المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اَثار الأزمة الإقتصادية…بعيداً عن الإقتصاد!!!



الوعب
27-09-2010, 08:20 PM
بواسطة د.ناصر بن غيث بتاريخ 27 سبتمبر 2010

لقد تم تناول الأزمة من قبل اًلاف الدراسات والأبحاث وكتب عنها وفيها اًلاف بل ملايين الصحفات , لكن مجمل هذه الدراسات لم تخرج عن الأسباب والنتائج الإقتصادية للإزمة وذلك بإعتبارها أزمة أقتصادية في المقام الإول والإخير , ومن خلال متابعتي الطويلة والمضنية للإزمة وتطوراتها واًثارها لا أذكر أن تعرضت لأي دراسة أو حتى مقالة عن الأسباب أو الاًثار غير الإقتصادية لهذه الأزمة الكبيرة التي أستطيع أن أسميها بـ”أم الإزمات” , السبب في كتابة هذه المقالة ومحاولة تناول الإثار السياسية والإجتماعية للأزمة في هذا التوقيت بالذات هو المسيرة الحاشدة التي شهدتها واشنطن مؤخرا والتي حملت “مسيرة إستعادة الشرف” ودعا لها اليمين الإمريكي المتطرف في ظل الجدل واللغط الذي إثير حول مشروع المسجد أو المركز الثقافي الإسلامي المزمع إقامته في نيويورك بالقرب من موقع برجي مركز التجارة أو ما أصبح يحلو للأمريكيين تسميته بـ”جراوند زيرو” ولما يمكن أن يثير هذا المشروع “الإستفزازي” -بنظر أعضاء اليمين الإمريكي- مشاعر المواطنين الأمريكيين , وهذا الجدل قد كشف مدى العداء الذي بدأ يكنه الناس في الغرب عموماً لكل ما هو أجنبي وغريب وهو ما يدل بدوره –في رأيي- عن مدى التأثير الذي حملته الإزمة الإقتصادية لمختلف جوانب الحياة في الغرب والذي لم يقتصر على الجانب الإقتصادي كما يعتقد الكثيرين , ولعل أهم اًثار الإزمة المالية العالمية هي:

أولاً: الجنوح أكثر إلى اليمين المتطرف

إن تحول الكثير من الدول الغربية إلى أقصى اليمين لا يمكن أن تخطأه عين المراقبين , ففي أوروبا مثلاً فقد بدأت أحزاب اليمين المتطرف والعنصري في الصعود من خلال نجاحها في جذب أعداد متزايد من الأتباع والمتعاطفين مستغلة لأجل ذلك الأوضاع الإقتصادية السيئة ومعدلا البطالة العالية التي خلفتها الأزمة وكذلك موجة العداء للإجانب الذين يحملهم الكثير من الأوروبيين مسؤولية معدلات البطالة العالية التي تعاني منها معظم الدول الإوروبية , أما في الولايات المتحدة الأمريكية فبعد تجربة الأمريكيين المريرة مع جناح ما يعرف بالجمهوريين الجدد المتطرف من الحزب الجمهوري المحافظ الذي أدخل الولايات المتحدة في حروب ونزاعات لا حصر لها كلفت الميزانية الأمريكية أكثر من ثلاثة تريليونات دولار وبعد فوز الرئيس الحالي باراك أوباما التاريخي فقد عاد اليمين المتطرف يطل برأسه القبيح من جديد مستغلاً ذكرى أحداث سبتمبر ومشاعر العداء والكراهية للمسلمين من خلال جناح متطرف اًخر في الحزب الجمهوري يطلق على نفسه “حركة حلفة الشاي” تيمناً بالمظاهرة التي قادها عدد من الوطنيين الأمريكين عام 1773 أحتجاجاً على ضريبة الشاي التي أقرها التاج البريطاني على المستعمرات الأمريكية والتي كانت شرارة حركة التحرير والثورة الأمريكية الكبرى , وهي –أي حركة حفلة الشاي- عبارة عن مجموعة من المسيحيين الإنجيليين المتعصبين الذين يكرهون كل من هو ليس بمسيحي أبيض.

ثانياً: ظهور الشقوق في البناء الإجتماعى

لأشك أن للإزدهار الإقتصادي دور كبير في التقليل من أي أثر سلبي للإشكاليات الإجتماعية أو العرقية أو الأمنية التي عادة ما تعاني منها الأمم , ولا شك أن الدول الغربية –شأنها شأن سائر الدول- تعاني من الكثير من الإشكاليات سواءاً تلك المتعلقة بالهوية أو الأقليات أو المهاجرين , لكن أي من هذه الإشكاليات لم تتحول إلى مشكلات حقيقية تهدد النسيج الإجتماعي إو الكيان السياسي أو السلم الإهلي لهذه الدول وذلك –بالدرجة الأولى- بفضل الرخاء الإقتصادي الذي نعمت به معظم الدول الصناعية في أوروبا وأمريكا الشمالية اللهم إلا في بعض الإماكن ولبعض الوقت كما حدث في ولاية نيوأورلينز إبان إعصار كاترينا , لكن الاًن وبعد أن بدأ غطاء الرخاء الإقتصادي ينحصر شيئاً فشيئاً عن بعض طبقات المجتمع في هذه الدول فإن الكثير من المشكلات الإجتماعية قد بدأت في الظهور , ولعل أهم هذه المشكلات هي مشكلة الهوية التي طفت على السطح مؤخراً في فرنسا وعدد من الدول الأوروبية التي كانت حتى وقت قريب نموذج للتنوع العرقي والديني ومثال للتعايش السلمي بين مختلف الديانات والأعراق , وقد تشكل قضيتيْ الحجاب والماًذن -اللتين إندلعتا في فرنسا وسوسريا وأخذت الحكومات والبرلمانات الأوروبية تتسابق لحظرهما وكأن كل مشاكل إوروبا قد حُلت ولم يتبقى سوى مشكلتي الحجاب وماًذن المساجد- مثالاً صارخاً على أن الشقوق بدأت تظهر في البناء الإجتماعي الأوروبي الذي لطالما تغنت أوروبا بتماسكه وحسدها عليه الكثير من حمقى الشرق.

ثالثاً: تراجع الإيمان بالحكومات وفي الإعتماد عليها

قد يكون من أهم اًثار الإزمة الإقتصادية العالمية غير المرئية والذي أعتقد –غير جازماً- أنه ستبقى طويلاً هو المد الذي بدأ يجتاج الكثير من الدول وليس الغربية حصراً وهو الذي يعتقد أتباعه أن الحكومات بمختلف مشاربها وتوجهاتها قد فشلت في قيادة شعوبها إلى بر الرخاء والإستقرار وأنها أعجز من أن تحقق الحد الأدنى من طموحات شعوبها , وقد بدى هذا التوجه وتململ شريحة كبيرة من الشعوب من أداء حكوماتها في أوروبا واضحاً في الإحتجاجات والإضرابها والمظاهرات التي أخذت تجتاح الكثير من الدول خاصة الأوروبية (في اليونان وفرنسا وبريطانيا) وذلك أحتجاجاً على خطط التقشف الصارمة التي تزمع الحكومات تطبيقها , أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد أخذ هذا المد صورة أخرى تمثلت في إستعداد المواطنين للإعتماد على أنفسهم في توفير الكثير من الإحتياجات التي كانوا يعتمدون في توفيرها على الحكومة الإتحادية أو المحلية ومن أهمها الأمن , حيث بدأ الكثير من الأمريكيين في تكديس السلاح والذخائر إستعداداَ للدفاع عن أنفسهم إن إقتضت الحاجة إعتقاداً منهم أن الحكومة قد تنهار أو أنها لن تكون قادرة على حمايتهم.

رابعاَ: تراجع الدعم الشعبي والحكومي للعولمة والركون للمحلية

ربماً تكون العولمة من أهم نتائج مرحلة الرخاء الإقتصادي التي مر بها العالم في العقود القليلة الماضية والتي أدت إلى إزدهار التبادل التجاري وتزايد الرغبة في التواصل بين الشعوب المختلفة وإنتشار النظرة الإيجابية نحو الخارج لدي الكثير من الشعوب , لذلك أعتقد أن أحد أهم نتائج الأزمة الحالية سيكون تراجع الدعم والإعتماد على الخارج والإنكفاء على الداخل من قبل الشعوب والحكومات , كما يمكن أن تؤدي الأزمة كذلك إلى تراجع الثقة الشعبية في التكتلات الكبرى والإعتماد أكثر فأكثر على الجهات المحلية وهو ما بدأت بوادره تظهر حسب إعتقادي , فعلى سبيل المثال فقد أدت أزمة الديون السيادية في أوروبا والتي كانت إحدى إرتدادات الإزمة المالية إلى تراجع الدعم الشعبي للإتحاد الأوروبي , وقد كان ذلك جلياً من المقاومة الشعبية التي واجهها قرار الحكومتين الإلمانية والفرنسية تقديم الدعم المالي لليونان , وفي إسبانيا أخذت الأمور منحى أكثر راديكالية حيث إزداد الدعم الشعبي في إقليم كاتلونيا لفكرة الإنفصال التي لم تكن -حتى وقت قريب- تراود سوى قلة من الكاتلونيين , وكذلك هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت تتصاعد فيها حدة التململ من الحكومة الإتحادية بسبب خطط التحفيز , إذ أن مواطني تكساس لم يكونوا راضين عن إستخدام عوائد ضرائبهم لمساعدة صناعة السيارات في متشيغان أو قطاع البنوك في نيويورك , وقد إنعكس عدم الرضى هذا في تصريحات حاكم الولاية الذي لم يخفي رغبته في إنفصال تكساس عن الولايات المتحدة.

ما ذُكر ما هو إلا بعض الاَثار السياسية والإجتماعية للأزمة الإقتصادية والتي أعتقد أن يكون لها هي نفسها اًثار بعيدة الأمد على الدول ما يعني أن هذه الأزمة لن تكون مجرد أزمة إقتصادية تأخذ مداها ثم تنحصر دون أن تترك ندوبها على الأمم والشعوب شأنها في ذلك شأن الأزمات الإقتصادية الكبرى كالكساد العظيم الذي إمتدت اًثاره لعقود من الزمن ورفع الله به أقوام ووضع اَخرين , ولعلها –أي الأزمة- لن تذهب قبل أن تغيير الخارطة الإقتصادية وربما السياسية العالمية بل قبل أن تغيير العالم الذي نعرفه للأبد.