تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مسابقة أسفار ورحلات الطنطاوي - على إيوان كسرى!!



مطيع الله
25-08-2010, 01:35 AM
كتبت سنة 1937

خرجنا من بغداد على الدراجات، فسلكنا على ((حيِّ البتاويين)) ظاهر ((الباب الشرقي))، وجزنا على قصوره الشم التي تتكئ فيها الأرستقراطية الناعمة على الأرائك سَكرى بخمرة الذهب،وسرنا إلى ((الهنيدي)) في الطريق التي تنام على بسط الحقول السندسية يحرسها صفان من النخيل، حتى انتهينا إلى المعسكر البريطاني(1) صرح أكاسرة اليوم، فتركناه وأممنا صرح أكاسرة الأمس لنقف عليه ذاكرين معتبرين.
عبرنا نهر ((ديالى)) وخلفنا القرية جاثمة على كتف النهر قد دلَّت رجلَيها في مائِه، واستقبلنا الفلاة الواسعة فما عدنا نرى إلا الفضاء. حتى إذا سرنا فيها ساعتين طلعت علينا قرية سلمان، تلوح على حاشية الأفق تَضِحُ وتغيب، ثم تبيناها ورأينا قبة مسجدها واضحة،
ورأينا بجانبها بناء ضخماً كأنه جبل،
فقلت: ما هذا؟
قال صاحبي: هذه قبة سلمان الفارسي، وهذا إيوان كسرى.
فقلت: يا للعجب!
أطاف سلمان ما طاف حتى استقر قبره بجانب الإيوان، فغدوا متلاصقَين وبَدَوا متعانقين؟
وحثَثْنَا ((الدرَّاجات)) إلى القرية، فبلغناها بعد ساعة.
كانت قرية صغيرة نشأت على قبر سلمان رضي الله عنه،
ليس فيها -غير مسجده- شيء يذكر، أما الإيوان فهو في ظاهر البلد، متربع على ظهر الفلاة وحيد معتزل، مطرق حزين.

وقفنا عليه فإذا هو ((طاقٌ)) عالٍ متهدِّم، وجدارٌ شامخ متصدِّع، وإذا هو ضخم فخم ولكنه عارٍ موحِش، ليس فيه صورة ولا نقش؛ لا صورة أنطاكية التي تروع بين روم وفرس، ولا أنوشروان يزجي الصفوف تحت الدّرفس، ولا عراك الرجال بين يديه في خفوت منهم وإغماض جرس، من مشيحٍ يهوي بعامل رمحٍ ومليح من السنان بترس(2)...
لقد محا الدهر الصورةَ كما محا أهلَها، ودار الزمان دورة أخرى، فأصبح حاضر البحتري ماضياً وعيانُه خبراً؛ ذلك لأن الماضي نقطة واحدة، تتلاقى فيها الأبعاد وتضيع المسافات وتفنى الدهور.
نقرأ قصيدة البحتري ونرى الإيوان، فنحس أنهما قد التقيا في عالم الماضي وضاع ما كان بينهما من عصور، كما التقت آثار ((سر من رأى)) بأطلال بابل فكان حكمهما في الخيال واحداً وأثرهما في النفس واحداً، وكما التقت في أبصارنا -ونحن قادمون على القرية- قبة سلمان بالإيوان.

ومن لعمرك يدرك الزمن الذي كان بين آدم ونوح، وإبراهيم وموسى، وبلقيس والزباء، وهوميروس وأفلاطون، وحروب طروادة وفتوح الأسكندر؟ إن الحوادث كلما أمعنت في المضيِّ ضاعت من بينها الأزمنة وامَّحت الأبعاد.
وليس يَهيجُ النفسَ ويثيرها مثلُ أطلال الماضي والوقوف بآثار الغابرين، ففيها روعة البقاء، وهول الفناء، وعبرة الدهر.
وهي نوافذ تطلُّ منها النفس على عالم المجهول الذي نحنُّ إليه أبداً ولا تَني تقرع بابه، فتتحرر فيها ساعة من قيود المادة وتطير في مسارب الأحلام.

ولقد وقفت على الأهرام، ومررت على الحديبية، وجلست في العقيق، وعرجت على حطِّين، وزرت بعلبك، فكان شعوري في ذلك كله كشعوري اليوم وأنا في المدائن أمام إيوان كسرى، أستعظم الأثر وأعجب بجلاله وأكبر القدرة التي أنشأته، ثم أعود بفكري إلى الماضي، فأحس بأن صفحته تفتح أمامي، فأرى حقيقةً مشاهدةً كلَّ ما قد قرأت في الكتب، وأتخيل أني مع الغابرين أسمع وأرى، فأراني قد عشت دهوراً، ثم أقابل وأعتبر، ثم أذهل عن نفسي وأجول بفكري وخيالي في آفاق كثيرة لم أرَها من قبل.
في الآثار الباقية والأمم الماضية يلتقي أعظم شيئين وأجلهما: الزمان والمكان، فتلمس القرون تنحدر على صخر الهرم، أو أعمدة بعلبك، أو آجرَّ الإيوان؛ هذا الآجرَّ الذي حمل أعباء القرون السبعة عشر، يا لروعته وجلاله!

إني لأحتقر نفسي وأنا قائم بقامتي القصيرة والهزيلة حيال هذا الكائن الجبار الهائل، ثم أعود فأرى كل شيء دوني حقيراً، أناالحيَّ وأنا الباني، وما هذه كلها إلا أثر من آثاري ليس لها لولا فكري وجود، ولا لوجودها معنى. ثم أراني أحقر منها وأصغر بجنب الله الباقي، وأرى هذا الفكر وما أنتج مخلوقاً من أصغر مخلوقاته، لا إله إلا هو.
وأطَفتُ بالديوان ووقفت على بابه، ثم دخلت إليه من الصحراء فإذا... فإذا أنا قد خرجت إلا الصحراء. الصحراء الصامتة صمت الموت، الموحشة وحشة القبر، الممتدة امتداد الزمان.

وقفت أستنشق عبير المجد وأتسمَّع نشيد العظمة، فما سمعت إلا صفير الرياح ولانشقت إلا رطوبة الفناء.
لمست الإيوان فما أحسست إلا برودة الحجر، تسلقت الجدار حتى كلَّت رجلاي ولم أبلغ نصفه، فجلست على لبنه بارزة لاستريح، وتلفَّتُ، فإذا الأفق الواسع الرحيب، وإذا الناس كالنمل، وإذا القرية كأنها كومة من الحجارة مكوَّمة في الأعماق، وإذا دجلة تجري بعيداً تلبس حُلَّة من نور الشمس فتبدو لامعة تزيغ منها الأبصار، وإذا أنا وحدي معلق بين السماء والأرض، فغثت نفسي وأخذني الدوار وهممت بالسقوط، فأغمضت عينيَّ كيلا أرى شيئاً.
أغمضت عيني وفتحت قلبي، فرأت البصيرة ما لا يراه البصر: رأيت أني قد ذهبت أتخطى أعناق القرون وأطوي سجلَّ الزمان، وأدير بفكري دولاب الفلك فيكر راجعاً. ازَّخْرَفت هذه الجدران العارية وأخذت زينتها، عادت هذه الأبواب فأسدلت عليها ستر الوشى والديباج، وتحلَّت هذه السقوف بالصور والنقوش وتدلت منها سلاسل الذهب تحمل الثريات المرصعة باللؤلؤ.
عاش الإيوان، وقام في صدره سرير أنوشروان، ورجع المجد وعاد السلطان. وحلَّت الحياة في هذه الصحراء فنبعت المدائن والقصور من الأرض نبعاً، ونبتت منها نباتاً، فنمت في لحظة وأورقت وعلت واستطالت، ولوَّن الخيالُ هذه البرية الكالحة بألوان الزهر فعادت حدائق وبساتين كانت لهذه المدائن كالإطار، فرأيتها أعظم المدن وقصورها أفخم القصور، والإيوان أجلَّ صروحها وأعلى ذُراها.
ورأيت هذه الأبواب( التي كانت منذ ساعة تفضي من الصحراء إلى الصحراء) مفتَّحةً للرياح والذئاب، قد قام عليهاالحُجَّاب، ووقفت دونها الملوك، وحلَّ على أعتابها المجد.
والجدران التي كانت عارية مصدَّعة قد شمخت وبذت وعزَّت، حتى غدت والطير تخشى أن تطير فوقها أو تحوم في سمائها.

ورأيت دجلة التي كانت منذ ساعة تجري في البادية بعيدة، بعيدة عن الإيوان معرضة عنه، لا تلتفت إليه ولا تأبه له، قد غدت ساقية تمشي خاضعة وسط المدائن، وتنحني لتعقد على كتفَيها القناطر والجسور، وتفتح صدرها لتضم ظلال هذه القصور، وهي تستنقع فيها في أمسيَّات الصيف الحارة!

ورنوت بعيني إلى هناك، إلى الحيرة، فإذا الخَوَرْنق السامق يعنو للإيوان كما يعنو صاحبه لربه، ورميت ببصري إلى بعيد، إلى الجزيرة، فإذا فيها أشباح تجيء وتروح خلال الضباب، تموج كأنها في بحر واسع وكأن خيامها سفائن يحملها الموج ويمشي بها مدَّ وجزر، ولكن هذه الأمواج تنكسر على صخرة الإيوان ثم ترتدّ ضعيفة وانية، والإيوان مشمخرٌ عاتٍ.
لا ملك أكبر من ملكه، ولا سلطان أعظم من سلطانه، ولا إنسان أعز من ربه.
ولكن... مَه! إن في البادية لشيئاً جديداً، إنها تضطرب وتهتز، إن فيافيها تتمخض بالحياة.
ها هو ذا النور يشق الضباب الكثيف، حتى يلمع كالبرق الخاطف بين قصور المدائن وتحت أقبية الإيوان.
لقد ضرب محمد صلى الله عليه وسلم صخرة الخندق فأضاءت المعجزة الإيوان، فوعد أتباعه وقال لهم: هذا الطريق.
يا للعجب العجاب!
إن هذه القرية الملتفة في ألحفه الرمل، النائمة على صخور الحرة، المتوسدة سفح أحد وجوانب سِلع، تريد أن تأكل المدائن! بلغ كسرى الخبر فضحك وسخر، ثم جاء كسرى الكتاب فعبس وبسر وأعرض واستكبر، ومزق كسرى كتاب سيد العالم.
لقد نطق سيد العالم بالحكم النافذ: ((ليمزقنَّ الله ملك كسرى))(3).

وفتحت عينيَّ، فإذا الحلم قد تصرَّم.
غاضت المدائن في الأرض، ونزعت الجدران ثيابها، وابتلعت الصحراء زهرها ووردها وعادت قاحلة ليس فيها إلا هذه الأنقاض، جاثمة على ظهرها، قد حطمها الكِبَر وثقلت عليهاالسنون، فانحنت حتى تسلَّق صبيةُ القرية سطحَها يلعبون عليه.
الصبية يلعبون على سطح الإيوان! أين كسرى يرى ما صار إليه إيوانه؟
أبناء العرب يتلهون بمجلسك يا شاهنشاه! لقد قُوِّض المجلس وثُلَّ العرش وهوى التاج، فما أنجدك الجند ولا أغنى عنك الغنى، ولا حمتك الحمية ولا آواك الإيوان!
لقد مزق البدوُ ملكَك يا كسرى، وما هذا عجيباً؛ فالتمزيق أسهل من الترقيع، والهدم أهون من البناء. ولقد هدم البرابرة من قبلُ عرشَ الرومان، غير أن هؤلاء البدو - يا ملك- أسسوا حضارة خيراً من حضارتك، وبناءً أجلَّ من بنائك، وحكماً أعدل من حكمك. لقد أثمرت حضارتهم حضارة القرن العشرين، وحضارتك لم تثمر شيئاً.
لقد بنت ديمقراطية عمر، الذي كان ينام على التراب، ويتغطى بالبرنس، ويؤدب بالدِّرَّة، ويعين الفقير، ويخدم العجوز، ويُنصف مِن نفسه... لقد بنت ديمقراطيته دولة.
أما جبروتك وعظمتك الجوفاء واستعبادك الناس، فلقد هدمت دولة.
هذه بغداد الإسلام فيها أربعمئة وخمسون ألفاً(4)، وهذا إيوانك تصفر فيه الرياح الباردة صفير الفناء المرعب، وتنشد فيه الطبيعة نشيد الموت. مَنْذا الذي كان يفكر أيامَ عز الإيوان أن صبية العرب ستلعب على أنقاضه؟
مَنذا الذي يفكر اليوم بأن أطفال طرابلس ستقفز على أطلال دار موسيليني(5)؟ لا تتعجبوا من شيء؛ إن الليالي يَلِدْنَ كل عجيبة!
وليعتبر الطغاة، فلقد كان كسرى(يوم كان كسرى) أضخمَ سلطاناً وأعظمَ بنياناً وأكثر أعواناً، فأباد الزمانُ السلطانَ، ودكَّ البنيان، وأهلك الأعوان.
اعتبروا، فهذا صرح كسرى خالٍ موحش، وهذا قبل سلمان عامر مأنوس.
قد مات القصر وعاش القبر، قصر كسرى شاهنشاه الذي كانت تقوم على بابه الملوك...
... ... ضاحين حسرى من وقوفٍ خلف الزِّحامِ وخُنْسِ(5)

قد مات وغدا قبراً في الفلاة، وهذا القبر، قبر فارسي من عامة الناس، يصبح مثوى الحياة، تلتف به البيوت ويؤمه الزائرون ويقفون حياله خاشعين، ثم يعودون ولا يلتفتون إلى الإيوان وبينهما ثلاثمئة ذراع!
إين كان سلمان من كسرى أنوشروان؟ أين كان من وزرائه وأتباعه؟ وأين كان من خدامه وحشمه؟
صَهْ! لقد خلد سلمان بالإسلام فكان أعظم من كسرى.

أما بعد، فقد تكون الأهرام أضخم وأفخم، وأعمدة بَعْلَبَكَّ أجلَّ وأجمل، ولكن للإيوان معنى آخر. هنا كان يستقر جلال الماضي كله، هنا كانت عظمة الملك وجبروت السلطان، هنا كان الذي يستعبد الناسَ فيؤَلَّهه الناس، لم يبق من ذلك كله شيء!
وكانت الشمس قد جنحت إلى المغيب، فنزلت ووقفت أودع الإيوان، فاقترب مني ساءل أعمى وجعل ينفخ في ناي معه نغمة حزينة مؤثرة، فكان لها في تلك الساعة،في صمت الصحراء ووحشة الإيوان وغروب الشمس،أثر في نفسي لا يوصف، فقلت: آه، ليتني كنت شاعراً!





--------
(1) كان كذلك يوم كُتب هذا الفصل، فصار الآن ((معسكر الرشيد)) ترفرف عليه الراية العراقية العربية، فالحمد لله.
(2) من قصيدة للبحتري مطلعها:
صُنتُ نفسي عمَّا يدنِّسُ نفسي وترفَّعتُ عن جَدا كل جِبْسِ
وهي من روائعه، والأبيات التي وردت في الإشارة إليها من القصيدة هي:
فإذا ما رأيتَ صورةَ أنطاكية ارتَعْتَ بين روم وفُرْسِ
والمنايا مواثِلٌ، وأوشَرْوانَ يُزجي الصفوفَ تحت الدِّرَفْسِ
وعراكُ الرجال بين يديهِ في خُُفوتٍ منهم وإغماضِ جَرْسِ
من مُشيحٍ يَهوي بعامِلِ رُمحٍ ومُليحٍ من السِّنانِ بتُرْسِ

وعامة القصيدة في وصف إيوان كسرى (مجاهد).
(3) وقد تمزق فلا يمكن أن يرقَّع،وذهب فلا يعود. ولقد حاول ((الشاه)) بالأمس القريب أن يقيمه فاحتفل بمرور ألفين وخمسمئة سنة على هذا الملك، وعَمِيَ عن الإسلام الذي أشرقت في هذه الحقبة شمسه وعمَّ الأرضَ نورُه،وأنفق من أموال الشعب الفقير ما ناء بحمله هذا الشعب، ودعا أهل المشرق والمغرب ليريهم جلال هذا الملك وبقاءه، فلم يمهله الله إلا سنوات معدودة حتى زال ملك عُبَّاد النار. أما دين الله الذي فيه النور فهو الباقي، وإن الأرض لله يورثها من يشاء.
(4) كان ذلك سنة 1937.
(5) لقد تحقق نصف الحلم، فاستقلت طرابلس، وطرد منها الطليان.
(6) أول البيت: ((وكأن الوفود ضاحين حسرى))، وهو من القصيدة السينية ذاتها. وقوله ضاحين، أي واقفين تحت الشمس، و((حَسرى)) جمع حسير، وهو الذي كلَّ وتَعِبَ؛ كما في قوله تعالى: ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير))(مجاهد).

مطيع الله
25-08-2010, 02:13 AM
http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/5/50/Ctesiphon%2C_Iraq%2C_1932.jpg/800px-Ctesiphon%2C_Iraq%2C_1932.jpg
الإيوان 1932
http://upload.wikimedia.org/wikipedia/ar/thumb/c/ca/%D8%B7%D8%A7%D9%82_%D9%83%D8%B3%D8%B1%D9%89.jpg/800px-%D8%B7%D8%A7%D9%82_%D9%83%D8%B3%D8%B1%D9%89
الإيوان 2008

سيزن
26-08-2010, 03:16 AM
(ليمزقنَّ الله ملك كسرى)

ااااالله اكبر .

______

اللهمَّ مكّن لدينك في أرضك، واجعلنا سببا للتميكن.‏.

مطيع الله
10-09-2010, 02:20 AM
(ليمزقنَّ الله ملك كسرى)

ااااالله اكبر .

______

اللهمَّ مكّن لدينك في أرضك، واجعلنا سببا للتميكن.‏.

شكراً لك أخي سيزن، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.