَا هذا البائس - يعني العلاء بن مغيث الحضرمي - يريد أنه قتله بتكليفه إياه بحرب عبد الرحمن بن معاوية، ثم قال: ما لنا في هذا الفتى من مطمع (يعني عبد الرحمن بن معاوية)، الحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر.

ومنذ هذه اللحظة والدولة العباسية لم تفكر لحظةً واحدة في استعادة بلاد الأندلس، بل إن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمّى عبد الرحمن بن معاوية بصقر قريش وهو اللقب الذي اشتهر به بعد ذلك، فقد كان أبو جعفر المنصور جالسًا مع أصحابه فسألهم: أتدرون من هو صقر قريش؟

فقالوا له كعادة البطانة السوء: بالتأكيد هو أنت...

فقال لهم: لا.

فعدّدوا له أسماء حتى ذكروا له معاوية وعبد الملك بن مروان من بني أمية

فقال أيضا: لا. ثم أجابهم قائلا: بل هو عبد الرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفردًا بنفسه، مؤيّدًا برأيه، مستصحبًا لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلدًا أعجميًا فمصّر الأمصار وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه. وهكذا كان أبو جعفر المنصور العباسي معجبًا جدًا بعبد الرحمن بن معاوية، وهو ما يمكن أن نسميه إعجاب اضطرار، أو هو إعجاب فرض نفسه عليه.

عبد الرحمن بن معاوية والخلافة العباسية

قضية الانفصال الطويل الذي دام بين دولة الأندلس وبين الخلافة العباسية على مرّ العصور تثير في نفوسنا وفي نفوس جميع المسلمين تساؤلات عدّة، لماذا يحاول عبد الرحمن بن معاوية الرجل الورع التقي الذي أقام دولة قوية جدًا في بلاد الأندلس، لماذا ينفصل بالكلية عن الخلافة العباسية؟!

ووقفة عادلة مع هذا الحدث وتحليله واستجلاء غوامضه نستطيع القول بأن الدولة العباسية قد أخطأت خطأ فاحشًا بحق الأمويين، وذلك بقتلهم وتتبعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية، فإذا كان الأمويين في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقّوا الاستبدال فليكن تغييرهم، وليكن هذا الاستبدال، ولكن على نهج رسول الله صلى الله عليه و سلم.

كان من المفترض على الدولة العباسية القائمة على أنقاض الأمويين أن تحتوي هذه الطاقات الأموية، وتعمل على توظيفها لخدمة الإسلام والمسلمين، بدلًا من إجبارهم على خلق جيب من الجيوب في صقع بعيد من أصقاع البلاد الإسلامية في الأندلس أو في غيرها من بلاد المسلمين.

كان من المفترض ألا تُفْرِط الدولة العباسية في قتل المسلمين من بني أمية وهي تعلم حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِءٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ. كما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ما المانع من أن تقيم الحدّ على من يستحق أن يُقتل من بني أمية ثم تترك وتستوعب الآخرين؟!

وما المانع من أن تعطي الدولة العباسية بني أمية بعضًا من الملك، مثل إمارة مدينة أو إمارة ولاية، وهؤلاء كانوا خلفاء وأبناء خلفاء؛ حتى تستوعبوهم في داخل الصف؟!

فهذا عبد الرحمن الداخل الذي نتحدث عنه يصيح في اليمنيين بعد موقعة المسارة ويقول لهم حين أرادوا أن يتتبعوا الفارين من جيش يوسف بن عبد الرحمن الفهري: اتركوهم لا تتبعوهم، ليضمهم إلى جيشه بعد ذلك، فهكذا كان يجب على العباسيين أن يفعلوا، ويتركوا الأمويين يدخلون تحت عباءتهم حتى يستطيعوا أن يكونوا لهم جندًا وعونًا لا نِدّا ومنافسًا، كما رأينا النتيجة بأعيننا.

وهذا أيضا المثل الأعلى والقدوة الحسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ماذا فعل بعد أن دخل مكة وكان أهلها قد آذوه هو وأصحابه وطردوهم منها، وماذا قال عن أبي سفيان وهو من هو قبل ذلك؟ ما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن دخل متواضعًا وقال: من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن. أليس أبو سفيان هذا كان زعيم الكفر وزعيم المشركين في أحد والأحزاب؟! فلماذا إذن يقول عنه صلى الله عليه وسلم مثل هذا؟! إنما كان يريد صلى الله عليه وسلم أن يخطب وده ويضمه إلى صفه، وبالمثل فعل صلى الله عليه وسلم مع رءوس الكفر في مكه حين قال لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟" فقالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. فرد عليهم صلى الله عليه وسلم بمقولته التي وعاها التاريخ: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

وليس هذا فقط من كرم الأخلاق فحسب، لكنه أيضًا من فنّ معاملة الأعداء، وحسن السياسة والإدارة، فلنتخيل ماذا سيكون الموقف لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الحد وقطع رؤءس هؤلاء الذين حاربوا دين الله سنوات وسنوات؟! بلا شك كان سيُحدث جيبًا من الجيوب داخل مكه، وكان أهل مكه سينتهزون الفرصة تلو الفرصة للانقلاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وللانفصال من الخلافة الإسلامية.

لكن العجب العجاب كان في نتيجة ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد ارتدّت جزيرة العرب جميعها، ولم يبق على الإسلام منها إلا المدينة المنورة ومكة المكرمة والطائف، وقرية صغيرة تسمى هجر، فقط ثلاث مدن وقرية واحدة، أي أن مكة التي لم تدخل في الإسلام إلا منذ أقل من ثلاث سنوات فقط قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في تعداد هذه المدن القليلة جدًا التي ثبتت على الإسلام ولم ترتدّ، وبلا شك فهو أثر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم ينسوه، فكان أن استُوعبوا في داخل الدولة الإسلامية، وثبتوا وقت الزيغ.

هكذا لو فعل العباسيون واستوعبوا الأمويين في داخل الدولة العباسية. ولأنهم لم يفعلوا فكان أن اضطر من نجا من الأمويين اضطرارًا إلى الذهاب إلى هذه البلاد والانشقاق بها عن دولة المسلمين.

وواقع الأمر يقول أنه لو كان عبد الرحمن بن معاوية يضمن أن العلاء بن مغيث الحضرمي سوف يعفى عنه ويعطيه إمارة الأندلس، أو أي إمارة أخرى من إمارات الدولة العباسية إذا سلّم الأمر إليه لفعل، لكنه كان يعلم أنه لو قبض عليه لقتله في الحال هو ومن معه من الأمويين إن كانوا مرشحين للخلافة، وهذا بالطبع ما دفعه لأن يحاول مرة ومرتين وثالثة لأن يبقى على عهده من الجهاد ضد الدولة العباسية، وهو أمر مؤلم جدًا وحلقة مفرغة دخل فيها المسلمون نتيجة العنف الشديد من قبل الدولة العباسية في بدء عهدها، ولا شك أن الدولة العباسية قد غيّرت كثيرًا من نهجها الذي اتبعته أولًا، وتولّى بعد ذلك رجال كثيرون حافظوا على النهج الإسلامي، بل إن أبا جعفر المنصور نفسه في آخر عهده كان قد غيّر ما بدأه بالمرة، لكن كانت هناك قسوة شديدة بهدف أن يستتبَّ لهم الأمر في البلاد، فمن يحاول أن يتذاكى على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فستكون العاقبة دائما هي الخسران، وهكذا كان فقْدُ المسلمين لأرواحٍ طاهرةٍ ودماءٍ كثيرةٍ غزيرة وطاقاتٍ متعددةٍ، بل فقدوا الأندلس فلم تعد مددًا للمسلمين طيلة عهدها، فالعنف في غير محله لا يورث إلا عنفًا، وطريق الدماء لا يورث إلا الدماء، والسبل كثيرة، ولكن ليس إلا من سبيل واحد فقط، إنه الطريق المستقيم طريق الله عز وجل [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {الأنعام:153}.

عبد الرحمن الداخل وقضاؤه على الثائرين

ذكرنا فيما سبق أنه في خلال الأربع والثلاثين سنة الممتدة من بداية حكم عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل وحتى نهايته كان هناك أكثر من خمس وعشرين ثورة في كل أنحاء الأندلس، وذكرنا أيضًا كيف روّض بعضها وقمع غيرها بنجاح الواحدة تلو الأخرى، والتي كان من أهمّها ثورة العباسيين التي قام بها العلاء بن مغيث الحضرمي، وكيف تَمّ القضاء عليها.

وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يجوز لعَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل أن يقاتل الثائرين وإن كانوا من المسلمين؟!

وحقيقة الأمر أن موقفه هذا في قتال الثائرين داخل أرض الأندلس لا غبار عليه؛ لأن الجميع كانوا قد اتفقوا عليه أميرًا للبلاد، وقد جاء في صحيح مسلم عن عرفجة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ - أي مجتمع - عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَرَادَ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ.

ومن هنا فقد كان موقف عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل صارمًا مع الثوار؛ وذلك لقمع الانقلابات المتكررة والتي تُضعف من جانب الأمن والاستقرار في البلاد.

إلا إنه من الإنصاف أن نذكر أنه - رحمه الله - كان دائمًا ما يبدأ بالاستمالة والسلم وعرض المصالحة، ويكره الحرب إلا إذا كان مضطرًا.

وبلا شك فإن ثمن هذه الثورات كان غاليًا جدًا، ففي السنوات الأربع من بداية دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس، من سنة 138هـ= 755 م وحتى سنة 142هـ= 759 م سقطت كل مدن المسلمين التي كانت في فرنسا، وذلك بعد أن حكمها الإسلام طيلة سبع وأربعين سنة متصلة، منذ أيام موسى بن نصير - رحمه الله - وحتى زمن سقوطها هذا، وهكذا سنن الله الثوابت، ما إن شُغل المسلمون بأنفسهم إلا وكان التقلّص والهزيمة أمرًا حتميًا...

هدهد سليمان
15-05-2010, 07:37 PM
عبد الرحمن الداخل وبناء دولته الجديدة

حين استتبّ الأمر لعَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل في أرض الأندلس، وبعد أن انتهى نسبيًا من أمر الثورات بدأ يفكر فيما بعد ذلك، فكان أن اهتم بالأمور الداخلية للبلاد اهتمامًا كبيرًا، فعمل على ما يلي:

أولًا: بدأ بإنشاء جيش قوي

وفي بنائه لجيشه الجديد عمل على ما يلي:

1) اعتمد في تكوين جيشه على العناصر التالية:

أ - اعتمد في الأساس على عنصر المولّدين، وهم الذين نشأوا - كما ذكرنا - نتيجة انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين من أهل الأندلس، وكانوا يمثّلون غالبية بلاد الأندلس.

ب - اعتمد كذلك على كل الفصائل والقبائل الموجودة في بلاد الأندلس، فضمّ إليه كل الفصائل المضرية سواء أكانت من بني أمية أو من غير بني أمية، وضمّ إليه كل فصائل البربر، كما كان يضمّ إليه رءوس القوم ويتألّفهم فيكونون عوامل مؤثّرة في أقوامهم، بل إنه ضم إليه اليمنيين مع علمه بأن أبا الصباح اليحصبي كان قد أضمر له مكيدة، الأمر الذي جعله يصبر عليه حتى تمكن من الأمور تمامًا ثم عزله - كما ذكرنا - بعد إحدى عشرة سنة من تولّيه الحكم في البلاد.

ج - كذلك اعتمد على عنصر الصقالبة، وهم أطفال نصارى كان قد اشتراهم عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل من أوروبا، ثم قام بتربيتهم وتنشئتهم تنشئة إسلامية عسكرية صحيحة.

وبرغم قدوم عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل إلى الأندلس وحيدًا، فقد وصل تعداد الجيش الإسلامي في عهده إلى مائة ألف فارس غير الرجّالة، مشكّل من كل هذه العناصر السابقة، والتي ظلّت عماد الجيش الإسلامي في الأندلس لدى أتباع وخلفاء وأمراء بني أمية من بعده.

2) أنشأ - رحمه الله - دُورًا للأسلحة، فأنشأ مصانع السيوف ومصانع المنجنيق، وكان من أشهر هذه المصانع مصانع طليطلة ومصانع برديل.

3) نشأ أيضًا أسطولًا بحريًا قويًا، بالإضافة إلى إنشاء أكثر من ميناء كان منها ميناء طرطوشة وألمرية وإشبيليّة وبرشلونة وغيرها من الموانئ.

4) كان - رحمه الله - يقسّم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم ينفقه بكامله على الجيش، والقسم الثاني لأمور الدولة العامة من مؤنٍ ومعمارٍ ومرتباتٍ ومشاريعَ وغير ذلك، والقسم الثالث كان يدّخره لنوائب الزمان غير المتوقعة.

ثانيا: أَوْلَى العلمَ والجانبَ الدينيَ اهتمامًا بالغًا:

أعطى عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل العلم والجانب الديني المكانة اللائقة بهما، فعمل على الآتي:

- نشْر العلم وتوقير العلماء.

- اهتمّ بالقضاء وبالحسبة.

- اهتمّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

- كان من أعظم أعماله في الناحية الدينية بناء مسجد قرطبة الكبير، والذي أنفق على بنائه ثمانين ألفًا من الدنانير الذهبية، وقد تنافس الخلفاء من بعده على زيادة حجمه حتى تعاقب على اكتماله في شكله الأخير ثمانية من خلفاء بني أميّة.

ثالثا: العناية الكبيرة بالجانب الحضاري (المادي):

ويبرز ذلك في الجوانب التالية:

- اهتمامه الكبير بالإنشاء والتعمير، وتشييد الحصون والقلاع والقناطر، وربطه أول الأندلس بآخرها.

- إنشائه أول دار لسك النقود الإسلامية في الأندلس.

- إنشائه الرصافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وقد أنشأها على غرار الرصافة التي كانت بالشام، والتي أسسها جده هشام بن عبد الملك - رحمه الله - وقد أتى لها بالنباتات العجيبة من كل بلاد العالم، والتي إن كانت تنجح زراعتها فإنها ما تلبث أن تنتشر في كل بلاد الأندلس.

رابعا: حماية حدود دولته من أطماع الأعداء:

بالإضافة إلى إعداده جيشًا قويًا- كما وضحنا سابقا- وتأمينًا لحدود دولته الجديدة قام عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل بخوض مرحلتين مهمتين:

المرحلة الأولى: كان عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل يعلم أن الخطر الحقيقي إنما يكمن في دولتي "ليون" في الشمال الغربي، و"فرنسا" في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فقام بتنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشا ثابتة على هذه الثغور المقابلة لهذه البلاد النصرانية، وأنشأ مجموعة من الثغور كما يلي:

- الثغر الأعلى، وهو ثغر "سَرَقُسْطَةَ" في الشمال الشرقي في مواجهة لفرنسا.

- الثغر الأوسط، ويبدأ من مدينة سالم ويمتد حتى طُليْطُلَةَ.

- الثغر الأدنى، وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة "ليون" النصرانية.

المرحلة الثانية: كان - رحمه الله - قد تعلم من آبائه وأجداده عادة عظيمة، وهي عادة الجهاد المستمر وبصورة منتظمه كل عام، فقد اشتهرت الصوائف في عهده، حيث كان المسلمون يخرجون للجهاد في الصيف، وبصورة منتظمة وذلك حين يذوب الجليد، وكان يتناوب عليهم فيها كبار قوّاد الجيش، وأيضا كان يُخرّج الجيوش الإسلامية إلى الشمال كل عام بهدف الإرباك الدائم للعدو، وهو ما يسمونه الآن في العلوم العسكريه بالهجوم الإجهاضي المسبق.

عبد الرحمن الداخل .. الأمير الفذ

لولا عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، هكذا قال المؤرّخون عن عبد الرحمن بن معاوية، وإنا لتعلونا الدهشة ويتملّكنا العجب حين نعلم أن عمره حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين عامًا، أي في سنّ خريج الجامعة في العصر الحديث.

ملَك من السماء، أم ماذا هو؟! لن نذهب بعيدًا، وسنترك الحديث عنه إلى ابن حيّان الأندلسي، ولنعي ما يقوله عنه، يقول ابن حيان مستعرضًا بعضًا من صفات عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل:

كان عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًا، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة من وليّه وعدوّه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس الجمع والأعياد إذا كان حاضرًا، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى. انتهى كلامه - رحمه الله -.

شخصية تُشخِص الأبصار وتبهر العقول، فمع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه - رحمه الله -، ومع شدته وحزمه وجهاده وقوته كان - رحمه الله - شاعرًا محسنًا رقيقًا مرهف المشاعر.

ومع هيبته عند أعدائه وأوليائه إلا أنه كان يتبسط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويصلي بهم ومعهم، ومع كونه شديد الحذر قليل الطمأنينه، فلم يمنعه ذلك من معاملة الناس والاختلاط بهم ودون حرّاس، حتى خاطبه المقربون في ذلك وأشاروا عليه ألا يخرج في أوساط الناس حتى لا يتبسطوا معه، ولكن كيف يمتنع عن شعبه وهو المحبوب بينهم والمقرّب إلى قلوبهم؟! ولقد صدق من قال: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.

فكان له حقًا أن يأتي إلى هذه البلاد وحيدًا مطاردًا مطلوب الرأس، تجري وراءه قوى الأرض جميعا، فعباسيون في المشرق، وخوارج في المغرب، ومن بعدهم نصارى في الشمال، وثورات في الداخل، ثم يقوم وسط هذه الأجواء بتأسيس هذا البنيان القوي، وهذه الدولة الإسلامية ذات المجد التليد.

ونستطيع أن نفهم شخصيته بصورة أوضح حين نعلم كيف كان في معاملته للناس، فقد جاء أن أحد الناس طلب منه حاجة أمام أعين الحاضرين، فقضاها له ثم قال له: إذا ألمّ بك خطب أو حَزَبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك؛ كي نستر عليك، وذلك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا - عز وجهه - بإخلاص الدعاء وصدق النيّة.

إنها لتربية ربّانية لشعبه، فهو يريد - رحمه الله - أن يربط الناس بخالقهم، يريد أن يعلمهم أن يرفعوا حاجتهم إليه أولًا سبحانه وتعالى، يريد أن يعلّمهم أنه سبحانه وتعالى يملكه ويملكهم جميعًا، ثم مراعاةً لعواصف النفس الداخلية، وحفظًا لماء وجه الرعية عند السؤال قال له: فارفع إلينا حاجتك في رقعة كي نستر عليك ولا يشمت أحد فيك.

وها هو - رحمه الله - يدخل عليه أحد الجنود ذات يوم كان قد انتصر فيه على النصارى، فتحدّث معه الجندي بأسلوب فيه رفع صوت وإساءة أدب، فما كان منه - رحمه الله - إلا أن أخذ يعلمه خطأه ويقول له: يا هذا، إني أعلمك من جهل، إنه يشفع لك في هذا الموقف هذا النصر الذي نحن فيه؛ فعليك بالسكينة والوقار؛ فإني أخاف أن تسيء الأدب في يوم ليس فيه نصر فأغضب عليك. فإذا بالجندي وقد وعى أمره يرد عليه ردا لبيبًا ويقول له: أيها الأمير، عسى الله أن يجعل عند كل زلةٍ لي نصرًا لك فتغفر لي زلاتي. وهنا علم عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل أن هذا ليس اعتذار جاهل؛ فأزاح الضغينة من قلبه وقرّبه إليه ورفع من شأنه.
عبد الرحمن الداخل .. الإنسان

مع المدة الكبيرة التي حكمها القائد عَبْدالرَّحْمَن الدَّاخِل، ومع امتداد عمره، وموقعه القيادي في أي مكان ينزل فيه، مع هذا كله؛لم يؤثر عنه أي خلق ذميم أو فاحش، بل مدحه العلماء بالعلم والفضل وحسن الخلق، مما يدل على إنسانيته السامية، ومعدنه النفيس، وأخلاق الإنسان الحقيقية لا تظهر بوضوح إلا في مواقف الشدة، وحياة "عبد الرحمن" كلها شدة وحروب وثورات، مما يظهر أخلاقه بوضوح أمام أي باحث في التاريخ، ويحدد ما إذا كانت حسنة أو سيئة...

وكان عبد الرحمن الدَّاخِل خطيبًا مفوها يرتقي المنابر ويعظ الناس، فهو كما نعرف نشأ في بيت الإمارة، وهكذا الأمراء في ذلك العصر، كما كان شاعرًا مرهف الحس، قال سعيد بن عثمان اللغوي الذي توفي سنة أربعمائة: كان بقرطبة جنة اتخذها عبد الرحمن بن معاوية، وكان فيها نخلة أدركتُها، ومنها تولدت كل نخلة بالأندلس.
قال: وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن معاوية:
يا نخل أنت غريبة مـثـلـي في الغرب نائية عن الأصل
فابكي، وهل تبكي مـكـيسة عجماء، لم تطبع على خيل؟
لو أنها تبكي، إذاً لـبـكـت ماء الفرات ومنبت النـخـل
لكنها ذهلـت وأذهـلـنـي بغضي بني العباس عن أهلي
ومن شعره أيضاً:
أيها الراكب الميمـم أرضـي أقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بـأرض وفؤآدي ومالـكـيه بـأرض
قدر البين بيننا فافـتـرقـنـا فعسى باجتماعنا الله يقضـي

عبد الرحمن الداخل وفكره العسكري

تمتع عبد الرحمن بن معاوية بفكر عسكري في غاية الدقة والعجب، فحياته كلها تقريبًا، حروب ومناوشات منذ سقوط خلافة بني أمية وحتى وفاته، مرورًا بفراره عبر البلاد والصحاري والقفار والبحار، ومعاركه، وانتهاءً بالثورات الكثيرة التي تغلّب عليها بلا اسنثناء ليوطد ملكه في بلاد الأندلس دون منازع....

ولولا ذكاؤه العسكري الخارق ما تغلّب على كل هذه الثورات، التي يحار العقل فعلًا من كثرتها، وكيف قضى عليها جميعًا، ونعرض هنا لبعض ملامح فكره العسكري من خلال مواقفه في معاركه وبطولاته التي طُبعت بطول حياته وعرضها، من هذه الملامح:
مبدأ المباغته والحرص على المبادأة:

فهو يخطط بدقة من أجل الوصول إلى أهدافه، ثم هو لا يترك لخصومه الفرصة، بل يسرع ليباغتهم وهم في بداية أعمالهم القتالية المضادة له، والتاريخ يؤكد أن أفضل وسيلة للقضاء على أعمال التمرد، هو تطويقها منذ بداياتها الأولى، وعدم السماح لها بالتطور، والعمل على خنقها وهي لا تزال في مهدها، ويظهر هذا المبدأ واضحًا في معركة المصارة، فقد بات ليلته يستعد للحرب بينما كان خصمه يحاول خداعه، بحجة تأجيل القتال، وكانت المباغتة كاملة، بحيث لم تتمكن القوات المضادة من الصمود، على الرغم مما أظهرته في البداية من ضروب الشجاعة، والأمر مماثل بالنسبة لبقية حروب الأمير عبد الرحمن ومعاركه، حيث كان للمباغته دور كبير وحاسم في تقرير نتائج القتال من قبل أن تبدا المعركة.

ولم يكن حرص صقر قريش على الاحتفاظ بالمبادأة أقل من حرصه على المباغتة، فهو يحاول باستمرار وضع خصومه أمام مواقف تحرمهم من حرية العمل، ويفرض عليهم زمن المعركة وزمانها، وكان في معاركه كلها يجابه قادة على درجة عالية من الكفاءة فكان لا بد من البحث عن الوسيلة التي تحرمهم من استخدام قدراتهم وإمكاناتهم.
ومن ملامح فكره العسكري أيضًا
الاقتصاد بالقوى والمحافظة على الهدف:

وتظهر أهمية هذين المبدأين عند مطالعة سيرته، فقد كانت حياته سلسلة متصلة الحلقات من الوقائع والمعار، وكان لا بد من الموازنة المستمرة بين الأهداف المتتالية للحرب، وبين القوى والوسائط اللازمة للتعامل معها، مع إعطاء الأفضلية للأهداف الأكثر أهمية وخطورة عندما يظهرأن هناك أكثر من هدف يجب التعامل معه في وقت واحد، وهذا ما كان يحدث في معظم الأحيان، وأمام هذه المواقف بمجموعها كان لا بد من إجراء حساب دقيق لموازين القوى، بحيث يمكن استخدامها على أفضل صورة وفي أحسن وجه، وهذا ما أكدته مجموعة الأعمال القتالية لصقر قريش.

حياة صقر قريش في سطور

لقد كانت حياة القائد العظيم "عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل" وقفًا على الجهاد، وعلى إقامة الدولة الإسلامية، وتثبيت بنيانها وإرساء دعائمها ورد الطامعين فيها، فكانت الأيام التي عاشها صقر قريش في طمأنينة وراحة لا تزيد على أيام قليلة، وكانت حياته حركة مستمرة في تنظيم الجيوش، وعقد الرايات، وتوجيه القوات، وتحصين الثغور، والقضاء على الفتن والثورات، ووضع أسس البنيان الحضاري...

وفاته

عاش "عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل" تسعة وخمسين سنة، منها تسعة عشر سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وست سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، و34 عامًا في الملك ببلاد الأندلس، وتوفي بقرطبة ودفن بها في جمادى الأولى سنة 172 هـ ،أكتوبر 788م.