شمعة الحب
21-05-2006, 06:10 PM
http://static.flickr.com/3/5733903_4b17f5a70e_m.jpg
نورة.. فضيحتنا الجميلة
صالح الشهوان - 23/04/1427هـ
لا صرامة التقاليد ولا قساوة الظروف بقادرة على أن تقهر صيحة عشق ناهضة من الأعماق, وهذا ما حدث بالضبط في أواسط صحراء نجد، في قرية من قرى منطقة السر يقال لها "عين الصوينع" فقد ذابت امرأة اسمها "نورة الحوشان" عشقا وولها في زوجها الشاعر عبود بن سويلم من أهل بلدة "نفي". أسكنته هدب عينيها, صانت رائحته، صوته, خطوه في نسغ روحها، تنفسته حاضرا غائبا، وشوشت وجدها به لذرات الرمل والنسائم.
كانت "نورة" نخلة أوقفت ظلها الوارف ورطبها الجني لزوجها "عبود"، منحته فوق ما يحلم به الرجال من شغف وأكثر مما تستطيع الغيد بذله.. غير أن حماقات الرجال أصابع شيطانية كثيرا ما يفقأون بها أعينهم, ففي سورة من سورات غضب "عبود" صاح: "أنت طالق" فسقطت السماء على الأرض، طحنت الطلقة "نورة" فادلهم الكون وجلجل عويل موسيقى جنائزية في الآفاق.
عشق نورة كان فصلا نادرا في كتاب العشق العربي الأعرابي، فقد أبت نورة الرضوخ للأعراف والانصياع للتقاليد، أو أن فورة عشقها الطاهر الصادق أبت إلا أن تزج بالبلاد كلها في محيط دمعها، فقد ظل وجدها لعبود متقداً (على الرغم من أنها كانت قد تزوجت ابن أخيه بعد طلاقها منه) كان الوجد همهمة حتى ساقتها قدماها ذات يوم لتمر قرب مزرعة "عبود" ففاجأها مخاض العشق فآوت إلى الشعر:
(يا عين هلي صافي الدمع هليه / وإلى قضى صافيه هاتي سريبه
يا عين شوفي زرع خلك وراعيه / هذي معاويده وهذي قليبه
يمرني بالسوق ما أقدر أحاكيه / مصيبة يا كبرها من مصيبة
اللي يبنا عيت النفس تبغيه / واللي نبي عيا البخت لا يجيبه).
شاعت القصيدة كالفضيحة الجميلة، سارت بذكرها الركبان وأضاءت ليالي السمر حتى يومنا هذا.
فكيف جرؤت امرأة من قاع الجزيرة على تحطيم التابو القبلي الغضوب وخطت في رملها مكاشفة عن حبها وأعلنت على الملأ دون مواربة أن مأساتها تتلخص في أنها لا تريد من يريدها وأن من تريده حال دونه سوء الحظ؟
لا يمكن أن تقدم امرأة قبل أكثر من قرن على تعرية ذاتها على هذا النحو المذهل في بيئة صارمة الحفاظ ما لم تكن تحت وطأة عشق لا يقاوم وعزة نفس لا تبالي.
لماذا أقول هذا؟ لأن موقفنا نحن العرب الأعراب من الحب غريب عجيب. نتنهد بحرارة، نتوجع بمرارة، تطفر دموعنا حين نقرأ أو نسمع حكاية عشق, بل تقدح عيوننا شررا, تنتفخ صدورنا غلا ونتميز من الغضب على من وأد الحب, لكننا حين يحوم العشق حول حمانا, يرتج علينا، يركبنا جن القصاص وأبالسة الثأر لإهدار دم العاشق والعشيقة.
كل تاريخ العشق العربي الأعرابي سجل من المنع والقمع والحكم على العاشقين باللعنة المؤبدة .. دونكم: عنترة وعبلة، قيس وليلى، عروة وعفراء, جميل وبثينة، كثير وعزة، وملايين غيرهم من السابقين واللاحقين في الحواضر والبوادي من جدة إلى طنجة فدائما يقف السياف "مسرور" جاهزاً لحز رقبة العشق على حد تعبير نزار قباني:
"ملايين من السنوات
والسياف مسرور
مقيم في مدينتنا
آراه في ثياب أبي
أراه في ثياب أخي
فكل رجال بلدتنا
هم السياف مسرور".
لقد تناول الناقد السوري يوسف اليوسف ظاهرة العشق العذري, سماها "الحب المقموع" الأمر عندي يتعدى القمع ففي كل البيوت العربية حين يعلن الحب عن نفسه تدور رحى الحرب, يصبح المحبون مضغة في أفواه القرية كلها أو المدينة. يظل الحب رائعا, جميلا, هدفا تجريديا ساميا، نتغنى به, نتشدق بضرورته .. إنما حين يدق أبوابنا نفتل شواربنا ونفزع للنزال.
هذا موقف يتجاوز القمع الذي أشار إليه الأستاذ يوسف اليوسف، إنه تعبير عن فصام الذات العربية الأعرابية, أي الطلاق المزمن بين القول والفعل، بين المتخيل والحقيقي، بين اللفظ والسلوك، وبالجملة هو نفاق داخلنا لخارجنا.
هذا يعني أننا هاربون من ذواتنا، نبدد حياتنا في معارك عبثية لفصل الروح عن الجسد, الكلمات عن المعنى, القلوب عن الخفقان, العيون عن النظر، السمع عن الإنصات، نختار الغياب على الحضور لذلك خف وزننا، على الرغم من أننا أكثر من مائتي مليون.. لكننا غثاء كغثاء السيل!!
نورة.. فضيحتنا الجميلة
صالح الشهوان - 23/04/1427هـ
لا صرامة التقاليد ولا قساوة الظروف بقادرة على أن تقهر صيحة عشق ناهضة من الأعماق, وهذا ما حدث بالضبط في أواسط صحراء نجد، في قرية من قرى منطقة السر يقال لها "عين الصوينع" فقد ذابت امرأة اسمها "نورة الحوشان" عشقا وولها في زوجها الشاعر عبود بن سويلم من أهل بلدة "نفي". أسكنته هدب عينيها, صانت رائحته، صوته, خطوه في نسغ روحها، تنفسته حاضرا غائبا، وشوشت وجدها به لذرات الرمل والنسائم.
كانت "نورة" نخلة أوقفت ظلها الوارف ورطبها الجني لزوجها "عبود"، منحته فوق ما يحلم به الرجال من شغف وأكثر مما تستطيع الغيد بذله.. غير أن حماقات الرجال أصابع شيطانية كثيرا ما يفقأون بها أعينهم, ففي سورة من سورات غضب "عبود" صاح: "أنت طالق" فسقطت السماء على الأرض، طحنت الطلقة "نورة" فادلهم الكون وجلجل عويل موسيقى جنائزية في الآفاق.
عشق نورة كان فصلا نادرا في كتاب العشق العربي الأعرابي، فقد أبت نورة الرضوخ للأعراف والانصياع للتقاليد، أو أن فورة عشقها الطاهر الصادق أبت إلا أن تزج بالبلاد كلها في محيط دمعها، فقد ظل وجدها لعبود متقداً (على الرغم من أنها كانت قد تزوجت ابن أخيه بعد طلاقها منه) كان الوجد همهمة حتى ساقتها قدماها ذات يوم لتمر قرب مزرعة "عبود" ففاجأها مخاض العشق فآوت إلى الشعر:
(يا عين هلي صافي الدمع هليه / وإلى قضى صافيه هاتي سريبه
يا عين شوفي زرع خلك وراعيه / هذي معاويده وهذي قليبه
يمرني بالسوق ما أقدر أحاكيه / مصيبة يا كبرها من مصيبة
اللي يبنا عيت النفس تبغيه / واللي نبي عيا البخت لا يجيبه).
شاعت القصيدة كالفضيحة الجميلة، سارت بذكرها الركبان وأضاءت ليالي السمر حتى يومنا هذا.
فكيف جرؤت امرأة من قاع الجزيرة على تحطيم التابو القبلي الغضوب وخطت في رملها مكاشفة عن حبها وأعلنت على الملأ دون مواربة أن مأساتها تتلخص في أنها لا تريد من يريدها وأن من تريده حال دونه سوء الحظ؟
لا يمكن أن تقدم امرأة قبل أكثر من قرن على تعرية ذاتها على هذا النحو المذهل في بيئة صارمة الحفاظ ما لم تكن تحت وطأة عشق لا يقاوم وعزة نفس لا تبالي.
لماذا أقول هذا؟ لأن موقفنا نحن العرب الأعراب من الحب غريب عجيب. نتنهد بحرارة، نتوجع بمرارة، تطفر دموعنا حين نقرأ أو نسمع حكاية عشق, بل تقدح عيوننا شررا, تنتفخ صدورنا غلا ونتميز من الغضب على من وأد الحب, لكننا حين يحوم العشق حول حمانا, يرتج علينا، يركبنا جن القصاص وأبالسة الثأر لإهدار دم العاشق والعشيقة.
كل تاريخ العشق العربي الأعرابي سجل من المنع والقمع والحكم على العاشقين باللعنة المؤبدة .. دونكم: عنترة وعبلة، قيس وليلى، عروة وعفراء, جميل وبثينة، كثير وعزة، وملايين غيرهم من السابقين واللاحقين في الحواضر والبوادي من جدة إلى طنجة فدائما يقف السياف "مسرور" جاهزاً لحز رقبة العشق على حد تعبير نزار قباني:
"ملايين من السنوات
والسياف مسرور
مقيم في مدينتنا
آراه في ثياب أبي
أراه في ثياب أخي
فكل رجال بلدتنا
هم السياف مسرور".
لقد تناول الناقد السوري يوسف اليوسف ظاهرة العشق العذري, سماها "الحب المقموع" الأمر عندي يتعدى القمع ففي كل البيوت العربية حين يعلن الحب عن نفسه تدور رحى الحرب, يصبح المحبون مضغة في أفواه القرية كلها أو المدينة. يظل الحب رائعا, جميلا, هدفا تجريديا ساميا، نتغنى به, نتشدق بضرورته .. إنما حين يدق أبوابنا نفتل شواربنا ونفزع للنزال.
هذا موقف يتجاوز القمع الذي أشار إليه الأستاذ يوسف اليوسف، إنه تعبير عن فصام الذات العربية الأعرابية, أي الطلاق المزمن بين القول والفعل، بين المتخيل والحقيقي، بين اللفظ والسلوك، وبالجملة هو نفاق داخلنا لخارجنا.
هذا يعني أننا هاربون من ذواتنا، نبدد حياتنا في معارك عبثية لفصل الروح عن الجسد, الكلمات عن المعنى, القلوب عن الخفقان, العيون عن النظر، السمع عن الإنصات، نختار الغياب على الحضور لذلك خف وزننا، على الرغم من أننا أكثر من مائتي مليون.. لكننا غثاء كغثاء السيل!!