أعمار
31-01-2011, 11:15 AM
أيها الإخوة الكرام سلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعد التحية الطيبة يا إخواني هذي كلمة من الشيخ الفاضل العالم علي الحلبي حفظه الله تعالى حول الأحداث الجارية في مصر ( ملاحظة الكلمة طويلة شيئا ما فأرجوا أيها الإخوة أن تستكملوا قراءتها حرصا على الفائدة لمعرفة حكم مثل هذه الأحداث العظيمة الجسيمة التي جرت في تونس ومصر وستلحقها دول عربية أخرى نسأل الله أن يلطف)
يقول الشيخ رحمه الله بعد الحمدله :(أما بعد
فَقَد وَرَدَ عن الصَّحّابي الجَليْل عَليّ بنِ أبي طَالبٍ ضِمْنَ وَصِيَّةٍ جَمِيْلةٍ جَليْلةٍ أدَّاهَا لأَحَدِ أصْحَابِهِ وهو كُمَيْلُ بن زِيَاد ، أنَّه قَال لَهُ مِن ضِمْنِ ما قَال ، ( النَّاسُ ثَلاثةٌ : فَعَالمٌ رَبَّانِيٌ ، وَمُتَّبِعٌ عَلى سَبِيْلِ نَجَاةٍ ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أتْبَاعِ كُلِّ نَاعِقٍ )
لا يخرُجُ النَّاسُ كيفَمَا كانُوا وأيْنَمَا كانُوا عَنْ هَذهِ الأصْنَافِ الثَّلاثَةِ ، عالمٌ ربانِيٌ ، أيْ منْسُوبٌ إلى الرَّبِّ العَظيم جَلَّ جَلاله ، ويُربي النَّاسَ عَلى ذَلك ، أو مُتَّبِعٌ عَلى سَبِيْلِ نَجَاةٍ ، لَيْسَ مُقَلِّدَا ، ولا مُتَعَصِّبَاً ، ولا متحزباً ،
وإنما يريد الله والدار الآخرة ، يريد الله والدار الآخرة لأنهما عنوان النجاة ، وما سوى ذاك فإلى الخسران المبين ، بقدر تخلفه عن هذا يناله من ذاك ، فمقلٌ أو مستكثرٌ ، والثالث الصنف الثالث : همجٌ رعَاعْ ، أتباعُ كلِّ ناعِقٍ ، ليس عندهم القواعد العلمية ولا الأصول الشرعية ، ولا السبل والأسس المرعية ، في إطار الشريعة الإسلامية ،
وإنما يصيحون مع كل منادٍ ، ويتيهون في كل وادٍ ، همجٌ رَعَاعٌ ، ليس من علمٍ يحركهم ، ولا من شريعةٍ تدفعهم ، أتباع كل ناعقٍ ، بقدر ما كان نُعاق هذا الناعق أشداً ، وبقدر ما كان صياحه أعلى بقدر ما وجد من الأتباع أكثر ومن الأعداد أوفر ، وكل ذي عقل وكل ذي نهىً يرفض أن يكون كهذا الصنف الثالث ،
وإن كان عند غلبة العواطف ، وعند ثورة الحماسات ، قد يكون منهم أو بينهم أو المقدم فيهم فليراجع نفسه وليتأمل مواضع قدميه وحركات فؤاده وتحركات لسانه ،
حتى لا يكون عنده من الإثم ومن المخالفة بقدر ما عنده من التبعية والعصبية والجهل والحميَّة ، وكذلك في حال رفضه أن يكون من هذا الصنف الثالث فإنه بما آتاه الله من عقلٍ ، يعرف أنه ليس من أهل الصنف الأول ، فالصنف الأول هم العلماء الرَّبانيون ، الذين يجب على الأمة أن تتبعهم لا تعصباً وإنما تسنناً ، ولا تحزباً وإنما ثباتاً وإستقامةً على شرع الله ، وعلى كتاب الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذ هو لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فإنه يسعى جهده ويبذل وسعه في أن يكون من الوسط بين البينين ، ليس هو أهلاً لأن يكون عالماً ربانياً ويستنكف ويأنف أن يكون من الهمج الرَّعَاع ، وما أكثرهم في البلاد والأصقاع - وللأسف الشديد - ، لكن إذ قد رضي أن يكون من الصنف الوسط ، اتباعاً على سبيل نجاة فهل هذا الصنف الوسط ينال بالأماني ؟ ينال بالأحلام ؟ ينال بالرؤى والمنام ؟ لا بد له حتى أن يكون منه من بذل جهدٍ ومجاهدةِ نفسٍ ومصابرةٍ في طلب العلم وثباتٍ على أمر الله ولو كانت داخلةُ نفسه تأبى عليه في بعض الأمر إلا أن يسلك بعض السبل وأن يتبع بعض الطرق ، ولو كانت على غير هدىً من الله ، وعلى غير استقامةٍ لأمر الله ،
فمثل هذا ينبغي أن يدفعه وأن يدافع نفسه عنه ، وليتذكر دائماً قول الشاعر مذكراً به نفسه وغيره :
فهذا الحق ليس به خفاء *** فدعني من بنيات الطريق
هذه كلها من بنيات الطريق ، من السبل المنعرجة والمتعرجة ، والقصيرة غير المستقيمة التي تقوم على جانبي الصراط القويم ، والنهج المستقيم ، الذي أمر الله به ليتبعه رسولَه الكريم - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين - ، وهو نفسه الذي أمر الله به وهو الذي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به أمته وأتباعه وأصحابه وإخوانه من بعده - صلى الله عليه وآله وسلم - ، أن تكون متبعاً على سبيل نجاة ،
فإن هذا يحتاج جهاداً للنفس والله تعالى يقول { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [العنكبوت/69] ويقول النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ( المجاهد من جاهد هواه في ذات لله )
وليست مجاهدة الهوى أيها الإخوة دائماً تكون مجاهدةً للشهوات ، فقد تكون في بعض الأمر مجاهدةً للشبهات ، وهي أجل من ذلك وأعظم ببركات ودرجات ، سهل أن تجاهد شهوتك إذا وفقك الله ،
ولكن ليس من السهل أن تجاهد الشبهة ، التي قد ترد عليك أو إليك ، فتفتنُك وعن جادة الحق والصواب تبعدك ، هذه نقطة أساسية ، لا أقول فيما أنا بصدده والتذكير به في هذه الأمسية المباركة - إن شاء الله - ، المباركة بما يعطر أجوائها من كلام الله ، والمباركة بما فيها من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنفاس أهل العلم الربانيين ، وفتاواهم الصادقة الواثقة ،
أقول :
هذا كله بين يدي التنبيه على أمر واقع ، نسمعه ويسمعنا ونعيشه ويقلقنا لا يقلقنا فقط في شأن الدنيا ، بل يقلقنا ويزعجنا ويأزُّنا في شأن الدين ، سواء بسواء ،
وحتى نحكم على المستجَدات والحوادث حكما صحيحا معتبرا يجب أن يكون هذا الحكم مبنيا على التأصيل الجليل ، وعلى التدليل الجميل ،
بقال الله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال الإمام الذهبي - رحمه الله - :
العلم قـال الله قـال رسولـه *** قال الصحابة ليس بالمتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة *** بين الرسول وبين رأي فقيه
فلننظر إلى ما يجري في مصر
كما نظرنا إلى ما جرى قريبا في تونس ،
ولنتأمل ما يجري هذه الساعةَ في لبنان ،
بل ما وقع اليوم في عمَّان
وما جرى ليس بعيدا عن صنعاء ،
في أمور مستجدة تكاد أمتنا لم تمر بها ولم تعرفها ،
ولكن لا نزال إلى هذه الساعة نفتقد الصوت الشرعي الحر ، الذي يحكم على الأمور بدلائلها ، لا بقائلها ، بحجتها لا بنسبتها ليكون الحكم الناتج عن هذا وذاك حكما شرعيا أدنى إلى الصواب ، وأقرب إلى الحق بغير ارتياب .
وكم سمعنا من يقول مصطلح فقه الواقع ،
وهو مصطلح تتصارعه فئتان : الفئة الأولى
فئة الدعاة الثوريين السياسيين العاطفيين الحماسيين الذين جعلوا فقه الواقع تتبعا للأخبار السياسية ، ودراية بالأساليب الصحفية ، بين هذا وذاك تثويرا للحماسات وإطلاقا للعواطف الجامحات ،
وأما الفئة الثانية فهي فئة أهل العلم الربانيين ، نعم الربانيين أنفسهم الذين فهموا فقه الواقع على تأصيل ذكره الأمام ابن القيم الجوزية في غيرما كتاب من كتبه ، فأولا فقه الواقع : ليس أمرا محصورا في السياسة وذيولها ، إنما فقه الواقع هو طريقة التصور لسائر الأمور ، حتى تكون النتيجة صحيحة وعادلة .
سواء أكانت هذه الأمور سياسية أو شرعية أو حتى مادية دنيوية ، هكذا نفهم معنى فقه الواقع الشرعي ، وهو الذي ذكره اهل العلم في كتب الإصطلاح ضمن قولهم وتأصيلهم وإصطلاحهم بقولهم : ( الحكم على الشيء فرع عن تصوره ) فنقرب بين العبارتين ، ونستلهم المعنى الصواب بين الجملتين والإصطلاحين فنقول :
فقه واقع أي أمر يعيدك على تحديد الموقف الصواب منه ، بينما لو لم تفقه هذا الواقع على وجه الحق فسيكون بعدك عن الصواب بمقدار نقص علمك به وفقهك له ، هذا هو الصواب ، وليس ذاك المعنى الممتلئ بالإثارة والتثوير ، والمضيق في حدود السياسة واهلها ، فليس الأمر كذلك البتة ، أقول هذا مقدمة أخرى بين يدي آية وحديث وأثر وقاعدة فقهية وفتوى لأهل العلم أدير عليها مجلسنا المبارك في هذه الليلة - إن شاء الله - من باب قول الله { لتبيننه للناس ولا تكتمونه } [آل عمران/187]
رضي من رضي ، وسخط من سخط ، واتهم من اتهم ، وطعن من طعن ، ونبز من نبز ، فإنما علاقة العبد بربه علاقة علوية ، إنما يكون فيها الصدق هو شعارا وانتصار بغض النظر عمن خالف أو وافق ، فهو قبلته
وجه الله ، ونهج فؤاده سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أما الآية فقول الله تبارك وتعالى { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [النساء/83
] كلمة المفسيرين جميعا في هذه الآية متعلقة بأمرين ، الأمر الأول : أن الأمورالعامة تكون من المشكلات التي لا يجوز التوسع بها ، ولا إذاعتها إلا بهذا الأمر الثاني وهو : أن يكون ذلك من شأن أهل الإختصاص ، من اهل العلم وهم أهل الإستنباط ، كما قال الإمام الطحاوي ، وكما قال الإمام ابن تيمية وكما قال الإمام الطبري وغيرهم من أهل العلم ( الأمور العامة في الأمة لا يفتي فيها ولا يعطي الحكم بشأنها إلا أهل العلم الربانيون ، الذين جعلوا قبلتهم كتاب الله ، ومهجة قلوبهم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) فهم يريدون للأمة ولا يريدو منها ، يريدون لها الصلاح والإستقامة والسعادة والفلاح ، ولا يريدون منها أي شيء من دنياها أو دنياهم ، في قليل أو في كثير ، هذا هو الأصل الأول والنص الأول فيما نحن بصدد بيانه .
أما الثاني
فهو الحديث المروي في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله - تعالى - عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( العبادة في الهرج كهجرة إليّ ) الهرج : هو القتل والإختلاط والضطراب والفتن ، والناس في الإطار وفي هذا المضمار تطيش قلوبهم ، وتذهل عقولهم ، ولا تطمئن نفوسهم ، فيكون الواحد منهم - والحالة هذه - مع الهمج الرعاع ، ينتشر في الأصقاع ، ليس بواع ولا بمتفهم ، لأن الفتنة صعقته وضربته مما جعله يقع في الذي هو أدنى ، ولا يلتفت إلى ما هو أعلى وأهم ، هذه من إرشادات محمد - صلى الله عليه وسلم - ، رسول الإسلام ، وسيد ولد آدم ، تعليما وتنبيها وإرشادا أن في مواطن الفتنة يجب الإنشغال بالأولى والأعلى الأغلى ،
وهو عبادة الرب تبارك وتعالى ، المعبود بحق سبحانه في علاه ، بدلا من الإنشغال بهذه الأمور التي تزيد الواحد بعدا عن الله فتشغله في المفضول مع وجود الفاضل ، تشغله في المفضول وهو الأصعب ، ويترك الفاضل وهو الأيسر ، تشغله في المفضول وهو البعيد عن الشرع ، وتبعده عن الفاضل وهو الذي أمر به الشرع ، العبادة في الهرج كهجرة إليّ ، فلينشغل الناس كلهم وليفعلوا ما يريدون ، وليتجمعوا كما يشاؤون ، وليثوروا كما يثورون ، لا يلفتنك ذلك عن دينك ، وعن منهج كتاب ربك ، وعن سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - ،
وهذا وذاك من النص القراني أو الحديث النبوي لا يجعلنا نسوي بين الظلم والعدل ، أو بين الحق والباطل ، وإنما يجعلنا نضبط طريقة تفكيرنا ، وطريقة معالجتنا للأمور ، بدلا من الغوغائية التي لا تنتج إلا البلاء واللئواء ، والمصيبة تلو المصيبة ، فالشرع الحكيم ضبط العقل والقلب واللسان والجوارح ، ضبط ذلك كله بما يتناسب تماما ويتناسق تماما مع الطبيعة البشرية الإنسانية التي خلق الله الناس عليها ، وهوالقائل - جل في علاه وعظم في عالي سماه - { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [الملك/14] اللطيف بهم الخبير بما يصلحهم ، فبمقدار بعد أي إنسان عن المنهج الرباني الحق ، بمقدار ما يكون واقعا في الخذلان ، وبمقدار ما يكون متلبسا بالظلم والبهتان - أعاذنا الله وإياكم - الشرع الحكيم ضبط بين أمرين قد يظنهما البعض متناقضين وهما في الحقيقة مؤتلفان متناسقان متفقان ،
أما الأصل الأول فهو : النهي الشرعي الشديد عن الخروج على الحاكم المسلم ، نتكلم عن الحاكم المسلم ، ولا نتكلم عن الحاكم الذي يحارب الحجاب ، ويحارب الأذان ، ويحارب اللحية ويحارب الإسلام ، نتكلم عم الحاكم المسلم ، ولو أنه خالف شيئا من أمر الله ، ولو أنه تلبس بشيء من الفسوق أو العصيان ، فهذا لا يخرجه من دائرة الملة بإجماع أهل السنة ، هذا هو الإطار الأول ،
الإطار الثاني : الذي ظن أنه يعارض هذا الأول أن هذا الحاكم الذي أنت لا تزال تحت حكمه وفي ظل إمرته لا يجب عليك أن تحبه بسبب ما خالف فيه شرع الله ، ولا يكون عدم حبك له بابا للخروج عليه ، أو بابا للتثوير عليه ،
وإنما هذا داخل في سياق قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، زذلك أضعف الإيمان )
هذا الأصل الثاني الذي أشرت إليه ،
والذي هو متناسق تمام التناسق مع الأصل الأول هو الذي أشار إليه رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام ، بقوله واسمعوا هذا الحديث النبوي الشريف ما أعجبه وما أعظمه وما أجمله وأجله ، يقول صلى الله عليه وسلم ( خير أمرائكم الذين تحبونهم ، ويحبونكم ، وتدعون لهم ، ويدعون لكم ، وشر أمرائكم ... )
مع انهم شر ماذا قال : أمرائكم مضاف ومضاف إليه ، شر أمرائكم مع انهم شر ومع أنكم لا تحبونهم لكن هذا وذاك ما داموا في إطار الإسلام ولو على تقصير وشيء من الفساد ، لكنهم لم يخرجوا من الملة ، ولم يمنعوا الأمة عن الصلاة ، ولم يحاربوا أحكام الإسلام ، وهم متمكنون متغلبون منفذون للأحكام فإنه قال أمرائكم ، فأثبت لهم إمرتهم عليكم ( ... وشر أمرائكم الذين لا تحبونهم ولا يحبونكم ، وتدعون عليهم ويدعون عليكم ) هذه ضوابط الفعل ، كما هي ضوابط القول ، بحيث يكون لكل إطار من هذين الإطارين مساحته ، وبحيث يكون لكل باب من هذين البابين واجهته ، لا أن نخلط ونخلط ، وان يلبس علينا ، ويدلس علينا ، وأن ننساق فوق النعاج بغير أدلة ولا احتجاج ، ولا حجج ولا منهاج ، هذا دأب الهمج الرعاع ، أما نسق أهل السنة والإتباع لطلابي النجاة ، فهم الذين ينضبطون بالأحكام الشرعية ، وبالأصول المرعية وبالقواعد الفقهية ، سواء بسواء .
أما الثالث فهو أثر في الصحيحين عن شقيق عن أسامة بن زيد قال : قيل له ألا تدخل على عثمان فتكلمه ... ) في فترة فيها شيء من الفتن وشيء من المحن وشيء من البلاء ، فتوجه بعض الناس إلى أسامة يسألونه ويطلبون منه أن يتكلم مع الأمير ، وعثمان يومئذ هو الأمير ، حتى ينظر إلى الأمور من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قيل له ( ... ألا تدخل على عشمان فتكلمه ؟ ماذا كان جوابه : قال أترون أين أكلمه إلا أسمعكم ؟ ...
) يعني لا بد تريدون مني أن لا أكلمه إلا إذا أسمعتكم أو اخبرتكم أو أنبأتكم أو أخرجت لكم تصريحا أو بيانا ، أو إشارة أو تسجيلا ، ثم انظروا ما أجمل التعليل بهذا الوجه الجليل ( ... قال : والله لقد كلمته فيما بيني وبينه من دون أن أفتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه )
هذه أخلاق الصحابة هذه أخلاق السلف ، هذه أخلاق خيار الأمة ، هذه أخلاق المؤمنين الأولين ، العالمين العارفين الصابرين .
فأول الأمر آية ،
وثانيها حديث ،
وثالثها أثر من آثار السلف الصالحين ،
ورابعها قاعدة من قواعد الفقه ،
وقواعد الفقه تختلف عن قواعد الأصول لأن قواعد الفقه أرفق بشؤون المسلمين العملية الحياتية ، الواقعية العامة ، بينما القواعد الأصولية أقرب ما تكون إلى عقول العلماء وأنظارهم ، في التفهم والإستنباط من النص ، بينما القاعدة الفهية إنما هي مستنبطة أساسا من عموم القواعد الشرعية أو من عموم الأدلة الشرعية ، سواء في كتاب أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فمما اتفق عليه أهل العلم الثقات من القواعد الأساسيات في فهم الشريعة وأصولها المنيعة قولهم : ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) هذه من قواعد الفقه المحررة والمحبرة ، وقد يلتحق بها من مثلها قاعدة اخرى وفي السياق ذاته ، وهي قولهم : ( إن ارتكاب أخف الضررين هو الأصل دفعا لأكبرهما ) أمامنا ضرران لا بد أن نتنفس بأحدهما ، ليس لنا خيار ، فما هو الفعل الحق ، الفعل الحق إرتكاب اخفهما دفعا لأكبرهما وأشدهما .
القاعدة الثالثة في الباب نفسه وانطلاقا من الأصل ذاته قولهم : ( عند تزاحم المصالح تحصل المصلحة الراجحة وتترك المصلحة المرجوحة )
فلننظر الوقع الأليم الذي يكاد يودي بأمن البلاد والعباد ، والذي قد تكون بدايته أمرا هينا ، وكلاما لينا - كما يقولون - نحن نفعل مسيرة سلمية ، أو مظاهرة سلمية ، فإذا بها في أولها كذلك ، وفي آخرعلى النقيض من ذلك ، فكيف إذا كانت من أولها على غير ذلك ، وقد تكون في أولها وثانيها وثالها على معنى ذلك ، وفي ما هنالك ، لكن في كل مرة تزداد الحرارة حتى تنطلق الشرارة التي تحرق الأخضر واليابس ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، يحسبون أنهم قائمون بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لكن دون التفات لآية ، ودون انتباه لحديث ، ومن غير دراية بآثار السلف ، ودون أن يتأمل في أي من هذه القواعد الفقهية المحررة المعتبرة عند أهل العلم ، لا في قليل ولا في كثير .
قد تكون الصلحة المتوهمة آنية النظرة ، لكن المصلحة الراجحة الصحيحة إنما تكون في معرفة المآلات ، وفقه إدراك المآلات فقه من أعظم الفقه وأجله ، وأدقه وأرفعه ، ولا يكاد يدركه إلا الأفراد في كل زمان ومكان ، من العلماء الربانيين ، والأئمة المتفقهين ، الذن ربوا بمنهج الحق ، ولم يقبلوا عنه بدلا .
يتبع
يقول الشيخ رحمه الله بعد الحمدله :(أما بعد
فَقَد وَرَدَ عن الصَّحّابي الجَليْل عَليّ بنِ أبي طَالبٍ ضِمْنَ وَصِيَّةٍ جَمِيْلةٍ جَليْلةٍ أدَّاهَا لأَحَدِ أصْحَابِهِ وهو كُمَيْلُ بن زِيَاد ، أنَّه قَال لَهُ مِن ضِمْنِ ما قَال ، ( النَّاسُ ثَلاثةٌ : فَعَالمٌ رَبَّانِيٌ ، وَمُتَّبِعٌ عَلى سَبِيْلِ نَجَاةٍ ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أتْبَاعِ كُلِّ نَاعِقٍ )
لا يخرُجُ النَّاسُ كيفَمَا كانُوا وأيْنَمَا كانُوا عَنْ هَذهِ الأصْنَافِ الثَّلاثَةِ ، عالمٌ ربانِيٌ ، أيْ منْسُوبٌ إلى الرَّبِّ العَظيم جَلَّ جَلاله ، ويُربي النَّاسَ عَلى ذَلك ، أو مُتَّبِعٌ عَلى سَبِيْلِ نَجَاةٍ ، لَيْسَ مُقَلِّدَا ، ولا مُتَعَصِّبَاً ، ولا متحزباً ،
وإنما يريد الله والدار الآخرة ، يريد الله والدار الآخرة لأنهما عنوان النجاة ، وما سوى ذاك فإلى الخسران المبين ، بقدر تخلفه عن هذا يناله من ذاك ، فمقلٌ أو مستكثرٌ ، والثالث الصنف الثالث : همجٌ رعَاعْ ، أتباعُ كلِّ ناعِقٍ ، ليس عندهم القواعد العلمية ولا الأصول الشرعية ، ولا السبل والأسس المرعية ، في إطار الشريعة الإسلامية ،
وإنما يصيحون مع كل منادٍ ، ويتيهون في كل وادٍ ، همجٌ رَعَاعٌ ، ليس من علمٍ يحركهم ، ولا من شريعةٍ تدفعهم ، أتباع كل ناعقٍ ، بقدر ما كان نُعاق هذا الناعق أشداً ، وبقدر ما كان صياحه أعلى بقدر ما وجد من الأتباع أكثر ومن الأعداد أوفر ، وكل ذي عقل وكل ذي نهىً يرفض أن يكون كهذا الصنف الثالث ،
وإن كان عند غلبة العواطف ، وعند ثورة الحماسات ، قد يكون منهم أو بينهم أو المقدم فيهم فليراجع نفسه وليتأمل مواضع قدميه وحركات فؤاده وتحركات لسانه ،
حتى لا يكون عنده من الإثم ومن المخالفة بقدر ما عنده من التبعية والعصبية والجهل والحميَّة ، وكذلك في حال رفضه أن يكون من هذا الصنف الثالث فإنه بما آتاه الله من عقلٍ ، يعرف أنه ليس من أهل الصنف الأول ، فالصنف الأول هم العلماء الرَّبانيون ، الذين يجب على الأمة أن تتبعهم لا تعصباً وإنما تسنناً ، ولا تحزباً وإنما ثباتاً وإستقامةً على شرع الله ، وعلى كتاب الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذ هو لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فإنه يسعى جهده ويبذل وسعه في أن يكون من الوسط بين البينين ، ليس هو أهلاً لأن يكون عالماً ربانياً ويستنكف ويأنف أن يكون من الهمج الرَّعَاع ، وما أكثرهم في البلاد والأصقاع - وللأسف الشديد - ، لكن إذ قد رضي أن يكون من الصنف الوسط ، اتباعاً على سبيل نجاة فهل هذا الصنف الوسط ينال بالأماني ؟ ينال بالأحلام ؟ ينال بالرؤى والمنام ؟ لا بد له حتى أن يكون منه من بذل جهدٍ ومجاهدةِ نفسٍ ومصابرةٍ في طلب العلم وثباتٍ على أمر الله ولو كانت داخلةُ نفسه تأبى عليه في بعض الأمر إلا أن يسلك بعض السبل وأن يتبع بعض الطرق ، ولو كانت على غير هدىً من الله ، وعلى غير استقامةٍ لأمر الله ،
فمثل هذا ينبغي أن يدفعه وأن يدافع نفسه عنه ، وليتذكر دائماً قول الشاعر مذكراً به نفسه وغيره :
فهذا الحق ليس به خفاء *** فدعني من بنيات الطريق
هذه كلها من بنيات الطريق ، من السبل المنعرجة والمتعرجة ، والقصيرة غير المستقيمة التي تقوم على جانبي الصراط القويم ، والنهج المستقيم ، الذي أمر الله به ليتبعه رسولَه الكريم - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين - ، وهو نفسه الذي أمر الله به وهو الذي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به أمته وأتباعه وأصحابه وإخوانه من بعده - صلى الله عليه وآله وسلم - ، أن تكون متبعاً على سبيل نجاة ،
فإن هذا يحتاج جهاداً للنفس والله تعالى يقول { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [العنكبوت/69] ويقول النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ( المجاهد من جاهد هواه في ذات لله )
وليست مجاهدة الهوى أيها الإخوة دائماً تكون مجاهدةً للشهوات ، فقد تكون في بعض الأمر مجاهدةً للشبهات ، وهي أجل من ذلك وأعظم ببركات ودرجات ، سهل أن تجاهد شهوتك إذا وفقك الله ،
ولكن ليس من السهل أن تجاهد الشبهة ، التي قد ترد عليك أو إليك ، فتفتنُك وعن جادة الحق والصواب تبعدك ، هذه نقطة أساسية ، لا أقول فيما أنا بصدده والتذكير به في هذه الأمسية المباركة - إن شاء الله - ، المباركة بما يعطر أجوائها من كلام الله ، والمباركة بما فيها من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنفاس أهل العلم الربانيين ، وفتاواهم الصادقة الواثقة ،
أقول :
هذا كله بين يدي التنبيه على أمر واقع ، نسمعه ويسمعنا ونعيشه ويقلقنا لا يقلقنا فقط في شأن الدنيا ، بل يقلقنا ويزعجنا ويأزُّنا في شأن الدين ، سواء بسواء ،
وحتى نحكم على المستجَدات والحوادث حكما صحيحا معتبرا يجب أن يكون هذا الحكم مبنيا على التأصيل الجليل ، وعلى التدليل الجميل ،
بقال الله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال الإمام الذهبي - رحمه الله - :
العلم قـال الله قـال رسولـه *** قال الصحابة ليس بالمتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة *** بين الرسول وبين رأي فقيه
فلننظر إلى ما يجري في مصر
كما نظرنا إلى ما جرى قريبا في تونس ،
ولنتأمل ما يجري هذه الساعةَ في لبنان ،
بل ما وقع اليوم في عمَّان
وما جرى ليس بعيدا عن صنعاء ،
في أمور مستجدة تكاد أمتنا لم تمر بها ولم تعرفها ،
ولكن لا نزال إلى هذه الساعة نفتقد الصوت الشرعي الحر ، الذي يحكم على الأمور بدلائلها ، لا بقائلها ، بحجتها لا بنسبتها ليكون الحكم الناتج عن هذا وذاك حكما شرعيا أدنى إلى الصواب ، وأقرب إلى الحق بغير ارتياب .
وكم سمعنا من يقول مصطلح فقه الواقع ،
وهو مصطلح تتصارعه فئتان : الفئة الأولى
فئة الدعاة الثوريين السياسيين العاطفيين الحماسيين الذين جعلوا فقه الواقع تتبعا للأخبار السياسية ، ودراية بالأساليب الصحفية ، بين هذا وذاك تثويرا للحماسات وإطلاقا للعواطف الجامحات ،
وأما الفئة الثانية فهي فئة أهل العلم الربانيين ، نعم الربانيين أنفسهم الذين فهموا فقه الواقع على تأصيل ذكره الأمام ابن القيم الجوزية في غيرما كتاب من كتبه ، فأولا فقه الواقع : ليس أمرا محصورا في السياسة وذيولها ، إنما فقه الواقع هو طريقة التصور لسائر الأمور ، حتى تكون النتيجة صحيحة وعادلة .
سواء أكانت هذه الأمور سياسية أو شرعية أو حتى مادية دنيوية ، هكذا نفهم معنى فقه الواقع الشرعي ، وهو الذي ذكره اهل العلم في كتب الإصطلاح ضمن قولهم وتأصيلهم وإصطلاحهم بقولهم : ( الحكم على الشيء فرع عن تصوره ) فنقرب بين العبارتين ، ونستلهم المعنى الصواب بين الجملتين والإصطلاحين فنقول :
فقه واقع أي أمر يعيدك على تحديد الموقف الصواب منه ، بينما لو لم تفقه هذا الواقع على وجه الحق فسيكون بعدك عن الصواب بمقدار نقص علمك به وفقهك له ، هذا هو الصواب ، وليس ذاك المعنى الممتلئ بالإثارة والتثوير ، والمضيق في حدود السياسة واهلها ، فليس الأمر كذلك البتة ، أقول هذا مقدمة أخرى بين يدي آية وحديث وأثر وقاعدة فقهية وفتوى لأهل العلم أدير عليها مجلسنا المبارك في هذه الليلة - إن شاء الله - من باب قول الله { لتبيننه للناس ولا تكتمونه } [آل عمران/187]
رضي من رضي ، وسخط من سخط ، واتهم من اتهم ، وطعن من طعن ، ونبز من نبز ، فإنما علاقة العبد بربه علاقة علوية ، إنما يكون فيها الصدق هو شعارا وانتصار بغض النظر عمن خالف أو وافق ، فهو قبلته
وجه الله ، ونهج فؤاده سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أما الآية فقول الله تبارك وتعالى { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [النساء/83
] كلمة المفسيرين جميعا في هذه الآية متعلقة بأمرين ، الأمر الأول : أن الأمورالعامة تكون من المشكلات التي لا يجوز التوسع بها ، ولا إذاعتها إلا بهذا الأمر الثاني وهو : أن يكون ذلك من شأن أهل الإختصاص ، من اهل العلم وهم أهل الإستنباط ، كما قال الإمام الطحاوي ، وكما قال الإمام ابن تيمية وكما قال الإمام الطبري وغيرهم من أهل العلم ( الأمور العامة في الأمة لا يفتي فيها ولا يعطي الحكم بشأنها إلا أهل العلم الربانيون ، الذين جعلوا قبلتهم كتاب الله ، ومهجة قلوبهم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) فهم يريدون للأمة ولا يريدو منها ، يريدون لها الصلاح والإستقامة والسعادة والفلاح ، ولا يريدون منها أي شيء من دنياها أو دنياهم ، في قليل أو في كثير ، هذا هو الأصل الأول والنص الأول فيما نحن بصدد بيانه .
أما الثاني
فهو الحديث المروي في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله - تعالى - عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( العبادة في الهرج كهجرة إليّ ) الهرج : هو القتل والإختلاط والضطراب والفتن ، والناس في الإطار وفي هذا المضمار تطيش قلوبهم ، وتذهل عقولهم ، ولا تطمئن نفوسهم ، فيكون الواحد منهم - والحالة هذه - مع الهمج الرعاع ، ينتشر في الأصقاع ، ليس بواع ولا بمتفهم ، لأن الفتنة صعقته وضربته مما جعله يقع في الذي هو أدنى ، ولا يلتفت إلى ما هو أعلى وأهم ، هذه من إرشادات محمد - صلى الله عليه وسلم - ، رسول الإسلام ، وسيد ولد آدم ، تعليما وتنبيها وإرشادا أن في مواطن الفتنة يجب الإنشغال بالأولى والأعلى الأغلى ،
وهو عبادة الرب تبارك وتعالى ، المعبود بحق سبحانه في علاه ، بدلا من الإنشغال بهذه الأمور التي تزيد الواحد بعدا عن الله فتشغله في المفضول مع وجود الفاضل ، تشغله في المفضول وهو الأصعب ، ويترك الفاضل وهو الأيسر ، تشغله في المفضول وهو البعيد عن الشرع ، وتبعده عن الفاضل وهو الذي أمر به الشرع ، العبادة في الهرج كهجرة إليّ ، فلينشغل الناس كلهم وليفعلوا ما يريدون ، وليتجمعوا كما يشاؤون ، وليثوروا كما يثورون ، لا يلفتنك ذلك عن دينك ، وعن منهج كتاب ربك ، وعن سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - ،
وهذا وذاك من النص القراني أو الحديث النبوي لا يجعلنا نسوي بين الظلم والعدل ، أو بين الحق والباطل ، وإنما يجعلنا نضبط طريقة تفكيرنا ، وطريقة معالجتنا للأمور ، بدلا من الغوغائية التي لا تنتج إلا البلاء واللئواء ، والمصيبة تلو المصيبة ، فالشرع الحكيم ضبط العقل والقلب واللسان والجوارح ، ضبط ذلك كله بما يتناسب تماما ويتناسق تماما مع الطبيعة البشرية الإنسانية التي خلق الله الناس عليها ، وهوالقائل - جل في علاه وعظم في عالي سماه - { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [الملك/14] اللطيف بهم الخبير بما يصلحهم ، فبمقدار بعد أي إنسان عن المنهج الرباني الحق ، بمقدار ما يكون واقعا في الخذلان ، وبمقدار ما يكون متلبسا بالظلم والبهتان - أعاذنا الله وإياكم - الشرع الحكيم ضبط بين أمرين قد يظنهما البعض متناقضين وهما في الحقيقة مؤتلفان متناسقان متفقان ،
أما الأصل الأول فهو : النهي الشرعي الشديد عن الخروج على الحاكم المسلم ، نتكلم عن الحاكم المسلم ، ولا نتكلم عن الحاكم الذي يحارب الحجاب ، ويحارب الأذان ، ويحارب اللحية ويحارب الإسلام ، نتكلم عم الحاكم المسلم ، ولو أنه خالف شيئا من أمر الله ، ولو أنه تلبس بشيء من الفسوق أو العصيان ، فهذا لا يخرجه من دائرة الملة بإجماع أهل السنة ، هذا هو الإطار الأول ،
الإطار الثاني : الذي ظن أنه يعارض هذا الأول أن هذا الحاكم الذي أنت لا تزال تحت حكمه وفي ظل إمرته لا يجب عليك أن تحبه بسبب ما خالف فيه شرع الله ، ولا يكون عدم حبك له بابا للخروج عليه ، أو بابا للتثوير عليه ،
وإنما هذا داخل في سياق قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، زذلك أضعف الإيمان )
هذا الأصل الثاني الذي أشرت إليه ،
والذي هو متناسق تمام التناسق مع الأصل الأول هو الذي أشار إليه رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام ، بقوله واسمعوا هذا الحديث النبوي الشريف ما أعجبه وما أعظمه وما أجمله وأجله ، يقول صلى الله عليه وسلم ( خير أمرائكم الذين تحبونهم ، ويحبونكم ، وتدعون لهم ، ويدعون لكم ، وشر أمرائكم ... )
مع انهم شر ماذا قال : أمرائكم مضاف ومضاف إليه ، شر أمرائكم مع انهم شر ومع أنكم لا تحبونهم لكن هذا وذاك ما داموا في إطار الإسلام ولو على تقصير وشيء من الفساد ، لكنهم لم يخرجوا من الملة ، ولم يمنعوا الأمة عن الصلاة ، ولم يحاربوا أحكام الإسلام ، وهم متمكنون متغلبون منفذون للأحكام فإنه قال أمرائكم ، فأثبت لهم إمرتهم عليكم ( ... وشر أمرائكم الذين لا تحبونهم ولا يحبونكم ، وتدعون عليهم ويدعون عليكم ) هذه ضوابط الفعل ، كما هي ضوابط القول ، بحيث يكون لكل إطار من هذين الإطارين مساحته ، وبحيث يكون لكل باب من هذين البابين واجهته ، لا أن نخلط ونخلط ، وان يلبس علينا ، ويدلس علينا ، وأن ننساق فوق النعاج بغير أدلة ولا احتجاج ، ولا حجج ولا منهاج ، هذا دأب الهمج الرعاع ، أما نسق أهل السنة والإتباع لطلابي النجاة ، فهم الذين ينضبطون بالأحكام الشرعية ، وبالأصول المرعية وبالقواعد الفقهية ، سواء بسواء .
أما الثالث فهو أثر في الصحيحين عن شقيق عن أسامة بن زيد قال : قيل له ألا تدخل على عثمان فتكلمه ... ) في فترة فيها شيء من الفتن وشيء من المحن وشيء من البلاء ، فتوجه بعض الناس إلى أسامة يسألونه ويطلبون منه أن يتكلم مع الأمير ، وعثمان يومئذ هو الأمير ، حتى ينظر إلى الأمور من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قيل له ( ... ألا تدخل على عشمان فتكلمه ؟ ماذا كان جوابه : قال أترون أين أكلمه إلا أسمعكم ؟ ...
) يعني لا بد تريدون مني أن لا أكلمه إلا إذا أسمعتكم أو اخبرتكم أو أنبأتكم أو أخرجت لكم تصريحا أو بيانا ، أو إشارة أو تسجيلا ، ثم انظروا ما أجمل التعليل بهذا الوجه الجليل ( ... قال : والله لقد كلمته فيما بيني وبينه من دون أن أفتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه )
هذه أخلاق الصحابة هذه أخلاق السلف ، هذه أخلاق خيار الأمة ، هذه أخلاق المؤمنين الأولين ، العالمين العارفين الصابرين .
فأول الأمر آية ،
وثانيها حديث ،
وثالثها أثر من آثار السلف الصالحين ،
ورابعها قاعدة من قواعد الفقه ،
وقواعد الفقه تختلف عن قواعد الأصول لأن قواعد الفقه أرفق بشؤون المسلمين العملية الحياتية ، الواقعية العامة ، بينما القواعد الأصولية أقرب ما تكون إلى عقول العلماء وأنظارهم ، في التفهم والإستنباط من النص ، بينما القاعدة الفهية إنما هي مستنبطة أساسا من عموم القواعد الشرعية أو من عموم الأدلة الشرعية ، سواء في كتاب أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فمما اتفق عليه أهل العلم الثقات من القواعد الأساسيات في فهم الشريعة وأصولها المنيعة قولهم : ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) هذه من قواعد الفقه المحررة والمحبرة ، وقد يلتحق بها من مثلها قاعدة اخرى وفي السياق ذاته ، وهي قولهم : ( إن ارتكاب أخف الضررين هو الأصل دفعا لأكبرهما ) أمامنا ضرران لا بد أن نتنفس بأحدهما ، ليس لنا خيار ، فما هو الفعل الحق ، الفعل الحق إرتكاب اخفهما دفعا لأكبرهما وأشدهما .
القاعدة الثالثة في الباب نفسه وانطلاقا من الأصل ذاته قولهم : ( عند تزاحم المصالح تحصل المصلحة الراجحة وتترك المصلحة المرجوحة )
فلننظر الوقع الأليم الذي يكاد يودي بأمن البلاد والعباد ، والذي قد تكون بدايته أمرا هينا ، وكلاما لينا - كما يقولون - نحن نفعل مسيرة سلمية ، أو مظاهرة سلمية ، فإذا بها في أولها كذلك ، وفي آخرعلى النقيض من ذلك ، فكيف إذا كانت من أولها على غير ذلك ، وقد تكون في أولها وثانيها وثالها على معنى ذلك ، وفي ما هنالك ، لكن في كل مرة تزداد الحرارة حتى تنطلق الشرارة التي تحرق الأخضر واليابس ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، يحسبون أنهم قائمون بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لكن دون التفات لآية ، ودون انتباه لحديث ، ومن غير دراية بآثار السلف ، ودون أن يتأمل في أي من هذه القواعد الفقهية المحررة المعتبرة عند أهل العلم ، لا في قليل ولا في كثير .
قد تكون الصلحة المتوهمة آنية النظرة ، لكن المصلحة الراجحة الصحيحة إنما تكون في معرفة المآلات ، وفقه إدراك المآلات فقه من أعظم الفقه وأجله ، وأدقه وأرفعه ، ولا يكاد يدركه إلا الأفراد في كل زمان ومكان ، من العلماء الربانيين ، والأئمة المتفقهين ، الذن ربوا بمنهج الحق ، ولم يقبلوا عنه بدلا .
يتبع