المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسابقة أسفار ورحلات الطنطاوي - من دمشق إلى بغداد!!



مطيع الله
21-08-2010, 09:23 PM
نُشرت سنة 1936
لما جاوزنا أبا الشامات(1) وأصحرنا، ونظرت بين يديَّ وعن يميني وعن شمالي فلم أجد إلا الصحراء الصامتة الرهيبة الموحِشة، ووجدت دمشق (التي أحببتها ولقيت فيها من يحبني، وألِفتها وتركت في كل بقعة منها قطعةً من حياتي وطائفةً من ذكرياتي) قد اختفت وراء الأفق وتضاءل ((قاسيونها)) وصَغُرَ حتى ما يبدو منه إلا خيال علويٌّ يلوح في حاشية السماء له وميض ولمعان، أحسست بلوعة الفراق، فخفق قلبي خفقاناً شديداً:
كأن القلبَ ليلةَ قيل يُغدَى بليلى العامريِّةِ أو يُراحُ
قَطاةٌ غرَّرها شَرَكٌ فباتَتْ تُعالِجُهُ وقد عَلِقَ الجَناحُ
وخالطني حزن عميق وشعور مبهم أعرفه من نفسي كلما سافرت سفراً بعيداً ( على كثرة ما أسافر وأبتعد)، شعورُ من يجد الموت ويبصره بعينه!

ولِمَ لا؟ وهل الحياة إلا أن تقيم في المكان الذي تألف، وترى الناس الذين تحب، وتصل ماضيك بحاضرك بصورة تراها، أو نغمة تسمعها، أو بقعة تحتلها؟
وهل يحيا المرء إلا في الأمكنة والوجوه، وبالذكريات والآمال؟ وهل الموت إلا أن ينبتر ممَّا يحيط به، وينقطع عن كل ما يعرف، ويقدُم على بلد مجهول وحياة غريبة عنه، لا عهد له بها ولا نبأ عنده منها؟
أوَليس للإنسان حياة ظاهرة في قيامه وقعوده، وطعامه وشرابه، ومجيئه وذهابه، وحياةٌ باطنة في أفكاره وذكرياته، وآماله وآلامه،وميوله وعواطفه؟ أوَليست حياته الباطنة هي الأصل وهي الأساس، فلا يحيا إلا بها ولا يقوم إلا عليها،كما أن الشجرة لا تحيا إلا بجذورها الممتدة في جوف الأرض، المتخفية في بطن الثرى؛ فإذا انقطع المرء عن عادته وابتعد عن أهله وصحابته لم ينفعه أنه لا يزال يقوم ويقعد ويأكل ويشرب، كما أن الشجرة لا تنفعها أغصانها وفروعها إذا هي بُتَّت من أرضها وقُطعت من أصلها وفُصلت عن جذرها؟
وأحسب أن الله -جلَّ وعزَّ- ما قرن الموت بالإخراج من الديار، وأجزل ثواب المهاجرين في سبيل الله التاركين أوطانَهم ابتغاء مرضاة الله، إلا لأن الهجرة ضربٌ من ضروب الموت ولونٌ من ألوانه، فإن تعددت الألوان فالموت واحد!

وازدحمت في نفسي صور حياتي في دمشق، وحُبِّبت إليَّ أضعافَ ما كنت أحبها، ومرت أمامي صور إخوتي وأهلي وإخواني، وذكرت سهراتنا البيتية ومجالسنا الأدبية، وهذه الحفلات الوداعية الكثيرة التي تفضَّلَت فأقامتها أسرة التعليم وجمعية التمدن الإسلامي والمدرسة التجارية تكريماً لي قبل أن أعمل شيئاً أستحق عليه التكريم، وأفيض عليَّ من النعوت ما ليس فيَّ ولا أستحق الأقل منه. وذكرت من دمشق كل حبيب إليَّ جميل في عيني، فازددت بها تعلقاً، ووددت لو أني أبَيْتُ فلم أذهب ولم أتغرَّب.

وكانت الصحراء قد امتدت من حولنا وأحدقت بنا، وصرنا في قبضتها لا شأن لنا ولا خطر، وآضَت هذه السيارات الفخمة -التي كانت تملأ الشارع بطوله وعرضه وكانت تُعَد وهي في دمشق شيئاً عظيماً- أهون على الصحراء من حبة رمل، وضاعت في أرجائها فلم تَعُدْ تُعَدَّ شيئاً.

وكان قد بلغ مني الحزن وحزَّت في نفسي لوعة الفراق، فأغمضت عيني ورجعت إلى نفسي، حتى إذا استروحتُ فتحتهما وجعلت أحدِّق في هذه البادية، فأرى السيارة تعدو فيها وتسرع حتى نحسُّ كأنها تطوي الأرض طياً، وأراها تلهث من التعب والباديةُ باقية على حالها، كأننا لم نقطع منها شبراً وكأننا بعدُ في أماكننا.
ولست غريباً عن البوادي فقد عرفتها في رحلتنا تلك إلى مكة(2) وبقيت فيها عشرين يوماً، ما من ساعة منها إلا وهي أشدُّ من عشرة أسفار إلى بغداد، ولكن هذه البادية(بادية الشام) تختلف عن جزيرة العرب، ففي الجزيرة مناظر متباينة وأراض مختلفة؛ فيها الجبل وفيها السهل، وفيها الوعر وفيها السهل، وما في هذه إلا شيء واحد لا يكاد يختلف أو يتغير، أرض منبسطة ترابية قاحلة تمتد إلى الأفق، كأنه بحر ليس فيه ماء!

فكنا نقرأ ونتحدث لنقطع الصحراء بحيثنا، فتقطع الصحراء بصمتها وجلالها حيثَنا، وكنا ننام ونفيق والصحراء هي هي... حتى قطعنا يوماً كاملاً،وكان صباح اليوم التالي، وللصباح في البادية جمال وروعة لا يكون مثلهما في المدن، وبدَّدت الشمسُ ظلمة الليل فتبدَّدت من نفسي ظلمة الكآبة والحزن وانزاحت عني نوبة المرض، وما العاطفة الرقيقة المؤنثة إلا مرض في الرجال، فصحوت ونظرت في أمري فإذا أنا لم أغترب ولم افارق بلدي.

وهل بغداد إلا داري وبلدي وفيها أهلي وإخوتي؟ إن لم تقرَّر هذه الأخوَّةَ الأنظمةُ ولم تسجَّل في الدساتير فلقد قررها الله من فوق سبع سماواته وسجَّلها في القرآن:((إنما المؤمنون إخوة))، وليس يُنقَض ما أبرم الله.
وإن فرقت بيننا شارات على الأرض وألوانٌ على المصوَّر(3)، فلقد جمع بيننا الدين(4) واللغة والعادات، وألَّفَ بيننا تاريخ الماضي وأملُ المستقبل وألمُ الحاضر، ووحَدَّ بيننا الدم الذي جاء من نبعة واحدة. فأنَّى ننكر هذه الأخوَّة وشاهدها فينا ودمها في عروقنا؟ وكيف أجهل بغداد ولها في نفسي مئة صورة، وفي ذاكرتي عنها ما لا أحصي من الأخبار والتواريخ والأشعار؟
وبغداد عاصمة الإسلام، ومشرق شمس الحضارة، وحاملة راية العصر الذهبي الإسلامي، وأم الدنيا، ومنزل المنصور والرشيد والمأمون...
فِدىَ لك يا بغدادُ كلُّ قبيلةٍ منَ الأرض إلاَّ خِطتي ودياريا
فقد طفتُ في شرق البلاد وغربها وسيَّرتُ رَحلي بينها وركابيا
فلم أرَ فيها مثلَ بغدادَ منزلاً ولم أرَ فيها مثلَ دجلةَ واديا
ولا مثلَ أهليها أرقَّ شمائلاً وأعذب ألفاظاَ وأحلى معانيا

وكنت أرانا نخاف هذه البادية ونحن على طريق مسلوكة في سيارة متينة، ونمَلَّ من طولها ونحن نقطع منها ثمانين أو تسعين كيلاً في الساعة، ونشكو ومعنا اللحم والفاكهة والماء المثلج، ونتعب ونحن مضطجعون على المقاعد الوثيرة ثم إذا وصلنا إلى الفندق نمنا أربع عشرة ساعة لنستريح ونسترد الروح، فأفكر في أجدادنا أيَّ ناس كانوا؟ وكيف قطعوا هذه البادية وهم على ظهور الإبل، يخوضون لجة الرمل الملتهب ويلتحفون أشعة الشمس المحرقة، يتبلَّغون من الطعام بتمرة ويكتفون من الماء بجرعة، ثم إذا وصلوا قابلوا جيوشاً أوفر عدَداً فحاربوها وانتصروا عليها وفتحوا بلادها، فأقول: هذا هو فرق ما بيننا وبين أجدادنا.

هذا هو الفرق بين الشاب منهم تصيبه ضربة في المعركة فتقطع يده من كتفه، وتلبث متعلقة به فتؤذيه وتعيقه عن القتال، فيعمد إلى أصابع يده المقطوعة فيدوس عليها بقدمه، ثم يتمطى حتى يبترها، ثم يلقيها ويعود إلى جهاده، والشاب منا يزاحم المرأة على كل شيء هو لها، فيخطر في الشارع كالعروس في ليلةالزفاف، وإذا شاكته شوكة أو لفحته الشمس أوى إلى الفراش!
ولما كان ضحى الغد بدا لنا نخيل العراق، وأشرفنا منه على مثل الليل، فعرفت لماذا سمى العرب السواد سواداً، وذهبت أتذكر الفتوح(وعهدي بمطالعتها قريب(5)) فأحسُّ بأني أسمو عن زماني وأعيش في أيام الصدر الأول، وأقدِّر بُعدَ نظر المستعمرين وعمق مكرهم في تعطيلهم التاريخ الإسلامي في مدارسنا وتنشئة أبنائنا على الجهل به والبعد عنه، لما لهذا التاريخ من العمل السحري على بثِّ روح الشرف والنبل والقوة والعزة والفضيلة في نفوس شباب العرب، ولأنه شمس إذا طلعت كشفت هذه الأنوار الكهربائية التي أضاء بها الغربيون أرجاء تاريخهم، فبدت تواريخهم بعد ذلك سوداء مظلمة... وبدا وحده المشرق المنير.
وجعلت أتشوَّق إلى بغداد، وأعرض في ذاكرتي صوراً منها، وأنتظر أن أرى مدينة المنصور بأسوارها المستديرة وأبوابها الفخمة، وألمح قبَّتها الخضراء العالية المشمخرَّة الذاهبة في السماء ثمانين ذراعاً طالعة علينا من عرض الفلاة، تضطرب صورتها في دجلة(6). وملأ نفسي الشعور بعظمة بغداد، المدينة التي كانت وحدها دنيا:"كان فيها ستون ألف حمَّام، فلو كان في كل حمام خمسة نفر: حمامي وقيم وزبَّال ووقَّاد وسقَّاء، وذلك أقل ما يكون، لكان أصحاب الحمامات ثلاثمئة ألف رجل. وكان حيال كل حمام خمسة مساجد، فلو كان في كل مسجد خمسة أشخاص لكان ذلك ألف ألف وخمسئة ألف إنسان. وأحصيت الزوارق التي في دجلة فكانت ثلاثين ألفاً(7).

قال الخطيب: "لم يكن لبغداد في الدنيا نظير؛ في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتميز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها، وسعة أطرارها، وكثرة دورها ومنازلها ودروبها وشعوبها ومحالِّها وأسواقها، وطيب هوائها وعذوبة مائها، وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها وصحة ربيعها وخريفها، وزيادة سكانها".

وبعد، فهأنذا على ((جسر بغداد)) في نشوة من خمرة الذكرى؛ أذكر ما لا سبيل لي إلى تلخيصه، وأحس ما لا طاقة لي على وصفه. وقد قال أبو الوليد: قال لي شعبة: أرأيت جسر بغداد؟ قلت: لا، قال: فكأنك لم ترَ الدنيا.

أما أنا فرأيت جسر بغداد ورأيت الدنيا. لا أقول إنه أعظم من جسر إسماعيل أو أجمل من جسر الزمالك، ولكن لجسر بغداد سراً يعرفه كل من نظر في كتب الأدب والتاريخ وقرأ عن جسر بغداد.
هذا الذي جازه القواد الفاتحون، والفقهاء والمحدِّثون، والشعراء والماجنون.
هذا الذي وقف عليه الرشيد والمأمون، وأبوحنيفة والشافعي والفضل بن دينار، ومطيع وأبو نواس، وعبد الله بن طهر ويزيد بن مِزيَد.

هذا الذي كان سرة الأرض!

أيا حبَّذا جسرٌ على مَتنِ دجلة بإتقانِ تأسيسِ وحُسنِ رَوْنَقِ
جمالٌ وفخرٌ للعراق ونزهة وسلوةُ مَن أضناه فَرطُ التشوِّقِ
تراه إذا ما جئته متأملاً كسطر عَبير خُطَّ في وسط مُهْرَق(8)

أما إنني إن أحببت مصر لأن منها أصلي، وأحببت الشام لأن فيها مولدي، وأحببت الحجاز لأن فيها قبلتي، فإني أحب العراق لأن فيها أجمل ذِكَر الماضي، وأحب كل بلد يقول أهله: ((لا إله إلا الله محمد روسول الله)) لأنه بلدي وأهلُه أهلي.
__
______
(1) في زيارتي الأولى لبغداد سنة 1936، وأبو الشامات آخر مخفر سوري على حافة الصحراء.
(2) اقرأ وصفها في كتابي ((نفحات من الحرم)).
(3) أي الخريطة، كذا سماها جدي دائماً، والخريطة بهذا المعنى استعمال حديث، وهي -في الأصل- كيس من الجلد يُشَدُّ على ما يوضع فيه(مجاهد).
(4) وكفى به جامعاً بيننا.
(5) كنت أشتغل قبل سفري بكتابي عن أبي بكر الصديق.
(6) سقطت هذه القبة وتهدمت من قديم.
(7) كذا قال المؤرخون، والمبالغة في ذلك كله ظاهرة.
(8) المُهرَق: الصحيفة.

mo7ammad
22-08-2010, 12:30 PM
يعطيك العااااافيه