المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السوق العُصابية لديها أمور كثيرة للقلق بشأنها



شمعة الحب
06-06-2006, 09:53 PM
السوق العُصابية لديها أمور كثيرة للقلق بشأنها
- مارتن وولف - 10/05/1427هـ
اعتاد بنجامين جراهام، أستاذ وارين بوفيت، أن يحذر من أن الشخص الذي أطلق عليه "السيدة السوق" هو امرأة عصابية متقلبة المزاج، بين التفاؤل المذهل والاكتئاب الذي يسيطر عليها أحياناً سيطرة تامة. وفي الوقت الراهن تنتقل هذه السيدة من اللامبالاة إلى القلق، أي من الموجودات الخطرة نحو النقد، أو حتى نحو استثمار التحوط التقليدي؛ الذهب.
والسيدة السوق لديها أسباب تدعوها للقلق. ذلك أن الجمع الجاري حالياً بين التقييمات العالية والعالية جداً للموجودات الحقيقية (مثل المساكن والأسهم)، وتدني العوائد اللازمة لتبرير المخاطرة في الموجودات الخطرة قياساً إلى الموجودات غير الخطرة (مثل تفضيل السندات من الأسواق الناشئة والشركات على سندات الخزينة الأمريكية)، وارتفاع الأسعار الحقيقية للسلع (خصوصاً النفط)، والتغيرات الهائلة في أنماط الادخار والاستثمار والتمويل في مختلف أنحاء العالم (كما يظهر من "الاختلالات" العالمية والمديونية المتصاعدة في قطاعات الإسكان، خصوصاً في الولايات المتحدة)، كل أولئك يعتبر سبباً قوياً للشعور بالتوتر.
فلماذا وصلت الأسواق إلى هذا الوضع المكشوف؟ الجواب عن هذا السؤال هو أن النجاح يفسح المجال أمام الإسراف والمبالغة. وهذه هي الحجة التي قام عليها بحث جديد ماتع للغاية من تأليف وليم وايت، المستشار الاقتصادي لبنك التسويات الدولية.*
يجادل وايت بأن السياسة النقدية الرامية إلى فرض حالة من الاستقرار على التضخم على المدى المتوسط يمكن أن تؤدي عملياً إلى زعزعة الاستقرار في هذا المجال على المدى الطويل. والذي حدث هو أن التغيرات المفيدة التي طرأت على الاقتصاد العالمي، مثل هبوط أسعار النفط بعد عام 1985، وانهيار أسعار أجهزة وبرامج الكمبيوتر والاتصالات، وهبوط أسعار منتجات التصدير من الصين، وتحرير الاقتصادات، هذه التغيرات أدت إلى تخفيف حدة ضغوط التضخم.
وكان ذلك مبرراً لاتباع سياسات نقدية منفتحة. لكن هذه السياسات ساعدت على نفخ سلسلة من فقاعات أسعار الموجودات في الأنظمة المالية المحررة، وأبرزها في اليابان في الثمانينيات، وفي اقتصادات الأسواق الناشئة، خصوصاً في شرق آسيا، في أواخر التسعينيات، وأخيراً في اقتصادات الدول ذات المداخيل العالية في أمريكا الشمالية وأوروبا.
وفي البيئة ذات التضخم المنخفض واصلت الحكومات أيضاً اتباع المزيد من سياسات التحفيز النقدي للتعامل مع الآثار المترتبة على كل انهيار يصيب أسعار الموجودات. والذي يحدث في نهاية الأمر هو أنه قد تكون هناك ضرورة للتضخم أو شطب الأموال على نطاق واسع حتى تعود قيمة الدخل والموجودات والديون إلى الوضع السليم.
ويلاحظ وايت أن التاريخ يوضح نقطة مهمة، هي أن "وجود فترة سابقة من استقرار الأسعار لا يكفي لتجنب وقوع حالات خطيرة من الهبوط في الاقتصاد الكلي". مثلا، لم تسبق معدلات التضخم المرتفعة وقوع الكساد العظيم في الولايات المتحدة في الثلاثينيات، ولا عقد التسعينيات الضائع في اليابان، ولا أزمات الأسواق الناشئة في شرق آسيا عامي 1997 و1998، وإنما الذي سبق جميع هذه الأحداث الخطيرة كان وجود طفرات استثمارية مدفوعة بالائتمان في عهد تميز باستقرار التضخم.
وجادل الاقتصادي النمساوي فريدريش هايك في الثلاثينيات بأن هذا العامل كان أيضاَ السبب وراء الكساد العظيم في الولايات المتحدة. وهذه الطريقة في تحليل الأمور اختفت عن الأنظار في بيئة الخمسينيات والستينيات. ويجادل وايت بأن الوقت قد حان للنظر إلى الأمور بذلك المنظار من جديد، ذلك أن "مزيجاً من التغيرات التكنولوجية وتحرير القطاعات أدى إلى عملية متسارعة اتسمت بعدم إيداع الأموال في البنوك وإنما تحويلها نحو استثمارات أخرى، وإلى الاعتماد المتزايد على عمليات السوق، وإلى العولمة واندماج المؤسسات. وباختصار، لدينا الآن نظام مالي محرر يبدو أنه يميل ميلاً كبيراً إلى الاتصاف بحالة من الطفرة ثم الانهيار أكثر من النظام السابق، الذي كان يقبع تحت ضغط التشريعات والسيطرة الحكومية".
ويفسر وايت ما يقصده بالطفرات التي تتبعها انهيارات على النحو التالي: "حين تشعر السوق بالتفاؤل القائم على أساس سليم بخصوص تطور معين، ينتشي وضع الائتمان ويتسع نطاق التعاملات الائتمانية، وهذا بدوره يدفع بأسعار الموجودات التي اشتريت بفعل العمليات الائتمانية المذكورة إلى الأعلى. ويؤدي ذلك إلى تشجيع الاستثمار الثابت، وزيادة قيمة الضمانات الإضافية على القروض، الأمر الذي يوفر أرضية للمزيد من العمليات الائتمانية. ومع مرور الوقت، تؤدي هذه العملية، التي تتقوى بالزيادة المصاحبة في نمو الناتج، إلى ازدياد القابلية للمجازفة ("النشوة غير العقلانية" على حد تعبير ألان جرينسبان)، الذي يعطي بدوره زخماً للدورة الائتمانية. وبالتالي، حين يخيب في النهاية أمل أصحاب التوقعات المبالغ فيها بشأن المخاطرة والعوائد، تدخل العملية كلها في وضع الغيار العكسي وتأخذ في العودة إلى الوراء".
وكلما طال أمد الاستقرار الاقتصادي الكلي، ازدادت إمكانية الإسراف الناجم عن هذا الاستقرار من حيث الاستثمار والاقتراض. وما أصاب اليابان في الثمانينيات خير دليل على هذا الخطر.
يثير هذا التحليل ثلاثة أسئلة: الأول، هل هو تحليل سليم؟ الثاني، إذا كان سليماً، فما الذي يفيدنا به حول الوضع الحالي للاقتصاد العالمي؟ الثالث، ما العبر التي نستخلصها من حيث السياسة الاقتصادية؟
جواب السؤال الأول أن التحليل معقول ومقنع. فقد شهدت السنوات الـ 25 الماضية عدداً كبيراً من الأزمات المالية التي سبقها تهاون في العمليات الائتمانية ومبالغة في الاستثمار. وكانت إحدى الاستجابات للوضع المتأزم مزيداً من التهاون في السياسة النقدية. وهناك استجابة لا تقل إمتاعاً عن ذلك، خصوصاً في شرق آسيا، وهي العودة إلى الاعتماد على أسعار تنافسية لصرف العملات وإلى النمو الاقتصادي القائم على التوسع في الصادرات. لكن الذي يحدث في هذه الحالة أن الزيادة في الدين الذي يعتمد عليه النمو الاقتصادي في البلدان المذكورة يحدث في بلدان أخرى، وبشكل مكثف في الولايات المتحدة.
وجواب السؤال الثاني أنه من الممكن أن تستمر هذه العملية لفترة طويلة، شريطة أن تظل معدلات التضخم منخفضة. ولن يتم الوصول إلى الحد النهائي (النقطة التي تنقلب عندها الأمور) إلا حين يصبح التضخم مشكلة خطيرة. وهناك احتمال بأن هذا الخطر قائم الآن. وهناك احتمال آخر، وهو أن هذه العملية لا تشكل خطراً إلا بالنسبة لبلد لديه عملة في وضع مهدد، مثل الولايات المتحدة. ذلك أن ارتفاع أسعار الذهب والسلع الأخرى يوحي بأن المخاوف من التضخم ربما تكون في حالة تزايد.
أما جواب السؤال الثالث فليس على هذا القدر من الوضوح. ويقترح وايت إعادة النظر في تحديد هدف ضيق للتضخم. ومن المبررات لهذا الإجراء هو أن النظام الحالي يقاوم الزيادات المفرطة في الثقة مقاومة محدودة. وهناك مبرر آخر هو أن اتباع سياسة نقدية من التسهيلات الكمية أثناء فترات الهبوط الاقتصادي يغلب عليها أن تكون نشطة بشكل غير متوازن. وهذا الإجراء يسمح ببقاء "رأس المال الميت الحي". ليس هذا فحسب، بل يشوه سلامة عمل الأسواق المالية، وحتى أسواق العالم بأسره في حالة تجارة المناقلة بالين الرخيص.
ومن الأسباب الأخرى الموجبة لإعادة النظر، كما يقترح وايت، أن الاستجابة لصدمات العرض من خلال تحديد هدف للتضخم تزيد من عدم استقرار الناتج، ويكون ذلك بأن تجعل الطلب يتوسع بشكل نشط استجابة لصدمة إيجابية في الأسعار، وأن تجعل الطلب يتقلص استجابة لصدمة سلبية في الأسعار. لكن أهم ما في الأمر هو أن الوقع التراكمي لاستهداف التضخم في ظل بيئة حميدة سيكون تشجيع التراكم المفرط للدين.
ومع ذلك، فإن طول أمد الاستقرار في التضخم والناتج، الذي تتمتع به أجزاء كبيرة في العالم، هو حجة ضد إجراء تغييرات جذرية في نظام السياسة الاقتصادية. ويجادل المدافعون عن النظام السائد الحالي بأن من الممكن التعامل مع الاضطرابات في النظام المالي وإدارتها بشكل سليم، طالما ظل التضخم تحت السيطرة.
وأنا أميل إلى الاعتقاد بأنه يجدر بصانعي السياسة، عند رسم السياسة النقدية، أن يأخذوا في الاعتبار إلى حد ما الاختلالات المالية الناشئة، بما في ذلك المديونية المتصاعدة. وعلى أية حال، ليس بمقدور المستثمر الحصيف تجاهل التطورات التي على هذه الشاكلة. ذلك أنه أثناء الطور التوسعي، فإن السيدة السوق، بفعل نشوتها من التوسع، تتجاهل دائماً تراكم المخاطر. لكنها تفتح عينيها عاجلاً أو آجلاً على حقيقة المخاطر، وتبدأ عندها على الفور بالشعور بالذعر. وهذا هو ما تفعله الآن. فالسيدة السوق تظل بشراً أولاً وقبل كل شيء. أليس كذلك؟
ــــــــــــــــــــــ

* "هل استقرار الأسعار أمر كاف؟" ورقة عمل رقم 205، من إصدار بنك التسويات الدولية.
http://www.bis.org



*Is Price Stability Enough? BIS Working Paper No. 205; http://www.bis.org