رمادي
29-08-2011, 07:17 PM
شهيد العيد
في صباح يوم عيد الأضحى المبارك، كنت أتجول في أحد أحياء دمشق القديمة….ورأيت كم هو كبير في نفوس أهل الشام فرحتهم بالعيد
فقد ازدانت الشوارع والمحلات التجارية بالبضائع والألعاب والمأكولات المختلفة والحلويات و…و…وغير ذلك الكثير
وما أن وصلت إلى باب( مُصلى العيد)وإذا أنا أُفاجئ بحشد كبير من الناس وقد احتشدوا أمام دكان قديم من دكاكين الحي0
فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر،فأقبلتُ أدفع الناس بكتفي،وأشق طريقي بيديّ كلتيهما وأدوس على أقدام الناس وأُصغي إلى هذا الفيض العجيب من النثر الفني الذي جادت به قرائحهم حتى بلغت المشهد ونظرت000
نظرت فرأيت اثنين يختصمان ويعتركان ، أمّا أحدهما فكان مسكيناً ضعيفاً أعزلاً عاجزاً……وأمّا الآخر فكان ضخماً طويلاً، كالح الوجه،مفتول ،العضلات،مُتسخ الثياب،قد حمل سكيناً في يده طويلة النصل،حادّة الشفرة….وهجم بها على صاحبه والناس ينظرون ولا يستكرون فعلته0
وصاحبه المسكين يصرخ ويتلفت تَلَفُّتَ المذعور،يطلب الغوث ولا يُغيثه أحد،ويبتغي المهرب فيَسُدُّ عليه الناس طريق الهرب000
وأنا أُفكِّرُ ماذا أصنع…وإذا بالخبيث العاتي يذبحه والله أمامنا ذبحاً،ويتركه يتخبّطُ بدمه،ويُولّيهِ ظهره ويمضي إلى دكانه مُتَمَهِّلاً،وكأنّه لم يرتكب جُرماً والناس ينظرون إليه
وكدتُ أهجم عليه،وأُسَلِّمُهُ إلى الشرطة ،ثمّ تذكرتُ أنّ الشجاعة في مثل هذا الموطن تَهَوّرٌ وحماقة،كما أنّ المجرم يحمل بيده السكين،ولا يستطيع أحد أن يمنعه من أن يُتبعني بالضحية الأولى
وطمعتُ أن يتحرك أحد من الواقفين فيُقدِمُ عليه فأتبعه وأشد أزره، فلا والله ما تحرك أحد منهم،ولا جَرُؤَ على ذلك،بل لقد تكلم واحد منهم،فلما رفع القاتل رأسه ونظر إليه رأيته يجزع منه ويفزع،ويقول له بصوت مضطرب متلجلج:(الله يسلم يديك)0
وتحيرت ماذا أعمل:أأُبَلِّغُ الشرطة،أو أدعهم وأمضي إلى داري لا عَلَيّ ولا لي؟ثم رأيتُ أنّ خير ما أفعل أن أكتب وصف ما رأيت،وأبعث به للصحافة والإذاعة ويعرفه الناس0
وهاأنذا أتّهم هذا الرجل بالقتل،وأدعو الحكومة إلى القبض عليه حتى يُعاقب ويكون عبرة لمن يعتبر،ولا يحسبنّ أحد أنّ القصة خياليّة أو مكذوبة،فالقاتل موجود في دكانه،يغدو إليها ويروح إلى بيته،والقصة صحيحة رأيتها بعيني رأسي وأنا سالم العقل غير مجنون ولا معتوه،مُتيقظ غير نائمٍ ولا حالم
هذه هي الحادثة الفظيعة التي رأيتها فكيف رآها الناس فلم يحفلوا بها ولم يهتموا لها؟هل فسدت الأخلاق وضاعت المروءات حتى لا ننكر الأمر المنكر،أم خارت العزائم،وانخلعت القلوب حتى لا نجرؤ على المجرم الظالم؟
وهل نامت الحكومة في الشام نومة أهل الكهف حتى ما تدري بالدم يسيل في شارع من أكبر شوارع دمشق
لقد سكت الجميع،حتى أنّ أقرباء القتيل قد ناموا عن دمه،وقعدوا عن الثأر له،ولم يتقدم أحد منهم شاكياً ولا مُدَّعِياً لأنّ القاتلَ كما قالوا عنه عازمٌ على ذبحهم كلهم إن قدر على ذلك،وماضيه حافلٌ بمثل هذه الجرائم0
فما سرّ هذا السكوت…؟
لقد علمتُ السرّ يا سادة
ذلك أنّ المسكين الشهيد كان خروفاً من خرفان الأضاحي، وأنّ القاتلَ كان جزّار (لحّام)الحارة،وأنّ الناس شاركوه في جُرمِه،فأكلوا لحم الذبيح مشويّاً ومطبوخاً وأكلتُ أنا معهم من لحمه الطيّب الشهيّ…ونسيتُ من طيب لحمه هذا المشهد
هذه هي سُنّة الحياة،يموت المسكين لنستمتع نحن بأكلة طيّبة…فكلوا منه أنتم أيضاً هنيئاً،واشربوا مريئاً….وكل عامٍ وأنتم بخير
فلسفة العيد
لما دفعَ إليَّ موزع الكتاب ، ورأيتُ على ظرفه اسم جريدة (البلاد) قرأته من عنوانه ، وعرفت قبل أن أفتحه أنَّ فيه تكليفاً بمقال ، ولكن ما عرفت ولا قدَّرت أن يكون المقال في الفلسفة .
وظننت أنَّ الأستاذ رئيس التحرير غلطَ فظنَّ اسمي (هنري برجسون) أو (وليم جيمس) ، أو أنَّ أحد أولاد الحـ...ـلال قد (اغتابني) عنده ، فقال له أني فيلسوف عظيم ، وهممت أن أعتذر .
وداخلني الغرور ، وقلتُ ما دامَ رئيس التحرير ، قد رآني أهلاً للكتابة في الفلسفة ، فأنا من الفلاسفة الكبار ، ولكني من التواضع أجهلُ مقدارَ نفسي ، وذكرتُ أنَّ في بطاقتي القديمة ، بطاقة مطبوعة سنة 1348هـ مكتوباً عليها تحت الاسم الكريم (أي اسمي) : بكـالوريس فلسفة ! ، وكنتُ قد اقتديت في ذلك بصديقي الدكتور زكي المحاسني الشاعر الكاتب ، وكان زكي قد نال الشهادة في الفلسفة قبلي بسنة واحدة ، وهو في مثل سني ، ولكنَّه يدَّعي أنَّ عمره ست وخمسون فقط ! .
وكنَّا قد تعلمنا أن الفلسفة كانت قديماً (تحضن) العلومَ كلَّها ، لمَّا كانت العلوم كالأطفال في سن الحضانة ، فكلما كبر علمَ و (بلغ) سنَّ الرشد استقلَّ عنها ، وكانت مناهج الفلسفة التي درسناها فيها علم النفس والأخلاق والاجتماع والمغيبات (ما وراء الطبيعة أي الميتافيزيك) وعلم الجمال وعلم المنطق بقسميه الصوري اليوناني والفكري ! .
أي أنَّ الفلسفة كانت على أيامنا مثل بريطانيا (التي كانت) العظمى ، فكبرت تلك العلوم فاستقلَّت ، وصَغُرت هي وقلَّت ، حتى لم يبقَ لبريطانيا التي كانت تحكم ربع سكان الأرض من ربع قرن ، إلا لندن وضواحيها! ، لأن إيرلندا لا يريدها أكثرها ، واسكتلندا لها تاريخها المُغاير لها ، و ويلز (حتى ويلز) تنطق كما سمعنا بغير لغتها .
إذن... إذن أنا فيلسوف حقاً ما دامَ رئيس التحرير وهو حجة في معرفة الرجال قد رآني أهلاً للكتابة وما دمت أحمل شهادة في الفلسفة وقد مرَّ عليها أربعون سنة ، ولم يبقَ عليَّ لأستكمل شروط الفلسفة كلها إلا أن أُطيلَ شعر رأسي وأركب على حمار أبيض ، كما فعل الأستاذ الزهاوي لما عملَ فيلسوفاً بعد أن كان شيخاً له جبة وعمامة !! .
وهذا سهل فتطويل الشعر يوفِّر أجرة الحلاق ، وركوب الحمار يغني عن السيارة ومشاكل السائقين... ولكن كيف (أتفلسف) في الكلام على العيد؟!
قرأتُ مرةً لأستاذ جامعي كبير فصلاً في (فلسفة) عبيد بن الأبرص ، وليست فلسفته مذهباً يفسر مشاكل الفكر ، أو يكشف خفايا النفس ، أو يزاحم فلسفة أرسطو وأفلاطون ، بل إنَّ فلسفته في قوله :
وكلُّ ذي غيبةٍ يؤوب *** وغائبُ الموتِ لا يؤوب
وهذا الكشف العظيم ! ، هو الذي أدهشَ الأستاذ الجامعي الكبير حتى جعلَ منه فلسفة ، عرفَ فيها هذا الأمرَ المخبأ ، وكشف هذا السر المتواري ، لأنَّ الناس كانوا يظنَّون أنَّ الميت يؤوب ، وأنه يموتُ اليوم ليعودَ غداً ، وأنَّهم يضعونه في القبر فيجدونه خارجاً من بئر المقبرة قاعداً في دلو الماء ، فجاء الشاعر الفيلسوف ابن الأبرص يؤكد لهم أنَّه لا يؤوب .
فهل تريدون فلسفة من هذا النوع؟!
هل أقولُ إنَّ الأيام تمرُّ متشابهة متشاكلة كما يمرُّ الجندي في العرض ، لباسهم واحد وزيهم واحد ، ثم يأتي القائد بثيابه المتفردة وأوسمته اللامعة ، وأنَّ العيدَ في الأيام كالقائد في الجند .
ولكن هذا تشبيه سخيف وليس فلسفة العيد .
أم أقول إنَّ أعياد الناس منها أعياد وطنية تُذكِّر بحادث رائع ، أو نصر بارع ، وأعياد موسمية ، كيوم النيروز ، وأعياد الربيع ، أو أعياد لهو ولعب ومتعة ، كأعياد البراقع (الكرنفال) ، وأعياد الفسوق الذي يسمى فناً ، وأعياد فيها مزيج من هذا وذاك ، تبدأ في العيد وتنتهي في المرقص ، وأنَّ لنا معشر المسلمين عيدين اثنين ، عيد الفطر وعيد الأضحى ، وأنهما عيدان دينيان ، فالفطر شكر لله على التوفيق للصيام ، والأضحى شكر لله على التوفيق للحج ، ولكن دين الإسلام يجمع الدنيا والآخرة ، ويطلب أداء حق الله ، وحق النفس ، وحق الأهل ، وحق الناس ، لذلك كان في العيد ، لبس جديد ، وبهجة الوجه ، وحلاوة القول ، وبسطة اليد ، وسعة في الإنفاق ، وأن يشمل بالخير القريب والجار .
فيكون عيدنا ثواباً من الله ، وألفة بين الناس ، وتعميماً للخير .
ولكن هذا الكلام ليس فلسفة العيد .
فما (فلسفة العيد) التي يطلب رئيس التحرير أن أكتبَ فيها؟!
هل أقول : إنَّ العيدَ في حقيقته عيـد القلب ، فإن لم تملأ القلوب المسرة ، ولم يترعها الرضا ، ولم تعمها الفرحة ، كان العيد مجرد رقم على (التقويم) .
إذا كان هذا هو العيد؟ فأين يا أخوتي هو العيد؟!
أين بهجة القلب ، وأين مسرَّة النفس ، وأين بهاءَ الأيام ، وهؤلاء هم العرب ، بل هؤلاء هم المسلمون كلهم ، في خلافٍ ونزاع ، وتهاترٍ وتخاصم ، قد اشتغلوا بهدم أنفسهم عن هدم عدوهم ، وألقي بأسهم بينهم ، وتركَ أكثرهم دينهم ، وتخلوا عن كريم خلالهم!!.
أين العيد وهذي حال المسلمين ، وكيف يبتسم القلب ، وهو يبكي دماً لما يرى ويسمع؟!..
وكيف نقول لمن نلقاه : كل عام وأنتم بخير ، وما نحن بخير هذا العام ، و لا كنا بخيرٍ العامَ الذي قبله؟! ، ولو أنه يجوز اليأس لقلت إننا لا ننتظر أن نكون بخير العام الذي بعدَه ، فلا تقولوا: (كلُّ عام وأنتم بخير) ، ولكن قولوا لمن تلقونه في هذا العيد : ما كلُّ عام وأنتم بشر!!..
فهل تكونُ هذه هي (فلسفة العيد) ؟!!
كل عام وانتم بخير
في صباح يوم عيد الأضحى المبارك، كنت أتجول في أحد أحياء دمشق القديمة….ورأيت كم هو كبير في نفوس أهل الشام فرحتهم بالعيد
فقد ازدانت الشوارع والمحلات التجارية بالبضائع والألعاب والمأكولات المختلفة والحلويات و…و…وغير ذلك الكثير
وما أن وصلت إلى باب( مُصلى العيد)وإذا أنا أُفاجئ بحشد كبير من الناس وقد احتشدوا أمام دكان قديم من دكاكين الحي0
فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر،فأقبلتُ أدفع الناس بكتفي،وأشق طريقي بيديّ كلتيهما وأدوس على أقدام الناس وأُصغي إلى هذا الفيض العجيب من النثر الفني الذي جادت به قرائحهم حتى بلغت المشهد ونظرت000
نظرت فرأيت اثنين يختصمان ويعتركان ، أمّا أحدهما فكان مسكيناً ضعيفاً أعزلاً عاجزاً……وأمّا الآخر فكان ضخماً طويلاً، كالح الوجه،مفتول ،العضلات،مُتسخ الثياب،قد حمل سكيناً في يده طويلة النصل،حادّة الشفرة….وهجم بها على صاحبه والناس ينظرون ولا يستكرون فعلته0
وصاحبه المسكين يصرخ ويتلفت تَلَفُّتَ المذعور،يطلب الغوث ولا يُغيثه أحد،ويبتغي المهرب فيَسُدُّ عليه الناس طريق الهرب000
وأنا أُفكِّرُ ماذا أصنع…وإذا بالخبيث العاتي يذبحه والله أمامنا ذبحاً،ويتركه يتخبّطُ بدمه،ويُولّيهِ ظهره ويمضي إلى دكانه مُتَمَهِّلاً،وكأنّه لم يرتكب جُرماً والناس ينظرون إليه
وكدتُ أهجم عليه،وأُسَلِّمُهُ إلى الشرطة ،ثمّ تذكرتُ أنّ الشجاعة في مثل هذا الموطن تَهَوّرٌ وحماقة،كما أنّ المجرم يحمل بيده السكين،ولا يستطيع أحد أن يمنعه من أن يُتبعني بالضحية الأولى
وطمعتُ أن يتحرك أحد من الواقفين فيُقدِمُ عليه فأتبعه وأشد أزره، فلا والله ما تحرك أحد منهم،ولا جَرُؤَ على ذلك،بل لقد تكلم واحد منهم،فلما رفع القاتل رأسه ونظر إليه رأيته يجزع منه ويفزع،ويقول له بصوت مضطرب متلجلج:(الله يسلم يديك)0
وتحيرت ماذا أعمل:أأُبَلِّغُ الشرطة،أو أدعهم وأمضي إلى داري لا عَلَيّ ولا لي؟ثم رأيتُ أنّ خير ما أفعل أن أكتب وصف ما رأيت،وأبعث به للصحافة والإذاعة ويعرفه الناس0
وهاأنذا أتّهم هذا الرجل بالقتل،وأدعو الحكومة إلى القبض عليه حتى يُعاقب ويكون عبرة لمن يعتبر،ولا يحسبنّ أحد أنّ القصة خياليّة أو مكذوبة،فالقاتل موجود في دكانه،يغدو إليها ويروح إلى بيته،والقصة صحيحة رأيتها بعيني رأسي وأنا سالم العقل غير مجنون ولا معتوه،مُتيقظ غير نائمٍ ولا حالم
هذه هي الحادثة الفظيعة التي رأيتها فكيف رآها الناس فلم يحفلوا بها ولم يهتموا لها؟هل فسدت الأخلاق وضاعت المروءات حتى لا ننكر الأمر المنكر،أم خارت العزائم،وانخلعت القلوب حتى لا نجرؤ على المجرم الظالم؟
وهل نامت الحكومة في الشام نومة أهل الكهف حتى ما تدري بالدم يسيل في شارع من أكبر شوارع دمشق
لقد سكت الجميع،حتى أنّ أقرباء القتيل قد ناموا عن دمه،وقعدوا عن الثأر له،ولم يتقدم أحد منهم شاكياً ولا مُدَّعِياً لأنّ القاتلَ كما قالوا عنه عازمٌ على ذبحهم كلهم إن قدر على ذلك،وماضيه حافلٌ بمثل هذه الجرائم0
فما سرّ هذا السكوت…؟
لقد علمتُ السرّ يا سادة
ذلك أنّ المسكين الشهيد كان خروفاً من خرفان الأضاحي، وأنّ القاتلَ كان جزّار (لحّام)الحارة،وأنّ الناس شاركوه في جُرمِه،فأكلوا لحم الذبيح مشويّاً ومطبوخاً وأكلتُ أنا معهم من لحمه الطيّب الشهيّ…ونسيتُ من طيب لحمه هذا المشهد
هذه هي سُنّة الحياة،يموت المسكين لنستمتع نحن بأكلة طيّبة…فكلوا منه أنتم أيضاً هنيئاً،واشربوا مريئاً….وكل عامٍ وأنتم بخير
فلسفة العيد
لما دفعَ إليَّ موزع الكتاب ، ورأيتُ على ظرفه اسم جريدة (البلاد) قرأته من عنوانه ، وعرفت قبل أن أفتحه أنَّ فيه تكليفاً بمقال ، ولكن ما عرفت ولا قدَّرت أن يكون المقال في الفلسفة .
وظننت أنَّ الأستاذ رئيس التحرير غلطَ فظنَّ اسمي (هنري برجسون) أو (وليم جيمس) ، أو أنَّ أحد أولاد الحـ...ـلال قد (اغتابني) عنده ، فقال له أني فيلسوف عظيم ، وهممت أن أعتذر .
وداخلني الغرور ، وقلتُ ما دامَ رئيس التحرير ، قد رآني أهلاً للكتابة في الفلسفة ، فأنا من الفلاسفة الكبار ، ولكني من التواضع أجهلُ مقدارَ نفسي ، وذكرتُ أنَّ في بطاقتي القديمة ، بطاقة مطبوعة سنة 1348هـ مكتوباً عليها تحت الاسم الكريم (أي اسمي) : بكـالوريس فلسفة ! ، وكنتُ قد اقتديت في ذلك بصديقي الدكتور زكي المحاسني الشاعر الكاتب ، وكان زكي قد نال الشهادة في الفلسفة قبلي بسنة واحدة ، وهو في مثل سني ، ولكنَّه يدَّعي أنَّ عمره ست وخمسون فقط ! .
وكنَّا قد تعلمنا أن الفلسفة كانت قديماً (تحضن) العلومَ كلَّها ، لمَّا كانت العلوم كالأطفال في سن الحضانة ، فكلما كبر علمَ و (بلغ) سنَّ الرشد استقلَّ عنها ، وكانت مناهج الفلسفة التي درسناها فيها علم النفس والأخلاق والاجتماع والمغيبات (ما وراء الطبيعة أي الميتافيزيك) وعلم الجمال وعلم المنطق بقسميه الصوري اليوناني والفكري ! .
أي أنَّ الفلسفة كانت على أيامنا مثل بريطانيا (التي كانت) العظمى ، فكبرت تلك العلوم فاستقلَّت ، وصَغُرت هي وقلَّت ، حتى لم يبقَ لبريطانيا التي كانت تحكم ربع سكان الأرض من ربع قرن ، إلا لندن وضواحيها! ، لأن إيرلندا لا يريدها أكثرها ، واسكتلندا لها تاريخها المُغاير لها ، و ويلز (حتى ويلز) تنطق كما سمعنا بغير لغتها .
إذن... إذن أنا فيلسوف حقاً ما دامَ رئيس التحرير وهو حجة في معرفة الرجال قد رآني أهلاً للكتابة وما دمت أحمل شهادة في الفلسفة وقد مرَّ عليها أربعون سنة ، ولم يبقَ عليَّ لأستكمل شروط الفلسفة كلها إلا أن أُطيلَ شعر رأسي وأركب على حمار أبيض ، كما فعل الأستاذ الزهاوي لما عملَ فيلسوفاً بعد أن كان شيخاً له جبة وعمامة !! .
وهذا سهل فتطويل الشعر يوفِّر أجرة الحلاق ، وركوب الحمار يغني عن السيارة ومشاكل السائقين... ولكن كيف (أتفلسف) في الكلام على العيد؟!
قرأتُ مرةً لأستاذ جامعي كبير فصلاً في (فلسفة) عبيد بن الأبرص ، وليست فلسفته مذهباً يفسر مشاكل الفكر ، أو يكشف خفايا النفس ، أو يزاحم فلسفة أرسطو وأفلاطون ، بل إنَّ فلسفته في قوله :
وكلُّ ذي غيبةٍ يؤوب *** وغائبُ الموتِ لا يؤوب
وهذا الكشف العظيم ! ، هو الذي أدهشَ الأستاذ الجامعي الكبير حتى جعلَ منه فلسفة ، عرفَ فيها هذا الأمرَ المخبأ ، وكشف هذا السر المتواري ، لأنَّ الناس كانوا يظنَّون أنَّ الميت يؤوب ، وأنه يموتُ اليوم ليعودَ غداً ، وأنَّهم يضعونه في القبر فيجدونه خارجاً من بئر المقبرة قاعداً في دلو الماء ، فجاء الشاعر الفيلسوف ابن الأبرص يؤكد لهم أنَّه لا يؤوب .
فهل تريدون فلسفة من هذا النوع؟!
هل أقولُ إنَّ الأيام تمرُّ متشابهة متشاكلة كما يمرُّ الجندي في العرض ، لباسهم واحد وزيهم واحد ، ثم يأتي القائد بثيابه المتفردة وأوسمته اللامعة ، وأنَّ العيدَ في الأيام كالقائد في الجند .
ولكن هذا تشبيه سخيف وليس فلسفة العيد .
أم أقول إنَّ أعياد الناس منها أعياد وطنية تُذكِّر بحادث رائع ، أو نصر بارع ، وأعياد موسمية ، كيوم النيروز ، وأعياد الربيع ، أو أعياد لهو ولعب ومتعة ، كأعياد البراقع (الكرنفال) ، وأعياد الفسوق الذي يسمى فناً ، وأعياد فيها مزيج من هذا وذاك ، تبدأ في العيد وتنتهي في المرقص ، وأنَّ لنا معشر المسلمين عيدين اثنين ، عيد الفطر وعيد الأضحى ، وأنهما عيدان دينيان ، فالفطر شكر لله على التوفيق للصيام ، والأضحى شكر لله على التوفيق للحج ، ولكن دين الإسلام يجمع الدنيا والآخرة ، ويطلب أداء حق الله ، وحق النفس ، وحق الأهل ، وحق الناس ، لذلك كان في العيد ، لبس جديد ، وبهجة الوجه ، وحلاوة القول ، وبسطة اليد ، وسعة في الإنفاق ، وأن يشمل بالخير القريب والجار .
فيكون عيدنا ثواباً من الله ، وألفة بين الناس ، وتعميماً للخير .
ولكن هذا الكلام ليس فلسفة العيد .
فما (فلسفة العيد) التي يطلب رئيس التحرير أن أكتبَ فيها؟!
هل أقول : إنَّ العيدَ في حقيقته عيـد القلب ، فإن لم تملأ القلوب المسرة ، ولم يترعها الرضا ، ولم تعمها الفرحة ، كان العيد مجرد رقم على (التقويم) .
إذا كان هذا هو العيد؟ فأين يا أخوتي هو العيد؟!
أين بهجة القلب ، وأين مسرَّة النفس ، وأين بهاءَ الأيام ، وهؤلاء هم العرب ، بل هؤلاء هم المسلمون كلهم ، في خلافٍ ونزاع ، وتهاترٍ وتخاصم ، قد اشتغلوا بهدم أنفسهم عن هدم عدوهم ، وألقي بأسهم بينهم ، وتركَ أكثرهم دينهم ، وتخلوا عن كريم خلالهم!!.
أين العيد وهذي حال المسلمين ، وكيف يبتسم القلب ، وهو يبكي دماً لما يرى ويسمع؟!..
وكيف نقول لمن نلقاه : كل عام وأنتم بخير ، وما نحن بخير هذا العام ، و لا كنا بخيرٍ العامَ الذي قبله؟! ، ولو أنه يجوز اليأس لقلت إننا لا ننتظر أن نكون بخير العام الذي بعدَه ، فلا تقولوا: (كلُّ عام وأنتم بخير) ، ولكن قولوا لمن تلقونه في هذا العيد : ما كلُّ عام وأنتم بشر!!..
فهل تكونُ هذه هي (فلسفة العيد) ؟!!
كل عام وانتم بخير