gt_511
08-02-2011, 01:46 AM
الكاتب/ نايف بن نهار الشمري
n.alshamari@qu.edu.qa
كانَتْ مُفاجأةً لي كما كانت مُفَاجأةً لغيْري، عندما أصدرَ مصْرف قطر المركزي (QCB) قَراراً بإغلاق الفروعِ الإسلاميَّة للبنوكِ الرّبويَّة بحلول نهاية هذه السَّنة المالية.
فالبداية يتعيَّنُ عليَّ أنْ أوجّه تقديري التام للمصْرف المرْكزي عَلى المبدأ الذي انطَلق منه في إصْدَار هذا القَرار، وهو _على حد تعبيرهم_ مَبدأ الحرْصِ على انضباطِ تلك الفروع انضباطَاً مِن شأنِهِ أنْ يُحقِّقَ الفصْلَ المطلوبَ والحقيقي بين عمليَّاتِ التمويلِ الإسلامي وغيرها، وكذلك مبدأ تحقيق تكافؤ الفُرَصِ التَنافُسيَّة للمصارف والفروع الإسلاميَّة.
لكنَّ صحَّة المبدأ والمنطَلق لا تدلُّ دائماً عَلى صِحَّة القَرار والنتيْجة، ومِن هنا فإنِّي أرى أنَّ هذا القرَار قد جَانبَ الصَّوابَ مُجانبَةً ظاهرة، وكان فيه نوع تسرِّعٍ واستعجال، وإغفالِ النظر عَنْ المآلات والمصَائر. ومهما تكن خلفيَّاتِ هذا القرَار ودواعيه، فإنَّ الإشكاليات والسّلبيّات التي سيُولّدها هذا القَرار تفوق بكثير ما سيَجلبُ لنا مِنْ إيجَابيّات وَمحاسن.
ولذلك فإني أوجه النّقاطَ التاليَةَ لصُّنّاعِ هذا القَرار:
أوَّلاً: إنَّ تجربَةَ الفروعِ الإسلاميَّة مِنَ المصَارفِ الربويَّة ليسَت جديدَة، فقد تجاوز عمرُها ثلاثين عامَاً، حيث أنشأ مصرف مصر "فرع الحسين للمعاملات المالية" في عام 1980م. وهي الآن تُعدُّ تجربَةً عالميَّة (Universal Experience)، فلا تكادُ تجد دولة غربيَّة أو شرقيَّة تسمح بالنشاطِ المصْرفي الإسْلامي إلا وتجد فيها الفروع الإسلاميَّة قائمةً على أصولها. فلماذا لم تُقْدِم دولةٌ واحدة مِن بين عشرات الدول على إغلاق تلك الفروع؟ أليسَت المشاكل التي يتحدث عنها المصرف المركزي تُعَد قاسماً مشتركاً بيْن الجميع؟
وَعلى ذلك، كان ينبغي للمصرف المركزي أنْ يطّلع على تجارب الآخرين في الدول الأخرى، وينظر إلى آليَّة تعاملات تلك الفروع فيما بينها، وفيما بينها وبين أصولها، وكذلك طبيعة عَلاقاتها بالمصارف المركزية، ليستطيع مصرفُ قطر المركزي حلَّ المشكلاتِ الناشئة عن هذه التَّجرُبَة.
ثانيَاً: إنَّ تَجْرُبَةَ الفُروعِ الإسْلاميَّة في قطر مَا زالت حَادثة وجديْدة، فالأولى أنْ نقفَ معها ونساندها حتى تستوي على سُوقِها، ولا نستعجل الحكمَ عليها بالفشل، وكيف نستطيْعُ أنْ نحكم على تجربة بالفشل ولم يتجاوز عمرها الخمسَ سنوات؟
ثالثاً: عَلى الصَّعيدِ العلمي والأكاديمي، فإنَّ خطوة إغلاق الفروع الإسْلاميَّة تُعدّ حجرةَ عثرةٍ هائلة في طريق تطوير علمِ الصيرفةِ الإسلاميَّة في قطر، فالكلُّ يعلمُ أنَّ جامعَةَ قطر عَلى وشكِ أنْ تُحْدِثَ قسماً يُعنى بالصيْرفةِ الإسلاميَّة، بُغيَة مواكبَة التطوّر الحاصل في عالمِ الصيْرفةِ الإسلاميَّة في قطر، ومساهمَةً فيما أصبح يُعرف في كبرى المؤسسات التعليميَّة عبر أنحاء العالم بـ "أسلمة المعرفة" (Islamization of knowledge) وكان مِنَ المفترض أن يَلج هذا التخصص والمجَال العديد مِنَ الكوادِر القطريَّة التي مِن شأنها أنْ تَقودَ عمليَّةَ تطوير الصيْرَفةِ الإسلاميَّة والنهوضِ بها.
أمَّا بعد إغلاق هذه الفروع، فقد سمعتُ من أحد مسؤولي جامعَة قطر وهو يَقولُ أنه لم يعد هناك داعٍ أو حاجة ملحّة لإنشاء قسم المصارف الإسلاميَّة بعد إغلاق الفروع الإسلاميَّة.
رابعَاً: لنا أنْ نسأل: لماذا يتّبعُ المصْرف المركزي سيَاسَةَ الإلغَاء والإزَالة بَدلاً من سيَاسَةِ الإصلاح والتّعديل؟ ولماذا تتمُّ معَالجة الخطأ بخطأ أكبر منه؟
فإذا سلّمنا بوجود أخطاءٍ وقعت فيها بعضُ هذه الفروع الإسْلاميَّة، فإنَّ ذلك لا يَعني أنْ تُعَاقب بالإغلاق والإلغَاء ! بل لابدّ من مُعَالجَة هذه الأخطاء بما يُنَاسبُها. فلو افترضنا أنَّ ثمة إشكالية في الزيادة غير المنضبطة لرأس مال الفَرْع، فللمصرفِ المركزي أن يَضعَ مِنَ الضوابط والإجراءات مَا مِنْ شأنِهِ أنْ يَضبطَ عمليَّة زيادة رؤوس الأموَال، ويُحَقّق تَوازنَاً تنافُسِيَّاً بين المصَارِف الإسْلاميَّة.
ثمَّ مَنْ لم يلتزم بهذه الضَّوابط فإنَّه يُعَاقب أولاً عقوبةً تتلاءم مَعَ حجم الخطأ، وثانياً يُعاقبُ منفرداً، لا أنْ تؤخذ جميع الفروع الإسلاميَّة بذنب أحدها.
خامسَاً: هذا القَرارُ مِنْ شأنه أنْ يَقضي على مُسْتقبَلِ تجرُبَةِ الفروعِ الإسْلاميَّة تمَاماً في دولة قطر، فهو يُعرِّض سُمعَة تجرُبَةِ الفرُوعِ الإسلاميَّة للتشويه والخطر (Reputation Risk) ويَخلقُ حالة عدم الثقة بين العمُلاء في هذه الفروع. فلذلك فإنّه لو تمَّ مُسْتقبلاً إعادَةُ تجربة الفرُوْعِ الإسْلاميَّة بكلِّ ما هو كفيْلٌ بإنجاحِها، فإنّك لن تجداً أحداً يتعَامل معها ألبتة؛ وذلك خشية أنْ يحدثَ لها ما حدَثَ للتجربَةِ الأولى.
سَادساً: إنَّ إغلاقَ الفروعِ الإسْلاميَّةِ يُلْغي مَبدأ مُهمَّاً في التنميَةِ الاقتِصَاديَّة الحديْثَة، وهو مَبْدأ تَعدّد الخيَارَات والبدَائل، الذي مِنْ شأنِه أن يخلق تنافسَاً إيْجَابيَّاً بين المصَارف الإسلاميَّة، فسوف تجدُ أنَّ المصَارف تتنافس في ضبط معدّلات أربَاحها، وكذلك مصَاريفها ورسومها، وحتى خدماتها المقدّمة للعُملاء سوف تتحسّن وتتطوّر كما شاهدنا ذلك مؤخراً، وهذا كلُّه مِن شأنِهِ أنْ يعود بالفائدة في نهاية المطَاف عَلى العُملاء الذين طَالما حرص المصرفُ المركزِي عَلى الوقوف معهم.
وأمَّا إذا تمَّ تقليل الخيارات والبَدائل، فإنَّ ذلك يعني عَودَة الاحتِكار المؤدي إلى عدَم مبالاة المصارف الإسلاميَّة في التعامل معَ معدّل الأربَاح، ولا في تحسيْن خدماتها المصْرفيَّة، وذلك لعدَم وجود عنصر التعدديَّة الضَّامنة لخلق التنافس الإيجابي.
سَابِعَاً: ثمَّ ماذا عن مئاتِ الموظفين والكوادِر القطريَّة التي تحتضنُها هذه الفروع الإسلاميَّة؟ لقد كانتِ المصارفُ الإسلاميَّة تتنافسُ تنافسَاً شديداً عَلى توظيف الكوَادر المصْرفيَّة القطريَّة وإعطائهم المرتّبات المجزية؛ فهل بعد هذا القرار سوف تتنافس المصَارفُ الإسْلاميَّة على تسريحِ موظفيها والتخلُّصِ منهم؟
وحتى لو طُلب من المصارف الإسلاميَّة الباقية أنْ تعمل على توظيف موظفي الفروع الإسلامية، فهل ستكون هناك طاقة استيعابيّة لهؤلاء؟ أم أنه سيتم توظيفهم حتى لو لم يكن لديهم أمكنة؟ وهذا ما يخلق لنا البطالة المقنّعة.
ثامناً: قرأتُ تصريح أحد المسؤولين في المصرف المركزي، حيث يُعلّل إغلاق الفروع الإسلاميَّة بوجود الخلط بين العمليَّات الإسلاميَّة والتقليديَّة، فالسؤال هنا: هل لدَى المصْرِف المركزي مِنَ الخُبرَاء الشرعيّين المتخصصين في الصيْرَفةِ الإسْلاميَّة مَا يؤهلهم للحكمِ عَلى عمليَّات الفروع الإسْلاميَّة بأنَّها مُختلطة بالعمليَّاتِ الفرُوعِ التقليْديَّة؟ وهل لدَى مُصْدري هذا القرَار الوعي الشرْعي الكافي في إدرَاكِ طبيْعةِ العقُودِ الإسْلاميَّة وأحْكَامِها؟
إنَّ الخبرَة المصْرفيَّة والماليَّة وَحدها ليْسَت قَدراً كافياً في مَعْرفةِ شرْعيَّةِ العقُودِ التمويْليَّة والخدَمَاتِ المصْرفيَّةِ؛ فما زال الكثير مِن المصرفيين يَعتقدون عَلى سبيْل المثال أنَّ خَلطَ الأورَاقِ النقديَّة بيْن الفرْعِ وأصلِهِ له أثر في حُكمِ التحريْم، أو أنَّ تبعيَّة الفرعِ الإسْلامي الإداريَّة للمصْرف الأصْل تؤثرُ سَلبَاً عَلى شرعيَّةِ عمليَّاتِهِ المصْرفيَّة، أو أنَّ ما يقوم به البنك الأصل مِن زيادة رأس مال الفرع مُحَرَّمٌ مُطْلَقاً، أو غير ذلك مما لا يَسْتندُ على أصْلٍ شرعي.
تاسِعَاً: إذا كانت المشكلَة في عدَمِ التزامِ الفروعِ بالضوابطِ الشرعيَّة، فثمّة بَعْض المصارفِ الإسلاميَّة أحقُّ بالإغلاق مِنْ بعض الفروعِ الإسلاميَّة، فإنّ بعض الفروعِ الإسلاميَّة أكثر انضباطاً والتزَاماً بالضوابطِ الشرعيَّة من بعض المصارف الإسلاميَّة الأصليَّة التي بَاتت مَعْروفَةً بعدم التزامها بالضوابط الشرعيَّة التي قررها العُلماء، سواء في المجامع الفقهيَّة أو مَا قُرِّر في المعايير الشرعيَّة.
آليّاتٌ عمليَّةُ مُقْتَرحَةٌ لتفَادِي هذه المشْكلة
إن كان ولا بد مِنْ إغلاق هذه الفروع دون الالتفات إلى إصْلاحها، فثمّة بعضُ الاقتراحات التي قد تسَاهم في تفَادي هذِه المشكلة:
أولاً: ضمُّ جميْع رؤوس أموال الفروعِ الإسلاميَّة تحت مظلِّة واحدة، بهدف تكوين مصرف إسلامي موحّد ذو اسْتقلاليَّة في ذمته الماليَّة.
ثانيَاً: دَمْجُ هذِهِ الفروع بالمصَارِفِ الإسلاميَّة الأصليَّة، كأن يُدمَج _على سبيل المثال_ الوطني الإسلامي مع بروة أو الدوحة الإسلامي مع الريَّان، وهلمّ جرا.
ثالثاً: مَنْحُ هذه الفروعِ الإسْلاميَّة رخصَ مُزاولة للنشاط المصرفي، ليكون كلُّ فرع ذا ذمّة ماليَّة منفصلة تماماً عن البنك الأصل.
ختامَاً أعيدُ وأذكّر، بأنَّ هذه التجربة تعدّ حديثة في قطر، وهي تجربة كان من المفترض أنْ تجعل قطر رائدةً في مجال الصيرفة الإسلاميَّة، ليس إقليمياً فحسب، بل دولياً وعالمياً، فالوقوف مع هذه التجربة ومُسَاندتها خيرٌ مِنْ وأدِها في مَهْدِها.
n.alshamari@qu.edu.qa
كانَتْ مُفاجأةً لي كما كانت مُفَاجأةً لغيْري، عندما أصدرَ مصْرف قطر المركزي (QCB) قَراراً بإغلاق الفروعِ الإسلاميَّة للبنوكِ الرّبويَّة بحلول نهاية هذه السَّنة المالية.
فالبداية يتعيَّنُ عليَّ أنْ أوجّه تقديري التام للمصْرف المرْكزي عَلى المبدأ الذي انطَلق منه في إصْدَار هذا القَرار، وهو _على حد تعبيرهم_ مَبدأ الحرْصِ على انضباطِ تلك الفروع انضباطَاً مِن شأنِهِ أنْ يُحقِّقَ الفصْلَ المطلوبَ والحقيقي بين عمليَّاتِ التمويلِ الإسلامي وغيرها، وكذلك مبدأ تحقيق تكافؤ الفُرَصِ التَنافُسيَّة للمصارف والفروع الإسلاميَّة.
لكنَّ صحَّة المبدأ والمنطَلق لا تدلُّ دائماً عَلى صِحَّة القَرار والنتيْجة، ومِن هنا فإنِّي أرى أنَّ هذا القرَار قد جَانبَ الصَّوابَ مُجانبَةً ظاهرة، وكان فيه نوع تسرِّعٍ واستعجال، وإغفالِ النظر عَنْ المآلات والمصَائر. ومهما تكن خلفيَّاتِ هذا القرَار ودواعيه، فإنَّ الإشكاليات والسّلبيّات التي سيُولّدها هذا القَرار تفوق بكثير ما سيَجلبُ لنا مِنْ إيجَابيّات وَمحاسن.
ولذلك فإني أوجه النّقاطَ التاليَةَ لصُّنّاعِ هذا القَرار:
أوَّلاً: إنَّ تجربَةَ الفروعِ الإسلاميَّة مِنَ المصَارفِ الربويَّة ليسَت جديدَة، فقد تجاوز عمرُها ثلاثين عامَاً، حيث أنشأ مصرف مصر "فرع الحسين للمعاملات المالية" في عام 1980م. وهي الآن تُعدُّ تجربَةً عالميَّة (Universal Experience)، فلا تكادُ تجد دولة غربيَّة أو شرقيَّة تسمح بالنشاطِ المصْرفي الإسْلامي إلا وتجد فيها الفروع الإسلاميَّة قائمةً على أصولها. فلماذا لم تُقْدِم دولةٌ واحدة مِن بين عشرات الدول على إغلاق تلك الفروع؟ أليسَت المشاكل التي يتحدث عنها المصرف المركزي تُعَد قاسماً مشتركاً بيْن الجميع؟
وَعلى ذلك، كان ينبغي للمصرف المركزي أنْ يطّلع على تجارب الآخرين في الدول الأخرى، وينظر إلى آليَّة تعاملات تلك الفروع فيما بينها، وفيما بينها وبين أصولها، وكذلك طبيعة عَلاقاتها بالمصارف المركزية، ليستطيع مصرفُ قطر المركزي حلَّ المشكلاتِ الناشئة عن هذه التَّجرُبَة.
ثانيَاً: إنَّ تَجْرُبَةَ الفُروعِ الإسْلاميَّة في قطر مَا زالت حَادثة وجديْدة، فالأولى أنْ نقفَ معها ونساندها حتى تستوي على سُوقِها، ولا نستعجل الحكمَ عليها بالفشل، وكيف نستطيْعُ أنْ نحكم على تجربة بالفشل ولم يتجاوز عمرها الخمسَ سنوات؟
ثالثاً: عَلى الصَّعيدِ العلمي والأكاديمي، فإنَّ خطوة إغلاق الفروع الإسْلاميَّة تُعدّ حجرةَ عثرةٍ هائلة في طريق تطوير علمِ الصيرفةِ الإسلاميَّة في قطر، فالكلُّ يعلمُ أنَّ جامعَةَ قطر عَلى وشكِ أنْ تُحْدِثَ قسماً يُعنى بالصيْرفةِ الإسلاميَّة، بُغيَة مواكبَة التطوّر الحاصل في عالمِ الصيْرفةِ الإسلاميَّة في قطر، ومساهمَةً فيما أصبح يُعرف في كبرى المؤسسات التعليميَّة عبر أنحاء العالم بـ "أسلمة المعرفة" (Islamization of knowledge) وكان مِنَ المفترض أن يَلج هذا التخصص والمجَال العديد مِنَ الكوادِر القطريَّة التي مِن شأنها أنْ تَقودَ عمليَّةَ تطوير الصيْرَفةِ الإسلاميَّة والنهوضِ بها.
أمَّا بعد إغلاق هذه الفروع، فقد سمعتُ من أحد مسؤولي جامعَة قطر وهو يَقولُ أنه لم يعد هناك داعٍ أو حاجة ملحّة لإنشاء قسم المصارف الإسلاميَّة بعد إغلاق الفروع الإسلاميَّة.
رابعَاً: لنا أنْ نسأل: لماذا يتّبعُ المصْرف المركزي سيَاسَةَ الإلغَاء والإزَالة بَدلاً من سيَاسَةِ الإصلاح والتّعديل؟ ولماذا تتمُّ معَالجة الخطأ بخطأ أكبر منه؟
فإذا سلّمنا بوجود أخطاءٍ وقعت فيها بعضُ هذه الفروع الإسْلاميَّة، فإنَّ ذلك لا يَعني أنْ تُعَاقب بالإغلاق والإلغَاء ! بل لابدّ من مُعَالجَة هذه الأخطاء بما يُنَاسبُها. فلو افترضنا أنَّ ثمة إشكالية في الزيادة غير المنضبطة لرأس مال الفَرْع، فللمصرفِ المركزي أن يَضعَ مِنَ الضوابط والإجراءات مَا مِنْ شأنِهِ أنْ يَضبطَ عمليَّة زيادة رؤوس الأموَال، ويُحَقّق تَوازنَاً تنافُسِيَّاً بين المصَارِف الإسْلاميَّة.
ثمَّ مَنْ لم يلتزم بهذه الضَّوابط فإنَّه يُعَاقب أولاً عقوبةً تتلاءم مَعَ حجم الخطأ، وثانياً يُعاقبُ منفرداً، لا أنْ تؤخذ جميع الفروع الإسلاميَّة بذنب أحدها.
خامسَاً: هذا القَرارُ مِنْ شأنه أنْ يَقضي على مُسْتقبَلِ تجرُبَةِ الفروعِ الإسْلاميَّة تمَاماً في دولة قطر، فهو يُعرِّض سُمعَة تجرُبَةِ الفرُوعِ الإسلاميَّة للتشويه والخطر (Reputation Risk) ويَخلقُ حالة عدم الثقة بين العمُلاء في هذه الفروع. فلذلك فإنّه لو تمَّ مُسْتقبلاً إعادَةُ تجربة الفرُوْعِ الإسْلاميَّة بكلِّ ما هو كفيْلٌ بإنجاحِها، فإنّك لن تجداً أحداً يتعَامل معها ألبتة؛ وذلك خشية أنْ يحدثَ لها ما حدَثَ للتجربَةِ الأولى.
سَادساً: إنَّ إغلاقَ الفروعِ الإسْلاميَّةِ يُلْغي مَبدأ مُهمَّاً في التنميَةِ الاقتِصَاديَّة الحديْثَة، وهو مَبْدأ تَعدّد الخيَارَات والبدَائل، الذي مِنْ شأنِه أن يخلق تنافسَاً إيْجَابيَّاً بين المصَارف الإسلاميَّة، فسوف تجدُ أنَّ المصَارف تتنافس في ضبط معدّلات أربَاحها، وكذلك مصَاريفها ورسومها، وحتى خدماتها المقدّمة للعُملاء سوف تتحسّن وتتطوّر كما شاهدنا ذلك مؤخراً، وهذا كلُّه مِن شأنِهِ أنْ يعود بالفائدة في نهاية المطَاف عَلى العُملاء الذين طَالما حرص المصرفُ المركزِي عَلى الوقوف معهم.
وأمَّا إذا تمَّ تقليل الخيارات والبَدائل، فإنَّ ذلك يعني عَودَة الاحتِكار المؤدي إلى عدَم مبالاة المصارف الإسلاميَّة في التعامل معَ معدّل الأربَاح، ولا في تحسيْن خدماتها المصْرفيَّة، وذلك لعدَم وجود عنصر التعدديَّة الضَّامنة لخلق التنافس الإيجابي.
سَابِعَاً: ثمَّ ماذا عن مئاتِ الموظفين والكوادِر القطريَّة التي تحتضنُها هذه الفروع الإسلاميَّة؟ لقد كانتِ المصارفُ الإسلاميَّة تتنافسُ تنافسَاً شديداً عَلى توظيف الكوَادر المصْرفيَّة القطريَّة وإعطائهم المرتّبات المجزية؛ فهل بعد هذا القرار سوف تتنافس المصَارفُ الإسْلاميَّة على تسريحِ موظفيها والتخلُّصِ منهم؟
وحتى لو طُلب من المصارف الإسلاميَّة الباقية أنْ تعمل على توظيف موظفي الفروع الإسلامية، فهل ستكون هناك طاقة استيعابيّة لهؤلاء؟ أم أنه سيتم توظيفهم حتى لو لم يكن لديهم أمكنة؟ وهذا ما يخلق لنا البطالة المقنّعة.
ثامناً: قرأتُ تصريح أحد المسؤولين في المصرف المركزي، حيث يُعلّل إغلاق الفروع الإسلاميَّة بوجود الخلط بين العمليَّات الإسلاميَّة والتقليديَّة، فالسؤال هنا: هل لدَى المصْرِف المركزي مِنَ الخُبرَاء الشرعيّين المتخصصين في الصيْرَفةِ الإسْلاميَّة مَا يؤهلهم للحكمِ عَلى عمليَّات الفروع الإسْلاميَّة بأنَّها مُختلطة بالعمليَّاتِ الفرُوعِ التقليْديَّة؟ وهل لدَى مُصْدري هذا القرَار الوعي الشرْعي الكافي في إدرَاكِ طبيْعةِ العقُودِ الإسْلاميَّة وأحْكَامِها؟
إنَّ الخبرَة المصْرفيَّة والماليَّة وَحدها ليْسَت قَدراً كافياً في مَعْرفةِ شرْعيَّةِ العقُودِ التمويْليَّة والخدَمَاتِ المصْرفيَّةِ؛ فما زال الكثير مِن المصرفيين يَعتقدون عَلى سبيْل المثال أنَّ خَلطَ الأورَاقِ النقديَّة بيْن الفرْعِ وأصلِهِ له أثر في حُكمِ التحريْم، أو أنَّ تبعيَّة الفرعِ الإسْلامي الإداريَّة للمصْرف الأصْل تؤثرُ سَلبَاً عَلى شرعيَّةِ عمليَّاتِهِ المصْرفيَّة، أو أنَّ ما يقوم به البنك الأصل مِن زيادة رأس مال الفرع مُحَرَّمٌ مُطْلَقاً، أو غير ذلك مما لا يَسْتندُ على أصْلٍ شرعي.
تاسِعَاً: إذا كانت المشكلَة في عدَمِ التزامِ الفروعِ بالضوابطِ الشرعيَّة، فثمّة بَعْض المصارفِ الإسلاميَّة أحقُّ بالإغلاق مِنْ بعض الفروعِ الإسلاميَّة، فإنّ بعض الفروعِ الإسلاميَّة أكثر انضباطاً والتزَاماً بالضوابطِ الشرعيَّة من بعض المصارف الإسلاميَّة الأصليَّة التي بَاتت مَعْروفَةً بعدم التزامها بالضوابط الشرعيَّة التي قررها العُلماء، سواء في المجامع الفقهيَّة أو مَا قُرِّر في المعايير الشرعيَّة.
آليّاتٌ عمليَّةُ مُقْتَرحَةٌ لتفَادِي هذه المشْكلة
إن كان ولا بد مِنْ إغلاق هذه الفروع دون الالتفات إلى إصْلاحها، فثمّة بعضُ الاقتراحات التي قد تسَاهم في تفَادي هذِه المشكلة:
أولاً: ضمُّ جميْع رؤوس أموال الفروعِ الإسلاميَّة تحت مظلِّة واحدة، بهدف تكوين مصرف إسلامي موحّد ذو اسْتقلاليَّة في ذمته الماليَّة.
ثانيَاً: دَمْجُ هذِهِ الفروع بالمصَارِفِ الإسلاميَّة الأصليَّة، كأن يُدمَج _على سبيل المثال_ الوطني الإسلامي مع بروة أو الدوحة الإسلامي مع الريَّان، وهلمّ جرا.
ثالثاً: مَنْحُ هذه الفروعِ الإسْلاميَّة رخصَ مُزاولة للنشاط المصرفي، ليكون كلُّ فرع ذا ذمّة ماليَّة منفصلة تماماً عن البنك الأصل.
ختامَاً أعيدُ وأذكّر، بأنَّ هذه التجربة تعدّ حديثة في قطر، وهي تجربة كان من المفترض أنْ تجعل قطر رائدةً في مجال الصيرفة الإسلاميَّة، ليس إقليمياً فحسب، بل دولياً وعالمياً، فالوقوف مع هذه التجربة ومُسَاندتها خيرٌ مِنْ وأدِها في مَهْدِها.