المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل تعرف هذا الرجل , او انك تعرف فقط ام كلثوم ؟ والله اني احب هذا الرجل .



التركي
14-08-2010, 11:31 AM
بقلم : بقلم : محمود محمد شاكر | 14-08-2010 01:00

مقال للأديب الكبير العلامة محمود محمد شاكر رحمه الله ، كتبه منذ 70 عاما ( مجلة الرسالة عدد 357 س 8 ، 1940 ) في ليلة من الليالي حين كان يطالع كتاب المقريزي (( إِغاثة الأمة ، بكشف الغُمَّة )) الذي تحدث فيه عن تاريخ المجاعة في مصر فقرأ بعض الكلمات عن الغنى المطغي الذي يفتك بصاحبه ، فاستثارت قلمه ، فكان هذا المقال :
* * *
الأغنياء
بقلم : محمود محمد شاكر

كانت ليلة السبت السالفة من الأسبوع الماضي ، فوقع في دنيايّ أمرٌ مُفْزِعٌ كنتُ معه كمن عَمِى دهرًا من عمره ثم أبصر . فأخذتني الحيرة أخذًا شديدًا ، وتضرَّبتْ نفسي كما يتضرَّبُ الماءُ في مرجَله على معركةٍ من النار تشتعلُ من تحته وتتسعر ، وتقاذفَتني الهموم كما يتقاذفُ تيَّارُ البحر الأعظم موجةً هائمة من موجِهِ ، وتنزَّى قلبي بين ضلوعي كما تتنزَّى الكرَةُ مقْذوفة على علُ ، وهاجَ هَيجي واضطربَ أمرِي وتغوَّلَتْني الأفكارُ الخائفة الحزينة المجرَّحة التي تَدْمَى أبدًا ، فلا تحسمُ الدَّم ، وانقلبتُ بِهَمَّي أدورُ في نفسي دَوْرة المجنون في دنيا عقله المريض المشعَّث . وهكذا قَضَّيتُ ليلَ أيامي ، وليس لمثل هذه الأيامِ نهارٌ .
ودعوتُ ربي جاهدًا ، وكنت من قبل أدعوهُ ، إنه هو البرُّ الرحيم ... ، وكنتُ أرى الدنيا كلها وكأنما ارتدتْ لعَيْنَىَّ غِلاَلةُ من سرابٍ تخفِقُ عليها وتميدُ وتتريَّعُ ، وإذا الأرضُ غيرُ الأرضِ والناس غيرُ الناسِ ، وإذا كل شيء يجيءُ ويذهبُ ، ويبينُ ويَخفى ... ، وفقدتْ الأشياءُ معانيها في نفسي ، فما أرى إلا بؤسًا وخَصاصة وجوعًا وعُرْيًا ، وإذا كلُّ شيء بائنٌ فقيرٌ جائعٌ عارِ لا يستره شيءٌ .. اللهم إني فوضتُ أمري إليك وألجأتُ ظَهري إليك ... ومضيتُ أنسابُ في أيامي البائِسَة ، حتى إذا كان الليلٌ في أَوَّلِهِ مُنذ أمس ، أويتُ إلى بيت كتب آخذٌ كتابًا لا ألبثُ أُلقيه كأنْ بيني وبينه عداوةٌ أو حقدٌ قديمٌ . فضِقتُ ثم ضقتُ وخَنقني خانقُ الضَّجر واليأسِ ، وغاظني ما غلبني على عقلي وإرادتي ، فأهويتُ بيدي إلى كتاب عزمتُ ألا أدعه ، وإذا هو : (( إِغاثة الأمة ، بكشف الغُمَّة ، للمقريزي )) .
وفتحتهُ وانطلقتُ أقرأ ، فما أجوز منه حرفًا أولَ إلا وجدتُ الألفاظَ تتهاوى في نفسي وفي عقلي ، وكأنها تُقذفُ فيهما من حالقٍ ، حتى لَوجدتُني أسمع لها فيهما صلصلةً ودويًّا وهدًّا شديدًا شديدًا ، كأن في نفسي وعقلي أبنية تنقضُّ وتتهدمُ في كفِّ زلزلة .
وإذا بحر يموجُ لعينيّ أسمعُ هديرَه وزئيره وزمجرة أَمواجِه في الريح العاتية ، وإذا هو أحمرُ كالدَّم يَفُورُ ويتوثَّبُ ، وإذا صرخةٌ تخفت زمجرة الأمواج ، وإذا هو هاتف يهتف بي : (( قم إلى صلاتك ، فقد أظلك الفجر !! )) .
فانتبهت فزعًا وإذا أنا أقلب الصفحة التاسعة والعشرين من هذا الكتاب ، وإذا خطوط حمر قد ضربتها فوق هذه الأسطر : (( ودخل فصل الربيع فهب هواء أعقبه وباء وفناء ، وعدم القوت حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع ، فكان الأب يأكل ولده مشويًّا ومطبوخًا ، والمرأة تأكل ولدها ... فكان يوجد بين ثياب الرجل والمرأة كتف صغير أو فخذه أو شيء من لحمه . ويدخل بعضهم إلى جاره فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تتهيأ ، فإذا هي لحم طفل . وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت ))
[ وكتاب " إغاثة الأمة بكشف الغمة " هو تاريخ المجاعات التي كانت بمصر ، وقد طبع بلجنة التأليف والترجمة والنشر منذ أسابيع وهذا الذي نقلناه من تاريخ المجاعة التي كانت بمصر في الدولة الأيوبية سنة 596هـ فقيل فيها : سنة سبع افترست أسباب الحياة ] .
أين يعيش أحدُنا وهو يقرأ ؟
هذه تسع ساعات يخيَّل إلىَّ أن قضيت ثماني ساعات منها وأنا أقرأ هذه الأسطر القليلة أُقلِّبها لعيني فتنقلَّب معانيها في نفسي ، إذ كانت تنزع في معناها إلى الآلام المتفجرة بدمي في قلبي ، فلا يكون الحرفُ منها إلا أفكارًا تتَّسع وتتراحب وتتداعي وتتوالد ويَنْسَخ بعضها بعضًا .
ولو ذهبتُ أكتب ما قرأته في نفسي من هذه الأسطر ، وما تحدثت به النفس من حديث أَكَلَ ثماني ساعات من أول الليل إلى مطلع الفجر ، لملأ ذلك ما يقع في كتاب مفرد ، ولكن ...
لماذا لا تكون هذه القسوة المتوحشة إلا من أعمال القلوب المتحجرة في بيوت الأغنياء والأكابر ؟
ولماذا يكون أقسى القسوة في قلب المرأة الغنية ، فتكون هي أعظم استهانة بجريمة أَكْل ولَدِها الذي وَلدَتْه ؟ ولماذا يكون الفقير والفقيرة دائمًا هما مِثالُ الرحمة والحب والعطف والحنان ؟
أليس الناس جميعًا – غنيُّهم وفقيرُهم – سواء في هذه الحياة ؟ بَلَى ، ولكن ...
ألا إن هذا المال نعمة من نعم الله التي استخلف الإنسان عليها في الأرض ، وفي الحياة الدنيا ، ألا وإن المالَ عِصامُ هذا الكون الممتلئ بأسراره العجيبة التي لا يُقضى من أعاجيبها عجب ، ألاَ وإنه لّلنِّظَام الطبيعي الذي يجعل من قانونه سر الحياة الإنسانية التي لا تسمو إلا بالمنافسة والرغبة فيها والإصرار عليها ، ألا وإنه لأعجب شيء في الحياة ، إذ يكون هو كل شيء ، ثم هو ليس بشيء على الحقيقة ، وإذ يكون في وَهْم الفقير سِرّ السعادة ، ثم يكون عند الغني المسترخي فلا يعرف به ظاهر السعادة .
ألا إنه العجب والفتنة ، إذ يكون سر الحياة الإنسانية المدنية على الأرض ، ومع ذلك فهو إذا مَلأَ الغَنىّ أفرغه من إنسانيته ، وإذا فَرَغَ الفقير منه امتلأَ إنسانية ورحمة وحنانًا ، ثم يكون بينهما أشياء في هذا وفي ذاك تختلط وتضطرب ويرمى بعضها في بعض حتى يصبح كل شيء فسادًا لا صلاح له .
(( أكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت ! ))
و (( أكثر ما يفعل ذلك النساء ! )) .
إنه ليس عجيبًا ولكنه مؤلم ، إنه ليس بعيدًا ولكنه مفزع ، إنه هو الحقيقة الدائرة مع معاني الثراء والغنى والترف والرفاهية ، ولكنها الحقيقة الضاربة المتوحشة التي انطلقت من قيودها حين أزَمتها الحاجة والقحط والجوع ونداء المعدة التي تتلوّى أمعاؤها كما تتلوى الحية الجائعة على شهواتها المتجسدة في فريستها .
ليس هذا هو كل شيء ، وليس القحط وحده هو اذي يُضَرِّى عبيد المال فيأكلون بنيهم وبناتهم أكل الوحش الطاغي بطغيان حيوانيته التي تريد البقاء لنفسها ، ثم لا تعرف غير نفسها ، ولا تعبد إلا نفسها .
إن كل أزمة تطلق في أعصاب الأغنياء – إلا من رحم ربك – وحشًا آكلا طاغيًا مستأثرًا لا يرى إلا نفسه ولا يريد البقاء إلا لنفسه .
فإذا وقع القحط بين صديقين أحدهما غني كان صديقه طعامًا تفترسه الصداقة الغنية ! وإذا وقع القحط بين حبيبين أحدهما ثرىِّ مترف تثاءب عنه يريد النوم لأنه شبع من حبه حتى تملأ ! وإذا وقع القحط بين أخوين أحدهما غني ، كان حق الرحم عليه أن يشرب ما بقى من دم أخيه يستولغ فيه حتى يَرْوَى ! .
إن الترف والنعمة والكفاية ، وأحلام الغنى وكنوز الثراء ، إن هي إلا الماحقات الآكلات التي تمحق العواطف الإنسانية النبيلة حين لا ملجأ إلا إلى الخشونة والشدة والصبر وحقيقة الفقر .
إن الفقراء هم أكثر الناس رغبة في النسل على ضيق رزقهم ، والأغنياء أقل الناس إقبالاً عليه على ما يجدون من السعة . الفقراء أشد حزنًا على من فقدوا من أبنائهم وأحبابهم ، ولكن أولئك لا يحزنون إلا ريث يُشْعرون الناس أنهم حَزِنوا ، ولئلا يقول الناس إنهم لم يحزنوا على أحبابهم ...
الأغنياء ، الأغنياء ... نعم هم زينة الحياة الدنيا ، ولكن مع الزينة الخداع ، ومع الخداع الضعف ، ومن الضعف القسوة حين تجد ما يتلين لها أو يتساهل أو يستكين ... أو يثق .
فمن صَادق غنيًا فليحذر ، ومن آخَى ثريًا فليتحصن ، ومن عامله فليرهب ، فإذا بلغ المرأة الغنية فأحبها فخيلت له أنها أحبته فوثق بها فقد هلك ، وإنما هو مَلهاة من ملاهي الترف ، إذا فقدت لذة اللهو به نبذته لما به .
محمود محمد شاكر


| 14-08-2010 01:00

مقال للأديب الكبير العلامة محمود محمد شاكر رحمه الله ، كتبه منذ 70 عاما ( مجلة الرسالة عدد 357 س 8 ، 1940 ) في ليلة من الليالي حين كان يطالع كتاب المقريزي (( إِغاثة الأمة ، بكشف الغُمَّة )) الذي تحدث فيه عن تاريخ المجاعة في مصر فقرأ بعض الكلمات عن الغنى المطغي الذي يفتك بصاحبه ، فاستثارت قلمه ، فكان هذا المقال :
* * *
الأغنياء
بقلم : محمود محمد شاكر

المخفي
14-08-2010, 12:53 PM
جزاك الله خير

مطيع الله
15-08-2010, 05:52 AM
محمود شاكر ومجلة الرسالة!

رحم الله محمود شاكر،
ورحم الله مؤسس الرسالة،
وشكر لك وتقبل منا ومنك صالح الأعمال.