رمادي
26-08-2011, 01:46 PM
من كتاب صور وخواطر
حكمة القدر
للشيخ علي الطنطاوي
دخل علينا أمس, وكنًّا جماعة في المجلس, صديق لنا, فقال: إن إبنة الأستاذ حبيب زحلاوي قد سقطت من الطبقة السادسة إلى الشارع! فارتعنا جميعا ، وأعظمنا الخطب ، وكنا نعرفها طفلة حلوة ملء إهابها الطهر والجمال والنشاط , فلم نستطع أن نتصورها وهي مزق من اللحم قد اختلط بعضه ببعض ووجمنا وكانت سكتة لم يقطعها إلا ضحك صديقنا المخبر, فعرفنا أنها مزحة ثقيلة من مزحاته, وأقبلنا عليه نسبهُ ونشتمهُ,
فقال : والله ما كذبت عليكم, لقد وقعت من الطابق السادس ولكنها لم تصب بشيء وهي سليمة...
فصرخنا جميعا: سليمة؟!
قال: نعم والله. ألا تصدقون؟ إنها وقعت على حبال الغسيل الممددوة بين الشرفتين حيال الطبقة الخامسة , فعاقتها قليلا, ونفذت منها إلى حبال الطبقة الرابعة , وما زالت تمر من حبال إلى حبال, حتى إذا بلغت الشارع, كانت سقطتها على كومة من الرمال, صبَّتها سيارة صباح ذلك اليوم, فلم تصب بأذى.
ومضى يحلف ويؤكد الأيمان أن الذي يرويه هو الصدق والحق ، وأن صبيا لصديق آخر لا أسميه لئلا أسوءه وأذكّر بمصابه ، وقف على مكتب أبيه يلعب ، فرأى صورة معلقة بالجدار فوثب يريد أن يصل إليها ، فوقع على أرض الغرفة ، وكان من بلاط ، وكانت السقطة على يافوخه ، فمات لساعته.
وقال معلقا ومتفلسفا: ففيم إذاً نفكر ونُدبِّر, ما دام لا ينفعُنا فكر ولا يُفيدنا تدبير, ولم لا ندع الأمور للقدر ونتركها تجري على أعنتها كما يريد لها مجريها , وما دُمنا لا نملك أنفسنا ولا نعرف مصائرنا ودام هذا الكون كالمعمل الضخم ، المشتبك الآلات ، المتعدِّد الحركات ، وما نحن إلا مسمار صغير فيه ،نسير كما يسيرنا (مهندسه) الأعظم.
وأسرع واحد مِنَّا, فقال مُصدِّقاً: نعم, ولكنَّا خُلِقنا للشقاء, وأقمنا هدفا للمصائب, ووضعنا في دنيا ما فيها إلا الآلام. من سلم منها اليوم وقع غدا, ومن لم يمت ولدهُ من سقطة مات من علّتهِ, أو مات وهو صحيح معافى, ما من الموت بُد ...ولا بُد قبل الموت من البلايا والمتاعب...
وتكلم ثالث, يرى نفسه من كبار العقلاء, فأنكر القدر, وجحد المُقدِّر, وزعم أن الحياة ليست إلا عجينة في يدك, أنت تُديرُها وتُصوِّرها, فإن صنعت منها تمثال غادة جميلة كانت لك جمالها, وإن عملت منها هولة قبيحة كانت لك قبحها...إن مرضت فمن إقلالك الغذاء , وإهمالك التوقي, وإن دعست فمن تركك الحذر ، وإن أفتقرت فمن قعودك عن السعي وأمثال هذا الكلام.
قلت له: فلم ولد هذا في دار علم وتهذيب فتعلم وعرف سبل الوقاية وخطر الأمراض, ونشأ ذاك في بيت جهل وفساد, فشب جاهلا فاسدا لا يعرف كيف يتقي الداء؟ ولماذا دُعس هذا من قلة حذره وسلم من هو أقل منه حذراً وطريقه أشد خطراً ؟ ولماذا يسعى الرجل حتى تنقطع من السعي أنفاسه ويرجع ولم يصل ولا إلى مثل خُفّي حنين, وتأتي الأموال لآخر بلا سعي ولا طلب؟
ولماذا يتاح لهذا النابغة أن يظهر نبوغه, حتى يكون اسمه تسبيحا على كل لسان, وعنوانا في كل كتاب, ويجهل من هو أحدَّ منهُ ذكاء , وأكبر موهبة وأظهر استعداداً للنبوغ؟
ولماذا؟ ولماذا؟ وألف لمــاذا؟ ولو شئت لسُقتها لك فما استطعت الجواب على واحدٍ منها. فما أنت في الوجود؟ هل تُسَيّر أنت الفُلك على هواك؟ وهل تسوق الكون إلى غايتك؟ هل أنت إله؟ إنك ما كوَّنتَ نفسك, ولا شققت بيدك سمعك ولا بصرك.
قال: فهل ترى أنت أن الإنسان مسير؟
قلت: ما مسير ؟ وما مخير ؟ وما هذه الفلسفة الفارغة؟ لقد استغل بها البشر ، من يوم بدؤوا يفكرون واختلفوا عليها ، وتجادلوا ، ولا يزالون يختلفوت ويتجادلون ، ولم يصلوا إلى شيء.وإنما تاهوا في بيداء لا أول لها ولا آخر ، وهاموا على وجوههم في مهمه متشابه الأرجاء ، بلا أمل ولا رجاء ، فذهب هذا ينكر القدر ، ويزعم أن الحياة ملك الإنسان ، وأحداثها صنع يديه ، وراح ذاك ينكر إنسانيته ويجحد نفسه ويراها مسماراً في آلة الكون ، وحجراً في جبل ، يدور مع الأرض أنى دارت ، وكان هذا متشائماً لا يرى إلا الذي وقع عن الكرسي فمات ، فاعتقد أن الدنيا مصائب ، وكان ذلك مغروراً ، لم يبصر إلا التي وقعت من الطبقة السادسة ولم تمت ، فحسب أنه يسلم من كل أذى.
ونحنُ مع القدر بشر, لا آلهة ولا حجر, والدنيا ليست مسرَّة كُلَّها ولا مصائب ولكَّنها مسرَّة وكدر.
وأنا كُلّما فكَّرت, وذكرت ما رأيت من الحوادث بعيني ازددتُ يقيناً بأن أكثر الناس لا يعرفون سر الإيمان بالقدر:
رأيت الترام مرَّة وقد انكسر مقوده, فانحطّ من المنحدر الهائل عند الجسر في دمشق , وكانت إمرأة واقفة بعد المنعطف, فلما رأته مقبلا كالموت النازل سمرت رجلاها من فزعها بالأرض, وجمدت ولم يجرؤ أحد أن يدنو لإنقاذها فيموت معها, والوقت أضيق لأن يتسع لشيء, فَأغْمَضوا عُيونهم حتى لا يروا ... فلمَّا وصلت الحافلة إلى المنحنى تركت الخط فصدمت جدارا من اللبِن ضعيفا, ومرت منه إلى قوم في دارهم فقتلتهم.
ورأيت مرَّة بعيني شبابا يمشون تحت فندق (عدن بالاس) في دمشق فرفع أحدهم رأسه فجأةً فرأى شيئاً يهوي قد صار حيال بصره فتناوله بيده , فإذا هو صبي رضيع وقع من شباك الفندق, وهبطت أمه كالمجنونة وهي امرأة من (حماة) فرأته سالما.
ما سر هذه العجائب؟ وكيف عاشت المرأة وقد فرطت وعرضت نفسها للخطر بسيرها بين خطي الترام, ومات قوم اتخذوا كل أسباب الوقاية, فدخلوا دارهم, وأغلقوا بابهم , فشق الترام الحائط ودخل عليهم ودعسهم؟ وكيف وقعت البنت فلم تمت ، وتموت كل يوم مئات من البنات من غير وقوع.
إن هذا هو السر الذي لا يعرفه أحد, فلا تحاولوا كشف سر القدر, ولكن استفيدوا من حكمة القدر ، وهذا ما سقت له حديثي.
ستقولون, وماذا نعمل؟ هل ندع أولادنا يسقطون من الشبابيك لا نبالي لأنها إن كانت لهم حياة فسيبعث الله لهم حبالاً تمسكهم أو رجالاً تتلقاهم؟ ولنقعد عن السعي لأنه إن كان لنا رزق فسيأتينا بلا سعي؟!
لا يا سادة, ما هذا طريق فهم القدر, ولا هذه حكمة القدر.
صحيح أن الرزق مُقدَّر ، فهذا وُضع رزقه على مكتبه ، فما عليه إلا أن يقعد على كرسيه ، ويمسك قلمه ، ويكتب اسمه الكريم كل نصف ساعة مرة على أوراق تعرض عليه ، وهو يشرب قهوته ، ويدخن دخينته ، فيأتيه الرزق. وآخر وُضع رزقه في رأس الجبل عليه أن يصعد إليه ، أو في بلد بعيد عليه أن يمشي إليه ، أو في باطن الأرض ينزل إليه ، أو في جوف البحر يغوص فيه ، أو في جيوب الناس ، يأخذه منها ليقبض عليه ، فيتحول رزقه إلى السجن.
كلٌ يأكلُ لقمته, ولكن من الناس من تجيئه اللقمة في صحفة من الفضة, ومن يأكلها مغموسة بالدم, أو مبللة بالعرق, أو ملطخة بالوحل !
لا ، لا تقل ما سر القدر ، فما كشفهُ صاحبه لأحد ، ولكن مادام الأمر مجهولا, فاسع أن تأكل أنت لقمتك بطبق الذهب, وجد وابذل الجهد, فإن لم تصل إلى ذلك وصلت إلى الرضاء والتسليم بحكم القدر ، وتلك هي حكمة القدر.
والأجل محدود, لا يدفعه إذا حضر حذر, ولا يضر إن امتد خطر ، وقد يموت الشاب الصحيح ، ويعيش الشيخ العليل ، ويهلك المعتصم بسبعة أسوار ، ويسلم الجندي الذي يقتحم النار.
أعرف رجلا من أبطال الثورة السورية, رمى نفسه على الموت خمسين مرة فكان الموت يروغ من تحتهِ ويهرب منه, ثم انتهت الثورة, ونام في فراشه, فاختصم اثنان من السكارى, فأطلق أحداهما رصاص مسدسه, فأصاب خطأ رأس صاحبنا الذي نام فما قام.
وروى ابن الجوزي أن رجلاً أغمى عليه فحسبوهُ مات, ونصبوه على السرير, وجاءوا بالمغسّل ليغسله, فلما أحس برد الماء, تيقَّظ ونهض, فارتاع المغسّل وسقط ميّتا.
فلا تسأل ما السر, ولكن جاهد في سبيل الله, وناضل عن الحق ، ولا تخف الموت في جهادك ونضالك ، لأن الأجل محدود ، فقد تعيش مائة سنة ولو خضت غمرات الموت فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا, واعمل لأخراك كأنك ميتٌ غدا, فتكون قد ضمنت لنفسك الدنيا والآخرة, وهذه حكمة من حكم القدر.
فالإيمان بالقدر حياة لأنه يفتح لك في كل ظُلْمة شعاع ضياء, وفي كل عسرة باب رجاء, ولولا الرجاء لمات المريض من وهمه قبل أن يٌمِيَتهُ المرض, ولقتل الجندي في الحرب من خوفهِ قبل أن يَقْتلهُ العدو, ولولا الرجاء ما كانت الحياة.
ولو تركت الأمور لاحتمالات العقل, وقوانين المادة, لما استطعت أن تتنفس الهواء أو تشرب الماء خشية أن تكون فيه جرثومة داء, ولا ركبت سيارة لاحتمال أن تصطدم, ولا صعدت بناء لإمكان أن ينهدم, ولما استولدت ولداً لأنهُ قد يموت, ولا اتخذت خليلا لأنه قد يخون ، ولَمَا اطمأننت على مالٍ لأنهُ قد يُسْرق ، ولا دار لأنها قد تحرق.
والإيمان بالقدر راحة لأنه لو كان الفشل من عملك وحدك, وكان النجاح من صنعِ يدك لقطعت نفسك أسفا إن فشلت أو سُبقت.
والإيمان بالقدر عزاء, لأنك إن قُدِّر عليك بالمصاب بولد, فاحمد الله ففي الناس من أصيب بولدين, وإن خسرت ألفا ففيهم من خسر ألفين.
فهل عرفتم الآن ما حكمة القدر؟
هي أن نجد ونعمل ونسعى ، ونبذل الجهد ، ثم لا نحزن إن فشلنا ، ولا نيأس إن لم نصل إلى ما نريد ، وأن نكون مع القدر كمن يجتاز طريقاً فيه السيارات المزدحمات ، فإن ذكر حوادثها وأخطارها وحدها لم يستطع أن يتقدم خطوة ؛ وإن اعتقد من غروره أنه يستطيع أن يرد عنه السيارة المقبلة ، ويدفع الخطر الآتي لم يسلم ؛ ولكن إن انتبه وسار بحذر فهذا هو العاقل ؛ ثم إن نجا حمد الله أن قدّر له النجاة ؛ وإن أصيب ذكر أنه لم يقصّر ، وإنما هو حكم القدر.
سنلتقي غدا بأذن الله
حكمة القدر
للشيخ علي الطنطاوي
دخل علينا أمس, وكنًّا جماعة في المجلس, صديق لنا, فقال: إن إبنة الأستاذ حبيب زحلاوي قد سقطت من الطبقة السادسة إلى الشارع! فارتعنا جميعا ، وأعظمنا الخطب ، وكنا نعرفها طفلة حلوة ملء إهابها الطهر والجمال والنشاط , فلم نستطع أن نتصورها وهي مزق من اللحم قد اختلط بعضه ببعض ووجمنا وكانت سكتة لم يقطعها إلا ضحك صديقنا المخبر, فعرفنا أنها مزحة ثقيلة من مزحاته, وأقبلنا عليه نسبهُ ونشتمهُ,
فقال : والله ما كذبت عليكم, لقد وقعت من الطابق السادس ولكنها لم تصب بشيء وهي سليمة...
فصرخنا جميعا: سليمة؟!
قال: نعم والله. ألا تصدقون؟ إنها وقعت على حبال الغسيل الممددوة بين الشرفتين حيال الطبقة الخامسة , فعاقتها قليلا, ونفذت منها إلى حبال الطبقة الرابعة , وما زالت تمر من حبال إلى حبال, حتى إذا بلغت الشارع, كانت سقطتها على كومة من الرمال, صبَّتها سيارة صباح ذلك اليوم, فلم تصب بأذى.
ومضى يحلف ويؤكد الأيمان أن الذي يرويه هو الصدق والحق ، وأن صبيا لصديق آخر لا أسميه لئلا أسوءه وأذكّر بمصابه ، وقف على مكتب أبيه يلعب ، فرأى صورة معلقة بالجدار فوثب يريد أن يصل إليها ، فوقع على أرض الغرفة ، وكان من بلاط ، وكانت السقطة على يافوخه ، فمات لساعته.
وقال معلقا ومتفلسفا: ففيم إذاً نفكر ونُدبِّر, ما دام لا ينفعُنا فكر ولا يُفيدنا تدبير, ولم لا ندع الأمور للقدر ونتركها تجري على أعنتها كما يريد لها مجريها , وما دُمنا لا نملك أنفسنا ولا نعرف مصائرنا ودام هذا الكون كالمعمل الضخم ، المشتبك الآلات ، المتعدِّد الحركات ، وما نحن إلا مسمار صغير فيه ،نسير كما يسيرنا (مهندسه) الأعظم.
وأسرع واحد مِنَّا, فقال مُصدِّقاً: نعم, ولكنَّا خُلِقنا للشقاء, وأقمنا هدفا للمصائب, ووضعنا في دنيا ما فيها إلا الآلام. من سلم منها اليوم وقع غدا, ومن لم يمت ولدهُ من سقطة مات من علّتهِ, أو مات وهو صحيح معافى, ما من الموت بُد ...ولا بُد قبل الموت من البلايا والمتاعب...
وتكلم ثالث, يرى نفسه من كبار العقلاء, فأنكر القدر, وجحد المُقدِّر, وزعم أن الحياة ليست إلا عجينة في يدك, أنت تُديرُها وتُصوِّرها, فإن صنعت منها تمثال غادة جميلة كانت لك جمالها, وإن عملت منها هولة قبيحة كانت لك قبحها...إن مرضت فمن إقلالك الغذاء , وإهمالك التوقي, وإن دعست فمن تركك الحذر ، وإن أفتقرت فمن قعودك عن السعي وأمثال هذا الكلام.
قلت له: فلم ولد هذا في دار علم وتهذيب فتعلم وعرف سبل الوقاية وخطر الأمراض, ونشأ ذاك في بيت جهل وفساد, فشب جاهلا فاسدا لا يعرف كيف يتقي الداء؟ ولماذا دُعس هذا من قلة حذره وسلم من هو أقل منه حذراً وطريقه أشد خطراً ؟ ولماذا يسعى الرجل حتى تنقطع من السعي أنفاسه ويرجع ولم يصل ولا إلى مثل خُفّي حنين, وتأتي الأموال لآخر بلا سعي ولا طلب؟
ولماذا يتاح لهذا النابغة أن يظهر نبوغه, حتى يكون اسمه تسبيحا على كل لسان, وعنوانا في كل كتاب, ويجهل من هو أحدَّ منهُ ذكاء , وأكبر موهبة وأظهر استعداداً للنبوغ؟
ولماذا؟ ولماذا؟ وألف لمــاذا؟ ولو شئت لسُقتها لك فما استطعت الجواب على واحدٍ منها. فما أنت في الوجود؟ هل تُسَيّر أنت الفُلك على هواك؟ وهل تسوق الكون إلى غايتك؟ هل أنت إله؟ إنك ما كوَّنتَ نفسك, ولا شققت بيدك سمعك ولا بصرك.
قال: فهل ترى أنت أن الإنسان مسير؟
قلت: ما مسير ؟ وما مخير ؟ وما هذه الفلسفة الفارغة؟ لقد استغل بها البشر ، من يوم بدؤوا يفكرون واختلفوا عليها ، وتجادلوا ، ولا يزالون يختلفوت ويتجادلون ، ولم يصلوا إلى شيء.وإنما تاهوا في بيداء لا أول لها ولا آخر ، وهاموا على وجوههم في مهمه متشابه الأرجاء ، بلا أمل ولا رجاء ، فذهب هذا ينكر القدر ، ويزعم أن الحياة ملك الإنسان ، وأحداثها صنع يديه ، وراح ذاك ينكر إنسانيته ويجحد نفسه ويراها مسماراً في آلة الكون ، وحجراً في جبل ، يدور مع الأرض أنى دارت ، وكان هذا متشائماً لا يرى إلا الذي وقع عن الكرسي فمات ، فاعتقد أن الدنيا مصائب ، وكان ذلك مغروراً ، لم يبصر إلا التي وقعت من الطبقة السادسة ولم تمت ، فحسب أنه يسلم من كل أذى.
ونحنُ مع القدر بشر, لا آلهة ولا حجر, والدنيا ليست مسرَّة كُلَّها ولا مصائب ولكَّنها مسرَّة وكدر.
وأنا كُلّما فكَّرت, وذكرت ما رأيت من الحوادث بعيني ازددتُ يقيناً بأن أكثر الناس لا يعرفون سر الإيمان بالقدر:
رأيت الترام مرَّة وقد انكسر مقوده, فانحطّ من المنحدر الهائل عند الجسر في دمشق , وكانت إمرأة واقفة بعد المنعطف, فلما رأته مقبلا كالموت النازل سمرت رجلاها من فزعها بالأرض, وجمدت ولم يجرؤ أحد أن يدنو لإنقاذها فيموت معها, والوقت أضيق لأن يتسع لشيء, فَأغْمَضوا عُيونهم حتى لا يروا ... فلمَّا وصلت الحافلة إلى المنحنى تركت الخط فصدمت جدارا من اللبِن ضعيفا, ومرت منه إلى قوم في دارهم فقتلتهم.
ورأيت مرَّة بعيني شبابا يمشون تحت فندق (عدن بالاس) في دمشق فرفع أحدهم رأسه فجأةً فرأى شيئاً يهوي قد صار حيال بصره فتناوله بيده , فإذا هو صبي رضيع وقع من شباك الفندق, وهبطت أمه كالمجنونة وهي امرأة من (حماة) فرأته سالما.
ما سر هذه العجائب؟ وكيف عاشت المرأة وقد فرطت وعرضت نفسها للخطر بسيرها بين خطي الترام, ومات قوم اتخذوا كل أسباب الوقاية, فدخلوا دارهم, وأغلقوا بابهم , فشق الترام الحائط ودخل عليهم ودعسهم؟ وكيف وقعت البنت فلم تمت ، وتموت كل يوم مئات من البنات من غير وقوع.
إن هذا هو السر الذي لا يعرفه أحد, فلا تحاولوا كشف سر القدر, ولكن استفيدوا من حكمة القدر ، وهذا ما سقت له حديثي.
ستقولون, وماذا نعمل؟ هل ندع أولادنا يسقطون من الشبابيك لا نبالي لأنها إن كانت لهم حياة فسيبعث الله لهم حبالاً تمسكهم أو رجالاً تتلقاهم؟ ولنقعد عن السعي لأنه إن كان لنا رزق فسيأتينا بلا سعي؟!
لا يا سادة, ما هذا طريق فهم القدر, ولا هذه حكمة القدر.
صحيح أن الرزق مُقدَّر ، فهذا وُضع رزقه على مكتبه ، فما عليه إلا أن يقعد على كرسيه ، ويمسك قلمه ، ويكتب اسمه الكريم كل نصف ساعة مرة على أوراق تعرض عليه ، وهو يشرب قهوته ، ويدخن دخينته ، فيأتيه الرزق. وآخر وُضع رزقه في رأس الجبل عليه أن يصعد إليه ، أو في بلد بعيد عليه أن يمشي إليه ، أو في باطن الأرض ينزل إليه ، أو في جوف البحر يغوص فيه ، أو في جيوب الناس ، يأخذه منها ليقبض عليه ، فيتحول رزقه إلى السجن.
كلٌ يأكلُ لقمته, ولكن من الناس من تجيئه اللقمة في صحفة من الفضة, ومن يأكلها مغموسة بالدم, أو مبللة بالعرق, أو ملطخة بالوحل !
لا ، لا تقل ما سر القدر ، فما كشفهُ صاحبه لأحد ، ولكن مادام الأمر مجهولا, فاسع أن تأكل أنت لقمتك بطبق الذهب, وجد وابذل الجهد, فإن لم تصل إلى ذلك وصلت إلى الرضاء والتسليم بحكم القدر ، وتلك هي حكمة القدر.
والأجل محدود, لا يدفعه إذا حضر حذر, ولا يضر إن امتد خطر ، وقد يموت الشاب الصحيح ، ويعيش الشيخ العليل ، ويهلك المعتصم بسبعة أسوار ، ويسلم الجندي الذي يقتحم النار.
أعرف رجلا من أبطال الثورة السورية, رمى نفسه على الموت خمسين مرة فكان الموت يروغ من تحتهِ ويهرب منه, ثم انتهت الثورة, ونام في فراشه, فاختصم اثنان من السكارى, فأطلق أحداهما رصاص مسدسه, فأصاب خطأ رأس صاحبنا الذي نام فما قام.
وروى ابن الجوزي أن رجلاً أغمى عليه فحسبوهُ مات, ونصبوه على السرير, وجاءوا بالمغسّل ليغسله, فلما أحس برد الماء, تيقَّظ ونهض, فارتاع المغسّل وسقط ميّتا.
فلا تسأل ما السر, ولكن جاهد في سبيل الله, وناضل عن الحق ، ولا تخف الموت في جهادك ونضالك ، لأن الأجل محدود ، فقد تعيش مائة سنة ولو خضت غمرات الموت فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا, واعمل لأخراك كأنك ميتٌ غدا, فتكون قد ضمنت لنفسك الدنيا والآخرة, وهذه حكمة من حكم القدر.
فالإيمان بالقدر حياة لأنه يفتح لك في كل ظُلْمة شعاع ضياء, وفي كل عسرة باب رجاء, ولولا الرجاء لمات المريض من وهمه قبل أن يٌمِيَتهُ المرض, ولقتل الجندي في الحرب من خوفهِ قبل أن يَقْتلهُ العدو, ولولا الرجاء ما كانت الحياة.
ولو تركت الأمور لاحتمالات العقل, وقوانين المادة, لما استطعت أن تتنفس الهواء أو تشرب الماء خشية أن تكون فيه جرثومة داء, ولا ركبت سيارة لاحتمال أن تصطدم, ولا صعدت بناء لإمكان أن ينهدم, ولما استولدت ولداً لأنهُ قد يموت, ولا اتخذت خليلا لأنه قد يخون ، ولَمَا اطمأننت على مالٍ لأنهُ قد يُسْرق ، ولا دار لأنها قد تحرق.
والإيمان بالقدر راحة لأنه لو كان الفشل من عملك وحدك, وكان النجاح من صنعِ يدك لقطعت نفسك أسفا إن فشلت أو سُبقت.
والإيمان بالقدر عزاء, لأنك إن قُدِّر عليك بالمصاب بولد, فاحمد الله ففي الناس من أصيب بولدين, وإن خسرت ألفا ففيهم من خسر ألفين.
فهل عرفتم الآن ما حكمة القدر؟
هي أن نجد ونعمل ونسعى ، ونبذل الجهد ، ثم لا نحزن إن فشلنا ، ولا نيأس إن لم نصل إلى ما نريد ، وأن نكون مع القدر كمن يجتاز طريقاً فيه السيارات المزدحمات ، فإن ذكر حوادثها وأخطارها وحدها لم يستطع أن يتقدم خطوة ؛ وإن اعتقد من غروره أنه يستطيع أن يرد عنه السيارة المقبلة ، ويدفع الخطر الآتي لم يسلم ؛ ولكن إن انتبه وسار بحذر فهذا هو العاقل ؛ ثم إن نجا حمد الله أن قدّر له النجاة ؛ وإن أصيب ذكر أنه لم يقصّر ، وإنما هو حكم القدر.
سنلتقي غدا بأذن الله