تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مسابقة أسفار ورحلات الطنطاوي - سُرَّ من رأى!!



مطيع الله
19-08-2010, 10:17 PM
نُشرت سنة 1937
الآن رجعت من التاريخ، إني أرى الدنيا صغيرة خالية لأني كنت في دنياً أكبر منها وأحفل بالنور والعطر، كنت في "سُرَّ من رأى".

جلست أدوِّن رحلتي إلى الحلَّة (دمشق العراق)، ووقوفي على أنقاض بابل(أخت الدهر)، وزيارتي السدَّة الهندية(القناطر الخيرية الثانية) وما أولاني الحلِّيون من ألوان المنن وأنواع الكرم، فلم أكد أمضي في المقالة حتى عرضت لي رحلة جديدة إلى سُرَّ من رأى.

ومن ذا الذي لا تفتنه سرَّ من رأى ولا تهيج بلابل أشواقه؟
ومن ذا الذي نظر في كتب التاريخ أو شدا شيئاً من الأدب، ثم لا يعرفها ولا يحسُّ أن لها صلة بنفسه؟
رددوا هذا الاسم الجميل عشر مرات، بصوت خافت كأنه مناجاة النفس، بطيء كأنه هجس الضمير، وأنتم تنظرون بعيونكم إلى بعيد تحدقون في غير شيء، فعلَ مَن يتذكر أمراً، ثم انظروا كم يثير في نفوسكم من ذِكَر وحوادث، وفِكَر وعواطف، أقلَّ ما توصف به أنها لا توصف.
وكيف تحتويها كلمات وهي عالم، وكيف تنتظمها لغة الأرض وهي لغة السماء؟

ومتى كان الإنسان ناطقاً مبيناً؟ إن هذه اللغة رموز ضئيلة لكائنات عظيمة، إن العواطف مئات ومئات وما ثَمَّ إلا كلمة واحدة تُسمَّى بها، وكذلك الجمال والحب والطبيعة، لا، إن الإنسان لا يزال طفلاً لم يتعلم النطق ولم يحسن البيان.

سُرَّ من رأى، وما سرَّ من رأى؟
هي التي نهضت لبغداد لمَّا كانت بغداد عاصمة الأرض، ولمَّا بلغت غاية المجد وأبعد الأماني وبذَّت كل مدينة، وكان فيها مليونان من السكان، وكان فيها العلم والفن والسلطان.
نهضت لها تزاحمها وتنافسها، فلم تكن إلا ليالٍ حتى غلبتها وبهرتها وتربعت على دجلة من فوقها، وسلبتها خليفتها وأبهتها وجُلَّة أبنائها، وكانت أجلَّ منها وأعظم.

سر من رأى، المدينة الملوكية(1) التي ولدت فجأة فإذا هي أجل المدن، وإذا في كل ناحية منها عرس وفي كل بقعة منها عرض، وإذا هي تتَّشح بالنور وتتضمّخ بالعطر وتنام على الزهر، وإذا هي تبلغ ما لم تبلغه من بعدُ الزهراء المدهشة ولا فرساي.

ثم ماتت فجأة! فإذا كل ذلك حلم سريع وبرق خاطف؛ لم تعش إلا خمسين سنة (838-883م). وما خمسون سنة في عمر المدن إلا خمسين دقيقة. أفرأيت الجميلة التي ولدت بأعجوبة فإذا هي الغادة الفتانة، ثم إذا هي تقضي بعد ساعة؟

لم تكد تزدهر وتستقرَّ حتى نودي فيها بالرحيل والرجوع إلى بغداد، فهبَّ الناس مذعورين، يحملون ما خفَّ حمله وغلا ثمنه، وتركوا المدينة العظيمة للرياح والوحوش واللصوص.

قرأت ذلك من حديثها، ثم لم أعرف عنها شيئاً ولم أدرِ ما صنع الدهر بها، وأين من يسأل عن الآثار ويبحث عنها؟ ومن يعرف اليوم ماذا جرى للكوفة ومسجدها،والبصرة ومِربدها، أو يعلم صفة القادسية واليرموك؟

من يسال عنها، وهذا مسجد بغداد العظيم، مسجدها الجامع، قد ابتلعته الدور وطغت عليه فلم يبقَ منه إلا منارته تنادي لو وجدت سميعاً؟ وما كان ذنب هذا المسجد وما كان ذنب هذه الآثار، إلا أننا نحن ورثوها لا الفرنسيس ولا الانكليز، أولئك الذين لم يدَعوا في بلادهم شبراً من الأرض فيه جمال من جمال الطبيعة أو أثر من آثار الماضي إلا كتب عنه مؤرِّخوهم، ووصفه أدباؤهم، وصوَّره مصوِّروهم، ونحن الذين أضعنا آثارنا الجيليلة وهدمناها بأيدينا لنبني بأنقاضها دورنا الحقيرة!
أسمعتم بالمدرسة النظامية التي درَّس فيها حجة الإسلام الغزالي وإمام الحرمين الجويني، والتي كانت من أكبر جامعات القرون الوسطى؟ أتدرون ماذا بقي منها؟ منارة مهدَّمة طولها أربعة أمتار في زقاق عرضه ثلاثة أمتار، عند جامع مرجان في بغداد.
والمنارة مائلة قد انحنت تحت أثقال دار قد ركبتها، وربما هدمت المنارة لتقام عليها الدار، فمن يدري؟
وأين من يدرس الآثار ويعنى بها، وهذا قصر الخضراء في دمشق لم يبقَ منه إلا اسمه تحمله مصبغة في زقاق القباقيب؟
يا لعجائب الزمان! صار مثوى التاج ومحط العرش زقاقاً للقباقيب!(3) فمن سأل عنه ومن وصفه ومن حفر في انقاضه؟
أما لو أنهذه الآثار كانت لغيرنا إذاً لحُرثت هذه البقاع حرثاً، ثم أخرجت كنوزها، ثم ملأت نفوس أهلها عزَّة، ثم كانت لهم أجنحة يطيرون بها في معارج العلاء.

إن تحت هذه الأرض علماً ومجداً وجلالاً، ولكن ليس فوقها من يحفل العلم والمجد والجلال!
أوَليس من أعجب العجب -يا قومي- أن آثارنا لم يبحث عنها ولم يكشفها إلا هؤلاء الأوروبيون؟ إن في جوار دمشق قريتين هما معلولا وجَبَعْدين تتكلمان السريانية منذ خُلقتا(4) فما فكر أحدٌ في درس هذه اللغة ومعرفتها حتى جاء هذا المستشرق الشاب من آخر الدنيا ليدرسها.

بل هذه هي ((سٌرَّ من رأى)) ما نقَّب فيها وكشفها للناس إلا هرَسْفِلْد الألماني الذي حفر فيها سنة 1911 كلها وبعض سنة 1913 بإشارة من أستاذه سار وبنفقة المصرف الألماني وبعض كبار الألمان.
بدأ الحفر في قصر المتوكل ثم انتقل إلى الجوسق وإلى قصر المعشوق(5) واستخرج من هذه البقعة الصغيرة كرائم الآثار ونفائس الأعلاق التي انتقلت إلى الدنيا، وبقيت لدينا نسخ معدودة من هذا الكتاب الجليل الذي أخرجه هرفلد في مجلدات كثيرة فيه صور هذه الآثار باهرة مدهشة حقاً. وهو يصف في المجل الأول نقوش الجدران وزخارفها، ويقول إنها لم تكن تخلو دار من هذه النقوش الجصيِّة البارزة الملونة أحياناً، وفي الثالث الرسوم والصور، وأكثر هذه الصور مما وجد في حمام الجوسق، وقد حلت هذه الصور مشكلة قصر المشتى الذي كشف سنة 1908. ويتحدث في جزء عن الأواني الزجاجية والخزفية، وقد بيَّن أنه كان في سُرَّ من رأى معمل للزجاج ومعمل للأقمشة وجدت بعض قطع ملونة من مصنوعاته.
ومن أهم ما تمتاز به المدينة شوارعها التي لا تكاد تحوي مثلَها اليوم مدينةٌ في العالم، فقد كانت كلها مستقيمة متقاطعة بانتظام عجيب، والشارع الأعظم(وآثاره باقية) يمتد عدة أميال بعرض مئة ذراع، ودورها التي كان أكثرها كبيراً فيه خمسون غرفة، وفيه مَجارٍ للماء وبِرَك، ومجار أخرى للماء القذر، وحمامات وسراديب للصيف مبنية على نظام يكفل لها حسن التهوية.
وكان أكثر الدور على طراز واحد، فهي ذات ردهتين: ردهة حيال الباب تفضي إلى ردهة أخرى مستطيلة عمودية عليها، والغرف من حولهما.
وقد صحب هرسفلد رجل عسكري يدعى لودلوف متخصص برسم المصوِّرات، صنع خريطة للمدينة مفصلة بنسبة 1/25000، وصحبه رجلان مختصان بالنقوش هما راتوس وبيجر. على أن ما كشفه هرسفلد لا يعد شيئاً، والمتحف العراقي عامل على موالاة التنقيب في الآثار وجمعها في متحف الآثار العربية، وينتظر ظهور أشياء هائلة.

سرنا إلى سر من رأى في قافلة مؤلفة من كبار طلاب دار المعلمين العالية في بغداد، فجزنا بالأعظمية وعبرنا النهر إلى الكاظمية ثم استقبلنا الفضاء.
ولم نقف في الطريق إلا على جسر ((حَربْي))، وهو جسر قائم وحده في الفلاة ذو ثلاثة قناطير، عليه كتابة ظاهرة تدل على أنه بني في أواخر العهد العباسي على نهر دُجيل ليسقي مدينة حَربي. فتلفَّتنا فإذا النهر قد جفَّ، والمدينة قد مُحيت، والعهد العباسي قد انقضى، وإذا كل بلاد الله تتقدم وتزداد عمارة وبلادنا تتأخر وتمعن في الخراب، فوقفنا معتبرين ومضينا مستعبرِين.
ولم نسر من بعدُ إلا قليلاً حتى طلعت علينا ((المَلْويَّة)) وهي منارة جامع المتوكل، عالية تبدو من بعدي كالصرح الهائل، وقد شبهت مكانها من سر من رأى ببرج إفل من باريز، فهي علَم البلد ورمزه، ثم بلغنا دجلة فعبرناه، ودخلنا ((قرية)) سامراء نستريح في مدرستها ساعة بعد مسيرة ثلاث ساعات في السيارة.
ثم ولجنا حرم التاريخ، يصحبنا معلِّمو المدرسة الذين أولونا من اياديهم وأرونا من كرمهم وحسن أخلاقهم ما نذكره لهم بالشكر، فلولاهم ما رأينا شيئاً ولا عرفنا من أين ندخل أو نخرج في هذا العالم الواسع!

أي والله هو عالَم، هو شيء عظيم، سرنا أكثر من خمسة وعشرين كيلاً (بالضبط) وما قطعنا إلا نصف البلد من المسجد الجامع إلى الدور العليا، وإن إلى الدور السفى لمثلها، وإن هذا كله لنصف المدينة، وعلى الضفة الأخرى مثله.

أنا لا أستطيع أن أتصور كيف كانت هذه البرية الواسعة التي يضل فيها البصر مدينة عامرة، وكيف كان الناس يقطعونها، وإن بين أولها وآخرها اليوم لمسيرة اثنتي عشرة ساعة على الراكب.
كان أول ما رأينا المسجد الجامع، وهو كبير جداً، لو وضعت سامراء الحاضرة في لوسعها وفضل عنها، لم يبق منه إلا السور وهو مبنى من اللبن كسائر الأبنية العراقية، تدعمه من ظاهره أبراج مستديرة، وورا السور المنارة وتعرف عند الناس بالملوية أي المستديرة، وهي حلزونية الشكل سلَّمها من ظاهرها، مؤلفة من سبع طبقات، وتحتها قاعدة مربعة اقيمت حديثاً لتقويتها، طول الضلع من اضلاعها 32 متراً، وارتفاع المنارة 52 متراً(كما قالوا)، وقد بُنيت على غرارها منارة جامع ابن طولون في القاهرة(6)، ثم تُركت هذه الصفة في المآذن واتُّخِذ لها سلم من جوفها.

تركنا المسجد وسرنا في جهة واحدة كيلا نضلَّ وسط هذه الأطلال، وكان حولنا تلال من التراب كانت قبل ألف ومئة سنة دوراً عامرة وقصوراً فخمة، فجزنا بها حتى بلغنا أنقاضاً حولها سور كبير، أخبرَنا معلم المدرسة أنها أنقاض قصر أم عيسى ابنة الواثق.
وعلا بنا على تلِّ على وقال: انظروا، فنظرت فلم ار إلا برية واسعة، لا شيء فيها، فقال: أمعن النظر وحدق في الأرض، ففعلت فرأيت شيئاً أدهشني وخفق له قلبي.

رأيت تلالاً صغيرة منتظمة على شكل دوائر متقاطعة على نمط هندسي بديع، تمتد إلى ما لا يدرك البصر آخره، فقلت وأنا مشدوه: ويحك، ما هذا؟
قال: ميدان سباق تجري فيه الخيل إلى أكثر من خمسة آلاف متر، فلا تغيب عن عيني الخليفة وهو يرقبها من مرقبه العالي.
ومضينا... نمرُّ على الأطلال، حتى بلغنا آثار سور كأنه سور مدينة، فقال دليلنا: هذا بلاط الخليفة.
فترجَّلنا وسرنا في طريق باقية آثاره، ونحن نتخيل كم مرَّ في هذه الطرق من خلفاء وأمراء، وكم شهدت من جلال وجمال، حتى بلغنا مصيف المتوكل، وهو أول ما استقبلنا من القصور.
ونسيت أن أقول إن البلاط بلدة واسعة فيها عشرات القصور تبدو أنقاضا ناطقة بعظمتها، وفيها المسجد الكبير، وفيها البركة المتوكلية المشهورة(بركة البحتري).
فولجنا المصيف،وهو قصر كبير تحت الأرض فيه غرف كثيرة يفضي بعضها إلى بعض وفي ساحته بركة، وقد كدنا نهلك من حرارة الشمس ونحن فوق الأرض، فلما هبطنا إلى جوف القصر كدنا نشكو البرد. وكان زميلنا أستاذ التاريخ يقصُّ على الطلاب قصة القصر وبنائه وفنه وقيمته التاريخية،ولكن واحداً منا لم يكن يصغي أو يفهم شيئاً مما يقول، فكفَّ وعلم أن الكلام الآن للقلب وعواطفه الحيَّة، لا للعقل ومقاييسه الجافة وفلسفته الباردة.

كنا نتخيل هذا القصر وقد كان يعجُّ بالحياة ويفيض بالحب.
كنا نسمع الأصوات ونبصر الألوان ونشم عبق العطر، ونحس كأنا نرى الخليفة ونشهد مجالس الأدب والغناء وخلوات الحب.
كم عاش في هذا المكان من عواطف! كم خفقت فيه من قلوب! كم امتلأ بالحياة! أفيودي ذلك كله بمثل هذه السرعة وهذه السهولة، ويشمله العدم ولا يبقى له وجود قط؟
أي امرئ عرف الحب وكابده وأدرك معناه، ثم يؤمن بأن العدم يقوى عليه؟ لا؛ إن ذلك كله موجود! موجود في زاوية من زوايا هذا الكون الفسيح، إنه خالد لا يفنى أبداً. إن في هذا القصر ذكريات جمة تحتويها هذه الجدران الخرساء وهذا اللبن البارد، إن فيه صدى تلك الهمسات التي كانت تتناجى بها الشفاه، إن فيه خفقات تلك القلوب.
إن سؤال الديار واستخبار الأطلال أقدم فنون الشعر العربي، فهل ترى الشعراء كلهم مجانين؟ أتراهم كانوا عابثين؟ لا، إن في هذه الأطلال لحياةٌ، إن كل شيء في الوجود حيٌ يذكرُ ويأمُل ويشعر ويحلم،ولكنه لا ينطق ولا يفكر.
آهٍ، لو أن هذه الجدران كانت تنطق وتتحدث وتصف ما تشعر به!
وخرجنا من القصر ونحن نحس كانا قد خرجنا من أنفسنا وانتقلنا إلى عالم آخر، عالم تتمتزج فيه الأحلام بالحقيقة، عالم شعري ساحر... فمررنا على جب واسع للماء خبَّرنا دليلنا أن بعض الجاهلين من الأدلاء والتراجمعة يدَّعون بأنه سجن ويختلقون عنه الأكاذيب.
وهؤلاء الأدلاء والتراجمعة بلاء أزرق، وقد سمعت واحداً منهم يشرح لبعض الإفرنج تاريخ الجامع الأموي في دمشق، فقال لهم ما نصه: "هذه هي المنارة التي بناها الوليد بن هارون الرشيد لسيدنا عيسى(7)، ولذلك سُميت منارة عيسى"، وهم يكتبون في دفاترهم ما يقول فينشرونه على أنه كتاب علمي عن الشرق وأهله. وليس العهد ببعيد بتلك الكاتبة الفرنسية التي كتبت كتاباً عن دمشق قالت فيه:((ويخرج أهل دمشق كل مساء لزيارة قبر النبي في مكة ويرجعون ليناموا في دورهم)). وما قبر النبي في مكة ولا مكة في دمشق، ولا يخرج أهل دمشق ولا يدخلون، ولكن الحماقة ألوان والجنون فنون!

أقول: إننا سرنا إلى القصر، وقد حفر فيه هرسفلد واستخرج منه آثاراً رخامية ومحراباً جميلاً حملها إلى ألمانيا. ثم انتهينا إلى البركة، ولست أكتم القراء أني كنت أظن أن البحتري يبالغ في وصفها على طريقة الشعراء الخياليين، وأقرر ذلك في دروسي الأدبية وأقول: ما عسى أن تبلغ هذه البركة حتى تظل دجلة كالغَيْرى منها تنافسها وتباهيها؟ وحتى تبدو في الليل كأن سماء رُكِّبت فيها، وحتى إن السمك المحصور لا يبلغ غايتها لبعد ما بين قاصيها ودانيها؟
فلما رأيت أنقاضها رأيت شيئاً عظيماً، رايت بحراً، رأيت ميدان سباق! دائرة قطرها نحو مئتي متر، فأكبرتها وهي جافة، فكيف لو رأيتها وهي ممتلئة بالماء ومن حولها الغرف المفروشة المزخرفة وقد عُقد فيها مجلس الخليفة؟ إذن لرأيت أكثر مما قال البحتري، فرحم الله الشاعر، وألهم شعراءنا تخليد ما يرون من جمال بلادهم وعظمة مصانعهم، على نحو ما خلَّد البحتري البركة والجعفري وطاق كسرى.
ثم سرنا إلى قصر الخليفة الرسمي ووقفنا في إيوانه الكبير، وهيو مبني على شكل إيوان كسرى ولكنه أجمل وأصغر. وقفنا صامتين خاشعين تتقاذفنا عواطف وذكريات لا يُدرى مداها، نتخيل هذا الإيوان وكم عُقد فيه من مجالس، وكم وقف فيه من ملوك، وكم كُتب فيه من تاريخ. نبصر المعتصم وقد أخذ كأس ما ليشربها فأبلغوه أن مرأة مسلمة أسيرة في بلاد الروم صاحت: وامعتصماه!
امرأة أسيرةن وأمير المؤمنين يشرب كأسه هانئاً؟ امرأة تنادي: وامعتصماه، والمعتصم لا يجيب؟
إن هذا لن يكون!
وأرى المعتصم يخرج في الجيش للجِب الذي تضطرب له سُرَّ من رأى، وتميد لثقله الأرض، وتصعق لهوله المرَدَة وترتجف الرواسي، حتى يحط على عمورية فيدكها دكاً ويعود مثقلاً بالمجد والظفر والغنائم.
وأسمع أبا تمام ينشد آيته الخالدة التي لم يقل اعظمَ منها المتنبي(8):
السيفُ أصدق إنباءً من الكُتُبِ في حَدِّه الحَدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ
فَتْحُ الفُتوحِ تعالى أن يُحيطَ به نظمٌ من الشعرِ أو نثرٌ من الخُطَبِ
يا يومَ وقعةِ عَمُّوريةَ انصرفت عنك المُنى حُفَّلاً معسولة الحَلَبِ
أبقيت جَدَّ بني الإسلام في صَعَدٍ والمشركين ودارَ الشركِ في صَبَبِ

ثم أنظر حولي فأرى كل شيء قد تبدل:
تغيَّرَ حُسْنُ الجَعْفَريِّ وأُنسُهُ وقُوِّضَ بادي الجَعفَريِّ وحاضِرُهْ
تَحَمَّلَ عنهُ ساكِنوهُ فُجاءَةً فعادَتْ سَواءً دُورُهُ ومَقابِرُهْ
إذا نحن زُرناهُ أجَدَّ لنا الأسَى وقد كان قبلَ اليومِ يُبهَجُ زائرُهْ
غدا موحِشاً قَفراً كأن لم يُقِمْ بهِ أنيسٌ ولم تَحسُنْ لعينٍ مناظِرُه(9)
كأن لم تَبِتْ فيهِ الخلافةُ طلقةً بشاشتُها والملكُ يُشرقُ زاهِرُهْ
ولم تجمع الدنيا إليه بَهاءَها وبَهجَتها والعيشُ غضٌ ماسِرُهْ
فأين الحِجَابُ الصعبُ حيثُ تمنَّعت بهيبتها أبوابُه ومقاصرُهْ
وأين عميدُ الناسِ في كل نَوبةٍ تنوبُ، وناهي الدهرِ فيهم وآمرُه؟(10)

لقد هجرته الحياة ونأى عنه النعيم وجفاه كل صديق، حتى دجلة. دجلة أعرضت عن القصر ونأت عنه وقد كانت تسيل على أعتابه، وجفته وكانت مع الدهر الدوَّار والزمان الغدار.
حتى دجلة التي افاضوا عليها المجد ووضعوا فيها الحياة، وأعطوها اكثر مما أخذوا منها، حتى دجلة التي جرت ملايين السنين، فلم تجد أكرم ولا أعز ولا أعظم من أصحاب هذا القصر وبُناته... حتى دجلة نسيت وخانت!(11)
ثم ودعنا البلاطَ وسرنا، وقد أودعناه قلوبنا وصببنا فيه نفوسنا ودموعنا، سرنا في الشارع الأعظم نصف ساعة في السيارة، والشارع بيِّنٌ، لاحبٌ عرضه مئة ذراع، والشوارع تنفرع عنه في نظام عجيب وهندسة محكمة، والبيوت قائمة على الجانبين، وقد استحال أثرها إلى تلال من التراب كأنها القبور.
فمررنا على معسكر أشناس، وهو أشبه بميدان فسيح جداً، حوله سور، حتى انتهينا إلى المسجد المعروف اليوم بجامع أبي دُلف، وهو أكبر من مسجد المتوكل، وفيه رواق قائم على خمس قناطر ومنارة كالملوية، ولكنها أصغر منها، فوقفنا عليه.
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، فانتهت الرحلة هنا، وعدنا ونحن صامتون، خاشعون... وقد علمنا لماذا يريدون منا أن نتجرد من ماضينا؛ ذلك لأننا لا نستطيع أن نبني المستقبل الفخم إلا على أنقاض الماضي الفخم.




________
(1) النسبة صحيحة مستعمَلة من القديم وإن كان القياس ((ملكية)). ومثلها في النسبة إلى الجمع: رجل أنصاري ورسالة إخوانية ومسألة أصولية، ومثلها قضايا عمَّالية ومشكلات طلابية.
(2) وقد سمعت ولم أبصر أنهم أعادوا بناءه أفخم وأعظم مما كان وسموه مسجد الخلفاء.
(3) وقد سمعت أيضاً ولم أبصر أنهم أخلوا ما حول الأموي وسيجعلونه شوارع عِراضاً.
(4) ليس على وجه الأرض اليوم من يتكلم السريانية غيرهما.
(5) قصر عظيم باقية آثاره، وهو مقابل قصر المتوكل على الضفة الثانية، لم يعرف أحدٌ تارخَه، والعامة تسميه قصر العاشق والمعشوق، وبينه وبين قصر المتوكل آثار سد هائل في دجلة، وقد بحثت وحققت فوجدت أن تلك الأنقاض لقصر المعشوق الذي بناه المعتمد على الله، قالوا: وكان في الجانب الغربي قبالة سامراء.
(6) وهي باقية، في موضع مدينة القطائع التي بناها ابن طولون(حي السيدة زينب اليوم).
(7) لذلك ألفت كتابي ((الجامع الأموي)) الذي طبعته وزارة الأوقاف وتبيعه (هي) للسياح.
(8) أبو تمام، لا المتنبي هو الأستاذ الأكبر في الشعر العربي.

(10) من قصيدةالبحتري، وهو صاحب أجمل أسلوب في الشعر العربي.
(11) غير النهر مجراه، وابتعد عن القصر مسافة كبيرة، وقد كان يمر أمامه.