المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خالد المحمود يكتب : من قتل الشهيد؟ - علي الجابر - الجزيرة



أبو عبدالله
24-04-2011, 02:43 PM
من قتل الشهيد؟
حول استشهاد علي حسن الجابر



استشهادُ شيخ المصورين القطريين علي حسن الجابر رحمه الله أمرٌ يحتاج للتوقف عنده والتأمل في أسبابه. ذلك أن الشهادة أمرٌ مُشرّفٌ لا ريب، إلا أنّ ما أوصله إليها ليس بالضرورة كذلك.



* * *

أحسبني بحاجة في بادئ الأمر لتوضيح مسألةٍ أثق أنها قد تشغبُ على الفكرة الرئيسة في هذا السياق.

إذ بطرحي السؤالَ الذي يُعَنونُ هذا المقال، فإنني لست بصدد الاعتراض على قضاء الله سبحانه وتعالى وقدره اللذين سبقا في علم الغيب عنده بشأن شهادة أخينا علي رحمه الله. وقد أخبرنا الله تعالى بذلك في أكثر من موضع من كتابه العزيز مؤكداً في هذا الشأن أنّ واحداً من أغراض التدافع بين الناس وتداول الأيام بينهم إنما هو {لِيَعْلمَ اللهُ الذيْنَ آمَنوا وَيَتخِذ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}.

بيد أني في المقابل أجدُ من الضرورة بمكان ألا يلتبس الأمر على الناس، فيتداخل النهي الرباني {وَلا تقتـُلوا أنفُسَكُمْ} من حيث لا نشعر في مقام السعي إلى الشهادة. فلا يجوز مطلقاً إقحام الناس في معرض الخطر، ظناً منا بأنها هي الشهادة التي يتوخاها المؤمنون منهم. وأزعم أن الأمر سيكون مثيراً للاشمئزاز إذا تلقى ذلك القاتلُ التعازيَ باستشهادِ ضحيته، بل وأمسى أكثر المستفيدين منها.

وهذا تحديداً ما دعاني لكسر حاجز الصمت لإعلان هذا الأمر علانية. ذلك أن علي حسن الجابر وإن كان زميلاً بحكم عمله مديراً لقسم التصوير الميداني في قناة الجزيرة فإنه قبل ذلك مواطنٌ قطري وأخٌ عزيز. وأرى من الواجب عليّ في مقام استشهاده في سبيل إظهار الحق أن أعمل على إظهار الحق في مسألة شهادته.

* * *

ما أطرحه هنا أسئلة أجد من الواجب على شبكة الجزيرة الإجابة عليها لتؤكد لنا أن استشهاد الفقيد رحمه الله لم يكن بسبب إهمال أو استهتار مهني في إحاطته بأسباب الأمن في موقعه.

أوّلُ هذه الأسئلة متعلق بنوعية التدريب الذي تلقاه الشهيد، عملياً كان أو نظرياً، في مواقع التصوير المحاطة بجَوٍّ عَدائي.

فالمعروف لدى شتى المؤسسات الإعلامية الدولية أن هناك أموراً كثيرة ينبغي التنبّه إليها لدى من يشارك في تغطية الحروب. وقد تحولت تلك الحاجة منذ سنوات طويلة إلى دورات تدريبية نظرية وعملية تحيط المشاركين فيها علماً بكيفية التعاطي مع الأحداث وردود الفعل الممكنة تجاه التصرفات العدائية تجاههم. ناهيك طبعاً عن الدورات الخاصة بالإسعافات الأولية التي قد تمنع بعض حوادث الموت التي تحصل بسبب جهل أفراد الطاقم بها.

سؤالي الثاني متعلق بطبيعة التوجيهات الإدارية إلى الموظفين أثناء تغطية الحروب.

فنحن ندرك أن هناك مسؤولية شخصية تقع على عاتق من يغطي الأحداث العسكرية، ولكننا في المقابل نسأل عن طبيعة مسؤولية المؤسسة الإعلامية تجاه مراسليها في هذا الشأن. إذ إن تطوع الطاقم الصحفي لا يعني أن المؤسسة ملزمة بالاستجابة إلى رغبة موظفيها في الدخول إلى معمعة الحرب دون أخذ أسباب الحيطة. فمن يعمل في مهنة الصحافة باحثٌ إما عن المتاعب أو مستقتل للشهرة، وكلاهما لا يعفي المؤسسة التي ينتمي لها أن تضع الحدود التي تضمن له السلامة.

وفي تقديري أن موافقة المؤسسات الإعلامية على خوض فريق ما لذلك الغمار دون أخذ الاحتياطات اللازمة، وإن كان طوعياً، يشي بأنها حريصة على نيل السبق في نقل الخبر أكثر من حرصها على سلامة ناقله. فشعارٌ مثل (خاص بالجزيرة) بات علامة من علامات الجودة التي تتنافس كل المؤسسات الإعلامية (المرئية تحديداً) على بلوغه بأيّ ثمن حتى لو كان غالياً مثل ما جرى مع أخينا الشهيد، وكان يمكن أن يكون مضاعفاً، لولا ستر الله تعالى. وأعود للتذكير بأنني لست معترضاً على ما نحسبه شهادة لأحد الزملاء، إنما اعتراضي على الطريق الذي تم سلوكه لنيل تلك الشهادة.

أما المسألة الثالثة فهي طبيعة الحماية التي رافقت الفريق الذي كان الشهيد أحدَ أفراده.

فما رأيناه أثناء تغطية أحداث الثورة أن أحداً من مراسلي الجزيرة العربية لم يرتد الملابس المخصصة للحماية بما يشمل الخوذة الواقية أو السترة المضادة للرصاص. هذه الملابس باتت الآن جزءاً من عمل الإعلامي في البيئات الحربية. وهي بالإضافة إلى توفير الحماية، فإنها أيضاً أداة تعريف به بين الجموع، باعتبارها تبيّن أنها خاصة بالعاملين في الإعلام الذين تحرّم القوانين الدولية التعرض لهم أثناء أداء مهماتهم.

والمتابع لتغطية الجزيرة العربية يعلم أن أحداً من مراسليها لم يرتد أيّاً من تلك الملابس إلا بعد أكثر من عشرة أيام من استشهاد زميلهم رحمه الله.

وهذا يجعلنا نتساءل إن كانت شبكة الجزيرة جادة في توفير الحماية لموظفيها قبل أن يتعرضوا لحادث سوء، في مقابل ما تزعمه من وفاء في حق أبنائها بعد رحيلهم. فالأصل في الوفاء تحمّل المسؤولية تجاه الأشخاص بحفظ وجودهم، لا بتسمية استوديوهات الأخبار بأسمائهم بعد استشهادهم.

وما يثير الدهشة أن طواقم عمل القناة الإنجليزية التابعة لنفس الشبكة ظهروا وهم في كامل عدتهم. وهذا الأمر لم يبدأ بعد استشهاد أخينا عليّ، بل منذ بدأت الثورة قبل استشهاده. وقد علمت من زملاء في القناة الإنجليزية أن مراسليها لا يتحركون إلا في معية رجال أمن شخصيّ، مسلحين ومتخصصين في حماية الشخصيات.

وتوفـّر هذه الإمكانات للعاملين في القناة الإنجليزية في مقابل انعدامها المطلق لدى مراسلي القناة العربية (وهي الأقدم من ناحية العمر المهني والأكثر من ناحية الخبرة العملية في تغطية الحروب) يجعلنا نتساءل عن طبيعة تعاطي إدارة الشبكة مع موظفيها، وفيما إذا كانت ثمة تفضيلات معينة تمليها حسابات الجنسية والانتماءات العرقية. إذ أثق أنه لو كان المراسل الذي لقي حتفه تابعاً لدولة أجنبية (غربية تحديداً) لما توقف الأمر على مهرجانات الوفاء والتضامن، بل تعداه للمساءلة القانونية من طرف أهله ودولته عما تمّ توفيره من الشبكة لحمايته في بيئة لا يمكن وصفها بأقل من كونها عدائية. وما سيترتب على تلك المساءلات القانونية سيكون مبلغاً جباراً من المال لصالح أسرته، والتزامات كثيرة تجاه نظرائه في مواقع عمل كتلك لضمان عدم تكرار الحادثة.

وحقيقة أن أحداً من أفراد طواقم الجزيرة العربية لم يمتلك تلك المعدات والملابس في عمله المحاط بالخطر، إلا مؤخراً، قد يشير إلى نوعية تفكير إدارة الشبكة في تعاطيها مع الإنسان العربي/ المسلم في مقابل نظيره الغربي. فمجرد أنهم افتقدوا المعدات والحماية لأسابيع يجعل من الصعب تفسير الأمر على غير الشاكلة التي تقترح أن العقل الباطن لدى الجهاز الإداري يميّز بين العاملين فيها بحسب الثمن الممكن أن تدفعه في حال حصول حادث شبيه باستشهاد رئيس قسم التصوير (القطري/ المسلم).

وإذا صحّ هذا التفسير، وما رأيناه على شاشة الجزيرة يؤكد ذلك أكثر من أن ينفيه، فإن تلك لعمري مصيبة من أكبر المصائب. ذلك أن الشبكة التي تقف في صفّ أصحاب الثورات ضد أنظمتهم الظالمة من ناحية التغطية الإعلامية (وإن زعمت الحياد)، فإنها حاضرة في نفس مربع أنظمة الحكم التي تعمل تلك الشعوب على إسقاطها. إذ إن أكبر جريمة ترتكبها تلك الأنظمة أنها انتزعت من مواطنيها إحساسهم بالمواطنة وأعدمت لديهم الأمل بتكافؤ الفرص أمامهم بغضّ النظر عن انتماءاتهم القبلية أو الحزبية أو الطائفية، وغيرها من أسباب التمايز بين المواطنين. ومُجدداً، إن صَدَقَ ذلك التفسير، فهذا يعني أن شبكة الجزيرة نفسها بحاجة إلى ثورة مشابهة لتلك الثورات بحيث يتغير فيها النظام بكلِّ رُموزه ليحلّ محله نظام يمثل أبناء تلك الشبكة، دون اعتبار إلى خلفياتهم وانتماءاتهم المتباينة، ويديرهم بميزان العدل والسواسية.

* * *

قبل الختام، فإنني أعلم أن طرح مثل هذا الرأي سيثير الكثير من الغبار حول مصداقية الجزيرة، ناهيك عن كثير المشاكل التي قد تنالني شخصياً باعتباري موظفاً سابقاً فيها.

وهنا أحتاج إلى توضيح أمرين مهمين.

الأول، أن مصداقية الجزيرة ينبغي أن تقوم على أساس صلب من تحرّي الحقائق والالتزام بمعايير الشرف المهنية الذي ألزمت نفسها به. وهذا لن يتحقق دون المرور عبر غربال من الصدق مع الذات والشفافية مع المجتمع (المجتمع الصغير داخل المؤسسة الإعلامية، والمحيط الحضاري الكبير الذي تنتمي إليه الشبكة). وإذا كان مصداقية الجزيرة ستتأثر بهذا النقد، فذلك يعني أن ثمة خللاً تعاني منه الشبكة ذائعة الصيت، يحتاج إلى التصارح علناً بشأنه حتى يتم إصلاحه. ذلك أنه إذا عجزت قناة تعمل على تغطية المصائب والحروب منذ نشأتها عن توفير أدنى متطلبات الأمان للعاملين فيها أثناء تغطيتهم تلك الأحداث، فإن الأمر يحتاج إلى ما هو أكثر من رسالة من موظف إلى رئيس قسم أو مدير إدارة، بل حتى إلى المدير العام أو رئيس مجلس الإدارة. وهذا تحديداً ما أتأمّل أن أقوم به.

الثاني، أنني وإن كنت انتميت إلى الشبكة والتزمت بقوانينها عند عملي فيها سابقاً، فإن ثمة التزاماً أكبر يفرض عليّ الخروج إلى العلن بهذا الموضوع؛ ذلكم هو انتمائي لبلادي وأمتي وديني. وكلّ واحد من تلك الانتماءات الثلاثة يتجاوز انتمائي لمؤسسة إعلامية مهما كانت ضخامتها. ذلك أن قطر والعروبة والإسلام أعزّ عليّ من أن التزم قوانين الشبكة التي أثق أنها قد تلجأ لمحاكمتي لما تجرأت على إعلانه مما يدور في خلد كافة الموظفين غير القادرين على الحديث بهذا الخصوص. وحسبي في ذلك أن تلك المحاسبة ليست الأولى، إذ سبق أن تم التحقيق معي وتوقيف راتبي أكثر من مرة بسبب صراحتي سابقاً. ولا أحسبها ستكون الأخيرة. ورغم ذلك فإنني أعود للتأكيد على أن طرح مثل هذا الموضوع علانية هو وحده ما يمكن أن يجعل من شبكة الجزيرةِ جزيرة واحدة يتساوى فيها الجميع، لا أرخبيلاً يحوي بعضه السادة ويجمع بعضه العبيد.

* * *

نعود لنسأل سؤال البداية: من قتل الشهيد علي حسن الجابر؟

ذلك السؤال وإن بدا مُستسخفاً في مطلع الأمر، فإنه وحده الذي سيدفعنا للعثور على الإجابة التي نبحث عنها.

فرغم أنّ الرصاص الذي اخترق جسده خرج من سلاح في ليبيا، فإن اليدَ التي أطلقته ربما تكون بين ظهرانينا دون أن ننتبه.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن ملاحقة الجناة ينبغي ألا تتوقف على من حمل السلاح وحده، فالكل هنا مسؤول عن تلك الدماء الطاهرة التي سالت في سبيل إظهار كلمة الحق.

خالد المحمود
khalid_almahmoud@yahoo.com