Breakaway
07-03-2006, 05:35 PM
كان فتى من أبناء التجار، بارع الفتوة واسع الغنى، قد جمعت له اللذائذ، وسيقت إليه المنى، دكانه البحر تنصب فيه جداول الذهب، وداره الجنه تجري من تحتها الأنهار، وفيها الحور العين، خمسون من الجواري الفاتنات اللائي حملن إلى بغداد من أقطار الأرض وحشرن فيها، كما تحمل إلى مخدع العروس كل وردة فاتنة في الروض، وزهرة جميلة في الجبل.
ولكنه لم يشعر بنعيم الحياة، ومعتة العيش، حتى اشترى هذه الجارية بمخمسمئة دينار وكان قد رآها في سوق الرقيق فرأى جمالا أحلا من أحلام الحب، وأجمل من بلوغ الأماني، وأطهر من زنبقة الجبل، فهام بها هياماً، وزاد فيها حتى بلغ هذا الثمن، وانصرف بها إلى داره، وهو يحسب أنه قد حيزت له الدنيا، وأمتع بالخلود، واشتغل بها وانقطع إليها، ولم يعد يخرج إلى الدكان إلا ساعة كل يوم ثم لا يستطيع أن يصبر عنها؛ ويزلزله الشوق إليها، وتدركه هواجس الحب فيغار عليها، لا من الناس فما يصل الناس إليها، بل من الشمس أن تلمحها عين الشمس، ومن النسيم أن تلمسها يد النسيم، ويشعر بهذه الغيرة المحرقة في قلبه، فيهرع إليها ليطفئها بلماها.
لقد صار هذا الحب مصدر لذته، وسر حياته، وما كان يدري من قبله ما اللذة وما الحياة، وما كان يحس أنه يعيش حقاً، وأن له قلباً، وما كان يدرك من قبله بهاء النهار، ولا فتنة الليل، ولا سحر القمر، كان ذلك عنده كالألفاظ بلا معنى، يفهم منه ما يفهمه الأعجمي إذا تلوت عليه غزل العرب؛ فلما عرف الحب أدرك أن وراء هذه الألفاظ معاني تهز الفؤاد، وتستهوي القلب. وكان يمشي في طريق الحياة كما يمشي الرجل في المتحف المظلم، فطلع عليه هذا الحب نوراً مشرقاً أراه هذه التحف الفاتنات وهذه الروائع.
وتتالت الأيام، وزاد إقبالا عليها وزاد إعراضاً عن الدكان. وكان يبصر دنياه تدبر عنه، وتجارته تذوب في ضرم هذا الغرام كما يذوب الثلج، وتتبدد كما يتبدد الندى في وهج الشمس، ولكنه لا يكره هذا الحب ولا ينفر منه، ولا يزداد إلا تعلقاً وتمسكاً بأهدابه... وكان كل ما في الحياة من متع، لا يعدل عنده لحظة واحدة من لحظات الوصال، وذهب الأرض كله لا يساوي هناء من هناءات الحب، فكان يترك البائعين والمشترين، ويسعى إليها ليشتري منها اللذاذات والقبل.
وكانت كلما نصحته وأرادته على العود إلى تجارته، قال لها: مالي وللمال؟ أنت مالي وتجارتي ومكسبي، فلا تستطيع أن تفتح فهمها بجواب لأن شفتيه تقيدان فما فلا ينفتح!
وأصبح الرجل ذات يوم فإذا التجارة قد بارت، وباد المال، وذهب الأثاث، وبيعت الجواري،ولم يبق في يده شيء يباع؛ فأقبل ينقض الدار ويبيع أنقاضها، ولم يأس على ذاهب، ولم يحس بمفقد مفقود، فقد كان يلقى الحبيبة، ويجد في حبها غذاءه إذا جاع، وريّه إذا عطش، ودفئه إذا برد، وفغي وجنتيها ما يغنيه عن الأوراد، وفي ثناياها بديلاً عن اللآلئ، وفي ريقها العسل المصفى، وخمره المعتق، ومن ريحها العطر الفواح، وفي صدرها دنياه، ويرى الدار الخالية معها قصراً عامراً، والصحراء روضة مزهرة، والليل المظلم معها نهاراً مضيئاً...
وأثمر الحبق وجاء الحصاد، ولكنه قد خالف موعده، فلم يجيء في الربيع الطلق، ولا في الصحو الجميل، بل قدم في الشتاء الكالح، والأيام القاتمة الدكناء، أيام الفقر والعوز، وأخذها المخاض فجعلت تتلوى من الألم على أرض الحجرة، وما تحتها إلا حصير تقطعت منه الخيوط، وفراش بلي وجهه، وتناثر قطنه حتى اختلط بالتراب... وطال عليها الوجع وهو واقف أمامها يحس أم ألمها في ضلوعه، وأن كل صرخة منها سكين محمّى يحزّ في قلبه، ولكنه لا يملك لها شيئاً، وقالت له بعد أن عجزت عن الاحتمال: إني أموت... فاذهب فاحتل بئيء تشتري به عسلاً ودقيقاً وشيرجاً (دهن السمسم)، اذهب وعجل، فإنك إذا أبطأت لم تجدني.
* * * * * * * *
وخرج... وصار كالمجنون، أين يذهب والليل قد مالت نجومه؟ والناس نيام في دورهم، ولا يجد من يلجأ إليه، فقد فصله الحب عن الدنيا وصيّره غريباً فيها، ليست منه ولا هو منها، وكذلك يصنع الحب!
وجعل يهيم على وجهه حتى بلغ الجسر، جسر بغداد، وكان الليل خاشعاً ساكناً، والناس قد أمّوا بيوتهم، وأنسوا بأهليهم، وهو الوحيد الشارد، لا أهل له إلا التي خلفها تعاني سكرات الموت، وعجز عن إسعادها؛ ولا دار له إلا هذه الخرب التي فرّ منها.
لقد كانت هذه المرأة حظه من دنياه، وها هي ذي تموت فلا يبقى له دنياه حظ، وكانت هي نورها فلن يبقى له بعدها من نور.
وتصور الوحشة المخيفة، والوحدة المرعبة، التي سيقدم عليها إن ولت عنه هذه المرأة التي كان يعيش بها ولها، زنظر إلى ماء دجلة يجري أسود ملتفاً ببرد الليل، فأحب أن تواريه أحشاؤه، وتراءى له الموت حلواً فيه متعة اللقاء، وأنسة الاجتماع...
وعاد فذكر آلام الحبيبة وانتظارها، وعجزه عن معونتها وإسعادها، فتوجه إلى الله ودعاه من قلبه صادقاً مخلصاً وقال: ((يا رب، إني أستودعك هذه المرأة وما في بطنها..))، وهمّ بإلقاء نفسه بالماء، وفكر في الموت فوارت صورته أحلام الحب ورؤاه، ولم يعد يرى إلا هذه الهوة التي سيتردى فيها، وتسلق درابزين الجسر فأدركته حلاوة الروح فراح يتصور برودة الماي، ويفكر في الموت هل يأتيه سهلاً هيناً، أم هو سيذيقه العذاب ألواناً، وحاول أن يتذكر ما سمع عن الغرقى، وهل يختنقون عاجلاً أم يبطئ عليهم الموت، وذكّره هذا العذاب بعذاب الله يوم القيامة، أليس الله قد حرّم الانتحار؟ أليست هذه النفس ملكاً لله وحده أودعها جسده أمانة ليستردها متى شاء، ليست له هو ولا يملكها، وليس هو الذي خلقها وأبدعها، وذكر أنه توجه إلى الله واستودعه حبيبته فكيف يلقى الله آثماً ويسأله عونها وحفظها. وتنبه إيمانه فتردد، ووقف... ثم عاوده التفكير في حياته بعد اليوم، وكيف تكون إن ذهبت منها متعة الحب، فرجع إليه يأسه وقنوطه وعزم عزماً مبرماً على الموت وأغمض عينيه، وخفق قلبه من هول ما يقدم عليه، وكاد يقفز ولكن... ولكن قوة لم يطق لها دفعاً، ولم يملك معها حراكاً أمسكت به... تلك هي الصيحة التي أحس بها من بعيد، ثم رآها امتدت حتى بلغت الأفق الذي أطل منه الفجر، والأفق الذي انغمس فيه الليل، ثم غمرت النهر والشاطئين والمدينة... فأحس بها تشرق على نفسه كهذا الفجر فتبدد ليلها، ذلك هو صوت المؤذن: ينادي في صفاء الليل وإصغاء الدنيا، أجلّ وأجمل فداء اهتز به هذا الفضاء ومشى فيه: ((الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)).
وسمع: ((حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح)) فرأى فيها مجد الآخرة بالعبادة، ومجد الدنيا بالنجاح، وصبّت القوة والعزم في أعصابه فعدل عن الموت، ورجع إلى الدار فرأى فيها نساء من نساء الجيران سمعن صوتها، فجئن إليها، فسألهن عنها، وكانت مغمى عليها فحسبوها ماتت وأخبروه بموتها فلطم وجهه وشق ثوبه، وانطلق ماشياً على غير هدى تقذفه قرية فتتلقاه قرية، يضيفه الناس، وقد كان في الناس سلائق العرب وآداب الإسلام، يضيفون الغريب لا يسألونه من هو ولا يبتغون منه أجراً ولا شكراً، وجعل يطوي الأرض، والأرض تطوي صحائف عمره، حتى حطت به النوى في خراسان.
ولقي من عرفه فيها ومد إليه يده مسنداً معيناً فعاد إلى تجارته... وجعل يفكر لما استقر به المنزل في داره في بغداد، ويكتب الكتب ويسأل ويستنجد ويلح ويتوسل حتى كتب ستة وستين كتاباً (كذا في الأصل التاريخي)، ولم يرجع إليه جواب.
وأثرى وامتلأت يده بالذهب ولكن قلبه ظل خالياً من الحب. وما كان يوسع فيه الأسى مكاناً لحب جديد، فكان كلما احتواه العشية منزله، وأغلق عليه بابه جفا عالم الناس وراحت روحه تسبح في عالمه هو، عالم ذكرياته وماضيه الذي أحبه وافتقده ولم يجد منه بديلاً، فيشعر بحرارة تلك القبلن ويسمع وسوستها، ويلمس دفء ذلك العناق، ويستروح نسيم تلك الدار التي كانت جنة وارفة الظلال، فيها الروح والريحان وفيها من كل فاجهة زوجان، فصيّرها الحب قاعاً صفصفاً... ولكن تلك الخربة كانت أحب إليه من هذا القصر الذي يعيش فيه اليوم وحيداً لا يؤنسه فيه إلا الذهب.
وتصرمت السنون، وتتابعت خالية فارغة، حتى أقامت بينه وبين ليلة المخاض حاجزاً من الأيام سمكه ثمان وعشرون سنة، وهبّت على عمره رياح الخريف، فذوى غصنه، وكاد يدركه الجفاف، فأفزعه أن يموت بعيداً عن بغداد وعن داره التي ثوت فيها الحبيبة؛ فباع كل ما يملك بعشرين ألف دينار من الذهب، واشترى قماشاً وبضاعة حملها إلى بغداد، وسار في قافلة له ضخمة يؤم أرض الوطن... ولم يكن له من أمل إلا أن يقيم بهذا المال قبراً ضخماً للحبيبة ويجعل له فيه مكاناً، ولكن الدهر لم يبلغه حتى هذا الأمل، فقد خرج على القافلة اللصوص. فنهبوها، وقتلوا من فيها، ولم يتركوا منهم أحداً.
ونهض من بين الموتى، وسار على رجليه وقد تبلد ذهنه من عظم الفاجعة حتى ما يقدر على الحزن، ومشى حتى حاذى النهر، وجعل يمر على مغارس النخيل، ومشارع المياه، ومنابت الورد والفل، وهو سادر ساهم، كأنما يمشي في حلم، قد ماتت في نفسه كل رغبة إلا رغبة الموت... وماذا بقي له في الحياة بعدما فقد الحب، وفقد المال؟ ولكنه لم يشأ أن يموت إلا في داره ولم يرد أن يضم عظامه إلا الثرى الذي ضم أعظم الحبيبة كي يجاورها في الموت كما جاورها في الحياة. وتحامل على نفسه وقام يجر رجليه جراً، وكلما دنا من بغداد وأحس ريحها انتعش واشتد، وعاش بذكريات الحب الذي ذهب ولم يبق إلى عودته سبيل، وآنسه أن يرى مرة ثانية الديار التي شهدت صور هذا الحب، ولكنه أعيا أخيراً وسقط على الشاطئ ولم يعد يستطيع الحراك...
يتبع..
ولكنه لم يشعر بنعيم الحياة، ومعتة العيش، حتى اشترى هذه الجارية بمخمسمئة دينار وكان قد رآها في سوق الرقيق فرأى جمالا أحلا من أحلام الحب، وأجمل من بلوغ الأماني، وأطهر من زنبقة الجبل، فهام بها هياماً، وزاد فيها حتى بلغ هذا الثمن، وانصرف بها إلى داره، وهو يحسب أنه قد حيزت له الدنيا، وأمتع بالخلود، واشتغل بها وانقطع إليها، ولم يعد يخرج إلى الدكان إلا ساعة كل يوم ثم لا يستطيع أن يصبر عنها؛ ويزلزله الشوق إليها، وتدركه هواجس الحب فيغار عليها، لا من الناس فما يصل الناس إليها، بل من الشمس أن تلمحها عين الشمس، ومن النسيم أن تلمسها يد النسيم، ويشعر بهذه الغيرة المحرقة في قلبه، فيهرع إليها ليطفئها بلماها.
لقد صار هذا الحب مصدر لذته، وسر حياته، وما كان يدري من قبله ما اللذة وما الحياة، وما كان يحس أنه يعيش حقاً، وأن له قلباً، وما كان يدرك من قبله بهاء النهار، ولا فتنة الليل، ولا سحر القمر، كان ذلك عنده كالألفاظ بلا معنى، يفهم منه ما يفهمه الأعجمي إذا تلوت عليه غزل العرب؛ فلما عرف الحب أدرك أن وراء هذه الألفاظ معاني تهز الفؤاد، وتستهوي القلب. وكان يمشي في طريق الحياة كما يمشي الرجل في المتحف المظلم، فطلع عليه هذا الحب نوراً مشرقاً أراه هذه التحف الفاتنات وهذه الروائع.
وتتالت الأيام، وزاد إقبالا عليها وزاد إعراضاً عن الدكان. وكان يبصر دنياه تدبر عنه، وتجارته تذوب في ضرم هذا الغرام كما يذوب الثلج، وتتبدد كما يتبدد الندى في وهج الشمس، ولكنه لا يكره هذا الحب ولا ينفر منه، ولا يزداد إلا تعلقاً وتمسكاً بأهدابه... وكان كل ما في الحياة من متع، لا يعدل عنده لحظة واحدة من لحظات الوصال، وذهب الأرض كله لا يساوي هناء من هناءات الحب، فكان يترك البائعين والمشترين، ويسعى إليها ليشتري منها اللذاذات والقبل.
وكانت كلما نصحته وأرادته على العود إلى تجارته، قال لها: مالي وللمال؟ أنت مالي وتجارتي ومكسبي، فلا تستطيع أن تفتح فهمها بجواب لأن شفتيه تقيدان فما فلا ينفتح!
وأصبح الرجل ذات يوم فإذا التجارة قد بارت، وباد المال، وذهب الأثاث، وبيعت الجواري،ولم يبق في يده شيء يباع؛ فأقبل ينقض الدار ويبيع أنقاضها، ولم يأس على ذاهب، ولم يحس بمفقد مفقود، فقد كان يلقى الحبيبة، ويجد في حبها غذاءه إذا جاع، وريّه إذا عطش، ودفئه إذا برد، وفغي وجنتيها ما يغنيه عن الأوراد، وفي ثناياها بديلاً عن اللآلئ، وفي ريقها العسل المصفى، وخمره المعتق، ومن ريحها العطر الفواح، وفي صدرها دنياه، ويرى الدار الخالية معها قصراً عامراً، والصحراء روضة مزهرة، والليل المظلم معها نهاراً مضيئاً...
وأثمر الحبق وجاء الحصاد، ولكنه قد خالف موعده، فلم يجيء في الربيع الطلق، ولا في الصحو الجميل، بل قدم في الشتاء الكالح، والأيام القاتمة الدكناء، أيام الفقر والعوز، وأخذها المخاض فجعلت تتلوى من الألم على أرض الحجرة، وما تحتها إلا حصير تقطعت منه الخيوط، وفراش بلي وجهه، وتناثر قطنه حتى اختلط بالتراب... وطال عليها الوجع وهو واقف أمامها يحس أم ألمها في ضلوعه، وأن كل صرخة منها سكين محمّى يحزّ في قلبه، ولكنه لا يملك لها شيئاً، وقالت له بعد أن عجزت عن الاحتمال: إني أموت... فاذهب فاحتل بئيء تشتري به عسلاً ودقيقاً وشيرجاً (دهن السمسم)، اذهب وعجل، فإنك إذا أبطأت لم تجدني.
* * * * * * * *
وخرج... وصار كالمجنون، أين يذهب والليل قد مالت نجومه؟ والناس نيام في دورهم، ولا يجد من يلجأ إليه، فقد فصله الحب عن الدنيا وصيّره غريباً فيها، ليست منه ولا هو منها، وكذلك يصنع الحب!
وجعل يهيم على وجهه حتى بلغ الجسر، جسر بغداد، وكان الليل خاشعاً ساكناً، والناس قد أمّوا بيوتهم، وأنسوا بأهليهم، وهو الوحيد الشارد، لا أهل له إلا التي خلفها تعاني سكرات الموت، وعجز عن إسعادها؛ ولا دار له إلا هذه الخرب التي فرّ منها.
لقد كانت هذه المرأة حظه من دنياه، وها هي ذي تموت فلا يبقى له دنياه حظ، وكانت هي نورها فلن يبقى له بعدها من نور.
وتصور الوحشة المخيفة، والوحدة المرعبة، التي سيقدم عليها إن ولت عنه هذه المرأة التي كان يعيش بها ولها، زنظر إلى ماء دجلة يجري أسود ملتفاً ببرد الليل، فأحب أن تواريه أحشاؤه، وتراءى له الموت حلواً فيه متعة اللقاء، وأنسة الاجتماع...
وعاد فذكر آلام الحبيبة وانتظارها، وعجزه عن معونتها وإسعادها، فتوجه إلى الله ودعاه من قلبه صادقاً مخلصاً وقال: ((يا رب، إني أستودعك هذه المرأة وما في بطنها..))، وهمّ بإلقاء نفسه بالماء، وفكر في الموت فوارت صورته أحلام الحب ورؤاه، ولم يعد يرى إلا هذه الهوة التي سيتردى فيها، وتسلق درابزين الجسر فأدركته حلاوة الروح فراح يتصور برودة الماي، ويفكر في الموت هل يأتيه سهلاً هيناً، أم هو سيذيقه العذاب ألواناً، وحاول أن يتذكر ما سمع عن الغرقى، وهل يختنقون عاجلاً أم يبطئ عليهم الموت، وذكّره هذا العذاب بعذاب الله يوم القيامة، أليس الله قد حرّم الانتحار؟ أليست هذه النفس ملكاً لله وحده أودعها جسده أمانة ليستردها متى شاء، ليست له هو ولا يملكها، وليس هو الذي خلقها وأبدعها، وذكر أنه توجه إلى الله واستودعه حبيبته فكيف يلقى الله آثماً ويسأله عونها وحفظها. وتنبه إيمانه فتردد، ووقف... ثم عاوده التفكير في حياته بعد اليوم، وكيف تكون إن ذهبت منها متعة الحب، فرجع إليه يأسه وقنوطه وعزم عزماً مبرماً على الموت وأغمض عينيه، وخفق قلبه من هول ما يقدم عليه، وكاد يقفز ولكن... ولكن قوة لم يطق لها دفعاً، ولم يملك معها حراكاً أمسكت به... تلك هي الصيحة التي أحس بها من بعيد، ثم رآها امتدت حتى بلغت الأفق الذي أطل منه الفجر، والأفق الذي انغمس فيه الليل، ثم غمرت النهر والشاطئين والمدينة... فأحس بها تشرق على نفسه كهذا الفجر فتبدد ليلها، ذلك هو صوت المؤذن: ينادي في صفاء الليل وإصغاء الدنيا، أجلّ وأجمل فداء اهتز به هذا الفضاء ومشى فيه: ((الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)).
وسمع: ((حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح)) فرأى فيها مجد الآخرة بالعبادة، ومجد الدنيا بالنجاح، وصبّت القوة والعزم في أعصابه فعدل عن الموت، ورجع إلى الدار فرأى فيها نساء من نساء الجيران سمعن صوتها، فجئن إليها، فسألهن عنها، وكانت مغمى عليها فحسبوها ماتت وأخبروه بموتها فلطم وجهه وشق ثوبه، وانطلق ماشياً على غير هدى تقذفه قرية فتتلقاه قرية، يضيفه الناس، وقد كان في الناس سلائق العرب وآداب الإسلام، يضيفون الغريب لا يسألونه من هو ولا يبتغون منه أجراً ولا شكراً، وجعل يطوي الأرض، والأرض تطوي صحائف عمره، حتى حطت به النوى في خراسان.
ولقي من عرفه فيها ومد إليه يده مسنداً معيناً فعاد إلى تجارته... وجعل يفكر لما استقر به المنزل في داره في بغداد، ويكتب الكتب ويسأل ويستنجد ويلح ويتوسل حتى كتب ستة وستين كتاباً (كذا في الأصل التاريخي)، ولم يرجع إليه جواب.
وأثرى وامتلأت يده بالذهب ولكن قلبه ظل خالياً من الحب. وما كان يوسع فيه الأسى مكاناً لحب جديد، فكان كلما احتواه العشية منزله، وأغلق عليه بابه جفا عالم الناس وراحت روحه تسبح في عالمه هو، عالم ذكرياته وماضيه الذي أحبه وافتقده ولم يجد منه بديلاً، فيشعر بحرارة تلك القبلن ويسمع وسوستها، ويلمس دفء ذلك العناق، ويستروح نسيم تلك الدار التي كانت جنة وارفة الظلال، فيها الروح والريحان وفيها من كل فاجهة زوجان، فصيّرها الحب قاعاً صفصفاً... ولكن تلك الخربة كانت أحب إليه من هذا القصر الذي يعيش فيه اليوم وحيداً لا يؤنسه فيه إلا الذهب.
وتصرمت السنون، وتتابعت خالية فارغة، حتى أقامت بينه وبين ليلة المخاض حاجزاً من الأيام سمكه ثمان وعشرون سنة، وهبّت على عمره رياح الخريف، فذوى غصنه، وكاد يدركه الجفاف، فأفزعه أن يموت بعيداً عن بغداد وعن داره التي ثوت فيها الحبيبة؛ فباع كل ما يملك بعشرين ألف دينار من الذهب، واشترى قماشاً وبضاعة حملها إلى بغداد، وسار في قافلة له ضخمة يؤم أرض الوطن... ولم يكن له من أمل إلا أن يقيم بهذا المال قبراً ضخماً للحبيبة ويجعل له فيه مكاناً، ولكن الدهر لم يبلغه حتى هذا الأمل، فقد خرج على القافلة اللصوص. فنهبوها، وقتلوا من فيها، ولم يتركوا منهم أحداً.
ونهض من بين الموتى، وسار على رجليه وقد تبلد ذهنه من عظم الفاجعة حتى ما يقدر على الحزن، ومشى حتى حاذى النهر، وجعل يمر على مغارس النخيل، ومشارع المياه، ومنابت الورد والفل، وهو سادر ساهم، كأنما يمشي في حلم، قد ماتت في نفسه كل رغبة إلا رغبة الموت... وماذا بقي له في الحياة بعدما فقد الحب، وفقد المال؟ ولكنه لم يشأ أن يموت إلا في داره ولم يرد أن يضم عظامه إلا الثرى الذي ضم أعظم الحبيبة كي يجاورها في الموت كما جاورها في الحياة. وتحامل على نفسه وقام يجر رجليه جراً، وكلما دنا من بغداد وأحس ريحها انتعش واشتد، وعاش بذكريات الحب الذي ذهب ولم يبق إلى عودته سبيل، وآنسه أن يرى مرة ثانية الديار التي شهدت صور هذا الحب، ولكنه أعيا أخيراً وسقط على الشاطئ ولم يعد يستطيع الحراك...
يتبع..