الأحمد
23-03-2012, 03:08 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في كتابه {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ..} الآيات.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وحجة على المخالفين، ومبشّراً بالجنّة مَن أطاعه واتّبع سبيله وسُنّته، ومنذراً بالنّار مَن عصاه وابتدع غير هداه.
أما بعد،
فإني لم أزل متحيراً فترة من الزمان مما يقوله ويكتبه بعض الناس من الشيوخ والدّعاة وغيرهم عبر وسائل الإعلام المختلفة، خاصة بعد التطوّرات المتلاحقة التي كشفت فيه كثير من حقائق الدول والأحزاب والشيوخ والدعاة.
وكنت أعجب من تتابع الجميع -إلا من ندر- على تأصيل أصول مخترعة في مسائل من الدين مهمة، كالولاء والبراء، والحكم على المخالفين من المبتدعة، وأحكام أهل الذمة والمعاهدين والمحاربين، وغيرها من المسائل التي أشبعت بحثاً وشرحاً وتأصيلاً وتفريعا في مصنفات الأئمة السابقين، في الفقه والتفسير وشروح الحديث وكتب السير والتاريخ، مما لا حاجة معه إلى مزيد بحث ولا تأصيل ولا تنظير، سوى التفقه فيما سطره أولئك الأئمة الأعلام والحكم على الوقائع المعاصرة بما يقتضيه الدليل ويوافق ذلك التأصيل.
غير أن هؤلاء الشرذمة المعاصرة ضربوا بتراث السابقين عرض الحائط وأعرضوا عن ما سطر هنالك، ولم يرفعوا رأساً بنص ولا أثر، ولم يعولوا على أصل ولا فرع معتبر.
وصرت تسمع الكلام الإنشائي يلقى على عواهنه، ليس فيه نقل واحد عن كتب الأسلاف، ولو وجد فلا يسلم من تحريف في اللفظ أو المعنى، أو كلاهما معاً، واستبدلت الألفاظ الشرعية الواضحة المعنى بأخرى ركيكة حمالة أوجهاً، يمكن تصريفها على أي معنى يوافق الهوى.
وأما النصوص الشرعية من الكتاب والسنة فيختار منها المتكلم ما يوافق الهوى ويلائم "فقه المرحلة"، وما كان منها صريحاً في مخالفة الهوى ومعارضة الفتوى حرف معناه وتفسيره، ابتغاء الفتنة والتلبيس على العامة.
قال الله عز وجل في أمثال هؤلاء : {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ .. الآية}، وقال : {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وقال : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ... الآية}، وقال : {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
والآيات في وصف أمثال هؤلاء أكثر من أن تحصر، ومن أعياه البحث فعليه بسورة براءة فإنها كفَت وشفَت وفضحَت.
دعاة التغريب
ومن تلك المسائل التي كثر طرحها الدعوة إلى "الحوار" و "التعايش السلمي" مع مختلف الشّرائع والملل، تحت شعار "الوحدة الإنسانية" و "المصالح المشتركة" و "الحرية والإخاء والمساواة"... وهذا المثلث الأخير هو شعار الماسونية الشهير.
وربما استدل شيوخ دعاة التقريب بمثل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}؛ على حرية اعتناق الأديان، وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}؛ على الإخاء والمساواة بين بني الإنسان. وغير ذلك من النصوص التي صرفوها عن سياقها، أو حرَّفوا دلالتها، مع أن هناك مئات النصوص في توضيح المعنى المراد وفي بيان؛ أن الله عز وجل لا يرضى غير الإسلام من العباد، وأن ما سواه من العقائد والأديان باطل ظاهر البطلان، حتى ما كان منزلاً من قبل على الأمم السابقة فإنه منسوخ بهذه الشريعة الخاتمة.
قال الله تعالى : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ..}
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : (أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين ديناً وذاتاً بنفي المشركين الذين هم نجس ديناً عن المسجد الحرام ..).
وسمى الله عز وجل اليهود والنصارى وسائر أهل الأرض -من غير المسلمين- كفاراً في آيات كثيرة، وأمر بمعاداتهم وبغضهم والبراءة منهم ظاهراً وباطنا، ً كما أمر بقتالهم حتى يؤمنوا، فقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، وأقر أهل الكتاب خاصة من دون بقية الكفار على الجزية، يعطونها بذل وصغار، فقال: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
قال ابن كثير في تفسيره: ({حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} أي إن لم يسلموا {عَن يَدٍ} أي عن قهر لهم وغلبة {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي ذليلون حقيرون مهانون. فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صغرة أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه"، ولهذا اشترط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم...).
ثم ساق ابن كثير شروط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على النصارى، ومنها :
1/ أن لا يظهروا شركاً.
2/ وأن يوقروا المسلمين ويقوموا لهم من مجالسهم إن أرادوا الجلوس.
3/ وأن لا يتشبهوا بالمسلمين في شي من ملابسهم.
4/ ولا يتخذوا شيئاً من السلاح ولا يحملوه معهم..
إلى آخر الشروط العمرية التي أعرض عنها أهل هذا الزمان، كما أعرضوا عن كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وعكسوا الأمور فأذلوا المسلمين الصالحين وعظموا الكافرين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُود عُزَيْر اِبْن الله وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيح اِبْن الله .. الآية} : (وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود والنصارى لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة والفرية على الله تعالى ..).
قال ابن قدامة في المغني : (13/208) (مسألة؛ قال : "ومن سِواهم فالإسلام أو القتل"، يعني مَن سِوى اليهود والنصارى والمجوس لا تقبل منهم الجزية ولا يقرون بها، ولا يقبل منهم إلا الإسلام، فإن لم يسلموا قتلوا) اهـ.
ودعوى الإخاء والمساواة بين الناس كلهم -مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وفاجرهم- دعوى مناقضة لكتاب الله ودينه وشرعه.
قال الله عز وجل : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}، وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}، وقال :{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ}.
وقد ميز الله عز وجل بين عباده، حتى المؤمنين منهم، فلم يجعلهم سواءً، قال الله عزل وجل : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ}، وقال : {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَهُ الْحُسْنَى ..}، وقال : {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} إلى غير ذلك من الآيات البينات المحكمات.
فمن ينادي بالمساواة والإخاء بين بني الإنسان؛ كذاب مفتر على الله معاند لحكمه وشرعه وقدره، ومثله لا يعول على كلامه ولا يلتفت إليه، إلا بنقضه وكشف زيفه، كائناً من كان.
قلت : لم أكن أظن أن يصل بنا الأمر إلى الاشتغال بتوضيح الواضحات وشرح المسلَّمات، حتى نبتت هذه النابتة من "التقريبيين" وهم أقرب شبهاً بإخوان لهم من قبل من دعاة "التغريب" ممن بليت بهم الأمة أيما بلاء طيلة قرن من الزمان.
جاء في الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة في ذكر " التغريب " [ص 145] ما نصه: (التغريب هو تيار كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبغ حياة الأمم بعامة والمسلمين بخاصة بالأسلوب الغربي وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية) اهـ.
ثم سردت الموسوعة أشهر دعاة التغريب، ومنهم؛ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين، ومعظمهم منتسبون للعلم والمشيخة خاصة الأفغاني ومحمد عبده، وأثر مدرستهما ظاهر في كثير ممن جاء بعدهما من أدعياء العلم والمشيخة والفتوى.
وجاء في الموسوعة ذكر أفكار ومعتقدات أولئك "التغريبيين"، ومنها :
1/ تشجيع فكرة إيجاد فكر إسلامي متطور يبرر الأنماط الغربية لمحو الطابع المميز للشخصية الإسلامية بغية إيجاد علائق مستقرة بين الغرب وبين العالم الإسلامي خدمة لمصالحه.
2/ الدعوة إلى الوطنية ودراسة التاريخ القديم والدعوة إلى الحرية باعتبارها أساس نهضة الأمة مع عرض النظم الاقتصادية الغربية عرضاً مصحوباً بالإعجاب.
3/ نشر فكرة العالمية والإنسانية التي يزعم أصحابها بأن ذلك هو السبيل إلى جمع الناس على مذهب واحد تزول معه الخلافات الدينية والعنصرية لإحلال السلام في العالم، لتصبح الأرض وطناً واحداً يدين بدين واحد ويتكلم بلغة واحدة وثقافة مشتركة، وذلك بغية تذويب الفكر الإسلامي واحتوائه في بوتقة الأقوياء المسيطرين أصحاب النفوذ العالمي...) اهـ [ص 150- 151].
قلت : فهذه الأفكار التي نادى بها "دعاة التغريب" بالأمس هي بعينها التي ينادي بها "دعاة التقريب" اليوم، وربما استبدلوا مصطلح "الحوار" بدلاً من "التقريب" ومؤدّاهما واحد.
فإن لا تكُنهُ أو يَكُنها فإنّه أخوها غذّته أمّها بلبانها.
ونظرة فاحصة فيما يكتبه ويقوله كثير من الدعاة اليوم -كخطاب المثقفين مثلاً- تظهر لك مدى التوافق العجيب بين الدعوتين، وإن كان ثمة فارق فهو في الأسماء والأشكال، فتلك نادى بها طه حسين ومحمد عبده والأفغاني، وهذه يصيح بها شيوخ الفضائيات اليوم.
والحاصل أن كل هذه الدعوات "الوطنية" و "التقريبية" التي ينادي بها مفكروا اليوم من شيوخ "الفضائيات" وفقهاء "القنوات" وأدعياء "الصحوة والتجديد" أو قل "الغفوة والتهديم"، هي عين ما دعا إليه أسلافهم من دعاة "التغريب" و "القومية"، وإن اختلفت بعض أصولهم وأفكارهم، إلا أن المؤدَّى واحد والنتيجة واحدة، وهي إلغاء التميز الديني والعقدي والاكتفاء بمجرد "الحوار" الذي لا يعني، في أحسن أحواله، سوى الاجتماع في القصور الفارهة وتبادل الأحاديث الودية والطرائف المسلية دون المساس بأي قضية تجرح مشاعر الطرف الآخر، ثم ينصرف كل إلى سبيله ويمضي إلى شئونه.
وسيكون لنا بحث طويل حول مسألة "الحوار" في موضع آخر إن مدّ الله في الأجل وسلَّم من أي عوائق.
وكما قيل في الدعوى السابقة -في المساواة بين المؤمنين والكافرين- يقال في دعوى المساواة بين المؤمنين وبين سائر المخالفين المنتسبين للإسلام من أهل الأهواء المارقين، فهي تضاد شرع الله وعدله وقضاءه، فقد فاضل الله بين المؤمنين المتبعين، بل فاضل بين الأنبياء والمرسلين، فكيف يسوي بين المتّبعين والمخالفين؟!
الحمد لله القائل في كتابه {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ..} الآيات.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وحجة على المخالفين، ومبشّراً بالجنّة مَن أطاعه واتّبع سبيله وسُنّته، ومنذراً بالنّار مَن عصاه وابتدع غير هداه.
أما بعد،
فإني لم أزل متحيراً فترة من الزمان مما يقوله ويكتبه بعض الناس من الشيوخ والدّعاة وغيرهم عبر وسائل الإعلام المختلفة، خاصة بعد التطوّرات المتلاحقة التي كشفت فيه كثير من حقائق الدول والأحزاب والشيوخ والدعاة.
وكنت أعجب من تتابع الجميع -إلا من ندر- على تأصيل أصول مخترعة في مسائل من الدين مهمة، كالولاء والبراء، والحكم على المخالفين من المبتدعة، وأحكام أهل الذمة والمعاهدين والمحاربين، وغيرها من المسائل التي أشبعت بحثاً وشرحاً وتأصيلاً وتفريعا في مصنفات الأئمة السابقين، في الفقه والتفسير وشروح الحديث وكتب السير والتاريخ، مما لا حاجة معه إلى مزيد بحث ولا تأصيل ولا تنظير، سوى التفقه فيما سطره أولئك الأئمة الأعلام والحكم على الوقائع المعاصرة بما يقتضيه الدليل ويوافق ذلك التأصيل.
غير أن هؤلاء الشرذمة المعاصرة ضربوا بتراث السابقين عرض الحائط وأعرضوا عن ما سطر هنالك، ولم يرفعوا رأساً بنص ولا أثر، ولم يعولوا على أصل ولا فرع معتبر.
وصرت تسمع الكلام الإنشائي يلقى على عواهنه، ليس فيه نقل واحد عن كتب الأسلاف، ولو وجد فلا يسلم من تحريف في اللفظ أو المعنى، أو كلاهما معاً، واستبدلت الألفاظ الشرعية الواضحة المعنى بأخرى ركيكة حمالة أوجهاً، يمكن تصريفها على أي معنى يوافق الهوى.
وأما النصوص الشرعية من الكتاب والسنة فيختار منها المتكلم ما يوافق الهوى ويلائم "فقه المرحلة"، وما كان منها صريحاً في مخالفة الهوى ومعارضة الفتوى حرف معناه وتفسيره، ابتغاء الفتنة والتلبيس على العامة.
قال الله عز وجل في أمثال هؤلاء : {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ .. الآية}، وقال : {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وقال : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ... الآية}، وقال : {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
والآيات في وصف أمثال هؤلاء أكثر من أن تحصر، ومن أعياه البحث فعليه بسورة براءة فإنها كفَت وشفَت وفضحَت.
دعاة التغريب
ومن تلك المسائل التي كثر طرحها الدعوة إلى "الحوار" و "التعايش السلمي" مع مختلف الشّرائع والملل، تحت شعار "الوحدة الإنسانية" و "المصالح المشتركة" و "الحرية والإخاء والمساواة"... وهذا المثلث الأخير هو شعار الماسونية الشهير.
وربما استدل شيوخ دعاة التقريب بمثل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}؛ على حرية اعتناق الأديان، وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}؛ على الإخاء والمساواة بين بني الإنسان. وغير ذلك من النصوص التي صرفوها عن سياقها، أو حرَّفوا دلالتها، مع أن هناك مئات النصوص في توضيح المعنى المراد وفي بيان؛ أن الله عز وجل لا يرضى غير الإسلام من العباد، وأن ما سواه من العقائد والأديان باطل ظاهر البطلان، حتى ما كان منزلاً من قبل على الأمم السابقة فإنه منسوخ بهذه الشريعة الخاتمة.
قال الله تعالى : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ..}
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : (أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين ديناً وذاتاً بنفي المشركين الذين هم نجس ديناً عن المسجد الحرام ..).
وسمى الله عز وجل اليهود والنصارى وسائر أهل الأرض -من غير المسلمين- كفاراً في آيات كثيرة، وأمر بمعاداتهم وبغضهم والبراءة منهم ظاهراً وباطنا، ً كما أمر بقتالهم حتى يؤمنوا، فقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، وأقر أهل الكتاب خاصة من دون بقية الكفار على الجزية، يعطونها بذل وصغار، فقال: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
قال ابن كثير في تفسيره: ({حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} أي إن لم يسلموا {عَن يَدٍ} أي عن قهر لهم وغلبة {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي ذليلون حقيرون مهانون. فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صغرة أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه"، ولهذا اشترط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم...).
ثم ساق ابن كثير شروط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على النصارى، ومنها :
1/ أن لا يظهروا شركاً.
2/ وأن يوقروا المسلمين ويقوموا لهم من مجالسهم إن أرادوا الجلوس.
3/ وأن لا يتشبهوا بالمسلمين في شي من ملابسهم.
4/ ولا يتخذوا شيئاً من السلاح ولا يحملوه معهم..
إلى آخر الشروط العمرية التي أعرض عنها أهل هذا الزمان، كما أعرضوا عن كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وعكسوا الأمور فأذلوا المسلمين الصالحين وعظموا الكافرين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُود عُزَيْر اِبْن الله وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيح اِبْن الله .. الآية} : (وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود والنصارى لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة والفرية على الله تعالى ..).
قال ابن قدامة في المغني : (13/208) (مسألة؛ قال : "ومن سِواهم فالإسلام أو القتل"، يعني مَن سِوى اليهود والنصارى والمجوس لا تقبل منهم الجزية ولا يقرون بها، ولا يقبل منهم إلا الإسلام، فإن لم يسلموا قتلوا) اهـ.
ودعوى الإخاء والمساواة بين الناس كلهم -مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وفاجرهم- دعوى مناقضة لكتاب الله ودينه وشرعه.
قال الله عز وجل : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}، وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}، وقال :{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ}.
وقد ميز الله عز وجل بين عباده، حتى المؤمنين منهم، فلم يجعلهم سواءً، قال الله عزل وجل : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ}، وقال : {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَهُ الْحُسْنَى ..}، وقال : {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} إلى غير ذلك من الآيات البينات المحكمات.
فمن ينادي بالمساواة والإخاء بين بني الإنسان؛ كذاب مفتر على الله معاند لحكمه وشرعه وقدره، ومثله لا يعول على كلامه ولا يلتفت إليه، إلا بنقضه وكشف زيفه، كائناً من كان.
قلت : لم أكن أظن أن يصل بنا الأمر إلى الاشتغال بتوضيح الواضحات وشرح المسلَّمات، حتى نبتت هذه النابتة من "التقريبيين" وهم أقرب شبهاً بإخوان لهم من قبل من دعاة "التغريب" ممن بليت بهم الأمة أيما بلاء طيلة قرن من الزمان.
جاء في الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة في ذكر " التغريب " [ص 145] ما نصه: (التغريب هو تيار كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبغ حياة الأمم بعامة والمسلمين بخاصة بالأسلوب الغربي وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية) اهـ.
ثم سردت الموسوعة أشهر دعاة التغريب، ومنهم؛ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين، ومعظمهم منتسبون للعلم والمشيخة خاصة الأفغاني ومحمد عبده، وأثر مدرستهما ظاهر في كثير ممن جاء بعدهما من أدعياء العلم والمشيخة والفتوى.
وجاء في الموسوعة ذكر أفكار ومعتقدات أولئك "التغريبيين"، ومنها :
1/ تشجيع فكرة إيجاد فكر إسلامي متطور يبرر الأنماط الغربية لمحو الطابع المميز للشخصية الإسلامية بغية إيجاد علائق مستقرة بين الغرب وبين العالم الإسلامي خدمة لمصالحه.
2/ الدعوة إلى الوطنية ودراسة التاريخ القديم والدعوة إلى الحرية باعتبارها أساس نهضة الأمة مع عرض النظم الاقتصادية الغربية عرضاً مصحوباً بالإعجاب.
3/ نشر فكرة العالمية والإنسانية التي يزعم أصحابها بأن ذلك هو السبيل إلى جمع الناس على مذهب واحد تزول معه الخلافات الدينية والعنصرية لإحلال السلام في العالم، لتصبح الأرض وطناً واحداً يدين بدين واحد ويتكلم بلغة واحدة وثقافة مشتركة، وذلك بغية تذويب الفكر الإسلامي واحتوائه في بوتقة الأقوياء المسيطرين أصحاب النفوذ العالمي...) اهـ [ص 150- 151].
قلت : فهذه الأفكار التي نادى بها "دعاة التغريب" بالأمس هي بعينها التي ينادي بها "دعاة التقريب" اليوم، وربما استبدلوا مصطلح "الحوار" بدلاً من "التقريب" ومؤدّاهما واحد.
فإن لا تكُنهُ أو يَكُنها فإنّه أخوها غذّته أمّها بلبانها.
ونظرة فاحصة فيما يكتبه ويقوله كثير من الدعاة اليوم -كخطاب المثقفين مثلاً- تظهر لك مدى التوافق العجيب بين الدعوتين، وإن كان ثمة فارق فهو في الأسماء والأشكال، فتلك نادى بها طه حسين ومحمد عبده والأفغاني، وهذه يصيح بها شيوخ الفضائيات اليوم.
والحاصل أن كل هذه الدعوات "الوطنية" و "التقريبية" التي ينادي بها مفكروا اليوم من شيوخ "الفضائيات" وفقهاء "القنوات" وأدعياء "الصحوة والتجديد" أو قل "الغفوة والتهديم"، هي عين ما دعا إليه أسلافهم من دعاة "التغريب" و "القومية"، وإن اختلفت بعض أصولهم وأفكارهم، إلا أن المؤدَّى واحد والنتيجة واحدة، وهي إلغاء التميز الديني والعقدي والاكتفاء بمجرد "الحوار" الذي لا يعني، في أحسن أحواله، سوى الاجتماع في القصور الفارهة وتبادل الأحاديث الودية والطرائف المسلية دون المساس بأي قضية تجرح مشاعر الطرف الآخر، ثم ينصرف كل إلى سبيله ويمضي إلى شئونه.
وسيكون لنا بحث طويل حول مسألة "الحوار" في موضع آخر إن مدّ الله في الأجل وسلَّم من أي عوائق.
وكما قيل في الدعوى السابقة -في المساواة بين المؤمنين والكافرين- يقال في دعوى المساواة بين المؤمنين وبين سائر المخالفين المنتسبين للإسلام من أهل الأهواء المارقين، فهي تضاد شرع الله وعدله وقضاءه، فقد فاضل الله بين المؤمنين المتبعين، بل فاضل بين الأنبياء والمرسلين، فكيف يسوي بين المتّبعين والمخالفين؟!