بومحمد1
26-08-2010, 04:15 AM
الحل الجامع الذي يخرج هذه الأمة من حالها المتردي - كما وُصف في المقال السابق - وهو الحل الذي تتفرّع منه كلّ أسباب العزّ والتمكين، يكمن في حقيقة إسمها، وعنوان هوّيتها، فهنا جوهره، فيه يكمن باطنه، وإليه يرجع تجلّيه ومظهره.
ذلك أن حقيقة كل شيء يحتويها اسمه، والقوة الكامنة فيه منطوية تحت رسمه، ولهذا علم الله تعالى آدم، أوّل ما علم، الأسماء دقّها وجلَّها، وفضله على الملائكة في ذلك المقام فسجدت له كلُّها.
وإنما اختار الله تعالى لنا اسم الإسلام، فجعله عنوان مجدنا، ومنبع عزّنا، كما قال سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
وفي الحديث الذي ذكر فيه نبيّنا صلى الله عليه وسلم، ما أوصى به يحيى بن زكريا عليه السلام أمته؛ من التوحيد، والصلاة، والصيام، والصدقة، والذكر، عقب نبينا صلى الله عليه وسلم، برسم خطة العزّ لأمّته، واضحة جليّة، وإنما ذكر فيه ما يخصّها، مما فيه عزّها، لأنه صلى الله عليه وسلم أضاف إلى ما ذكره نبيُّ الله يحيى عليه السلام، فقال كما سيأتي: (وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن)، وتلك دلالة واضحة، على أن هذه الخمس هي ما تمتاز به أمّتنا عن غيرها، فإن هي أضاعتها تاهت وفي الذل تلاشت.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا آمركم)، فما ظنّكم إن نحن أضعنا أمره، وقد قال تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا}.
وقد بيّن بجلاء؛ أنّنا لن نفلح في نهضة عزّنا إلا إن كانت تحت العنوان الصحيح الذي اختاره الله لنا، وتميّزت عن دعوات الجاهلية.
فقال: (وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن، الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يُراجِع، ومن دعا بدعوة الجاهلية فهو من جثاء جهنم، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها؛ المسلمين، المؤمنين، عباد الله) [خرجه أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث الحارث بن الحارث الأشعري].
* * *
وفي الحديث من أحكام النهضة الشاملة:
أولا:
أن النهضة لا يجوز أن تكون شرعا، ولن تقع قدرا، إلا إن كانت حاملة لمشروع الجماعة، وهي جماعة المسلمين التي تجمعها رابطة العقيدة الإسلامية.
فليست الجماعة في هذا الدين، هي اجتماع الناس على "وطنية"، فضلا عن نظام يوظف اسم الوطن لشهواته، ولا هي اجتماع الناس على "قومية"، ولا "عنصرية"، ولا أي منهج آخر غير الإسلام.
ولهذا قال: (فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يُراجِع).
إنما هي كما قال: (المسلمين، المؤمنين، عباد الله).
وإنما فشلت وتفشل محاولات النهضة في هذه الأمّة، بسبب أنها وُظِّفت ولومن بعض وجوهها فلم تخلص لله في غير، ولغير جماعة المسلمين العامة التي يجمعها إسم الإسلام، حتى وقع في هذا الضلال من وقع من الجماعات الإسلامية، بما صنعت لنفسها من حزبيّة أشبهت الجاهلية من بعض الوجوه، وابتغت العزّ بها، فصار حالها، وآل مآلها، أنها خضعت في النهاية "لبوليس سري" يسخرها لأطماع حكم الجاهلية!
ثانيا:
لا نهضة للأمّة إلاّ بنظام سياسي شرعي، ولا يكون شرعيّا إلا بجعل السمع والطاعة تابعين لجماعة المسلمين، وأما النظام فليس سوى ممثل للجماعة فحسب.
وصرف النظام السياسي في الأمّة عن هذا الإطار، إلى غيره، يعني إجهاض كلّ مشروع لنهضة الأمّة في مهده.
بل أدهى من هذه، تحويل كلّ مشروع نهضة إلى وقود يبقى نظامنا السياسي الذي هو أكبر عقبات نهضتنا، أطول مدة ممكنة، ممعنا في تمزيق الأمة، وطمس هويتها.
وبجلاء يتبين من نصوص الشريعة، وروحها، ونظامها العام؛ أن النظام الخارجي، هو الذي يخرج عن جماعة المسلمين، عن القيام بما هو نائب عن الجماعة فيه، من النهوض بأمر دينها، ومراعاة مصالحها في ضوء شريعتها، فهذا النظام من الخوارج - شاء أم أبى -
لأنه خرج عن جماعة المسلمين، إلى جاهلية شقية عمياء، ترجع إلى عصبية قومية، أو وطنية، أو عائلية، أو حزبية خرقاء، وعن القيام بأمر دين المسلمين، إلى الخضوع لأمرِ غير جماعتهم، إلى هواه، وإلى سلطة عدو كافر.
وبهذا يعلم أن جميع الأنظمة العربية الحالية؛ هم من الخوارج، لأنه ما من نظام منهم، يمثّل حقيقة جماعة المسلمين؛
لم تنتخبه جماعة المسلمين باختيار حرّ.
وليس عنده ممثلون عن جماعة المسلمين حقّا، من أهل الحل والعقد، يستحقون أن يطلق عليهم هذا الاسم، لأنهم يُحلّون عُقَد البغي والباطل، ويعقدون ألوية الحق.
وليس لجماعة المسلمين أي سلطة حقيقة في الأنظمة الحالية، مع أن السلطة هي لجماعة المسلمين في الأصل، قد غُصبت منها غصبا.
وعامة الأنظمة الخارجيّة المغتصِبة؛ خرجت على جماعة المسلمين بسلاحها، سفكت الدم الحرام، و "كفرت" مخالفيها، وأذاقتهم ألوان العذاب، حتى استولت على السلطة المغتصَبة، وبقيت فيها إلى اليوم بنفس وسائل "الإرهاب" و "الخروج".
ولن تنهض الأمة إلا بأن يرجع هذا المغتصَب إلى جماعة المسلمين، ويُقضى على فتنة الخوارج الذين خرجوا عن جماعة المسلمين، يحجُّون على أوثانهم الحقيرة الصغيرة، وطنية كانت، أو قومية، أو عائلية، إلى اللات، والعزّى، ومناة الثالثة الأخرى؛ الوثن الأكبر في هيئة الإلحاد المتحدة، وابنته اللقيطة؛ مجلس الشقاء الدولي، وبيت دعارته السياسية؛ البيت الأسود في واشنطن.
وأما العلماء، والمفكرون، والحركات الإسلامية، التي تعرض عن إظهار هذه الحقيقة الجليّة، متعامية، متجاهلة أن من أعظم اسباب سقوط أمتنا تحت هيمنة أعداءها، وضياعها، وتخلفها، هو السكوت عن جريمة الاغتصاب هذه - إغتصاب سلطة الأمّة التي تملكها جماعة المسلمين -؛ فهم شياطين صامتة، ومنهم من تحول إلى شيطان ناطق، بل غدا أشد شيطنة من "الأنظمة الخارجية" نفسها.
إنّ التقاعس عن القيام بهذا الأصل الإسلامي العظيم الذي هو من أهم أسس النظام السياسي في الإسلام - أعني وضع مقاليد السلطة السياسية الشرعية بيد الجماعة، جماعة المسلمين، وتمكينها من عزل النظام السياسي إن هو خرج عليها - إن التقاعس عن القيام به؛ من أعظم أسباب تخلّف أمتنا، وضياعها، وهزيمتها.
والعجب والله كلّ العجب، أنْ لا يزال أهل النفاق، والكذبة على دين الله تعالى، من أدعياء العلم، والدعوة، والإصلاح، يمعنُون في عمايتهم، مزيّنين للخوارج على الأمة، المتغصبين لسلطتها، ما هم فيه من الغيّ والضلال، تحت حجّة زائفة من "مصلحة الدعوة"، مشاركين للخوارج على أمّتنا فيما اغتصبوه، فوقفوا معهم على أرض الغصب نفسها، وما يدعونه من الاصلاح ما هو إلاّ كالصلاة في الأرض المغصوبة.
ثالثا:
أنه لا نهضة تُعزّ بها هذه الأمة إلا بالهجرة والجهاد.
الهجرة؛ بمعناها العام، أي التميز عن الجاهلية، كما في الحديث: (والمهاجر من هجر مانهى الله عنه)، وإنما شرعت الهجرة بالأجساد لتحقيق هذا الهدف.
والجهاد؛ الذي فيه قوّة التغيير الثورية، الذي ينتهي بإرجاع سلطة جماعة المسلمين إليها، ثم إلى هيمنتها على النظام العالمي.
ولهذا فالأعداء أشدّ حرصا على محاربة هذين الأمرين، حتى إنهم يزينون للدعاة الدخول في جاهليتهم، واتخاذ شعاراتها منهجا، كالديمقراطية الغربية، كما يزيّنون لهم ترك الجهاد، ومحاربة أهله، ذلك أن الأعداء يعلمون أن عزّ هذا الدين بتخلّصه من الجاهلية، وبالتمسك براية خلاصه، وهي الجهاد في سبيل الله.
رابعا:
أن الدعاة إلى الجاهلية يصيرون إلى أسفل سافلين في الآخرة، كما يصيّرون الأمّة إلى السفول في الدنيا، وهم الدعاة على أبواب جهنم، الذين وصفوا في حديث حذيفة في الصحيح، وهي هذه الأنظمة الداعية إلى دين الوطنية، أو غيرها من مناهج الجاهلية، فهم أهل الغي والضلال، وإن صاموا، وصلوا، وزعموا أنهم مسلمون، هم الخارجون حقا عن دعوة هذا الدين.
خامسا:
أن سبيل نهضة هذه الأمة، سيصير في الاتجاه الخطأ، إن لم يكن تحت راية دعوة الله التي سمانا؛ المسلمين، المؤمنين، عباد الله.
فهذه خمسة قواعد كبار مهمة يجب أن تكون هي التي تنير طريق النهضة نحو العز لأمتنا.
وحاصلها كما بيّنا، إنما ينطوي تحت اسم الإسلام، هو وحده هويتنا، وبه عزنا، فكلّما حققنا معناه في حياة كلّ فرد منا، ثم في أمتنا، رفعنا الله به، ويدخل علينا النقص كلما أنقصنا منه في واقع حياتنا.
ذلك أن معناه يدور على العبودية لله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والإسلام يجمع معنيين:
أحدهما: الاستسلام والانقياد؛ فلا يكون متكبرا.
والثاني: الإخلاص من قوله تعالى: {ورجلا سلما لرجل}، فلا يكون مشركا وهو: أن يسلم العبد لله رب العالمين، كما قال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}، {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}، {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، وقال تعالى: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}، {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}، {لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}).
ثم قال: (وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه وتكمل محبة الرب لعبده وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا؛ وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك، وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع.
فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله، وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين؛ أن يكون لله، وأن يكون موافقا لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب.
كما قال: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}، فلا بد من العمل الصالح وهو الواجب والمستحب، ولا بد أن يكون خالصا لوجه الله تعالى، كما قال تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
وهذا الأصل هو أصل الدين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين، وبه أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب وإليه دعا الرسول وعليه جاهد، وبه أمر وفيه رغب، وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه.
والشرك غالب على النفوس.
وهو كما جاء في الحديث: "وهو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل"، وفي حديث آخر، قال أبو بكر: "يا رسول الله! كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل؟"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله؟ قل؛ اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم".
وكثيرا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله وعبوديتها له وإخلاص دينها له.
كما قال شداد بن أوس: "يا بقايا العرب! إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية"، قيل لأبي داود السجستاني: "وما الشهوة الخفية؟"، قال: "حب الرئاسة".
وعن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" [قال الترمذي: حديث حسن صحيح].
فبين صلى الله عليه وسلم أن الحرص على المال والشرف في فساد الدين، لا ينقص عن فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وذلك بين، فإن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته لله ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}.
فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه عن عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره، إذ ليس عند القلب لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيبا إلى الله خائفا منه راغبا راهبا) انتهى.
والخلاصة...
أن الإستسلام لله تعالى، والإخلاص له وحده، في ربويته، والتألّه له وحده، والتحاكم إليه وحده، هو سبيل الخلاص، لاغيره، كما قال: {قل أعوذ بربّ الناس * ملك الناس * إله الناس}.
فجوهر سبب الهزيمة؛ أن الاستكبار عن الانقياد لأمر الله، وعن التحاكم إلى شريعته، أخلاصا بالعبودية لوجهه سبحانه، قادنا إلى عقوبة الله تعالى بالذلّ، ولا ريب أن من يتحمل كبر هذه المسؤولية، هي الأنظمة السياسية التي استكبرت عن اتباع الدين الحق، فانقادت لليهود أرذل الخلق، ثم من سكتوا عن ظلمها، ووافقوا على باطلها.
كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فالمذاهب، والطرائق، والسياسات للعلماء، والمشايخ، والأمراء، إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء، ليكونوا مستمسكين بالملة، والدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة).
ثم يتفرّع عن هذا الأصل الجامع العظيم الذي هو أصل الدين، ومنبع العزّ والرفعة، والتمكين، جمع أسباب الثورة الشاملة.
* * *
وذلك يقع على كاهل:
أولا؛ العلماء:
فيجب أن يبيّنوا حقيقة هؤلاء الخوارج الذين اغتصبوا سلطة الأمة في تأسيس نظام سياسي يمثل هويتها الجامعة، ويحقق رسالتها، وأن يعيدوا الحق المغتصب إلى أهله، وأن يبيّنوا أن بقاء الأمة تمزقها في حالها المتردي، تحت أوثان الوطنية التي أقيمت في كل أصقاعها، تحت سلطان أعداءها، خاضعة لهيئة الإلحاد المتحدة، هو من أعظم أسباب ذلها، وأن التحاكم إلى تلك الهيئة شرك مع الله يناقض التوحيد الذي به وحده رفعتها، كما يجب أن ينحازوا إلى أمتهم، ويقفوا مع شرفاءها، وينصروا مجاهديها إلى أن يُزال عن صدر الأمة، هؤلاء الخوارج الذين تسلطوا على حقوقها بالظلم والعدوان.
ثانيا؛ المجاهدين:
فيجب عليهم أن يثبتوا على الحق الذين اصطفاهم الله له، ولا ييأسوا من المخذّلين، ولا يلتفتوا إلى المخالفين، فإنهم سيزولون بزوال الطواغيت، فهم حتما ووشيكا زائلون، وسيبقى الحق وأهله، وهم للعقبى نائلون.
ومن أهم ما يجب أن ينتبهوا له؛ خطر وضع السلاح في غير موضعه، أو فيه، لكن قبل أوانه، فإنه يكون حينئذ سلاحا بيد عدوهم، يفقد رسالتهم قوّتها المعنوية، ويضعف شوكتهم المادية، وقد يجهضها في مهدها.
نقول هذا؛ توجيها عاما، مع أن مرجع التقدير إنما هو لأهل الأرض من المجاهدين، وأدناهم إلى العدوّ.
ثالثا؛ عموم الأمة:
فيجب عليهم أن يكونوا عونا لقادتها من أهل العلم والجهاد، فالشعوب هم مادة التغيير، وهم بركان الثورة الذي هو بالنصر جدير، وليعلموا أن من يزيّن لهم واقعنا المتردي ويخذّلهم عن تغييره، إنما هو من أهل التلبيس، وعمله في الأمة كإبليس، وأن من يدعوهم لنصر الدين بالجهاد، وإصلاح حال المسلمين إلى الهدى والرشاد، هو الناصح الصادق، وقد أمرهم الله تعالى أن يكونوا مع الصادقين: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}.
* * *
وبعد...
فإنّ التغيّير قادم لا محالة، ذلك أن رحاه قد دارت، وبشاراته لاحت، ورائحة نصره قد فاحت، فأعدوا أنفسكم ليوم اللقاء، واستعدوا لعزّ يزيل ذلك الشقاء، وتوقّعوا بين عشيّة وضحاها، رايات الحق تعانق السماء،
لتنتظم الأمة كلّها تحت راية التوحيد، متحاكمة إلى الشريعة، منقادة بالسمع والطاعة للجماعة القائمة بهذا النهج السديد، مهاجرة عن جميع أمر الجاهلية إلى الدين الرشيد، مجاهدة بالحق بالوحي المقرون بالنار والحديد، بإذن الله القويّ رب العبيد.
حسبنا الله ونعم الوكيل، عليه توكلنا، وإليه أنبنا وإليه المصير، هو مولانا فنعم المولى، ونعم النصير.
_________________________
حامد العلي
ذلك أن حقيقة كل شيء يحتويها اسمه، والقوة الكامنة فيه منطوية تحت رسمه، ولهذا علم الله تعالى آدم، أوّل ما علم، الأسماء دقّها وجلَّها، وفضله على الملائكة في ذلك المقام فسجدت له كلُّها.
وإنما اختار الله تعالى لنا اسم الإسلام، فجعله عنوان مجدنا، ومنبع عزّنا، كما قال سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
وفي الحديث الذي ذكر فيه نبيّنا صلى الله عليه وسلم، ما أوصى به يحيى بن زكريا عليه السلام أمته؛ من التوحيد، والصلاة، والصيام، والصدقة، والذكر، عقب نبينا صلى الله عليه وسلم، برسم خطة العزّ لأمّته، واضحة جليّة، وإنما ذكر فيه ما يخصّها، مما فيه عزّها، لأنه صلى الله عليه وسلم أضاف إلى ما ذكره نبيُّ الله يحيى عليه السلام، فقال كما سيأتي: (وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن)، وتلك دلالة واضحة، على أن هذه الخمس هي ما تمتاز به أمّتنا عن غيرها، فإن هي أضاعتها تاهت وفي الذل تلاشت.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا آمركم)، فما ظنّكم إن نحن أضعنا أمره، وقد قال تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا}.
وقد بيّن بجلاء؛ أنّنا لن نفلح في نهضة عزّنا إلا إن كانت تحت العنوان الصحيح الذي اختاره الله لنا، وتميّزت عن دعوات الجاهلية.
فقال: (وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن، الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يُراجِع، ومن دعا بدعوة الجاهلية فهو من جثاء جهنم، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها؛ المسلمين، المؤمنين، عباد الله) [خرجه أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث الحارث بن الحارث الأشعري].
* * *
وفي الحديث من أحكام النهضة الشاملة:
أولا:
أن النهضة لا يجوز أن تكون شرعا، ولن تقع قدرا، إلا إن كانت حاملة لمشروع الجماعة، وهي جماعة المسلمين التي تجمعها رابطة العقيدة الإسلامية.
فليست الجماعة في هذا الدين، هي اجتماع الناس على "وطنية"، فضلا عن نظام يوظف اسم الوطن لشهواته، ولا هي اجتماع الناس على "قومية"، ولا "عنصرية"، ولا أي منهج آخر غير الإسلام.
ولهذا قال: (فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يُراجِع).
إنما هي كما قال: (المسلمين، المؤمنين، عباد الله).
وإنما فشلت وتفشل محاولات النهضة في هذه الأمّة، بسبب أنها وُظِّفت ولومن بعض وجوهها فلم تخلص لله في غير، ولغير جماعة المسلمين العامة التي يجمعها إسم الإسلام، حتى وقع في هذا الضلال من وقع من الجماعات الإسلامية، بما صنعت لنفسها من حزبيّة أشبهت الجاهلية من بعض الوجوه، وابتغت العزّ بها، فصار حالها، وآل مآلها، أنها خضعت في النهاية "لبوليس سري" يسخرها لأطماع حكم الجاهلية!
ثانيا:
لا نهضة للأمّة إلاّ بنظام سياسي شرعي، ولا يكون شرعيّا إلا بجعل السمع والطاعة تابعين لجماعة المسلمين، وأما النظام فليس سوى ممثل للجماعة فحسب.
وصرف النظام السياسي في الأمّة عن هذا الإطار، إلى غيره، يعني إجهاض كلّ مشروع لنهضة الأمّة في مهده.
بل أدهى من هذه، تحويل كلّ مشروع نهضة إلى وقود يبقى نظامنا السياسي الذي هو أكبر عقبات نهضتنا، أطول مدة ممكنة، ممعنا في تمزيق الأمة، وطمس هويتها.
وبجلاء يتبين من نصوص الشريعة، وروحها، ونظامها العام؛ أن النظام الخارجي، هو الذي يخرج عن جماعة المسلمين، عن القيام بما هو نائب عن الجماعة فيه، من النهوض بأمر دينها، ومراعاة مصالحها في ضوء شريعتها، فهذا النظام من الخوارج - شاء أم أبى -
لأنه خرج عن جماعة المسلمين، إلى جاهلية شقية عمياء، ترجع إلى عصبية قومية، أو وطنية، أو عائلية، أو حزبية خرقاء، وعن القيام بأمر دين المسلمين، إلى الخضوع لأمرِ غير جماعتهم، إلى هواه، وإلى سلطة عدو كافر.
وبهذا يعلم أن جميع الأنظمة العربية الحالية؛ هم من الخوارج، لأنه ما من نظام منهم، يمثّل حقيقة جماعة المسلمين؛
لم تنتخبه جماعة المسلمين باختيار حرّ.
وليس عنده ممثلون عن جماعة المسلمين حقّا، من أهل الحل والعقد، يستحقون أن يطلق عليهم هذا الاسم، لأنهم يُحلّون عُقَد البغي والباطل، ويعقدون ألوية الحق.
وليس لجماعة المسلمين أي سلطة حقيقة في الأنظمة الحالية، مع أن السلطة هي لجماعة المسلمين في الأصل، قد غُصبت منها غصبا.
وعامة الأنظمة الخارجيّة المغتصِبة؛ خرجت على جماعة المسلمين بسلاحها، سفكت الدم الحرام، و "كفرت" مخالفيها، وأذاقتهم ألوان العذاب، حتى استولت على السلطة المغتصَبة، وبقيت فيها إلى اليوم بنفس وسائل "الإرهاب" و "الخروج".
ولن تنهض الأمة إلا بأن يرجع هذا المغتصَب إلى جماعة المسلمين، ويُقضى على فتنة الخوارج الذين خرجوا عن جماعة المسلمين، يحجُّون على أوثانهم الحقيرة الصغيرة، وطنية كانت، أو قومية، أو عائلية، إلى اللات، والعزّى، ومناة الثالثة الأخرى؛ الوثن الأكبر في هيئة الإلحاد المتحدة، وابنته اللقيطة؛ مجلس الشقاء الدولي، وبيت دعارته السياسية؛ البيت الأسود في واشنطن.
وأما العلماء، والمفكرون، والحركات الإسلامية، التي تعرض عن إظهار هذه الحقيقة الجليّة، متعامية، متجاهلة أن من أعظم اسباب سقوط أمتنا تحت هيمنة أعداءها، وضياعها، وتخلفها، هو السكوت عن جريمة الاغتصاب هذه - إغتصاب سلطة الأمّة التي تملكها جماعة المسلمين -؛ فهم شياطين صامتة، ومنهم من تحول إلى شيطان ناطق، بل غدا أشد شيطنة من "الأنظمة الخارجية" نفسها.
إنّ التقاعس عن القيام بهذا الأصل الإسلامي العظيم الذي هو من أهم أسس النظام السياسي في الإسلام - أعني وضع مقاليد السلطة السياسية الشرعية بيد الجماعة، جماعة المسلمين، وتمكينها من عزل النظام السياسي إن هو خرج عليها - إن التقاعس عن القيام به؛ من أعظم أسباب تخلّف أمتنا، وضياعها، وهزيمتها.
والعجب والله كلّ العجب، أنْ لا يزال أهل النفاق، والكذبة على دين الله تعالى، من أدعياء العلم، والدعوة، والإصلاح، يمعنُون في عمايتهم، مزيّنين للخوارج على الأمة، المتغصبين لسلطتها، ما هم فيه من الغيّ والضلال، تحت حجّة زائفة من "مصلحة الدعوة"، مشاركين للخوارج على أمّتنا فيما اغتصبوه، فوقفوا معهم على أرض الغصب نفسها، وما يدعونه من الاصلاح ما هو إلاّ كالصلاة في الأرض المغصوبة.
ثالثا:
أنه لا نهضة تُعزّ بها هذه الأمة إلا بالهجرة والجهاد.
الهجرة؛ بمعناها العام، أي التميز عن الجاهلية، كما في الحديث: (والمهاجر من هجر مانهى الله عنه)، وإنما شرعت الهجرة بالأجساد لتحقيق هذا الهدف.
والجهاد؛ الذي فيه قوّة التغيير الثورية، الذي ينتهي بإرجاع سلطة جماعة المسلمين إليها، ثم إلى هيمنتها على النظام العالمي.
ولهذا فالأعداء أشدّ حرصا على محاربة هذين الأمرين، حتى إنهم يزينون للدعاة الدخول في جاهليتهم، واتخاذ شعاراتها منهجا، كالديمقراطية الغربية، كما يزيّنون لهم ترك الجهاد، ومحاربة أهله، ذلك أن الأعداء يعلمون أن عزّ هذا الدين بتخلّصه من الجاهلية، وبالتمسك براية خلاصه، وهي الجهاد في سبيل الله.
رابعا:
أن الدعاة إلى الجاهلية يصيرون إلى أسفل سافلين في الآخرة، كما يصيّرون الأمّة إلى السفول في الدنيا، وهم الدعاة على أبواب جهنم، الذين وصفوا في حديث حذيفة في الصحيح، وهي هذه الأنظمة الداعية إلى دين الوطنية، أو غيرها من مناهج الجاهلية، فهم أهل الغي والضلال، وإن صاموا، وصلوا، وزعموا أنهم مسلمون، هم الخارجون حقا عن دعوة هذا الدين.
خامسا:
أن سبيل نهضة هذه الأمة، سيصير في الاتجاه الخطأ، إن لم يكن تحت راية دعوة الله التي سمانا؛ المسلمين، المؤمنين، عباد الله.
فهذه خمسة قواعد كبار مهمة يجب أن تكون هي التي تنير طريق النهضة نحو العز لأمتنا.
وحاصلها كما بيّنا، إنما ينطوي تحت اسم الإسلام، هو وحده هويتنا، وبه عزنا، فكلّما حققنا معناه في حياة كلّ فرد منا، ثم في أمتنا، رفعنا الله به، ويدخل علينا النقص كلما أنقصنا منه في واقع حياتنا.
ذلك أن معناه يدور على العبودية لله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والإسلام يجمع معنيين:
أحدهما: الاستسلام والانقياد؛ فلا يكون متكبرا.
والثاني: الإخلاص من قوله تعالى: {ورجلا سلما لرجل}، فلا يكون مشركا وهو: أن يسلم العبد لله رب العالمين، كما قال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}، {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}، {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، وقال تعالى: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}، {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}، {لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}).
ثم قال: (وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه وتكمل محبة الرب لعبده وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا؛ وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك، وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع.
فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله، وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين؛ أن يكون لله، وأن يكون موافقا لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب.
كما قال: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}، فلا بد من العمل الصالح وهو الواجب والمستحب، ولا بد أن يكون خالصا لوجه الله تعالى، كما قال تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
وهذا الأصل هو أصل الدين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين، وبه أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب وإليه دعا الرسول وعليه جاهد، وبه أمر وفيه رغب، وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه.
والشرك غالب على النفوس.
وهو كما جاء في الحديث: "وهو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل"، وفي حديث آخر، قال أبو بكر: "يا رسول الله! كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل؟"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله؟ قل؛ اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم".
وكثيرا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله وعبوديتها له وإخلاص دينها له.
كما قال شداد بن أوس: "يا بقايا العرب! إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية"، قيل لأبي داود السجستاني: "وما الشهوة الخفية؟"، قال: "حب الرئاسة".
وعن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" [قال الترمذي: حديث حسن صحيح].
فبين صلى الله عليه وسلم أن الحرص على المال والشرف في فساد الدين، لا ينقص عن فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وذلك بين، فإن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته لله ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}.
فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه عن عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره، إذ ليس عند القلب لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيبا إلى الله خائفا منه راغبا راهبا) انتهى.
والخلاصة...
أن الإستسلام لله تعالى، والإخلاص له وحده، في ربويته، والتألّه له وحده، والتحاكم إليه وحده، هو سبيل الخلاص، لاغيره، كما قال: {قل أعوذ بربّ الناس * ملك الناس * إله الناس}.
فجوهر سبب الهزيمة؛ أن الاستكبار عن الانقياد لأمر الله، وعن التحاكم إلى شريعته، أخلاصا بالعبودية لوجهه سبحانه، قادنا إلى عقوبة الله تعالى بالذلّ، ولا ريب أن من يتحمل كبر هذه المسؤولية، هي الأنظمة السياسية التي استكبرت عن اتباع الدين الحق، فانقادت لليهود أرذل الخلق، ثم من سكتوا عن ظلمها، ووافقوا على باطلها.
كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فالمذاهب، والطرائق، والسياسات للعلماء، والمشايخ، والأمراء، إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء، ليكونوا مستمسكين بالملة، والدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة).
ثم يتفرّع عن هذا الأصل الجامع العظيم الذي هو أصل الدين، ومنبع العزّ والرفعة، والتمكين، جمع أسباب الثورة الشاملة.
* * *
وذلك يقع على كاهل:
أولا؛ العلماء:
فيجب أن يبيّنوا حقيقة هؤلاء الخوارج الذين اغتصبوا سلطة الأمة في تأسيس نظام سياسي يمثل هويتها الجامعة، ويحقق رسالتها، وأن يعيدوا الحق المغتصب إلى أهله، وأن يبيّنوا أن بقاء الأمة تمزقها في حالها المتردي، تحت أوثان الوطنية التي أقيمت في كل أصقاعها، تحت سلطان أعداءها، خاضعة لهيئة الإلحاد المتحدة، هو من أعظم أسباب ذلها، وأن التحاكم إلى تلك الهيئة شرك مع الله يناقض التوحيد الذي به وحده رفعتها، كما يجب أن ينحازوا إلى أمتهم، ويقفوا مع شرفاءها، وينصروا مجاهديها إلى أن يُزال عن صدر الأمة، هؤلاء الخوارج الذين تسلطوا على حقوقها بالظلم والعدوان.
ثانيا؛ المجاهدين:
فيجب عليهم أن يثبتوا على الحق الذين اصطفاهم الله له، ولا ييأسوا من المخذّلين، ولا يلتفتوا إلى المخالفين، فإنهم سيزولون بزوال الطواغيت، فهم حتما ووشيكا زائلون، وسيبقى الحق وأهله، وهم للعقبى نائلون.
ومن أهم ما يجب أن ينتبهوا له؛ خطر وضع السلاح في غير موضعه، أو فيه، لكن قبل أوانه، فإنه يكون حينئذ سلاحا بيد عدوهم، يفقد رسالتهم قوّتها المعنوية، ويضعف شوكتهم المادية، وقد يجهضها في مهدها.
نقول هذا؛ توجيها عاما، مع أن مرجع التقدير إنما هو لأهل الأرض من المجاهدين، وأدناهم إلى العدوّ.
ثالثا؛ عموم الأمة:
فيجب عليهم أن يكونوا عونا لقادتها من أهل العلم والجهاد، فالشعوب هم مادة التغيير، وهم بركان الثورة الذي هو بالنصر جدير، وليعلموا أن من يزيّن لهم واقعنا المتردي ويخذّلهم عن تغييره، إنما هو من أهل التلبيس، وعمله في الأمة كإبليس، وأن من يدعوهم لنصر الدين بالجهاد، وإصلاح حال المسلمين إلى الهدى والرشاد، هو الناصح الصادق، وقد أمرهم الله تعالى أن يكونوا مع الصادقين: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}.
* * *
وبعد...
فإنّ التغيّير قادم لا محالة، ذلك أن رحاه قد دارت، وبشاراته لاحت، ورائحة نصره قد فاحت، فأعدوا أنفسكم ليوم اللقاء، واستعدوا لعزّ يزيل ذلك الشقاء، وتوقّعوا بين عشيّة وضحاها، رايات الحق تعانق السماء،
لتنتظم الأمة كلّها تحت راية التوحيد، متحاكمة إلى الشريعة، منقادة بالسمع والطاعة للجماعة القائمة بهذا النهج السديد، مهاجرة عن جميع أمر الجاهلية إلى الدين الرشيد، مجاهدة بالحق بالوحي المقرون بالنار والحديد، بإذن الله القويّ رب العبيد.
حسبنا الله ونعم الوكيل، عليه توكلنا، وإليه أنبنا وإليه المصير، هو مولانا فنعم المولى، ونعم النصير.
_________________________
حامد العلي