ابو علاوي
24-08-2010, 07:38 AM
خيبة ساحر - قصة حقيقة جرت مع ساحر اجبني وبين العلامة الدمشقي محمد امين شيخو في القرن الماضي
كان عدد من الأشخاص جالسين ملتفين حول بعضهم في غرفة كبيرة، يستمعون حديثاً لطيفاً مريحاً.. فترى على وجوههم شلالات من السرور والنعيم تنصبُّ عليهم، فتغمرهم حتى تنسيهم الدنيا وما فيها من هموم ومتاعب..
وذاك الرجل عريض المنكبين، أبيض الوجه ناصعه، تحمرُّ وجنتاه حمرة دموية فتزيده جمالاً فوق جمال ملامحه، وتبرق عيناه الخضراوان الفاتنتان روعةً وحياةً، وقد جلس في صدر الغرفة تغمره مهابة ربّانية كبرى...
إنه يختال بالقوة المكللة بآيات الرحمة، وقد شفَّ مجلسه وصفا وازدان بحديثه الراقي، يتلو شروح آيات الذكر الحكيم، فيغمر بها قلوب مريديه، ويطير بها لعليين.( المقصود هو العلامة محمد امين شيخو رحمه الله)
وفي آخر الدرس، وبعد الصلاة يتقاطر الحاضرون، يسلمون على مرشدهم بأدبٍ جمٍّ مستأذنين بالانصراف، حتى إذا ما بقي عدد قليل منهم، تكلم أحدهم ويوافقه آخر على ما يقول. كان الاثنان ما يزالان حديثا العهد في التحاقهم بحلقة ذلك المرشد الكبير.
قال: سيدي، ذلك الرجل لا ندري كنهه، وإنا لنظنه من أهل الله، وذا كرامة... على الرغم من أنه ليس عربياً.
أمعن النظر فيهما وقال: من هو؟.. ما قصدك؟.
قال: سيدي، لقد تناقل بعض الناس أخبار أجنبي قد قدم إلى الشام، واستقر في منطقة المرجة في الساحة العامة فيها، فأقام محلاً له، وبات يستقبل الناس والسائلين، فما من حاجة تسأله عنها إلا ويأتيك بالجواب لها، والغريب يا سيدي أنه يطلب من زائره أيّاً كان أن يضمر بنفسه حاجته دون أن يتكلم، أو يدلي بها لأحد... ثم يغيب ضمن غرفة له دقائق معدودات، يخرج إثرها على زائره، ويفتح ورقة بيضاء لا كتابة مسبقة عليها موضوعة أمامه، مسطَّرٌ فيها كتابة كاملة تشرح ما قد ضمره الزائر في نفسه من حاجة، مرفقة مع الجواب... كل ذلك يا سيدي مقابل ليرة ذهبية.
قال المرشد الكبير محمد أمين شيخو: ماذا؟. ماذا تقول يا بني ؟. إن هو إلا شيطان إنسي يتعامل مع شياطين الجن ليس إلاَّ.
أجاب المتحدث يسانده في حديثه صاحبه: ولكن يا سيدي.. إن عمله عجيب غريب!.. أتدري يا سيدي أنه قد دخل أحدهم إليه، وقد ضمر أنه يريد أن يحفر بئراً في أرضه، لقد ضمر ذلك في نفسه دون أن يُعلم أحداً، وعندما سحب ذلك الأجنبي الورقة ظهر فيها الجواب مكتوباً باللغة العربية بخط جميل: احفر وعمِّق.. ستنجح.
قال آخر: نعم يا سيدي، فلقد رأينا ذلك بأم أعيننا..{وللأسى فقد حفر وعمَّق بعدها، وتكلَّف باهظ الثمن، فوصلت الحفارة إلى أرض صخرية، ولم تنبع قطرة ماء!.}.
تابع قائلاً: وآخر دخل إليه وقد ضمر بنفسه أنه سيسافر لبلد أجنبي لتجارة هناك، فهل سيوفق؟. هكذا هو نوى، ولما سحب الورقة وجد فيها جواباً واضحاً: أن سافر وستنجح.
وآخرون كُثر يا سيدي.. حتى أنه لو دخل إنسان ليس بعربي، فإنه سيجد الورقة مكتوبة بلغته.. وإنها لإحدى العجائب، فوالله يا سيدي إن سر هذا الشخص غريب!.
ضحك السيد محمد أمين وقال: ألم أقل لكم يا بني أن عمله كله عن طريق الشياطين، إنه شيطان إنسي، وعمله هذا ينجزه بمساعدة أمثاله الخفيين عن أعيننا من قرائن شياطين الجن.. ألم تسمعوا قوله تعالى:
(وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) سورة الجن: الآية(6)!.
فيا بني.. إن عمله عمل ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى، ولا غرابة فيه فهو إنسان بعيد عن الله معرض بقلبه عنه.
لقد شطن عن خالقه، حتى غدا بنفسه شيطاناً قد امتطته شياطين الجن، وسخَّروه لأغراضهم الشريرة في إيذاء الخلق وتحويلهم عن الله، وهو لا يبغي من عمله هذا إلا شيئين اثنين، أحدهما المال، وثانيهما وهو الأهم، تحويل الناس عن محبتهم وتقديرهم لله، ليعظموه ويلتفتوا إليه مقدرين عمله هذا وهو بعيد عن الله، معذب النفس، وببعده هذا وبالتفاتهم إليه مقدرين فعله وغرائبه يسرِّي بهم الشياطين، ويتعرَّضون للأمراض النفسية فيبتعدون عن ربهم، ويظنون به تعالى الظنون أقصد ظن السوء، كظنه هو تماماً.
وبذا يخسرون، وتقع نفوسهم في الإعراض والظلمات، وهذا سعيه، سعي الشيطان الراسب ومبلغ هدفه، إذ دائماً يسعى الخاسر الفاشل ليوقع غيره كما هو رسب حسداً وحقداً. ولنا يا بني في قصة سيدنا آدم عليه السلام والشيطان إبليس عظة وعبرة، لكي لا نغتر بالشيطان، ولنعلم أنه عدو.. فذاك الذي عنه تتحدثون، إن هو إلاَّ ساحر ينقل ما يضمره الإنسان عن طريق القرناء، أي عن طريق الشياطين، فلو كان الإنسان ملتجئاً لربه، مستعيذاً به حق الاستعاذة، لما استطاع أن يفعل هذا الفعل الذي غركم به، وكدتم تظنونه من أهل الله.
فيا بني، لا تغتروا بتلك الأعمال السحرية، وما علامة أهل الله إلا أنهم يلفتون انتباه وتفكير الإنسان وتقديره لخالقه المنعم المتفضل على المخلوقات كلها بالطعام والشراب والحياة، فيلتفتون إليه تعالى عن طريق تفكرهم في خلقهم، وفي آياته تعالى الكونية، من شمس وقمر ونجوم وسحب ومطر ونبات وشجر، وما يرفدهم به من نعمه.. وبذلك يقدروه تعالى ويقدروا فضله عليهم في تربيتهم، فيميلوا بالمحبة إليه تعالى، هذه علامتهم، لا ينسبون الفعل لأنفسهم أبداً، ولا يوجِّهون الناس إلا لله ورسوله، لا أن يعملوا مثل تلك الأعمال التي لا يقبل بها الفكر القويم ولا المنطق السليم، من غيبيات تفتن الناس عن التفكير الحق والمنطق السليم.
تابع السيد الكريم يعظ الاثنين حديثي العهد عنده بكلامه العالي الرشيد، وفي نهاية الحديث توجه نحو السائل وقال له: على كل حال يا بني غداً نذهب سوياً إليه فما رأيكم؟.
قالا وبشوق ولهفة: يا حبَّذا وبأمركم.
في اليوم التالي توجه السيد الكبير معهما إلى صاحب العجائب والغرائب.. وصلوا المكان حيث استقر ذلك الأجنبي.. إنه محل كبير في داخله غرفة صغيرة.. دخل السيد محمد أمين ومن ورائه مريداه، كان يجلس على كرسي بقرب رجل عربي.. لا شك أن الثاني مترجم قد استأجره لينجز أعماله بيسر وسهولة.. نهض المترجم وقال: أهلاً وسهلاً تفضلوا..
تطلع الأجنبي بالسيد الوقور نظرات قصيرة، ثم قطعها وكأنه لم ينسر.. ثم توجَّه للمترجم يطلب منه أن يسأل الزوَّار ما هو طلبهم؟.
ولمَّا عَلِمَ أنهم يريدون أن يضمروا أمراً كالعادة طلب من المترجم أن يبلغ السيد بأن يضمر شيئاً بنفسه.
كذلك فعل السيد الفاضل، وقال للمترجم: لقد نويت على شيءٍ في نفسي فأنا جاهز، ووضع ليرة ذهبية على الطاولة.
أحضر الساحر ورقة بيضاء، عرضها على الحاضرين بأنها نظيفة خالية من الكتابة، ثم طواها من منتصفها ووضعها بكتاب على الطاولة بالقرب من الحضور، ودخل بسرعة لغرفته الصغيرة وأغلق الباب من خلفه، وكالمعتاد ما هي إلاَّ دقائق حتى خرج.. ولكن للغرابة أنه دخل نشيطاً وخرج على غير العادة مثقلاً تعباً!!.
سار باتجاه الورقة البيضاء المطوية بوجه كامد معفَّر، فتحها، فازداد لون وجهه كموداً وعناء، فالورقة وللغرابة أنها خرجت على غير العادة، إذ أنها بيضاء، خالية من أي حرف كان!!. نظر الاثنان المعجبان إلى الورقة فرأوها خالية من الكتابة، ارتسمت على وجوههم الدهشة والاستغراب، ثم تحولوا بنظرهم إلى كامد الوجه، وما يزال نوع من الدهشة يعلوهم، ينظرون إليه بغرابة.. نظروا إلى المرشد الكبير، فرأوا في وجهه ثقة عالية وأماناً واطمئناناً، يقف وقفة العز الطبيعية المعتادة فيه، أما المترجم فكان حائر النظر، ينظر إلى الأجنبي حيناً، ثم إلى السيد محمد أمين حيناً آخر.
صمت الأجنبي قليلاً وما يزال مستقر البصر على الصفحة البيضاء، يعض شفته السفلى ويمتصها، يبدو أنه قد علاه نوع من الاضطراب.. لحظات مضت، والصمت يخيم على المكان.. إلا من نظرات متبادلة كأنها ألغاز، فهي من لغة النفوس.
فجأة التفت الأجنبي إلى المترجم مخاطباً السيد محمد أمين: إنك لم تضمر بنفسك شيئاً.
ابتسم السيد محمد أمين شيخو، ثم قال: قل له بل ضمرت في نفسي.
هنالك أعاد الرجل الورقة كما كانت عليه، ثم انفتل وأسرع في دخول غرفته الصغيرة.. بينما التفت المرشد الكبير إلى الإثنين يحدثهم بحديثه الراقي العالي عن حضرة الله الذي يأخذ بمجامع القلوب.
مضى من الوقت ربع ساعة.. نظر المترجم إلى ساعته وقد كساه الاستغراب، فهو ما عهد من قبل من صاحب الأعاجيب مثل هذا التأخير مطلقاً.. هذه أول مرة يغيب في غرفته بمثل هذه المدة الطويلة من أجل كشف الأسرار.
بعد مضي قرابة ثلث الساعة، خرج من الغرفة وقد تقاطر العرق من وجهه.. وحلَّ التعب بأنحاء جسمه، كان عَبوساً قمطريراً، وكأنه يندب حظ اليوم التعيس، اقترب بخطى مثقلة ثم وقف ناكس الرأس أمام ذلك السيد الوقور، وفتح الورقة!..
لقد كانت بيضاء لا كتابة عليها.. نظر الاثنان والمترجم إلى الورقة بدهشة وغرابة، وبدت في وجوههم علامات استفهام كثيرة، أما هو فقد بدا البؤس متفاقماً في ملامحه وازداد عبوساً، التفت إلى السيد الوقور الذي ما يزال متألق الوجه مزداناً بالبهاء والنقاء، وقال للمترجم مخاطباً السيد محمد أمين: إنك لم تضمر أَمْراً.. لا .. لا .. لم تنوِ شيئاً بنفسك.
قال السيد الفاضل للمترجم: قل له بل ضمرت.. ردَّ الأجنبي مخاطباً المترجم: إن كان قد فعل فليخبرك بما ينويه سراً بينك وبينه عن بُعْد، وقل له أنك ستبقى بالقرب منه ولن تدنوَ مني.
لما علم السيد الفاضل بطلب الأجنبي ابتسم وقال: له ما يريد، ثم التفت إلى المترجم ومشى خطوتين قصيرتين، فاقترب المترجم بأذنه من السيد محمد أمين الذي همس ما ينويه بنفسه قائلاً: أريده أن يخبرني عن محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم).
خلالها كان صاحب العجائب يقف عن بعد منهما، ولكنه يحدق بعينيه السوداوين بإمعان، ويراقب الوضع بدقة..
وبنهاية الإخبار أشار للمترجم عن بُعْد مستفهماً أن: هل أخبرك؟!. فأومَأ المترجم بالإيجاب، أي نعم لقد أخبرني.
عندها عاد الساحر إلى غرفته فأغلق الباب، واستغرق مدة من الزمن ،ولكن هذه المرة كانت أطول من كل مرة.. لقد غاب قرابة نصف الساعة، ثم خرج وكأنه قد وقع في يد عدد من الرجال فأوسعوه ضرباً حتى خارت قواه وتلاشت عزيمته.. يترنَّح كأنه لا يقوى على حمل جسمه والعرق يبلِّله.. فتح الورقة فوجدها هي ذاتها لم يتغير فيها شيء، بيضاء خالية من الكتابة!!. صمت قليلاً مفكراً بأمر فشله اليوم.. وبدا وكأنه قد علم السبب، علم أنه ما يزال هنالك نواطير لم تنم عن الثعالب، لقد تفاجأ بالواقع وصدمه صدمةً قاسيةً، فخاب فأله، ظن البلاد خلت من الإيمان، وبإمكانه أن يشيع الخراب فيها، ولكن يا لبالغ أسفه، خاب أمله.
التفت السيد الفاضل وخاطب المترجم قائلاً: قل له .. أن شيطانه لا يستطيع أن يقترب من نبينا الطاهر الشريف محمد صلى الله عليه وسلم .. لأنه إن فعل احترق بنوره الإۤلهي.
بعد مدة قضاها الساحر صامتاً التفت إلى الحاضرين وقال عن طريق مترجمه: أن أوضاعه وأحواله النفسية بهذا اليوم ليست على ما يرام، ولكن غداً عودوا وستجدون طلبكم مجاباً. ابتسم المرشد الكبير وقال لصاحبيْه: لن تجدوه غداً.. لأنه سيهرب، ثم استعاد ليرته الذهبية ووضعها بجيبه.
وفي اليوم الثاني فرَّ الساحر من كل سوريا، راجعاً لبلاده يجر أذيال الخيبة والقنوط. كان يخطط أن يتابع جولته هذه في معظم محافظات القطر من حمص إلى حماة إلى حلب إلى.. ففشل.[/b][/size][/font][/COLOR][/SIZE]
كان عدد من الأشخاص جالسين ملتفين حول بعضهم في غرفة كبيرة، يستمعون حديثاً لطيفاً مريحاً.. فترى على وجوههم شلالات من السرور والنعيم تنصبُّ عليهم، فتغمرهم حتى تنسيهم الدنيا وما فيها من هموم ومتاعب..
وذاك الرجل عريض المنكبين، أبيض الوجه ناصعه، تحمرُّ وجنتاه حمرة دموية فتزيده جمالاً فوق جمال ملامحه، وتبرق عيناه الخضراوان الفاتنتان روعةً وحياةً، وقد جلس في صدر الغرفة تغمره مهابة ربّانية كبرى...
إنه يختال بالقوة المكللة بآيات الرحمة، وقد شفَّ مجلسه وصفا وازدان بحديثه الراقي، يتلو شروح آيات الذكر الحكيم، فيغمر بها قلوب مريديه، ويطير بها لعليين.( المقصود هو العلامة محمد امين شيخو رحمه الله)
وفي آخر الدرس، وبعد الصلاة يتقاطر الحاضرون، يسلمون على مرشدهم بأدبٍ جمٍّ مستأذنين بالانصراف، حتى إذا ما بقي عدد قليل منهم، تكلم أحدهم ويوافقه آخر على ما يقول. كان الاثنان ما يزالان حديثا العهد في التحاقهم بحلقة ذلك المرشد الكبير.
قال: سيدي، ذلك الرجل لا ندري كنهه، وإنا لنظنه من أهل الله، وذا كرامة... على الرغم من أنه ليس عربياً.
أمعن النظر فيهما وقال: من هو؟.. ما قصدك؟.
قال: سيدي، لقد تناقل بعض الناس أخبار أجنبي قد قدم إلى الشام، واستقر في منطقة المرجة في الساحة العامة فيها، فأقام محلاً له، وبات يستقبل الناس والسائلين، فما من حاجة تسأله عنها إلا ويأتيك بالجواب لها، والغريب يا سيدي أنه يطلب من زائره أيّاً كان أن يضمر بنفسه حاجته دون أن يتكلم، أو يدلي بها لأحد... ثم يغيب ضمن غرفة له دقائق معدودات، يخرج إثرها على زائره، ويفتح ورقة بيضاء لا كتابة مسبقة عليها موضوعة أمامه، مسطَّرٌ فيها كتابة كاملة تشرح ما قد ضمره الزائر في نفسه من حاجة، مرفقة مع الجواب... كل ذلك يا سيدي مقابل ليرة ذهبية.
قال المرشد الكبير محمد أمين شيخو: ماذا؟. ماذا تقول يا بني ؟. إن هو إلا شيطان إنسي يتعامل مع شياطين الجن ليس إلاَّ.
أجاب المتحدث يسانده في حديثه صاحبه: ولكن يا سيدي.. إن عمله عجيب غريب!.. أتدري يا سيدي أنه قد دخل أحدهم إليه، وقد ضمر أنه يريد أن يحفر بئراً في أرضه، لقد ضمر ذلك في نفسه دون أن يُعلم أحداً، وعندما سحب ذلك الأجنبي الورقة ظهر فيها الجواب مكتوباً باللغة العربية بخط جميل: احفر وعمِّق.. ستنجح.
قال آخر: نعم يا سيدي، فلقد رأينا ذلك بأم أعيننا..{وللأسى فقد حفر وعمَّق بعدها، وتكلَّف باهظ الثمن، فوصلت الحفارة إلى أرض صخرية، ولم تنبع قطرة ماء!.}.
تابع قائلاً: وآخر دخل إليه وقد ضمر بنفسه أنه سيسافر لبلد أجنبي لتجارة هناك، فهل سيوفق؟. هكذا هو نوى، ولما سحب الورقة وجد فيها جواباً واضحاً: أن سافر وستنجح.
وآخرون كُثر يا سيدي.. حتى أنه لو دخل إنسان ليس بعربي، فإنه سيجد الورقة مكتوبة بلغته.. وإنها لإحدى العجائب، فوالله يا سيدي إن سر هذا الشخص غريب!.
ضحك السيد محمد أمين وقال: ألم أقل لكم يا بني أن عمله كله عن طريق الشياطين، إنه شيطان إنسي، وعمله هذا ينجزه بمساعدة أمثاله الخفيين عن أعيننا من قرائن شياطين الجن.. ألم تسمعوا قوله تعالى:
(وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) سورة الجن: الآية(6)!.
فيا بني.. إن عمله عمل ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى، ولا غرابة فيه فهو إنسان بعيد عن الله معرض بقلبه عنه.
لقد شطن عن خالقه، حتى غدا بنفسه شيطاناً قد امتطته شياطين الجن، وسخَّروه لأغراضهم الشريرة في إيذاء الخلق وتحويلهم عن الله، وهو لا يبغي من عمله هذا إلا شيئين اثنين، أحدهما المال، وثانيهما وهو الأهم، تحويل الناس عن محبتهم وتقديرهم لله، ليعظموه ويلتفتوا إليه مقدرين عمله هذا وهو بعيد عن الله، معذب النفس، وببعده هذا وبالتفاتهم إليه مقدرين فعله وغرائبه يسرِّي بهم الشياطين، ويتعرَّضون للأمراض النفسية فيبتعدون عن ربهم، ويظنون به تعالى الظنون أقصد ظن السوء، كظنه هو تماماً.
وبذا يخسرون، وتقع نفوسهم في الإعراض والظلمات، وهذا سعيه، سعي الشيطان الراسب ومبلغ هدفه، إذ دائماً يسعى الخاسر الفاشل ليوقع غيره كما هو رسب حسداً وحقداً. ولنا يا بني في قصة سيدنا آدم عليه السلام والشيطان إبليس عظة وعبرة، لكي لا نغتر بالشيطان، ولنعلم أنه عدو.. فذاك الذي عنه تتحدثون، إن هو إلاَّ ساحر ينقل ما يضمره الإنسان عن طريق القرناء، أي عن طريق الشياطين، فلو كان الإنسان ملتجئاً لربه، مستعيذاً به حق الاستعاذة، لما استطاع أن يفعل هذا الفعل الذي غركم به، وكدتم تظنونه من أهل الله.
فيا بني، لا تغتروا بتلك الأعمال السحرية، وما علامة أهل الله إلا أنهم يلفتون انتباه وتفكير الإنسان وتقديره لخالقه المنعم المتفضل على المخلوقات كلها بالطعام والشراب والحياة، فيلتفتون إليه تعالى عن طريق تفكرهم في خلقهم، وفي آياته تعالى الكونية، من شمس وقمر ونجوم وسحب ومطر ونبات وشجر، وما يرفدهم به من نعمه.. وبذلك يقدروه تعالى ويقدروا فضله عليهم في تربيتهم، فيميلوا بالمحبة إليه تعالى، هذه علامتهم، لا ينسبون الفعل لأنفسهم أبداً، ولا يوجِّهون الناس إلا لله ورسوله، لا أن يعملوا مثل تلك الأعمال التي لا يقبل بها الفكر القويم ولا المنطق السليم، من غيبيات تفتن الناس عن التفكير الحق والمنطق السليم.
تابع السيد الكريم يعظ الاثنين حديثي العهد عنده بكلامه العالي الرشيد، وفي نهاية الحديث توجه نحو السائل وقال له: على كل حال يا بني غداً نذهب سوياً إليه فما رأيكم؟.
قالا وبشوق ولهفة: يا حبَّذا وبأمركم.
في اليوم التالي توجه السيد الكبير معهما إلى صاحب العجائب والغرائب.. وصلوا المكان حيث استقر ذلك الأجنبي.. إنه محل كبير في داخله غرفة صغيرة.. دخل السيد محمد أمين ومن ورائه مريداه، كان يجلس على كرسي بقرب رجل عربي.. لا شك أن الثاني مترجم قد استأجره لينجز أعماله بيسر وسهولة.. نهض المترجم وقال: أهلاً وسهلاً تفضلوا..
تطلع الأجنبي بالسيد الوقور نظرات قصيرة، ثم قطعها وكأنه لم ينسر.. ثم توجَّه للمترجم يطلب منه أن يسأل الزوَّار ما هو طلبهم؟.
ولمَّا عَلِمَ أنهم يريدون أن يضمروا أمراً كالعادة طلب من المترجم أن يبلغ السيد بأن يضمر شيئاً بنفسه.
كذلك فعل السيد الفاضل، وقال للمترجم: لقد نويت على شيءٍ في نفسي فأنا جاهز، ووضع ليرة ذهبية على الطاولة.
أحضر الساحر ورقة بيضاء، عرضها على الحاضرين بأنها نظيفة خالية من الكتابة، ثم طواها من منتصفها ووضعها بكتاب على الطاولة بالقرب من الحضور، ودخل بسرعة لغرفته الصغيرة وأغلق الباب من خلفه، وكالمعتاد ما هي إلاَّ دقائق حتى خرج.. ولكن للغرابة أنه دخل نشيطاً وخرج على غير العادة مثقلاً تعباً!!.
سار باتجاه الورقة البيضاء المطوية بوجه كامد معفَّر، فتحها، فازداد لون وجهه كموداً وعناء، فالورقة وللغرابة أنها خرجت على غير العادة، إذ أنها بيضاء، خالية من أي حرف كان!!. نظر الاثنان المعجبان إلى الورقة فرأوها خالية من الكتابة، ارتسمت على وجوههم الدهشة والاستغراب، ثم تحولوا بنظرهم إلى كامد الوجه، وما يزال نوع من الدهشة يعلوهم، ينظرون إليه بغرابة.. نظروا إلى المرشد الكبير، فرأوا في وجهه ثقة عالية وأماناً واطمئناناً، يقف وقفة العز الطبيعية المعتادة فيه، أما المترجم فكان حائر النظر، ينظر إلى الأجنبي حيناً، ثم إلى السيد محمد أمين حيناً آخر.
صمت الأجنبي قليلاً وما يزال مستقر البصر على الصفحة البيضاء، يعض شفته السفلى ويمتصها، يبدو أنه قد علاه نوع من الاضطراب.. لحظات مضت، والصمت يخيم على المكان.. إلا من نظرات متبادلة كأنها ألغاز، فهي من لغة النفوس.
فجأة التفت الأجنبي إلى المترجم مخاطباً السيد محمد أمين: إنك لم تضمر بنفسك شيئاً.
ابتسم السيد محمد أمين شيخو، ثم قال: قل له بل ضمرت في نفسي.
هنالك أعاد الرجل الورقة كما كانت عليه، ثم انفتل وأسرع في دخول غرفته الصغيرة.. بينما التفت المرشد الكبير إلى الإثنين يحدثهم بحديثه الراقي العالي عن حضرة الله الذي يأخذ بمجامع القلوب.
مضى من الوقت ربع ساعة.. نظر المترجم إلى ساعته وقد كساه الاستغراب، فهو ما عهد من قبل من صاحب الأعاجيب مثل هذا التأخير مطلقاً.. هذه أول مرة يغيب في غرفته بمثل هذه المدة الطويلة من أجل كشف الأسرار.
بعد مضي قرابة ثلث الساعة، خرج من الغرفة وقد تقاطر العرق من وجهه.. وحلَّ التعب بأنحاء جسمه، كان عَبوساً قمطريراً، وكأنه يندب حظ اليوم التعيس، اقترب بخطى مثقلة ثم وقف ناكس الرأس أمام ذلك السيد الوقور، وفتح الورقة!..
لقد كانت بيضاء لا كتابة عليها.. نظر الاثنان والمترجم إلى الورقة بدهشة وغرابة، وبدت في وجوههم علامات استفهام كثيرة، أما هو فقد بدا البؤس متفاقماً في ملامحه وازداد عبوساً، التفت إلى السيد الوقور الذي ما يزال متألق الوجه مزداناً بالبهاء والنقاء، وقال للمترجم مخاطباً السيد محمد أمين: إنك لم تضمر أَمْراً.. لا .. لا .. لم تنوِ شيئاً بنفسك.
قال السيد الفاضل للمترجم: قل له بل ضمرت.. ردَّ الأجنبي مخاطباً المترجم: إن كان قد فعل فليخبرك بما ينويه سراً بينك وبينه عن بُعْد، وقل له أنك ستبقى بالقرب منه ولن تدنوَ مني.
لما علم السيد الفاضل بطلب الأجنبي ابتسم وقال: له ما يريد، ثم التفت إلى المترجم ومشى خطوتين قصيرتين، فاقترب المترجم بأذنه من السيد محمد أمين الذي همس ما ينويه بنفسه قائلاً: أريده أن يخبرني عن محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم).
خلالها كان صاحب العجائب يقف عن بعد منهما، ولكنه يحدق بعينيه السوداوين بإمعان، ويراقب الوضع بدقة..
وبنهاية الإخبار أشار للمترجم عن بُعْد مستفهماً أن: هل أخبرك؟!. فأومَأ المترجم بالإيجاب، أي نعم لقد أخبرني.
عندها عاد الساحر إلى غرفته فأغلق الباب، واستغرق مدة من الزمن ،ولكن هذه المرة كانت أطول من كل مرة.. لقد غاب قرابة نصف الساعة، ثم خرج وكأنه قد وقع في يد عدد من الرجال فأوسعوه ضرباً حتى خارت قواه وتلاشت عزيمته.. يترنَّح كأنه لا يقوى على حمل جسمه والعرق يبلِّله.. فتح الورقة فوجدها هي ذاتها لم يتغير فيها شيء، بيضاء خالية من الكتابة!!. صمت قليلاً مفكراً بأمر فشله اليوم.. وبدا وكأنه قد علم السبب، علم أنه ما يزال هنالك نواطير لم تنم عن الثعالب، لقد تفاجأ بالواقع وصدمه صدمةً قاسيةً، فخاب فأله، ظن البلاد خلت من الإيمان، وبإمكانه أن يشيع الخراب فيها، ولكن يا لبالغ أسفه، خاب أمله.
التفت السيد الفاضل وخاطب المترجم قائلاً: قل له .. أن شيطانه لا يستطيع أن يقترب من نبينا الطاهر الشريف محمد صلى الله عليه وسلم .. لأنه إن فعل احترق بنوره الإۤلهي.
بعد مدة قضاها الساحر صامتاً التفت إلى الحاضرين وقال عن طريق مترجمه: أن أوضاعه وأحواله النفسية بهذا اليوم ليست على ما يرام، ولكن غداً عودوا وستجدون طلبكم مجاباً. ابتسم المرشد الكبير وقال لصاحبيْه: لن تجدوه غداً.. لأنه سيهرب، ثم استعاد ليرته الذهبية ووضعها بجيبه.
وفي اليوم الثاني فرَّ الساحر من كل سوريا، راجعاً لبلاده يجر أذيال الخيبة والقنوط. كان يخطط أن يتابع جولته هذه في معظم محافظات القطر من حمص إلى حماة إلى حلب إلى.. ففشل.[/b][/size][/font][/COLOR][/SIZE]