مـــــنــاف
16-12-2010, 12:25 AM
بـــسم اللـــه الــرحـــمن الــرحـــيم
الـــحمدُ للــه رب الــعالـــمين , والــصلاة والــسلامُ عــلى أفــــضل الــخلقِ أجـــمعــين , ســـيّـُدنا ونــبيــّـُنا (مُـــحــّمد)(صــلى اللــه عــليه وســـلم) , وعــلى آلــهِ وصـــحبــهِ أجــــمعــين .
الــسلامُ عــليكُــم ورحـــمة اللــه وبـــركــاتـــه
يُــــتحــفنا فــــضيــــلة الــــشيخ / ســـلمان بــن فــــهد الــعودة , بــــين الـــفيـــنة والأُخـــرى , بِـــكلــماتٌ تـــربــــويــةٌ رائِـــــعة , عــــبر الــــمقالات والـــخطـــب الــراقــــية والـــتي تـــــحمـــل فـــي ثــــناياهـــا (الـــنصــح والـــتوجـــية والــــتنبــية) لِـــكُلِ مــا مــــن شــأنـــة الــــمساس بِالأُســـــرة والـــبيت الـــمُــــسلم .
لــــذلــــك .. أدعــــوكــــم بارك اللــه فــــيكــم إلـــى الإبــــحار والــــتمـــعــّن فــــي بـــعض الأخــــطار الـــتي قـــــد تــــدُّق الأبــــواب فــــي هــــذا الــــمقــال .
الأُم (غاضــــبةً) عـــــلى البنت المــــراهقة , وتــــتحدث بحــــزنٍ شـــــديد : كـــــيف أن هــــذهِ المخــــلوقة الـــــتي حمــــلتُها تســــعة أشــــهر جزءاً مـــــن جــــسدي ، وأطــــعمتها مـــــن زادي ، وأمـــّددتها بنسغ الحــــياة مــــن روحــــي ، وحضــــُنتها ســــنين عـــــدداً ، فــــهي امــــتداد لـــجسدي وروحــــي .... أصــــبحت تـــّتمرد عـــــلى أوامـــــري ، وتــــضرب عــــرض الحــــائط بكِــــل توجـــــيهاتي ..؟؟؟؟
لــــــم أستـــــطع أن أجــــمع بــــين خــــيال الطـــــفولة .. (صــــغيرتي مــــلفوفة فـــي مــِهدها الأّول بــــين ذراعــــي) , وســــهر ليـــــلي الطــــويل لأرضــــعها وأهـــّزها حــــتى تهــــدأ وتـــــنام .
وبـــــــــيـــــــــــــــن
إمـــــرأة أصــــبحت فــــي طـــــول قامـــــتي ، صـــــوتها (يـــــغلب) صــــــوتي ، وهــــي (تنـــــحاز) لــــصديقاتها جــــلّ وقــــتها ، مــا بــــين مــــطعم ، أو تـــــمشية فـــي ســـوق ، أو اســــتراحة ، ولا يبــــدو لـــديها اســــتعداد أن تـــــنضبط فـــي مــــواعيد دخــــول أو خــــروج ، وردهّـــــا دوماً هــــو (أنا حُــــّرة ولـــيس لأحـــد علـــيّ سلطان) !!!!
حــــــديث الأُم مـــــؤلم مــــــوجع ، ودافــــع الأم نـــــبيل ، إنــــها تخــــاف عـــــلى بنــــتها مــــن تأثــــيرات تجـــهلها ، وتُــــدرك أن البنـــت لا زالـــت فـــي غِــــرار صِـــــباها , ولا زال طـــــريقها إلى تجارب الحــــياة وخبراتها فــــي بِـــــدايته الأولى .
ولِــــــذا فــــهي تتـــأثر بلـــين الـــقول ، أو تتــساهل فــــي خــــطوة عــــادية تــــُجرّ وراءهــــــا خطوات .
مــــــن ذا يُــــّشكك فـــــي ُرقي هــــــذه الدوافــــع وسلامتها وأهميــــة وجــــودها عـــــند أي أُم , لـــُّتؤدي دورهـــا فـــي الــــتربية والـــرعاية والاهـــتمام ..؟؟
ومـــــا مـــعنى الأمـــــومة إن لـــــم تــــكن هـــِذه الـــــمعاني حـــِاضرة فـــيها ..؟؟
وبِـــــقدر رســــوخ هـــــذا الــمعــنى وعـــظمته , حــــضر فــــي ذهـــــني معــــنى آخـــــر .. (أن الولــــد (ذكراً أو أنثى) هـــو كائن مُستــــقل , يـــــأخذ طـــــريقه للـــحياة كمـــــخلوق آخــــر , يكـــــبر ليــحصل عــلى المــسؤولية والتــكليف الشــرعي , حــتى يصــــبح مـــحاسباً مسؤولاً عـــــما يعــــتقد ويقـــــول ويفــــعل) ... حــــتى لربــــما صــــار عــــلى النـــــقيض مــــن والديه .
حــــكى لنا (الله) ســـبحانــه وتــعالــى فــي القرآن , قصـــّة (نـــوح النبي وابــنه الكافر) ، (وقــــصة إبراهـــيم النبي ووالــده الكافر) ، وأشـــار إلـــى أحـــوالٍ جـــرت في عـــهد (النبي) صــلى اللــه عــليه وســلم , مـــــن (تخـــالف) فـــــي الديــــن والمُـــــعتقد بــــين (آباء وأبناء) ، ولذا قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (التوبة:23) .
ثــُم عــــقّب بقوله : (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24) .
وقــــــد يكــــون الــــتباعد بيــــن الآباء والأولاد دون ذلـــك ، فيـــكون الأب (مُــــطيعاً والابــن عاصياً) ، أو بـــعكس هــــذا , فـــُثمّ استقـــلال تـــام فـــي نــهاية المطاف ، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(الأنعام: من الآية164) .
وعَــنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ : (أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ أَبِـــي فَــــقَالَ مَـــنْ هَـــذَا مَعَـــكَ ..؟
قَـــالَ : ابْــــنِي أَشْــــهَدُ بِــهِ , قَــالَ (أَمَا إِنَّكَ لَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائى ، وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
أجــــد مــــن ملاحـــظتي للأنـــماط التربوية أن مــــن الآباء مــــن (ينحـــاز) للأصـــل الأول ، فــــتغلبه النــــظرة للأبناء باعــتبارهم امتــــداداً لــــه ، ويستحضر بصــــفة مسّتمرة ، وربُــــما ضـــّارة ، أنه فــــعل لـــهم وفـــعل , وكـــّأنه (يمُـــــنّ) علــــيهم بـــِما عـــمل ، مـــع أن الحــــنان والرعـــاية فـــطرة إلهـــــية حتى لدى الــ ....!!
وربــــما (عــــــيّر) أب ابـــــنه وذكّـــــره بأنـــــه نطـــــفة مـــــنه , وهــــو قـــــد بــــلغ الســـتين أو قــــارب ..!!
ونتــــيجة لــــهذا (يتــــجاهل) بــــعض الآبـاء (حـــاجات) الابـــــن فــــي تــــلك الـــــسن المُـــّبكِرة ، ومـــــيله لِــــمن هُـــم فــــي مــــثل ســـّنه ومستواه , يُـشاركونه الحـــديث واللـــُغة والاهــــتمام والـــدراسة والــــميل والــــعادة .
ويتــــجاهل آخــــرون مُــــتغيرات الــــزمن وطوارئه بــــين مـــا كـــانوا عــــليه أيام الشـــباب ومـــا علـــيه أبناؤهم الآن ، ويـــريدون مـــنهم أن يأكــــلوا ويــــشربوا ويلبـــسوا , أو يتـــصرفوا كـــما كــان آباؤهم يفعـــلون حـــين كـــانوا فـــي مـــثل ســـّنهم .
ولذا كان (عــــلي) -رضي الله عنه- يقول : (لا تُـــكرِهــوا أبنـــاءكم عــــلى أخلاقــــكم فإنـــهم خُلِـــــقوا لِــــزمانٍ غـــير زمــــانكم) .
فـــُّثمت متــُغيرات فـــي شـــتى الـــنواحي بـــين الأجــيال يجــب اعتـــبارها ، لئلا تـــكون الـــتربية قـــسراً وإكــــراهاً (يقـــتل شخــصية أبنــائنا ويـــفقدهم الـــثقة بأنفسهم) ..!!
إن مُــــصادرة شخـــصية الـــولد مـــن شأنها أن تــــصنع عـــنده (عــــقوقاً) لأنه يـــريد أن يُـــّحقق ذاته ولــــو غــــضب والداه ، أو تصـــنع عِـــنده ضـــياعاً وضعــــفاً فـــي الشخصية لأنـــه قــّرر أن (يستسلم) لإرادة والديـــــه مــــع عـــدم رضاه داخلياً , مما يجعله مشـــّتتاً مرتبكاً ، وهــُنا تنشأ وتكــــبر العُــــقد النــــفسية وحـــالات الاكتــئاب والــــقلق ، ثــــم النفاق والتــّصنع والازدواجـــية .
ومــــن الـــُمربين مــــن ينــــحاز للأصــــل الثــــاني فيمـــــنح الأولاد (حــــّرية) مُــــطلقة مـــــن أول الأمـــــر ولا يسمعهم كلمة " لا " ولا يــــشعرهـــم بأنـــهم جـــزء مــــن منظومة " الأسرة " يستوجب علـــيهم الانـــتماء لها , أن يشاركوها برامــجها والتـــزاماتها ومــواعيدها وقـــيمها الأخــلاقية العــليا ، وأن يتـــدربوا عــلى (احتــرام) رمـــوزها ورجالاتها ، ومنهم الأبوان خاصة .
ولـــــذا قـــرن (الله) حــــق الأبـــوين بحـــقه فقال سبحانه : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)(الإسراء: من الآية23) .
وفـــي قــّصة (جريـــج) الشهيرة وهـــي فــي الصحيح أنه قال : أمي وصلاتي .!! (وفضّــــل) صــــلاته فــــدعت عــــليه أمه واستجيب دعاؤها .
وقـــــد عـــــنّ لــــي الجــــمع بـــين هـــذه الآيــــة الكريمة ، فالأولاد يعيـــــشون مرحـــلة خطــــرة تتــــّحكم فـــي بقـــــّية أعمــــارهم وحيــــاتهم ، وإذا غـــــاب عـــنهم (الإرشاد والتوجيه والتحذير) ، وبمــــعنى أعـــــمّ " التربية " فســـيكون مـــن العســـير عليـــهم أن ينجـــحوا فـــي (مضمار الحياة) وأن يكــــونوا فاعـــلين مؤثــــّرين , ولــــذا قال ساـــبق البربري : (قد ينفــــعُ الأدَبُ الأحــــداثَ فــــي مَـــهَلٍ وليـــس يَنــــفَعُ عــــند الكَـــبرَة الأدَبُـــإنَّ الغُصُـــونَ إذا قوَّمــــتها اعتَـــدَلَت ولـــن تَلِينَ إذا قَوَّمتَـــها الخُشُبُو , لهؤلاء وأولئــك أقول :ـ
أعـــــطوا أولادكــــم المفــاتيح .!!
أعــــطوهم مفاتـــيح المسؤولية فــلا تصادروا شخــــصياتهم ..!!
وامنحـــوهم حـــّق الـــتدريب والعــــمل والمحـــاولة والخـــطأ أمـــام أعيـــنكم وفـــي حيــــاتكم حــــتى تطمــــئنوا قـــبل الرحـــيل إلـــى أن الأمــــور ستــــكون بخـــير .
دعـــــهم يتـــّولون مناصبهم ووظائفهم الـــتي تقتــــضي ســـّنة الحـــياة أن تؤول إلـــــيهم حــــتى (لا يخـــــتلفوا) بـــــعد موتـــــكم اخـــتلافاً (يضـــّر) بــــهم وبالتــراث والميــــراث الــــذي يصـــير إليهم ، ويــــّضر بالقــــرابة والــــجيران والصداقات .
أعطــــوهم مفـــاتيح البــــناء (بالاعـــتماد) على النــــفس والثــــقة بها ، والـــصدق والإخـــلاص ، فـــلا شيء يــٌّربي عـــلى الكــــذب والمراوغة مـــثل (التربية القاسية) ..!!!!!
لا يحــــملنكم الحــــب عــــلى المــُبالغة فــي الخــــــوف ، فـــــمردود هـــذا عـــلى الأولاد هـــو التـــحفيز على المغامرة الشديدة إن كانــــوا أقوياء الشخصية ، أو الاستسلام والانهيار إن كــــانوا ضـــعفاء .. وقديماً قالت العرب : (ومن الحب ما قتل).
أعـــــطوهم مفــــاتيح النـــجاح بالتـــوجيه الهادئ ، (والجــــلسات الحمــــيمية) ، والعلاقات الســـمحة ، والصــــبر الطويل ، والكلمـــات الحـــكيمة التـــي تـــّظل تجلجل في أسماعـــهم ما دامــــوا علـــى قيد الحياة يذكرونها (ويذكـــــرونكم) معـــها بالخير ويسلمونها لمن بعدهم .
لا تظـــّنوا أن الغــــضب الدائــم والعـــتب المســتمر والهــجر الطــويل هــو الحل .. فما قيـــمة أن يعملوا لــكم أشياء وهـــم يكرهونها فـــي قرارة نفوسهم ، أو يتركوا لــــكم أشـــياء ونفوسهم تـــّتحرق شوقاً إليها ..!!!!
سيــــجدون يـــوماً أنـفسهم (أحــراراً) في الفــــعل والـــترك ، فلــــيكن جــهدنا الكـبير فـــي (غـــرس) حــــب الإيـــمان والـــصدق والعــــمل والأخــــلاق فـــي قلوبـــهم ، وكره الفجــــور والــــجهل والكســـل والفوضى وأهلها ، (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)(الحجرات: من الآية7) .
أن نغــــرس فـــي نفـــوسهم (حــــب) الصلاة لا يــــقل أهمية عـــــن أدائهم للصلاة ذاتها ، وأن نربـــّيهم على كــــره الكذب والسرقة لا يــــقل أهمية عن تركــهم لها .
ولا تدعـــــوا عـــلى أولادكم إلا بخـــير حـــتى لو غضــــبتم .. الدعــــــوات الصالحة الصادقـــــة مــــن الوالدين مظــــّنة الإجابة وأن تفتـــح لها أبــــــواب السماء (فاجـعـلـوا) دعـــــواتكم لــــهم جزءاً مــــن (مشروع التربية والتوجيه والأمل الجميل) .
(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)(الفرقان: من الآية74) .
ودمــــتم بــــحفــــظ الـــرحـــمن
الـــحمدُ للــه رب الــعالـــمين , والــصلاة والــسلامُ عــلى أفــــضل الــخلقِ أجـــمعــين , ســـيّـُدنا ونــبيــّـُنا (مُـــحــّمد)(صــلى اللــه عــليه وســـلم) , وعــلى آلــهِ وصـــحبــهِ أجــــمعــين .
الــسلامُ عــليكُــم ورحـــمة اللــه وبـــركــاتـــه
يُــــتحــفنا فــــضيــــلة الــــشيخ / ســـلمان بــن فــــهد الــعودة , بــــين الـــفيـــنة والأُخـــرى , بِـــكلــماتٌ تـــربــــويــةٌ رائِـــــعة , عــــبر الــــمقالات والـــخطـــب الــراقــــية والـــتي تـــــحمـــل فـــي ثــــناياهـــا (الـــنصــح والـــتوجـــية والــــتنبــية) لِـــكُلِ مــا مــــن شــأنـــة الــــمساس بِالأُســـــرة والـــبيت الـــمُــــسلم .
لــــذلــــك .. أدعــــوكــــم بارك اللــه فــــيكــم إلـــى الإبــــحار والــــتمـــعــّن فــــي بـــعض الأخــــطار الـــتي قـــــد تــــدُّق الأبــــواب فــــي هــــذا الــــمقــال .
الأُم (غاضــــبةً) عـــــلى البنت المــــراهقة , وتــــتحدث بحــــزنٍ شـــــديد : كـــــيف أن هــــذهِ المخــــلوقة الـــــتي حمــــلتُها تســــعة أشــــهر جزءاً مـــــن جــــسدي ، وأطــــعمتها مـــــن زادي ، وأمـــّددتها بنسغ الحــــياة مــــن روحــــي ، وحضــــُنتها ســــنين عـــــدداً ، فــــهي امــــتداد لـــجسدي وروحــــي .... أصــــبحت تـــّتمرد عـــــلى أوامـــــري ، وتــــضرب عــــرض الحــــائط بكِــــل توجـــــيهاتي ..؟؟؟؟
لــــــم أستـــــطع أن أجــــمع بــــين خــــيال الطـــــفولة .. (صــــغيرتي مــــلفوفة فـــي مــِهدها الأّول بــــين ذراعــــي) , وســــهر ليـــــلي الطــــويل لأرضــــعها وأهـــّزها حــــتى تهــــدأ وتـــــنام .
وبـــــــــيـــــــــــــــن
إمـــــرأة أصــــبحت فــــي طـــــول قامـــــتي ، صـــــوتها (يـــــغلب) صــــــوتي ، وهــــي (تنـــــحاز) لــــصديقاتها جــــلّ وقــــتها ، مــا بــــين مــــطعم ، أو تـــــمشية فـــي ســـوق ، أو اســــتراحة ، ولا يبــــدو لـــديها اســــتعداد أن تـــــنضبط فـــي مــــواعيد دخــــول أو خــــروج ، وردهّـــــا دوماً هــــو (أنا حُــــّرة ولـــيس لأحـــد علـــيّ سلطان) !!!!
حــــــديث الأُم مـــــؤلم مــــــوجع ، ودافــــع الأم نـــــبيل ، إنــــها تخــــاف عـــــلى بنــــتها مــــن تأثــــيرات تجـــهلها ، وتُــــدرك أن البنـــت لا زالـــت فـــي غِــــرار صِـــــباها , ولا زال طـــــريقها إلى تجارب الحــــياة وخبراتها فــــي بِـــــدايته الأولى .
ولِــــــذا فــــهي تتـــأثر بلـــين الـــقول ، أو تتــساهل فــــي خــــطوة عــــادية تــــُجرّ وراءهــــــا خطوات .
مــــــن ذا يُــــّشكك فـــــي ُرقي هــــــذه الدوافــــع وسلامتها وأهميــــة وجــــودها عـــــند أي أُم , لـــُّتؤدي دورهـــا فـــي الــــتربية والـــرعاية والاهـــتمام ..؟؟
ومـــــا مـــعنى الأمـــــومة إن لـــــم تــــكن هـــِذه الـــــمعاني حـــِاضرة فـــيها ..؟؟
وبِـــــقدر رســــوخ هـــــذا الــمعــنى وعـــظمته , حــــضر فــــي ذهـــــني معــــنى آخـــــر .. (أن الولــــد (ذكراً أو أنثى) هـــو كائن مُستــــقل , يـــــأخذ طـــــريقه للـــحياة كمـــــخلوق آخــــر , يكـــــبر ليــحصل عــلى المــسؤولية والتــكليف الشــرعي , حــتى يصــــبح مـــحاسباً مسؤولاً عـــــما يعــــتقد ويقـــــول ويفــــعل) ... حــــتى لربــــما صــــار عــــلى النـــــقيض مــــن والديه .
حــــكى لنا (الله) ســـبحانــه وتــعالــى فــي القرآن , قصـــّة (نـــوح النبي وابــنه الكافر) ، (وقــــصة إبراهـــيم النبي ووالــده الكافر) ، وأشـــار إلـــى أحـــوالٍ جـــرت في عـــهد (النبي) صــلى اللــه عــليه وســلم , مـــــن (تخـــالف) فـــــي الديــــن والمُـــــعتقد بــــين (آباء وأبناء) ، ولذا قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (التوبة:23) .
ثــُم عــــقّب بقوله : (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24) .
وقــــــد يكــــون الــــتباعد بيــــن الآباء والأولاد دون ذلـــك ، فيـــكون الأب (مُــــطيعاً والابــن عاصياً) ، أو بـــعكس هــــذا , فـــُثمّ استقـــلال تـــام فـــي نــهاية المطاف ، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(الأنعام: من الآية164) .
وعَــنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ : (أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ أَبِـــي فَــــقَالَ مَـــنْ هَـــذَا مَعَـــكَ ..؟
قَـــالَ : ابْــــنِي أَشْــــهَدُ بِــهِ , قَــالَ (أَمَا إِنَّكَ لَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائى ، وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
أجــــد مــــن ملاحـــظتي للأنـــماط التربوية أن مــــن الآباء مــــن (ينحـــاز) للأصـــل الأول ، فــــتغلبه النــــظرة للأبناء باعــتبارهم امتــــداداً لــــه ، ويستحضر بصــــفة مسّتمرة ، وربُــــما ضـــّارة ، أنه فــــعل لـــهم وفـــعل , وكـــّأنه (يمُـــــنّ) علــــيهم بـــِما عـــمل ، مـــع أن الحــــنان والرعـــاية فـــطرة إلهـــــية حتى لدى الــ ....!!
وربــــما (عــــــيّر) أب ابـــــنه وذكّـــــره بأنـــــه نطـــــفة مـــــنه , وهــــو قـــــد بــــلغ الســـتين أو قــــارب ..!!
ونتــــيجة لــــهذا (يتــــجاهل) بــــعض الآبـاء (حـــاجات) الابـــــن فــــي تــــلك الـــــسن المُـــّبكِرة ، ومـــــيله لِــــمن هُـــم فــــي مــــثل ســـّنه ومستواه , يُـشاركونه الحـــديث واللـــُغة والاهــــتمام والـــدراسة والــــميل والــــعادة .
ويتــــجاهل آخــــرون مُــــتغيرات الــــزمن وطوارئه بــــين مـــا كـــانوا عــــليه أيام الشـــباب ومـــا علـــيه أبناؤهم الآن ، ويـــريدون مـــنهم أن يأكــــلوا ويــــشربوا ويلبـــسوا , أو يتـــصرفوا كـــما كــان آباؤهم يفعـــلون حـــين كـــانوا فـــي مـــثل ســـّنهم .
ولذا كان (عــــلي) -رضي الله عنه- يقول : (لا تُـــكرِهــوا أبنـــاءكم عــــلى أخلاقــــكم فإنـــهم خُلِـــــقوا لِــــزمانٍ غـــير زمــــانكم) .
فـــُّثمت متــُغيرات فـــي شـــتى الـــنواحي بـــين الأجــيال يجــب اعتـــبارها ، لئلا تـــكون الـــتربية قـــسراً وإكــــراهاً (يقـــتل شخــصية أبنــائنا ويـــفقدهم الـــثقة بأنفسهم) ..!!
إن مُــــصادرة شخـــصية الـــولد مـــن شأنها أن تــــصنع عـــنده (عــــقوقاً) لأنه يـــريد أن يُـــّحقق ذاته ولــــو غــــضب والداه ، أو تصـــنع عِـــنده ضـــياعاً وضعــــفاً فـــي الشخصية لأنـــه قــّرر أن (يستسلم) لإرادة والديـــــه مــــع عـــدم رضاه داخلياً , مما يجعله مشـــّتتاً مرتبكاً ، وهــُنا تنشأ وتكــــبر العُــــقد النــــفسية وحـــالات الاكتــئاب والــــقلق ، ثــــم النفاق والتــّصنع والازدواجـــية .
ومــــن الـــُمربين مــــن ينــــحاز للأصــــل الثــــاني فيمـــــنح الأولاد (حــــّرية) مُــــطلقة مـــــن أول الأمـــــر ولا يسمعهم كلمة " لا " ولا يــــشعرهـــم بأنـــهم جـــزء مــــن منظومة " الأسرة " يستوجب علـــيهم الانـــتماء لها , أن يشاركوها برامــجها والتـــزاماتها ومــواعيدها وقـــيمها الأخــلاقية العــليا ، وأن يتـــدربوا عــلى (احتــرام) رمـــوزها ورجالاتها ، ومنهم الأبوان خاصة .
ولـــــذا قـــرن (الله) حــــق الأبـــوين بحـــقه فقال سبحانه : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)(الإسراء: من الآية23) .
وفـــي قــّصة (جريـــج) الشهيرة وهـــي فــي الصحيح أنه قال : أمي وصلاتي .!! (وفضّــــل) صــــلاته فــــدعت عــــليه أمه واستجيب دعاؤها .
وقـــــد عـــــنّ لــــي الجــــمع بـــين هـــذه الآيــــة الكريمة ، فالأولاد يعيـــــشون مرحـــلة خطــــرة تتــــّحكم فـــي بقـــــّية أعمــــارهم وحيــــاتهم ، وإذا غـــــاب عـــنهم (الإرشاد والتوجيه والتحذير) ، وبمــــعنى أعـــــمّ " التربية " فســـيكون مـــن العســـير عليـــهم أن ينجـــحوا فـــي (مضمار الحياة) وأن يكــــونوا فاعـــلين مؤثــــّرين , ولــــذا قال ساـــبق البربري : (قد ينفــــعُ الأدَبُ الأحــــداثَ فــــي مَـــهَلٍ وليـــس يَنــــفَعُ عــــند الكَـــبرَة الأدَبُـــإنَّ الغُصُـــونَ إذا قوَّمــــتها اعتَـــدَلَت ولـــن تَلِينَ إذا قَوَّمتَـــها الخُشُبُو , لهؤلاء وأولئــك أقول :ـ
أعـــــطوا أولادكــــم المفــاتيح .!!
أعــــطوهم مفاتـــيح المسؤولية فــلا تصادروا شخــــصياتهم ..!!
وامنحـــوهم حـــّق الـــتدريب والعــــمل والمحـــاولة والخـــطأ أمـــام أعيـــنكم وفـــي حيــــاتكم حــــتى تطمــــئنوا قـــبل الرحـــيل إلـــى أن الأمــــور ستــــكون بخـــير .
دعـــــهم يتـــّولون مناصبهم ووظائفهم الـــتي تقتــــضي ســـّنة الحـــياة أن تؤول إلـــــيهم حــــتى (لا يخـــــتلفوا) بـــــعد موتـــــكم اخـــتلافاً (يضـــّر) بــــهم وبالتــراث والميــــراث الــــذي يصـــير إليهم ، ويــــّضر بالقــــرابة والــــجيران والصداقات .
أعطــــوهم مفـــاتيح البــــناء (بالاعـــتماد) على النــــفس والثــــقة بها ، والـــصدق والإخـــلاص ، فـــلا شيء يــٌّربي عـــلى الكــــذب والمراوغة مـــثل (التربية القاسية) ..!!!!!
لا يحــــملنكم الحــــب عــــلى المــُبالغة فــي الخــــــوف ، فـــــمردود هـــذا عـــلى الأولاد هـــو التـــحفيز على المغامرة الشديدة إن كانــــوا أقوياء الشخصية ، أو الاستسلام والانهيار إن كــــانوا ضـــعفاء .. وقديماً قالت العرب : (ومن الحب ما قتل).
أعـــــطوهم مفــــاتيح النـــجاح بالتـــوجيه الهادئ ، (والجــــلسات الحمــــيمية) ، والعلاقات الســـمحة ، والصــــبر الطويل ، والكلمـــات الحـــكيمة التـــي تـــّظل تجلجل في أسماعـــهم ما دامــــوا علـــى قيد الحياة يذكرونها (ويذكـــــرونكم) معـــها بالخير ويسلمونها لمن بعدهم .
لا تظـــّنوا أن الغــــضب الدائــم والعـــتب المســتمر والهــجر الطــويل هــو الحل .. فما قيـــمة أن يعملوا لــكم أشياء وهـــم يكرهونها فـــي قرارة نفوسهم ، أو يتركوا لــــكم أشـــياء ونفوسهم تـــّتحرق شوقاً إليها ..!!!!
سيــــجدون يـــوماً أنـفسهم (أحــراراً) في الفــــعل والـــترك ، فلــــيكن جــهدنا الكـبير فـــي (غـــرس) حــــب الإيـــمان والـــصدق والعــــمل والأخــــلاق فـــي قلوبـــهم ، وكره الفجــــور والــــجهل والكســـل والفوضى وأهلها ، (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)(الحجرات: من الآية7) .
أن نغــــرس فـــي نفـــوسهم (حــــب) الصلاة لا يــــقل أهمية عـــــن أدائهم للصلاة ذاتها ، وأن نربـــّيهم على كــــره الكذب والسرقة لا يــــقل أهمية عن تركــهم لها .
ولا تدعـــــوا عـــلى أولادكم إلا بخـــير حـــتى لو غضــــبتم .. الدعــــــوات الصالحة الصادقـــــة مــــن الوالدين مظــــّنة الإجابة وأن تفتـــح لها أبــــــواب السماء (فاجـعـلـوا) دعـــــواتكم لــــهم جزءاً مــــن (مشروع التربية والتوجيه والأمل الجميل) .
(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)(الفرقان: من الآية74) .
ودمــــتم بــــحفــــظ الـــرحـــمن