مطيع الله
17-08-2010, 07:36 AM
ثورة دجلة
نشرت سنة 1937
ازدادت دجلة يومّي الأربعاء والخميس 3 و 4 صفر سنة 1355 زيادة هائلة لم تكن منتظّرة، وغدت بغداد عرضة للغرق بين كل لحظة وأخرى، وسيق الناس كلهم للعمل على إقامة السدود، ولم تغمض في بغداد ليلة الخميس عين ... وكان شيء عظيم ...
كانت تجري في الوادي حالمة سكرى، غارقة في بحر من الحب والشعر، هادئة لا ترى فيها إلا آثار هذه القبل المعطَّرة المعسولة التي تطبعها الشمس على وجنتَيها الصافيتين كل صباح ومساء، تخطفها منها في غفلة من الكون فلا يبصرها إلا الشفق الذي يطل من نافذة الأفق يرميها بنظرة الكاشح الحاسد، فيحمرَّ وجه دجلة الفتاة من الخجل وتغمض عينيها من الحياء، ثم تسرع في جريها ...
وكانت تتلقى بين ذراعيها العاشِقين المدلِهين(1) كلما دجا الليل وأطفئ مصباح الكون ، وهم في الزوارق ذوات الأجنحة البيض التي تشبه قلوبهم في بياضها وخفقانها، فتحدب عليهم وتحفظ أسرارهم، وتمنحهم الخلوة الحلوة الآمنة، وتغمر نفوسهم بالجمال والشعر، حتى يغيبوا عن الوجود في حلم فاتن بعيد.
وكانت تغضي عن هذا النخيل العاشق، وقد تعانق كل زوجين منه وتلامسا بالشفاه واستسلما إلى الغيبة الهنيئة، وعن هذه القصور التي تفيأت ظلاله سكرى بخمرة الجمال، قد ضمت احناءها على حياة لذة وادعة ملؤها الحب.
وكانت دجلة جمال العراق ونعمته وحياته.
وكنت أذهب كل مساء إلى ((جسر مود))، أنحدر إليه من الرصافة، أمشي في طريق ضيق كأني أهبط وادياً من أودية بلادي الحبيبة، ثم أصعد حتى أبلغ ضفة الكرخ، فاسلك شوارع الصالحية حتى أصل إلى المطار ... حيث أبقى ساعة شاخصاً إلى الأفق البعيد، أتبصّر فيه طيف بلدي وأتحسس نسيمه، فأشم فيه شذا الغوطة وأنشق ريَّا نّشرها العطر وعَرف آسِها ونسرينها، وفُلَِها وياسمينها، ونرجسها ورياحينها ... حتى إذا قضيت من ذلك وطراً عدت وقد خلا الجسر، فحييت دجلة وصببت في أذنيها آلامي وأحزاني واستمنحتها الراحة والإطمئنان، ثم مضيت إلى وكري المتعزِّل في الأعظمية بنفس هادئة كدجلة، مطمئنة كاطمئنانها.
وذهبت في مساء الأمس كما كنت أذهب، فإذا الأرض قد بُدِّلت غيرَ الأرض، وإذا الجسر الذي كان وادياً ننحدر إليه قد أمسى جبلاً نتسلقه(2)، وصار أعلى من الشارع وقد كان تحته، وإذا الناس يُقبلون عليه، فأقبلت معهم وعلى وجهي من الدهشة والحيرة مثل ما على وجوههم من الروعة والفزع، ونظرت فإذا النهر الذي كان يجري في الأعماق هادئاً متطامناً حالماً ويبدر كأنه صفحة المرآة، لا تنداح عليه دائرة ولا تموج فيه موجة، قد على وارتفع وعاد ثائراً هائجاً له هدير ودردرة، قد علاه موج كالروابي!
وإذا هو نسي سنَّه ووقاره، وأضاع حِلمه وعلمه، ورجع شاباً مجنوناً أهوج، يقفز ويصرخ ويقرع الأرض بقدميه، ويضرب بقبضتيه القويتين المخيفيتين أبنيةَ الشاطئ الآمن، ويعبث بهذه الكرات الحديدية الضخمة التي أُقيمت لتثبيت الجسر العائم والتي ترجح بالقناطير وتزن الصخور الجلاميد، ويقذف بها هنا وهناك كما يقذف الصبي كرته ... وإذا هو مرعب حقاً، يدخل الروع على أجلد الرجال.
وكانت الوجوه كالحة، قد ارتسمت عليها سمات الذعر الشديد، والماءُ يرتفع؛ لم يبقَ بينه وبين الشاطئ إلا شبراً واحداً...
لقد بلغ عمق المياه خمسة وثلاثين ذراعاً وعشرين معشاراً ... إنه لا يزال يرتفع ... لقد صاقب الشاطئ!
إن بغداد في خطر.
وطارت كلمة الخطر على الألسنة، ففزع الشعب واهتمت الحكومة، ووُضع قانون المساعدة الإلزامية، فابتدر الناس الشاطئ واستبقوا العمل، يقيمون السدود ويضعون للمجنون القيود، ولكن المجنون لا يبالي بقيد الذباب. إنه يقتل أمة منها بضربة واحدةّ
إن النمر(3) يقفز في حبسه ويَثِب، لقد جن. إنه يريد أن يخرج فينبعث في الأرض؛ يريد أن يمشي إلى هذه الجنات الظليلة التي طالما أمدها بالحياة وحمل إليها النعمة، ليحمل إليها الموت!
وبدأ الصراع المهول بين النهر والإنسان، وأمسى المساء على بغداد وهي قائمة على قدم وساق، ليس فيها من يبع أو يشتري أو يلهو أو يلعب أو يطعم أو يشرب، ليس لها إلا غاية واحدة هي النجاة من الغرق.
وكنت قد بلغت منزلي، فصعدت السطح فانحسرَت أمامي صفحة النهر وهو يتلوّى من حول الأعظمية كالأفعى، يطيف بها كالقضاء النازل، وقد استرخى عند المنحنى وتمدد على الحقول والدور التي هجرها أهلوها، فصار عرضه أكثر من ألفَي ذراع! وصار بحراً خضَمَّاً، ولكنه يركض دفَّاعاً يحمل في طياته الموت والغرق والخراب. وكانت حمرة الشفق تخالط الماء، فيلتهب فيبدو كأنه أتون مستعر أو كأنه جهنم الحمراء.
وبسط الليل ثوبه الأسود على الدنيا فأخفى تحته ثمانية وأربعين ألف شاب، يشتغلون لينقذوا بغداد من الغرق المحقَّق، ومن ورائهم أربعمئة ألف قلب تحوطهم بالرعاية والحب. واستمر الصراع والهول.
وكان الناس من الفزع والذعر كأنهم في يوم القيامة، غير أن المرء في يوم القيامة يجد ما يشغله عن أمه وبنيه وصاحبته وأخيه، وهنا أم حائرة مولّهة قد ضاع منها ولدها في وسط الزحمة فهي تعدو وتصيح من غير وعي لا تدري أهو من الأحياء أم افترسه هذا النمر الجبار. وهنا بنت تفتش عن أمها، وولد ينادي أخاه، وأسر قد هيأت متاعها ووقفت على باب الدار تنتظر الساعة الرهيبة التي يطغى فيها الماء فيدكّ دارها وما فيها ويدَعها فقيرة مسكينة مسكنها الشارع. وشباب عصفت النخوة برؤوسهم فهم يقدمون، يتسابقون إلى الخطر. وتلاميذ قد دفعتهم الحمية فأقبلوا يتبادرون الموت، والجنود يعملون في كل مكان بهِمَم الأسود.
كان الصراخ يملأ الجو: هتاف الشباب، وأنغام الجند، وصياح النساء، ونداء الأولاد ... والنهر فوق ذلك كله يهدر هديره المستمر المرعب، فيكون له في هذا الليل دويٌ مخيف، والحركة متصلة، والشوارع ممتلئة بالناس ... ولكن السلامة توالت؛ ووقف النهر عن الارتفاع، ولم يقع البَثق الذي كانوا يخشونه. وكان قد تصرَّم الهزيع الأول من الليل، فأمن الناس وتفرقوا إلا قليلاً قاموا يحرسون النهر، ودخلوا بيوتهم وولجت داري أستريح، فما لبثت أن ذهبت في رقدة عميقة.
رأيت فيها المياه تنساب في كل جهة تغني أغنية الرعب، تقتلع البيوت ثم تلقي بها إلى بعيد، وتلج في باطن الأرض ثم تقلبها بما عليها، وتصعد في لجو ثم تنزل كالبلاء المصبوب، ثم انصدع صدع عظيم وهويت في قعر الهاوية، وكان حولي مئات من النمور والفهود والأفاعي، وسمعت رعداً شديداً، ورأيت برقاً ومطراً،ثم عادت السيول تجري تدحرج آلافاً من الصخور.
ففتحت عيني، وإذا الحلم حقيقة، وإذا الصيحة في الحيِّ، والقيامة قد قامت وصفارات الحراس وأبواق الجنود تصدح باستمرار، والنساء يولولن ويعدون، والأطفال تبكي وتركض في كل مكان، والرجال تصيح طالبة النجدة ... وتبنتُ -وسط الضجة- الكلمة الرهيبة: كُسر النهر ... النهر انكسر.
وتدفق سيل العرم!
إن هذا النهر الذي جاء من قمم الأناضول الشاهقة، وسلك على السهول الممرعة والصحاري المجدبة، قد تعب من سيره الطويل المضني، فجاء يستريح على هذه الجقول التي زخرفها الربيع، وأزهر فيها النارنج وفتح الورد والقرنفل والفل، وأترع نسيمها العطر، فيحيل ذلك كله إلى صحراء قاحلة. جاء يغرس في هذه الحياة الرخية السعيدة بذور اليتم والفقر والنكد.
ولكن الذنب علينا، لو أنَّا أنشأنا له مأوى يستريح فيه وسريراً ينام عليه، لهجع فيه غلى أيام الصيف، ثم لخرج بالبركة واليمن إلى أراضينا وبلادنا!
تركت الدار وخرجت أسبح في هذا الخِضَمَّ من الناس، أدفع النساء والشيوخ والشباب، لاصل إلى الشاطئ فأعمل عملاً. ولست أدري ماذا أعلم؟ ولست أحسن السباحة، ولست أعلم ما الفائدة من ذهابي!!
ولم أفكر في شيء من ذلك، لأن الإنسان لا يفكر في ساعة الخطر وإنما يعمل، فلما وقفت على الصدع هالني وأرعبني أن النمر قد أفلت من القفص، وخرج يعدو مجنوناً مستطار اللب، كاشراً عن أنيابه، يزمجر ويزأر يبرق ويرعد.
إن الماء يندفع إلى العَلاء بقوة الديناميت، ثم ينزل على الحقول فيمضي مكتسحاً كل شيء في طريقه: يقتلع الأشجار الضخمة ويقذف بها كأنما هي عديان كبريت، وينسف البيوت كأنما هي علب من الورق، ويتدفق من كل جهة ... وقد ابتلع صوته المدوِّي كل ضجة وملأ الأسماع بترتيلة الموت المستمرة.
وكان لمنظره في ظلمة الليل صورة لا توصف.
وأقدم الناس، يسابقون الماء ليقيموا في وجهه السدود، ليقيدوا هذا النمر الهائج، بحميَّة منقطعة النظير وحماسة نادرة المثال. وأقدمت أخوض هذه اللجة من الناس لاصل إلى هذه اللجة الطامية من الماء؛ أمشي في ظلمتين: ظلمة هذا الحشد المزدحم، وظلمة الليل البهيم. أتعرض لرهبتين: رهبة الليل وسواده، والسيل واندفاعه، أصغي إلى لحنين: لحن الروع على ألسنة الناس، ولحن الهول على لسان النهر.
ولم أخشَ شيئاً ... إنها ساعة الخطر!!
بوركتِ يا ساعة الخطر! أنت لحظة الإنسانية، أنت التي تورق فيك أغصان الحب، ويُزهر فيك الإخلاص، ويعود الناس فيك إخواناً متحابين، قد خرجوا من أطماعهم ومات في نفوسهم الحسد والبغضاء، وعاشَ فيها الحب والتضحية والإخلاص والوئام.
تقدمت إلى الأمام، ولكني لم أصل إلى شيء لأن الناس كانوا يستبقون العمل ويهرعون إلى الموت، كأن العمل غنيمة والموت وليمة ... وكانوا يصرخون صراخ الحمية، ويهتفون باسم الوطن والمروءة والشجاعة.
ومرت على ذلك ساعة كاملة والصدع يتسع والماء يزداد اندفاعاً، فكلَّت الأيدي النشطة، وجمدت الصيحات والأناشيد على الشفاه، وخامر الناس اليأس ...
هنالك انتبهت، فإذا أنا أسمع النشيد الذي كنت أرتقبه وأصبو إليه، ليس نشيد الوطن والمروءة، ولكن أجلَّ وأقوى؛ النشيد الذي له قوة السيل، وعظمة البحر، وبهاء الشمس، وصلادة الصخور ... النشيد الذي لا يقوم له شيء ... النشيد الذي كان أجدادنا يهتفون به كلما حاقت بهم الشدة، فيدكَّون به كل حصن، ويكتسحون كل عدو، ويخلصون من كل خطر ... النشيد الذي يحيل الجبان بطلاً، واليأس أملاً، والطفل رجلاً.
ذلك هو نشيد الرجال والنساء والأطفال بصوت واحد يجري على قرع الطبل، فيشق الليل ويخشع له كل من يسمعه، حتى النخيل والحقول والسحاب والنجوم، وهذا النمر الثائر.
الله أكبر - الله أكبر - لا إله إلا الله.
الله أكبر - الله أكبر - ولله الحمد!
وبدأ الصراع كرَّة ثانية، وأقبلوا على العمل بهمم لا تنثني،
وقلوب لا تلين، وسواعد لا تكل ... وصبَّ النشيد في عروقهم ورح الظفر، فظفروا!
وعندما كانت الشمس تطبع أول قبلاتها على جبين الكون، كان الموكب الظافر قد رجع، يحمل أجمل أزهار الرياض التي أنقذها حماها من الغرق، يمشي فيه الجند والطلاب بصفوف منتظمة قرأت فيها أروع ((شعر)) الحياة كما تلوت في هذه الجماهير المنثورة في كل مكان أبلغ ((نثرها)) ...
وكان الإشراق يكسو الوجوه وغناء النصر يرقص على الألسنة، فوقفت أحيي هذه المواكب الماجدة حتى غابت عني في طريقها غلى بغداد:
ألف تحية أيها الأبطال الذين مشوا إلى الموت لينقذوا بلادهم من الموت،
ألف تحية أيها الشعب القوي العامل الجريء،
ألف تحية أيها الطلاب المبرؤون، الذين حملوا الفؤوس والمعاول، وأقاموا من جسومهم سداً في وجه هذا السيل الطامي،
ألف تحية أيها الجنود البواسل، يا حماة الديار، يا من وطَّنوا نفوسهم على محاربة كل من يريد ببلادهم شراً، سواء لديهم أكان جباراً من جبابرة الإنس أو عفريتاً من عفاريت الجن.
لكم مني ألف تحية وألف سلام.
علي الطنطاوي.
____________________
(1) أعني الأزواج الذين اجتمعوا بعقد الشرع، لا الفساق الذين اجتمعوا بعقد إبليس.
(2) كان الجسر قائماً على عوامات يصعد مع الماء ويهبط معه، ولم تكن قد أنشئت هذه الجسور المستقرة.
(3) اسم دجلة بالفرنسية وبالإنكليزية.
المسابقة
حول النصَّ:
أذكر صورة من صور الحياة الاجتماعية في بغداد في زمن المؤلف.
أذكر أمثلة من الحياة النباتية التي وردت في النص.
أذكر شجرة مثمرة وردت في النص.
ما اسم الحي الذي كان يسكن فيه المؤلف؟ ولما سمي بهذا الإسم؟
لماذا كان المؤلف يعبر الجسر كل يوم للضفة الأخرى؟
ماذا يعني المؤلف بالغوطة؟ وأين تقع؟، وما علاقتها بالروائح الزكية؟
خارج النص:
ما أصل تسمية "جسر مود"؟ وما كان اسمه قبل هذه التسمية؟
ما الجسر التاريخي الذي كان يربط ضفتي دجلة، وما قيل فيه من الشعر؟
من كان يحكم العراق زمن المؤلف؟
خارج خارج النص:
هل تملك تصوراً لكيفية الحماس على نداء الله أكبر مرافقاً لقرع الطبل؟
المسابقة بلا جوائز:shy:
نشرت سنة 1937
ازدادت دجلة يومّي الأربعاء والخميس 3 و 4 صفر سنة 1355 زيادة هائلة لم تكن منتظّرة، وغدت بغداد عرضة للغرق بين كل لحظة وأخرى، وسيق الناس كلهم للعمل على إقامة السدود، ولم تغمض في بغداد ليلة الخميس عين ... وكان شيء عظيم ...
كانت تجري في الوادي حالمة سكرى، غارقة في بحر من الحب والشعر، هادئة لا ترى فيها إلا آثار هذه القبل المعطَّرة المعسولة التي تطبعها الشمس على وجنتَيها الصافيتين كل صباح ومساء، تخطفها منها في غفلة من الكون فلا يبصرها إلا الشفق الذي يطل من نافذة الأفق يرميها بنظرة الكاشح الحاسد، فيحمرَّ وجه دجلة الفتاة من الخجل وتغمض عينيها من الحياء، ثم تسرع في جريها ...
وكانت تتلقى بين ذراعيها العاشِقين المدلِهين(1) كلما دجا الليل وأطفئ مصباح الكون ، وهم في الزوارق ذوات الأجنحة البيض التي تشبه قلوبهم في بياضها وخفقانها، فتحدب عليهم وتحفظ أسرارهم، وتمنحهم الخلوة الحلوة الآمنة، وتغمر نفوسهم بالجمال والشعر، حتى يغيبوا عن الوجود في حلم فاتن بعيد.
وكانت تغضي عن هذا النخيل العاشق، وقد تعانق كل زوجين منه وتلامسا بالشفاه واستسلما إلى الغيبة الهنيئة، وعن هذه القصور التي تفيأت ظلاله سكرى بخمرة الجمال، قد ضمت احناءها على حياة لذة وادعة ملؤها الحب.
وكانت دجلة جمال العراق ونعمته وحياته.
وكنت أذهب كل مساء إلى ((جسر مود))، أنحدر إليه من الرصافة، أمشي في طريق ضيق كأني أهبط وادياً من أودية بلادي الحبيبة، ثم أصعد حتى أبلغ ضفة الكرخ، فاسلك شوارع الصالحية حتى أصل إلى المطار ... حيث أبقى ساعة شاخصاً إلى الأفق البعيد، أتبصّر فيه طيف بلدي وأتحسس نسيمه، فأشم فيه شذا الغوطة وأنشق ريَّا نّشرها العطر وعَرف آسِها ونسرينها، وفُلَِها وياسمينها، ونرجسها ورياحينها ... حتى إذا قضيت من ذلك وطراً عدت وقد خلا الجسر، فحييت دجلة وصببت في أذنيها آلامي وأحزاني واستمنحتها الراحة والإطمئنان، ثم مضيت إلى وكري المتعزِّل في الأعظمية بنفس هادئة كدجلة، مطمئنة كاطمئنانها.
وذهبت في مساء الأمس كما كنت أذهب، فإذا الأرض قد بُدِّلت غيرَ الأرض، وإذا الجسر الذي كان وادياً ننحدر إليه قد أمسى جبلاً نتسلقه(2)، وصار أعلى من الشارع وقد كان تحته، وإذا الناس يُقبلون عليه، فأقبلت معهم وعلى وجهي من الدهشة والحيرة مثل ما على وجوههم من الروعة والفزع، ونظرت فإذا النهر الذي كان يجري في الأعماق هادئاً متطامناً حالماً ويبدر كأنه صفحة المرآة، لا تنداح عليه دائرة ولا تموج فيه موجة، قد على وارتفع وعاد ثائراً هائجاً له هدير ودردرة، قد علاه موج كالروابي!
وإذا هو نسي سنَّه ووقاره، وأضاع حِلمه وعلمه، ورجع شاباً مجنوناً أهوج، يقفز ويصرخ ويقرع الأرض بقدميه، ويضرب بقبضتيه القويتين المخيفيتين أبنيةَ الشاطئ الآمن، ويعبث بهذه الكرات الحديدية الضخمة التي أُقيمت لتثبيت الجسر العائم والتي ترجح بالقناطير وتزن الصخور الجلاميد، ويقذف بها هنا وهناك كما يقذف الصبي كرته ... وإذا هو مرعب حقاً، يدخل الروع على أجلد الرجال.
وكانت الوجوه كالحة، قد ارتسمت عليها سمات الذعر الشديد، والماءُ يرتفع؛ لم يبقَ بينه وبين الشاطئ إلا شبراً واحداً...
لقد بلغ عمق المياه خمسة وثلاثين ذراعاً وعشرين معشاراً ... إنه لا يزال يرتفع ... لقد صاقب الشاطئ!
إن بغداد في خطر.
وطارت كلمة الخطر على الألسنة، ففزع الشعب واهتمت الحكومة، ووُضع قانون المساعدة الإلزامية، فابتدر الناس الشاطئ واستبقوا العمل، يقيمون السدود ويضعون للمجنون القيود، ولكن المجنون لا يبالي بقيد الذباب. إنه يقتل أمة منها بضربة واحدةّ
إن النمر(3) يقفز في حبسه ويَثِب، لقد جن. إنه يريد أن يخرج فينبعث في الأرض؛ يريد أن يمشي إلى هذه الجنات الظليلة التي طالما أمدها بالحياة وحمل إليها النعمة، ليحمل إليها الموت!
وبدأ الصراع المهول بين النهر والإنسان، وأمسى المساء على بغداد وهي قائمة على قدم وساق، ليس فيها من يبع أو يشتري أو يلهو أو يلعب أو يطعم أو يشرب، ليس لها إلا غاية واحدة هي النجاة من الغرق.
وكنت قد بلغت منزلي، فصعدت السطح فانحسرَت أمامي صفحة النهر وهو يتلوّى من حول الأعظمية كالأفعى، يطيف بها كالقضاء النازل، وقد استرخى عند المنحنى وتمدد على الحقول والدور التي هجرها أهلوها، فصار عرضه أكثر من ألفَي ذراع! وصار بحراً خضَمَّاً، ولكنه يركض دفَّاعاً يحمل في طياته الموت والغرق والخراب. وكانت حمرة الشفق تخالط الماء، فيلتهب فيبدو كأنه أتون مستعر أو كأنه جهنم الحمراء.
وبسط الليل ثوبه الأسود على الدنيا فأخفى تحته ثمانية وأربعين ألف شاب، يشتغلون لينقذوا بغداد من الغرق المحقَّق، ومن ورائهم أربعمئة ألف قلب تحوطهم بالرعاية والحب. واستمر الصراع والهول.
وكان الناس من الفزع والذعر كأنهم في يوم القيامة، غير أن المرء في يوم القيامة يجد ما يشغله عن أمه وبنيه وصاحبته وأخيه، وهنا أم حائرة مولّهة قد ضاع منها ولدها في وسط الزحمة فهي تعدو وتصيح من غير وعي لا تدري أهو من الأحياء أم افترسه هذا النمر الجبار. وهنا بنت تفتش عن أمها، وولد ينادي أخاه، وأسر قد هيأت متاعها ووقفت على باب الدار تنتظر الساعة الرهيبة التي يطغى فيها الماء فيدكّ دارها وما فيها ويدَعها فقيرة مسكينة مسكنها الشارع. وشباب عصفت النخوة برؤوسهم فهم يقدمون، يتسابقون إلى الخطر. وتلاميذ قد دفعتهم الحمية فأقبلوا يتبادرون الموت، والجنود يعملون في كل مكان بهِمَم الأسود.
كان الصراخ يملأ الجو: هتاف الشباب، وأنغام الجند، وصياح النساء، ونداء الأولاد ... والنهر فوق ذلك كله يهدر هديره المستمر المرعب، فيكون له في هذا الليل دويٌ مخيف، والحركة متصلة، والشوارع ممتلئة بالناس ... ولكن السلامة توالت؛ ووقف النهر عن الارتفاع، ولم يقع البَثق الذي كانوا يخشونه. وكان قد تصرَّم الهزيع الأول من الليل، فأمن الناس وتفرقوا إلا قليلاً قاموا يحرسون النهر، ودخلوا بيوتهم وولجت داري أستريح، فما لبثت أن ذهبت في رقدة عميقة.
رأيت فيها المياه تنساب في كل جهة تغني أغنية الرعب، تقتلع البيوت ثم تلقي بها إلى بعيد، وتلج في باطن الأرض ثم تقلبها بما عليها، وتصعد في لجو ثم تنزل كالبلاء المصبوب، ثم انصدع صدع عظيم وهويت في قعر الهاوية، وكان حولي مئات من النمور والفهود والأفاعي، وسمعت رعداً شديداً، ورأيت برقاً ومطراً،ثم عادت السيول تجري تدحرج آلافاً من الصخور.
ففتحت عيني، وإذا الحلم حقيقة، وإذا الصيحة في الحيِّ، والقيامة قد قامت وصفارات الحراس وأبواق الجنود تصدح باستمرار، والنساء يولولن ويعدون، والأطفال تبكي وتركض في كل مكان، والرجال تصيح طالبة النجدة ... وتبنتُ -وسط الضجة- الكلمة الرهيبة: كُسر النهر ... النهر انكسر.
وتدفق سيل العرم!
إن هذا النهر الذي جاء من قمم الأناضول الشاهقة، وسلك على السهول الممرعة والصحاري المجدبة، قد تعب من سيره الطويل المضني، فجاء يستريح على هذه الجقول التي زخرفها الربيع، وأزهر فيها النارنج وفتح الورد والقرنفل والفل، وأترع نسيمها العطر، فيحيل ذلك كله إلى صحراء قاحلة. جاء يغرس في هذه الحياة الرخية السعيدة بذور اليتم والفقر والنكد.
ولكن الذنب علينا، لو أنَّا أنشأنا له مأوى يستريح فيه وسريراً ينام عليه، لهجع فيه غلى أيام الصيف، ثم لخرج بالبركة واليمن إلى أراضينا وبلادنا!
تركت الدار وخرجت أسبح في هذا الخِضَمَّ من الناس، أدفع النساء والشيوخ والشباب، لاصل إلى الشاطئ فأعمل عملاً. ولست أدري ماذا أعلم؟ ولست أحسن السباحة، ولست أعلم ما الفائدة من ذهابي!!
ولم أفكر في شيء من ذلك، لأن الإنسان لا يفكر في ساعة الخطر وإنما يعمل، فلما وقفت على الصدع هالني وأرعبني أن النمر قد أفلت من القفص، وخرج يعدو مجنوناً مستطار اللب، كاشراً عن أنيابه، يزمجر ويزأر يبرق ويرعد.
إن الماء يندفع إلى العَلاء بقوة الديناميت، ثم ينزل على الحقول فيمضي مكتسحاً كل شيء في طريقه: يقتلع الأشجار الضخمة ويقذف بها كأنما هي عديان كبريت، وينسف البيوت كأنما هي علب من الورق، ويتدفق من كل جهة ... وقد ابتلع صوته المدوِّي كل ضجة وملأ الأسماع بترتيلة الموت المستمرة.
وكان لمنظره في ظلمة الليل صورة لا توصف.
وأقدم الناس، يسابقون الماء ليقيموا في وجهه السدود، ليقيدوا هذا النمر الهائج، بحميَّة منقطعة النظير وحماسة نادرة المثال. وأقدمت أخوض هذه اللجة من الناس لاصل إلى هذه اللجة الطامية من الماء؛ أمشي في ظلمتين: ظلمة هذا الحشد المزدحم، وظلمة الليل البهيم. أتعرض لرهبتين: رهبة الليل وسواده، والسيل واندفاعه، أصغي إلى لحنين: لحن الروع على ألسنة الناس، ولحن الهول على لسان النهر.
ولم أخشَ شيئاً ... إنها ساعة الخطر!!
بوركتِ يا ساعة الخطر! أنت لحظة الإنسانية، أنت التي تورق فيك أغصان الحب، ويُزهر فيك الإخلاص، ويعود الناس فيك إخواناً متحابين، قد خرجوا من أطماعهم ومات في نفوسهم الحسد والبغضاء، وعاشَ فيها الحب والتضحية والإخلاص والوئام.
تقدمت إلى الأمام، ولكني لم أصل إلى شيء لأن الناس كانوا يستبقون العمل ويهرعون إلى الموت، كأن العمل غنيمة والموت وليمة ... وكانوا يصرخون صراخ الحمية، ويهتفون باسم الوطن والمروءة والشجاعة.
ومرت على ذلك ساعة كاملة والصدع يتسع والماء يزداد اندفاعاً، فكلَّت الأيدي النشطة، وجمدت الصيحات والأناشيد على الشفاه، وخامر الناس اليأس ...
هنالك انتبهت، فإذا أنا أسمع النشيد الذي كنت أرتقبه وأصبو إليه، ليس نشيد الوطن والمروءة، ولكن أجلَّ وأقوى؛ النشيد الذي له قوة السيل، وعظمة البحر، وبهاء الشمس، وصلادة الصخور ... النشيد الذي لا يقوم له شيء ... النشيد الذي كان أجدادنا يهتفون به كلما حاقت بهم الشدة، فيدكَّون به كل حصن، ويكتسحون كل عدو، ويخلصون من كل خطر ... النشيد الذي يحيل الجبان بطلاً، واليأس أملاً، والطفل رجلاً.
ذلك هو نشيد الرجال والنساء والأطفال بصوت واحد يجري على قرع الطبل، فيشق الليل ويخشع له كل من يسمعه، حتى النخيل والحقول والسحاب والنجوم، وهذا النمر الثائر.
الله أكبر - الله أكبر - لا إله إلا الله.
الله أكبر - الله أكبر - ولله الحمد!
وبدأ الصراع كرَّة ثانية، وأقبلوا على العمل بهمم لا تنثني،
وقلوب لا تلين، وسواعد لا تكل ... وصبَّ النشيد في عروقهم ورح الظفر، فظفروا!
وعندما كانت الشمس تطبع أول قبلاتها على جبين الكون، كان الموكب الظافر قد رجع، يحمل أجمل أزهار الرياض التي أنقذها حماها من الغرق، يمشي فيه الجند والطلاب بصفوف منتظمة قرأت فيها أروع ((شعر)) الحياة كما تلوت في هذه الجماهير المنثورة في كل مكان أبلغ ((نثرها)) ...
وكان الإشراق يكسو الوجوه وغناء النصر يرقص على الألسنة، فوقفت أحيي هذه المواكب الماجدة حتى غابت عني في طريقها غلى بغداد:
ألف تحية أيها الأبطال الذين مشوا إلى الموت لينقذوا بلادهم من الموت،
ألف تحية أيها الشعب القوي العامل الجريء،
ألف تحية أيها الطلاب المبرؤون، الذين حملوا الفؤوس والمعاول، وأقاموا من جسومهم سداً في وجه هذا السيل الطامي،
ألف تحية أيها الجنود البواسل، يا حماة الديار، يا من وطَّنوا نفوسهم على محاربة كل من يريد ببلادهم شراً، سواء لديهم أكان جباراً من جبابرة الإنس أو عفريتاً من عفاريت الجن.
لكم مني ألف تحية وألف سلام.
علي الطنطاوي.
____________________
(1) أعني الأزواج الذين اجتمعوا بعقد الشرع، لا الفساق الذين اجتمعوا بعقد إبليس.
(2) كان الجسر قائماً على عوامات يصعد مع الماء ويهبط معه، ولم تكن قد أنشئت هذه الجسور المستقرة.
(3) اسم دجلة بالفرنسية وبالإنكليزية.
المسابقة
حول النصَّ:
أذكر صورة من صور الحياة الاجتماعية في بغداد في زمن المؤلف.
أذكر أمثلة من الحياة النباتية التي وردت في النص.
أذكر شجرة مثمرة وردت في النص.
ما اسم الحي الذي كان يسكن فيه المؤلف؟ ولما سمي بهذا الإسم؟
لماذا كان المؤلف يعبر الجسر كل يوم للضفة الأخرى؟
ماذا يعني المؤلف بالغوطة؟ وأين تقع؟، وما علاقتها بالروائح الزكية؟
خارج النص:
ما أصل تسمية "جسر مود"؟ وما كان اسمه قبل هذه التسمية؟
ما الجسر التاريخي الذي كان يربط ضفتي دجلة، وما قيل فيه من الشعر؟
من كان يحكم العراق زمن المؤلف؟
خارج خارج النص:
هل تملك تصوراً لكيفية الحماس على نداء الله أكبر مرافقاً لقرع الطبل؟
المسابقة بلا جوائز:shy: