المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسابقة أسفار ورحلات الطنطاوي - من دمشق إلى دير الزور



مطيع الله
18-08-2010, 07:58 AM
نشرت سنة 1939
إن صحَّ أن يكون في المدن سفراء فمدينة الدير سفارة عراقية في الأرض الشامية، وما دخلت الدير إلا ذكَّرتني العراق، وما دخلت الموصل إلى ذكَّرتني حلب... لذلك أثبت هذا المقال في كتاب بغداد.

إلى دير الزور(1) ...

استعدوا يا سادة، فقد أزِفَ الرحيل، وشُدَّت الأهداج، فودِّعوا الأحبة والصحابة إن كنتم تطيقون الوداع، وخذوا طريقكم إلى ((المرجة))(2) ففيها الموعد الفجر، وأسرعوا، لا يشغلكم جمال الغداة ولا سِحْر السَحَر، وإن ملأ السماء والأرض والنفس خشعة وفرحة وبهاء، فحرام على ذي الأعمال أن يفتنه عنها الجمال.
ها نحن أولاء في المرجة*، وها هو ذا صوت المؤذن يمشي في الفضاء مشي البرء في الأجسام والطرب في الأعصاب، فيكون لهذه الدنيا نوراً وطهراً وعطراً. وها نحن أولاء نصلِّي الصبح في ((جامع يَلبُغا)) الذي سرق نصفَه العثمانيون فجعلوه مدرسة، كأن الأرض قد ضاقت بالمدرسة حتى ما يتسع لها إلا الجامع! ولكن اللصوص لم يكونوا حُذَّاقاً ولم يستطيعوا طمس الآثار، فنسوا المئذنة لم يسرقوها فلبثت قائمة تشهد عليهم، كشهادة منارة سوق الغزل على أهل بغداد أنهم سرقوا ((المسجد الجامع)) الذي كان قطب الأرض وأكلوه، وادعوا أنهم ما رأوه(3).
وها نحن أولاء نخرج فنرى السيارة وعليها الأحمال، ولكن ما لها لا تمشي؟ ألم يأن الأوان؟ ألم يؤكدوا لنا أن الرحلة الفجر؟ لقد مضت نصف ساعة،ومضت ساعة، وملأت الشمس الدنيا وأمتع الضحى، وهي واقفة، ترقب أحد البكوات حتى يصحو وتفرك الجارية رجليه ويغتسل ويأكل ويلبس ويجيء متبختراً...
فلماذا منعونا نحن المنام وألزمونا الحضور في الغلس، في برد كانون وقرَّ الليل؟
وما هذه الخصومات والمعارك وهذه الألفاظ الوسخة التي يقذف بها السائق ومعاونوه في وجوه الركاب، لأنهم طالبوا بحقهم وأبو الظلم؟ وما لشركة ((نِرْن)) الإنكليزية تسير سياراتها كما تسير عقارب الساعة، لا يسبق عقرب ولا يتأخر ولا يَقِفُه شيء؟
أكتِبَ علينا أن نظل أبداً أهل خلف في المواعيد، وكذب في الأحاديث، وفوضى في المعيشة؛ لا نحن اتبعنا ديننا، دين الصدق والنظام، ولا نحن قلدنا الأوروبيين في فضائلهم؟ ما قلدناهم إلا في الرذائل والموبقات!

لقد دنا المسير و ((رغت))(4) السيارات، فاستنجِدوا بقرائحكم لتسعفكم بالقول المحلَّى واللفظ المعسول، واتعصروا العيون واتمطروها الدمع، فما يحلو بغير الدموع الوداع، وما وصفه شاعر إلا (زعم...) أنه بكى، فكأن الشعراء إذا أزمعوا وداعاً وضعوا البصل في عيونهم... وإلا فكيف تجود بالدمع عند كل طلب كأنها (حنفيَّات) الحمَّام أو كأنها مُقَل الحِسان؟
وخذوا مقاعدكم قبل أن يشتدَّ الزحام. ولكن من أين ندخل وهذه السلال والصُّرَر والحقائب بين الأرجل ووسط الممرات؟
وما هذا الضيق في المقاعد؟ هل هي رحلة دقائق من دمشق إلى دمَّر أو مصر إلى المعادي؟

إنها رحلة يوم كامل بليله وأكثر نهاره، أفنمضيه محبوسين في هذا الصندوق مقيَّدين بالأصفاد، لا نستطيع أن نحرك يداً ولا نمد ساقاً ولا نتلفَّت؟ أنقاوم الشركات الأجنبية ونحاربها بمثل هذه السيارات؟
يا قوم! إنكم بمثل هذا تجعلون الناس يترضَّون عن الأجانب ويلعنون -لأجلكم- كل شيء وطني!
لقد جرت السيارة وبالسم الله مجراها ومرساها، ها هي ذي تخترق شارع فؤاد الأول وتقطع شارع بغداد، أفم شوارع دمشق وأطولها، الذي فُتح من ربع قرن ولم يُبنَ في إلا خمس بنايات لأن البلدية أرادت عمران دمشق، فوضعت للبناء فيه شروطاً لا يمكن معها البناء إلا إذا قامت حرب عالمية ثالثة وصار كل الشماميين لصوصاً(أي أغنياء حرب)!
لقد بلغنا جسر تورا*، فودِّعوا دمشق بنظرة، أودِعوها حبة القلب وقرارة اللب، فما تلقون إذا فارقتم دمشق مثل دمشق، وأين؟
أين مثل فتونها وسحرها؟ وأين مثل تقاها وطهرها؟ أين قبة تنطح النجم كقبَّتها*؟ أين مثل ربوتها وشاذِرْوانها ومزَّتها وميزانها؟
أين في الدنيا ربيع كربيعها، وزهر كزهرها، وثمر كثمرها، وكروم ككرومها؟
تزودوا منها بالنظرات تكن لكم في طريقكم زاداً، وفي غربتكم أنساً.

هذه دوماً، قصبة الغوطة*، فيها خمسة وعشرون الف ساكن قلَّ فيهم من يتفرغ للعناية بدار، لذلك ترون دورهم زَرِيَّة منخفضة السقوف ضيقة الأبواب، وقلّ فيهم من يعتني بثوب أو يحرص على علم، ما لهم همٌّ إلاَّ الزراعة فهم أقدر خلق الله عليها وأصبرهم على مكارهها، لأنهم يشتغلون لأنفسهم وذراريهم لا لك ((بك))من البكوات ولا لخواجة من الخواجات، وقلَّ فيهم من لا يملك قطعة من الأرض ولو صغرت، يعيش بها ولها ويموت عنها، ليس فيهم أسرة يستعبدها المُلاك هذا الاستعباد ((الحر)) ويظلمها هذا الظلم ((القانوي))... فينظر إليها كما ينظر إلى حميره وأبقاره ويعاملها معاملتها، فيسكنها في مثل زرائبها ويطعمها قريباً من طعامها، ولا يراها أعلى قدراً منها، يشغِّلها السنة كلها تكِدُّ وتشقى لتقدم له ثمن سكرة من سكراته أو ليلة (حمراء!) من ليلاته، تريق عرَق جباهها على أقدام عشيقاته وتبذل حياتها ابتغاء مرضاته، ثم لا تنجو من غضباته ونزواته!
إنها أرضهم هم وهم أصحابها، ولذلك ازدهرت وأينعت حتى صارت أجمل أرض في الوجود. فانظروا إليها من حولكم، إلى هذا البحر يموج بالأشجار، تتمايل أغصانها وتتعانق أفنانها، تتوِّجُها إذا جاء الربيع ألوانُ الزهر فتكون ابتسامة الزمان على فم الثرى، وتثقلها إذا حل الصيف أنواعُ الثمار، من المشمش عشرين نوعاً، حبُّه كالتفاح استدارة وبهاء لا كمشمش مصر الذي يشبه في صغره حبَّ الزيتون، ومن التفاح أربعين نوعاً*، والكمثرى عشرين نوعاً، والعنب سبعة وتسعين نوعاً معدودة عداً، والدرَّاق والخوخ والجانرك والسَّفَرْجَل والجوز والتين والزيتون والتوت أنواع شتَّى وأشكال.

وإلى السواقي تسعى بها تحمل الحياة من بردى إلى هذه الأرض المباركة، يميد على حوافيها الحور ويرقص الصفصاف، وتنساب عروق البطيخ والشمام والقثَّاء والخيار، وتضحك من حولها حقول القمح ومزارع الخضار...
هذه هي الغوطة: بستان واحد مساحته أكثر من ثلاثمئة مليون متر مربع، متصل الظلال متلاقي الأغصان، كل شبر منه روة وجمال وكنز لا ينفد على الإنفاق.

لقد جازت السيارة دوما*، فانظروا إليها فقد كادت تختفي مناراتها كما اختفت دمشق إلا جبليها الخالدين، قريعَي الدهر، حليفَي الخلود: قبة النسر من الأموي، وهامة الصخر من قاسيون.
وهذه كروم ((دوما)) يضلَّ البصر في رجاها(5)، ويقصر عن مداها، فيها العنب الدوماني الذي سارت بذكره الركبان، فمَن لم يأكل منه لم يأكل عنباً إلا على المجاز!
ولكنكم مررتم بالغوطة وكرومها في الشتاء فدُهشتم وما رأيتم إلا حَطَبها، فكيف لو جزتم بها الربيع فشاهدتم البهيِّ من زهرها، أو سلكتموها في الصيف فجنيتم الشهيِّ من ثمرها؟
إذن لقلتم: لا رب إلا الله، ولا بستان إلا الغوطة!

لم يبق الآن أمامكم إلا الصحراء، ولكن هذه الصحراء كانت يوماً من الأيام سهولاً مُمرِعة(6)، وكانت أكثرها منازل عامرة، وكانت تفيض بالخيرات وتزخر بالظلال؛ أيام الملوك الغرَّ العبشميين سادة الدنيا، بني أمية الذين حملوا راية الإسلام إلى أقصى المشرق وإلى أقصى المغرب، من أطراف الصين إلى أواسط فرنسا، فنصبوها على قبة الفلك ودعموها بالعدل والنبل والفضل، فما كانوا فاتحين كالفاتحين، يغلبون بالقوة ويملكون بالسطوة فإن زالوا زالت آثارهم، ولكن كانوا مجاهدين، وكانوا بانين، وكانوا عبقريين، فجعلوا هذه البلاد كلها إسلامية عربية إلى يوم القيامة، وكان لهم الفضل على كل مسلم في هاتيك الأقطار حتى تقوم الساعة.
رحمهم الله، وغفر لهؤلاء المؤرِّخين الذين حاولوا أن يتقربوا غلى أعدائهم بإطفاء هذه الشمس التي بهرت العيون، فجمعوا غبار الطرق وجعلوا بنفخونه عليها حتى تمزَّقت صدروهم والشمس ساطعة لم تنطفئ. ومَنذا يطفئ نور الشمس في رأد الضحى؟

غفر الله لهم! لقد جعلوا هذه المدينة -لما نزلوها- سيدة المدائن، ورفعوا قدرها حتى ذلَّت لها نهاوند ودانت قرطبة، وخضعت سمرقند وطأطأت لها القسطنطينية، فأضعنا نحن من بعدهم عزها.
إن الأرض تعمر أبداً وبلادنا تمشي إلى الخراب. إنكم ستمرون الليلة على المدينة التي قارعت روما يوم كانت روما عاصمة الأرض ونازعتها مجدها وسلطانها، فلا ترون في مكانها إلا قرية اسمها تدمر. أفرأيتم كيف نمشي إلى الوراء؟
إن ديار الشام التي يسكنها اليوم بساحلها وداخلها وشمالها وجنوبها خمسة ملايين كان فيها يوماً من الأيام خمسة وعشرون مليوناً(7)، وكان في العراق مدينتانن متجاورتان في كل منهما مليونان وأهل العراق كله اليوم خمسة ملايين! وإن بين هاتين المدينتين اليوم على الطريق جسراً قائماً في الفلاة، كان تحته نهر اسمه دّجَيل ملأ الشعراءُ بذكره الأسماعَ، يسقي مدينة اسمها حّرْبَى(8)، زخرت بأخبارها صحف التاريخ، فمحيت المدينة وجفَّ النهر، ولم يبق إلا جسر قائم في الفلاةّ
وكان في البصرة عشرة آلاف فناة فلم يبقَ فيها اليوم إلا مئة وثمانون قناة.

نعم، لقد عدنا إلى الوراء، ولكن عهد التأخر قد انقضى؛ لقد وقفت القافلة تجمع شتاتها وتعد عدتها لتمشي في طريق المجد كما مشى الأجداد. لقد عرَّفتنا المصائبُ في فلسطين والمغرب ومصر والشام أن الطريق من هنا: من الشرق...
من الشرق يطلع فجر الخلاص، أما الغرب فلا يجيء منه إلا ليل الظلم وسواد الاستعمار... هذه حقيقة تدرس في المدارس الأوية، ولكن في الناس جهلاء لم يتعلموها بعد!

يا إخواننا، إن هذه السفرة ستعلمكم الصبر.
إنكم ستتحدثون حتى تملَّوا الحديث، وتسكتون حتى تكرهوا السكوت، وتأكلون حتى تعافوا الأكل، وتجوعون حتى تشتهوا الطعام، وتنامون حتى تشبعوا من المنام، وتستيقظون حتى تتمنوا الهجوع... وأنتم محبوسون في هذا الصندوق مصفَّدون بالأغلال.
فأين هذا من رحلات الأجداد على الإبل، يستمتعون بالحرية والانطلاق والتأمل؟ تقولون إنكم اختصرتم الزمان... وماذا في اختصار الزمان إلى الإسراع إلى القبر؟
إنكم تشكون والسيارة تمشي بكم على الطريق الآهلة، وأنتم قعود تأكلون وتشربون، ففكَّروا في بطل الدنيا سيف الله خالد وصحبه: كيف قطعوا هذه البادية على الإبل لا يمشون على طريق ولا يجدون ماء ولا زاداً كافياً، والعدو محيط بهم، فلما وصلوا إلى الشام لم يغتسلوا ويمدَّوا أرجلهم... ولكنهم نازلوا جنود سيد الكتائب قيصر وانتزعوا منه الظفر وأخذوا منه البلاد، فبقيت خالصة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لن تغدو لغيرهم أبداً، لا للإنكليز ولو غلبوا عليها حيناً، ولا لليهود، ولا للأمريكان...(9)
أولئك هم الرجال حقاً!

وبعد، فهذي هي الدير؛ تبدو مناراتها من وراء البادية كما تبدو منارة الميناء من وراء البحر، فحُثَّ الخطى يا أيها السائق واسقِها (البنزيل)، فقد ملَّ السَّفرُ(10)، ونفد الصبر، واشتدَّ الشوق...
وأعظمُ ما يكون الشوقُ يوماً إذا دنت الخيامُ من الخيامِ
هذه هي الدير قد وضحت، أفلا تحسَّون أنكم مًقبلون على مدينة عراقية؟ أليس لمناراتها رشاقة مآذن بغداد، وإن لم يكن لها ثوبها المزركش الذي تخطر فيه وتاجها الذهبي الذي تميس تحته؟ أليس فراتها هو الفرات الذي يجري في العراق، وإن لم تُزِن كتفَيه الروابي المخضرَّة، ولم يستنقع فيه النخيل، ولم تمرح على صفحته الزوارق الشعرية، ولم يؤكل في القهوات المطلة عليه السمك المسقوف؟*

هذي هي الدير، فدعوني -يا رفاق- أفارقكم لاحدث القراء ((حديث الدير))... فإن فيهم من لم يسمع من قبل باسمها!




(1) نُقلت إليها مدرِّساً في ثانويتها سنة 1939، إثر حادث في المدرسة في حفلة أقيمت في ذكرى مولد النبي اعتدي فيها على النبي صلى الله عليه وسلم، فكان على يديَّ نصرة الحق وخزي المعتدي.
(2) ساحة مشهورة في دمشق يبدو أن الانطلاق إلى دير الزور كان منها يومئذ. وانظر تفصيلات هذه الحادثة التي أشارت إليها الحاشية السابقة ( وكانت سببقاً في نقل علي الطنطاوي إلى الدير) في الكريات: 4/147 (مجاهد).
(3) سمعت أنهم عادوا فبنوه وسمّوه مسجد الخلفاء.
(4) الرغاء للإبل.
(5) الرجا واحد الأرجاء، وقد ذهب أكثر هذه الكروم.
(6) مَرَعَ المكانُ وأمرَعَ: أخصَبَ(مجاهد).
(7) هذا كلام يتناقله الناس،وثد كنت أقول به يوم كتبت هذا الفصل، ولكني تيقَّنت الآن أنه غير صحيح وأن في الشام اليوم من السكان أكثر ممَّا كان فيها في كل وقت مضى.
(8) بألف مقصورة في آخرها، قال ياقوت الحموي في معجم البلدان إنها بُليدة في أعلى دُجَيل بين بغداد وتكريت(مجاهد).
(9) هذا ما قاله جدي منذ ثلثَي قرن، وهو أمر كان حقاً وبقي حقاً، ولو أيِسَ الآيسون(مجاهد).
(10) السفر، أي المسافرون، مثل الوفد والركب.



المسابقة:
ما المدينة العراقية التي شبهها المؤلف بحلب؟
ما الحي الدمشقي الذي ينطلق منه المسافرون لعبور الصحراء؟
جامع سوق الغزل في بغداد، وجامع يلبغا في دمشق ما الرابط بينهما؟
ما الطبع السيء الذي ذمه المؤلف في العرب، ومدحه في الاوروبيين؟
ذكر المؤلف شركة نقل بري انكليزية، بماذا وصفها؟
بماذا وصف المؤلف عناء الرحلة البرية؟
ذكر النص شارعين رئيسيين في دمشق ما هما؟
ذكر النص قبة دمشق، ماذا يقصد؟
بماذا وصف النص سكان الغوطة، وكم عديدهم؟
ذكر المؤلف تنوع ثمار الغوطة، فكم نوعاً تنتج من المشمش ومن التفاح والكمثرى والعنب؟
ما النهر الذي يسقي الغوطة؟ وكم مساحتها؟
ما الجبل الذي تنام على سفحه دمشق؟
ما المدينة الأخيرة من العمران في طريق المسافر إلى الصحراء؟
ما النهر الذي تنام عليه دير الزور؟