الأغر
07-05-2012, 12:23 AM
إن أول واضع لخطة الفتوحات الإسلامية في أوربا هو الخليفة الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، إذ ندب عبد الله بن سعد بن أبي سرح لفتح بلاد شمال أفريقيا، ووافته البشائر بفوز جيوشه على النصارى، فندب عبد الله بن عبد القيس وعبد الله بن نافع وكانا على الأسطول، فأمرهما بالمسير إلى الأندلس، وكتب لهما في ذلك تلك الوصية الرائعة التي يقول فيها: "إن القسطنطينية تفتح من قبل الأندلس، وإنكم إن فتحتم ما أنتم بسبيله تكونوا شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر". وقد اتخذ ولاة شمال أفريقيا وقواد أجنادها هذه الوصية نبراساً لسياستهم الإسلامية التي يسيرون عليها، فهي تعني حصار القسطنطينية من البر الأوربي، وتفيد في إضعاف المدد الممكن للقسطنطينية عند حصارها.
وأول أمير شرع في إعداد الوسائل والمعدات لتنفيذ تلك الوصية، الأمير حسان بن النعمان، وذلك بعد أن دان له شمال أفريقيا بالطاعة، فقد أنشأ في تونس دار الصناعة لبناء السفن والأساطيل وصُنع الأسلحة، وجلب لها الصنّاع من سكان مصر، وسار على منهاجه موسى بن نصير.
وكان بعدها أن اجتاز طارق بن زياد بتكليف من ابن نصير بجيوشه إلى الأندلس، حيث فتحها الله له، ووصل المسلمون إلى حدود فرنسا، ثم عبروا الحدود فاتحين، وجرت هناك معارك كثيرة، كان أهمها: "معركة بلاط الشهداء".
ولعل التاريخ الإسلامي كله لم يقدم إلينا حادثاً جللاً، كان له من الخطورة والأهمية وبُعد الأثر، ما كان لموقعة بلاط الشهداء، فلو لم يُردّ المسلمون في سهل "تور" لَمَا كانت ثمة أوربا نصرانية، بل لعله ما بقيت نصرانية على الإطلاق، ولكان الإسلام يسود أوربا، ولحكمة أرادها الله -عز وجل- كُسر المسلمون في هذه المعركة، وتوقف المد الإسلامي ولم يدخل أوربا، ولكن هل بلاط الشهداء نصر أم هزيمة؟.. هذا ما سنعرفه في ثنايا هذه المحاضرة!.
بطل معركة بلاط الشهداء القائد الشجاع والمحنك العجيب عبد الرحمن الغافقي -رحمه الله-، فمن هو هذا البطل؟.
إنه أبو سعيد عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغافقي، -نسبة إلى غافق، وهي قبيلة من الأزد من اليمن-، تابعي من أفذاذ الرجال، جمع إلى الشجاعة والإقدام العدل في الأحكام، والسهر على مصالح العباد، وبعد النظر في السياسة، قائد رشحه إيمانه وإمكاناته القيادية وعبقريته الحربية للقيادة، ولكن الظروف لم تتكافأ مع عبقريته العسكرية، و{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [(4) سورة الروم].
أخباره قليلة جداً، لا تتناسب مع الدور الكبير الذي قام به في تاريخنا الإسلامي، ويبدو أن كارثة بلاط الشهداء، التي ختمت حياة الغافقي، كانت أليمة الوقع عند مؤرخينا، فأوجزوا الكلام عنها قدر الطاقة، وأصاب الإيجاز سيرة عبد الرحمن، فتعمدوا الاكتفاء بمجرد الإشارة إليه، مع عظيم تقديرهم له.
رحل إلى أفريقيا، ثم وفد على سليمان بن عبد الملك بدمشق، وعاد إلى المغرب، فاتصل بموسى بن نصير وولده عبد العزيز، أيام إقامتهما في الأندلس، ظهرت براعته في إنقاذ الجيش الإسلامي من المطاردة عقب مقتل السمح بن مالك الخولاني في "طولوشة"، وتولى على إثر معركة "طولوشة" سنة: 102هـ، فانتقل إلى "أربونة"، فانتخبه المسلمون أميراً عليها، وأقره عامل أفريقيا، ولما نشأ خلاف بينه وبين عنبسة بن سحيم، عَزل عبد الرحمن وولي عنبسة مكانه، فصبر عبد الرحمن مدة يغزو مع الغزاة، إلى أن ولاّه هشام بن عبد الملك إمارة الأندلس سنة: 112هـ، فطاف أقاليم الأندلس، ينظر في مظالم الناس، ويقتص من القوي للضعيف، ويعزل الولاة الذين حادوا عن جادة الاستقامة، ويستبدل بهم ولاة معروفين بالعدل والنـزاهة، متأهباً لفتح بلاد الغال أو غاليا، والتي عرفت عند المسلمين باسم: "الأرض الكبيرة"، وهي فرنسا حالياً.
دعا عبد الرحمن المسلمين من اليمن والشام ومصر وأفريقيا إلى مناصرته، فأقبلت عليه الجموع المؤمنة المجاهدة، فازدحمت بهم قرطبة قاعدة الأندلس.
جمع القلوب وساد الوئام في جيشه، واستقبلت الأندلس عهداً جديداً بعد فتن، فقد كان عادلاً حليماً نقياً، رحب به جميع سكان الأندلس، كان حاكماً بارعاً ظهرت مواهبه الحربية في الغزوات، حكيماً قديراً في شؤون الحكم والإدارة، مصلحاً مستنيراً، يضطرم رغبة في الإصلاح، بل كان بلا ريب أعظم ولاة الأندلس وأقدرهم جميعاً.
رحبت الأندلس قاطبة بتعيين عبد الرحمن والياً عليها، وأحبه الجند لعدله ورفقه ولينه، وكان يمرن المجاهدين على استعمال السلاح، ويثير فيهم نخوة القتال، وجمعت هيبته كل القبائل؛ لأنه كان سليماً من النـزعة العصبية التي ابتلي بها غيره، ومن دلائل ذلك، أن عبيدة بن عبد الرحمن القيسي عامل أفريقيا المتعصب لقيسيته، أقامه على الأندلس وهو يمني من غافق، لذلك ساد الوئام في الإدارة والجيش، وعني بإصلاح الجيش، وتنظيمه عناية خاصة، فحشد الصفوف من مختلف الولايات، وأنشأ فرقاً جديدة مختارة من فرسان البربر بإشراف نخبة مؤمنة من الضباط العرب، وحصّن القواعد والثغور الشمالية.
وصف الحميدي عبد الرحمن بالصلاح، والسيرة الحميدة والعدل وحبه الشديد للجهاد في سبيل الله، وتحدثت المصادر الأوربية النصرانية عن شجاعته النادرة، ومقدرته الحربية العظيمة.
رضي الله عن عبد الرحمن وأرضاه، لئن كان عنبسة من طراز عقبة بن نافع، تستهويه الغارات البعيدة المدى والضربات المدوية، فإن عبد الرحمن من طراز حسان بن النعمان وطارق بن زياد، من طراز الفاتحين الذين يرسمون خطة الفتح الثابت المستقر، فيعمدون إلى مراكز المقاومة الفعلية ويهاجمونها لكي يتم الفتح، وتدخل البلاد في حوزة الإسلام.
فتح المسلمون الأندلس فتح استقرار وإقامة، فطبعت معالمها بالحضارة الإسلامية، وفكَّر موسى بن نصير في عبور جبال البرانس، لبسط السيادة الإسلامية على فرنسا، ومن ثمَّ الاتجاه شرقاً لفتح القسطنطينية معقل النصارى، ولكن الخليفة الوليد بن عبد الملك خشي من هذه المغامرة، إذ لم يحدث تاريخياً، أن جيشاً قد اخترق أوربا من الأندلس حتى شواطئ البحر الأسود دفعة واحدة، فاستدعى الوليد موسى وطارقاً.
ولما كانت ولاية السمح بن مالك الخولاني عام: 100هـ، الذي يشبَّه بعمر بن عبد العزيز في إسلامه وتقواه وخلقه، والذي وصفه ابن الأثير بأنه من أفاضل عرب أفريقيا ومن خيرة الولاة الذين تولوا أمر الأندلس، وأعاد الحماس إلى الجند الإسلامي لمعاودة الغزو في فرنسا، فنقل مركز الخلافة إلى قرطبة، لإعادة التنظيم الإداري، ولتأمين الجبهة الداخلية استعداداً للفتح خلف جبال البرانس.
سار السمح إلى أرض فرنسا، واتخذ "أربونة" قاعدة لعملياته الحربية في فرنسا، فأعاد ترميم الحصون، ودعَّمها بجند مسلمين، وتتبَّع مجرى نهر "الجارون"، واتجه غرباً حتى وصل "طولوشة" التي قاومت حتى وصلتها الإمدادات، وأخذ السمح يشد من أزر جنده المسلمين ويتلو عليهم بروح مؤمنة مستنيرة صادقة قوله تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} [(160) سورة آل عمران]، ولكن السمح أصيب بطعنة عميقة بالغة في المعركة التي دارت على أسوار "طولوشة" عام: 102هـ ففتّ ذلك من عضد الجند المسلمين، فارتدوا جنوباً، وهذه تعتبر أول نكسة للمسلمين في أرض فرنسا، وسقط السمح شهيداً، وانسحب المسلمون بعد أن فقدوا قائدهم المغوار البطل، وكان عبد الرحمن الغافقي أحد جنود السمح في هذه المعركة، فأجمع الجيش المسلم على اختياره للقيادة، ورأى من الحنكة أن يرجع إلى الجنوب، ولكن حزنه الأليم على مصرع السمح، واستشهاد رفاقه جعله يفكر جدياً في الانتقام لمصارع الأبطال، واستئناف الغزو والهجوم، وكانت تلك ولاية عبد الرحمن الأولى، التي لم تدم إلاّ بضعة أشهر.
عين عامل إفريقيا يزيد بن أبي مسلم، عنبسة بن سحيم الكلبي عام: 103هـ أميراً على الأندلس، فقضى عنبسة السنوات الأربع الأولى من إمارته في تنظيم أمور الأندلس، وتهدئتها وإنهاء الخلافات العصبية، ثم واصل حروبه في فرنسا، وسار على الساحل حتى وصل نهر "الرون"، وفي وادي الرون فتح مدناً كثيرة.
اكتسح المسلمون بقيادة عنبسة حوض "الرون"، بزحف ظافر علّق عليه مؤرخون معاصرون له، بأن الله قذف في قلوب الكفار الرعب، فلم يتصدَّ أحد منهم للمسلمين إلا لطلب الأمان، وفتح المسلمون المناطق الفرنسية الجنوبية والشرقية، ولم يجدوا مقاومة إلا في مدينة "سانس" الواقعة على بعد ثلاثين كيلو متراً فقط جنوبي "باريس"، وفيها تصدى أسقف المدينة للزحف الإسلامي، وكان قد استعد له من قبل، فحصن المدينة وحشد مواطنيه، فهبوا معه لحماية مدينتهم، ونجحوا في إيقاف الزحف الإسلامي.
أدرك عنبسة بعد هذا الزحف المظفر، -الذي أوصله إلى ضواحي باريس-، أنه توغل أكثر مما ينبغي، فخشي أن يقطع العدو خطوط تموينه أو طريق عودته، وبخاصة أنه سمع بانبعاث العصبية في الأندلس من جديد، ووقع خلاف فيما بين العرب والبربر، وهذا الذي شعر به عنبسة، كان حدساً صحيحاً، فبينما كان في طريق عودته داهمته جموع كبيرة من النصارى، فالتحم معهم، وأصيب بجراح بالغة في شعبان سنة: 107هـ، استشهد على إثرها، فعادت بقية الجيش بقيادة عذرة بن عبد الله الفهري إلى "أربونة".
وينبغي أن نلاحظ أن حملة عنبسة لم تكن في الحقيقة غير غارة بعيدة المدى ولو كان عنبسة على نية الفتح الثابت، لأتم الاستيلاء على ما غلب عليه من المدائن، ولأقام الحاميات في بعضها على عادة المسلمين في فتوحهم.
ومهما يكن من الأمر فإن عنبسة بن سحيم الكلبي ينفرد بين الفاتحين المسلمين بهذا الفخر، فخر الوصول برايات الإسلام إلى قلب أوربا الغربية ولم يدرك هذا الشأو بعد ذلك فاتح مسلم آخر.
استعد الغافقي استعداداً كبيراً لغزو فرنسا، وأعلن الدعوة للجهاد في سبيل الله، وأعلن هذه الدعوة في أفريقيا كما أعلنها في الأندلس، فتدفق عليه المتطوعون من كل ناحية، وتجمع لديه عدد ضخم من المجاهدين، بلغ ما بين سبعين إلى مائة ألف مجاهد، وبدأ تحركه في أوائل سنة: 114هـ.
جمع عبد الرحمن الغافقي المجاهدين وخرج باحتفال مهيب ليعبر جبال البرانس واتجه شرقاً ليضلل النصارى عن وجهته الحقيقية، فأخضع مدينة "أرل" التي خرجت عن طاعة المسلمين، ثم اتجه إلى "دوقية"، فانتصر على الدوق انتصاراً حاسماً، ومضى الغافقي في طريقه متتبعاً مجرى نهر "الجارون" ففتح "بردال" واندفع شمالاً ووصل إلى مدينة "بواتييه".
اهتزَّت أوربا من أقصاها إلى أقصاها لِسُقُوط نصف فرنسا الجنوبي كله في يدي عبد الرحمن الغافقي خلال بضعة أشهر، وفتح الفرنجة أعينهم على الخطر الداهم، ودبَّ الصريخ في كل مكان يدعو العجزة والقادرين إلى الوقوف في وجه هذا الهوْل القادم من الشَّرق ويَحُضُّهُمْ على التَّصَدِّي له بالصدور إذا عزَّت السيوف، ويدعوهم إلى سدِّ الطريق أمامه بالأجساد إذا انعدم العَتَاد، فاستجابت أوربا لدعوة الدَّاعي وأقبل الناس ومعهم الشَّجر والحَجَر والشَّوك والسِّلاح.
أصبح عجز الدوق واضحاً في مواجهة المسلمين، فاستصرخوا "شارل مارتل"، فلبى شارل النداء، وكان قبلها لا يحفل بحركات المسلمين في جنوب فرنسا بسبب الخلاف الذي بينه وبين الدوق الذي كان سببه طمع شارل بالدوقية، وبذلك توحدت قوى النصرانية للوقوف في وجه المسلمين، ورحب شارل بالفرصة ليبسط نفوذه على بلاد الدوق وأراضيها الواسعة، بعد أن شعر بالخطر الإسلامي.
اجتمع النصارى إلى "شارل مارتل"، وقالوا له: ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب؟! كنا نسمع بالمسلمين ونخافهم من مطلع الشمس حتى أتوا مغربها، واستولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد، بجمعهم القليل وقلة عدتهم، وكونهم لا دروع لهم.
فأجابهم: "الرأي عندي ألاّ تعترضوهم في خرجتهم هذه، فإنهم كالسيل يحمل ما يصادفه وهم في إقبال أمرهم، ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم، ويتخذوا المساكن، ويتنافسوا في الرئاسة، ويستعين بعضهم على بعض، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر".
قال المقري -رحمه الله-: فكان والله كذلك، بالفتنة التي طرأت بين الشاميين والذين جاؤوا من الحجاز، والبربر والعرب، والمضريَّة واليمنية وصار بعض المسلمين يستعين على بعض بمن يجاورهم من الأعداء!!.
وقد أدرك الغافقي هذه القضية وصارت تشغل فكره، وخاف من لهو جنده بالغنائم الكثيرة التي حصلوا عليها في معاركهم الأولى وكانوا يجرونها في أثناء زحفهم، وفكر جدياً في حملهم على تركها في أرضها لئلا تشغلهم عن القتال فتكون وبالاً عليهم، لكنه لم يشأ وهو في مأزق كذلك المأزق أن يغيظهم ويخسر بذلك توحد قلوبهم، وبقي واثقاً بشجاعتهم في القتال.
والحق أنه عندما وقف المسلمون في وجه النصارى، لم يكن سكان أوربا يتمنون خسارة المسلمين وهزيمتهم، لقد تمنى قسم كبير من سكان فرنسا انتصار المسلمين، بعدما سمعوا بتحسن حال الأسبان بعد دخولهم في حوزة المسلمين الفاتحين، حيث انتقلوا من الرق والضرائب المالية الباهظة إلى الحرية والعدالة والطمأنينة على أرواحهم وأموالهم.
كان عدد جيش النصارى أكبر من جيش المسلمين، فبينما كان النصارى سيلاً من الجند المتدفق، لم يكن الجيش المسلم يزيد على سبعين ألف مسلم في أصح الروايات، وقد يصل إلى مائة ألف في روايات أخرى، كان جُلّهم من البربر؛ لأن كثيرين من عرب أفريقيا والأندلس كانوا إذ ذاك في شغل بما انصرفوا إليه من المنازعات العصبية من ناحية، ومن الاستقرار في القرى والاشتغال بالزرع من ناحية أخرى، وهذا لا يعني عدم وجود أعداد من العرب مع الغافقي، فقد كان معه معظم اليمنيين؛ لأنه يمني، ولأن غالبية سكان نواحي إقليم "سرقسطة" كانوا من اليمن، ومنهم كانت غالبية العرب المحاربين في ناحية جبال البرانس وما يليها.
وكان موقف النصارى الاستراتيجي أيضاً أجود وأفضل، وبخاصة معرفتهم للمواقع، وألفتهم للتحرك فيها، ومعرفة دروب المنطقة، مع قدرة على القتال في جو شاتٍ مطير، تعودته جسومهم، وأرض موحلة ألفتها خيولهم.
وكذلك كان مدد النصارى البشري والتمويني قريباً، بينما المسلمون على بعد يجاوز ألف كيلومتر عن عاصمة الأندلس، كما أنهم بعيدون مسافات شاسعة جداً عن مركز الدولة الأموية، ويكفي أن يتصور الإنسان المسافة بين دمشق وجبل طارق وجبال البرانس، ليعلم أن الجيوش الإسلامية المحاربة في نواحي فرنسا كانت تقوم في الواقع بمغامرة أقرب إلى قصص الأساطير منها إلى حوادث التاريخ.
ولا ننسى الغنائم التي حملها الجيش الإسلامي: فالمسلمون حملوا الغنائم التي أخذوها من أيدي عدوهم، ولو أحسنوا لبعثوا نفراً منهم ليودعها "أربونة" أو "برشلونة" حتى يطمئنوا عليها، وتخلو أيديهم للعمل المقبل، وينتهي اشتغال فكرهم بها، ولكنهم حرصوا عليها أكثر من حرصهم على النصر، وانقلبت الغنائم إلى ثقل يرهقهم، أضعف حركتهم، فكانت الغنائم سبب هزيمتهم كما سيأتي.
انزعجت أوربا انزعاجاً صارخاً لتقدم الجيوش الإسلامية، وفزع زعماؤهم، فأرسلوا صيحاتهم الصليبية في آفاق أوربا، وبذلوا أقصى ما يقدرون عليه لإشعال نار الكراهية للإسلام، وتأكيد العداوة لرجاله، وكان ملك النصارى ضعيفاً عاجزاً، بينما يتولى حاجب القصر "شارل مارتل" قيادة أموره، فتجمع حوله الصليبيون، وقدموه قائداً للنصرانية.
ولما بلغ "شارل مارتل" نبأ قدوم الجيش الإسلامي اتخذ الأهبة، وأسرع للقاء المسلمين بنفس مشرئبة للظفر وجنود متطلعة للقتال، ولم يكتف بما لديه من النصارى في فرنسا، بل بعث يستقدم جنداً من حدود "الراين"، فأتته نجدات من جنود أجلاف أقوياء، يحاربون شبه عراة في مثل هذا الجو البارد، يلبسون جلود الذئاب والنمور، وتنسدل شعورهم الجعدة فوق أكتافهم العارية، يرسمون للوحشية البدائية صوراً مزعجة حمراء.
لقد اجتمع لشارل مارتل بذلك جيش كثيف، قادر على الثبات والمنازلة ضاقت بجموعه الكثيفة سهول فرنسا، فتقدم إلى شمال "بواتييه" في اتجاه "تور"، وفي "تور" التقى جيشان يختلفان عَدَداً وعُدَدَاً ولغةً وديناً وهدفاً وحضارةً.
تابع
وأول أمير شرع في إعداد الوسائل والمعدات لتنفيذ تلك الوصية، الأمير حسان بن النعمان، وذلك بعد أن دان له شمال أفريقيا بالطاعة، فقد أنشأ في تونس دار الصناعة لبناء السفن والأساطيل وصُنع الأسلحة، وجلب لها الصنّاع من سكان مصر، وسار على منهاجه موسى بن نصير.
وكان بعدها أن اجتاز طارق بن زياد بتكليف من ابن نصير بجيوشه إلى الأندلس، حيث فتحها الله له، ووصل المسلمون إلى حدود فرنسا، ثم عبروا الحدود فاتحين، وجرت هناك معارك كثيرة، كان أهمها: "معركة بلاط الشهداء".
ولعل التاريخ الإسلامي كله لم يقدم إلينا حادثاً جللاً، كان له من الخطورة والأهمية وبُعد الأثر، ما كان لموقعة بلاط الشهداء، فلو لم يُردّ المسلمون في سهل "تور" لَمَا كانت ثمة أوربا نصرانية، بل لعله ما بقيت نصرانية على الإطلاق، ولكان الإسلام يسود أوربا، ولحكمة أرادها الله -عز وجل- كُسر المسلمون في هذه المعركة، وتوقف المد الإسلامي ولم يدخل أوربا، ولكن هل بلاط الشهداء نصر أم هزيمة؟.. هذا ما سنعرفه في ثنايا هذه المحاضرة!.
بطل معركة بلاط الشهداء القائد الشجاع والمحنك العجيب عبد الرحمن الغافقي -رحمه الله-، فمن هو هذا البطل؟.
إنه أبو سعيد عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغافقي، -نسبة إلى غافق، وهي قبيلة من الأزد من اليمن-، تابعي من أفذاذ الرجال، جمع إلى الشجاعة والإقدام العدل في الأحكام، والسهر على مصالح العباد، وبعد النظر في السياسة، قائد رشحه إيمانه وإمكاناته القيادية وعبقريته الحربية للقيادة، ولكن الظروف لم تتكافأ مع عبقريته العسكرية، و{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [(4) سورة الروم].
أخباره قليلة جداً، لا تتناسب مع الدور الكبير الذي قام به في تاريخنا الإسلامي، ويبدو أن كارثة بلاط الشهداء، التي ختمت حياة الغافقي، كانت أليمة الوقع عند مؤرخينا، فأوجزوا الكلام عنها قدر الطاقة، وأصاب الإيجاز سيرة عبد الرحمن، فتعمدوا الاكتفاء بمجرد الإشارة إليه، مع عظيم تقديرهم له.
رحل إلى أفريقيا، ثم وفد على سليمان بن عبد الملك بدمشق، وعاد إلى المغرب، فاتصل بموسى بن نصير وولده عبد العزيز، أيام إقامتهما في الأندلس، ظهرت براعته في إنقاذ الجيش الإسلامي من المطاردة عقب مقتل السمح بن مالك الخولاني في "طولوشة"، وتولى على إثر معركة "طولوشة" سنة: 102هـ، فانتقل إلى "أربونة"، فانتخبه المسلمون أميراً عليها، وأقره عامل أفريقيا، ولما نشأ خلاف بينه وبين عنبسة بن سحيم، عَزل عبد الرحمن وولي عنبسة مكانه، فصبر عبد الرحمن مدة يغزو مع الغزاة، إلى أن ولاّه هشام بن عبد الملك إمارة الأندلس سنة: 112هـ، فطاف أقاليم الأندلس، ينظر في مظالم الناس، ويقتص من القوي للضعيف، ويعزل الولاة الذين حادوا عن جادة الاستقامة، ويستبدل بهم ولاة معروفين بالعدل والنـزاهة، متأهباً لفتح بلاد الغال أو غاليا، والتي عرفت عند المسلمين باسم: "الأرض الكبيرة"، وهي فرنسا حالياً.
دعا عبد الرحمن المسلمين من اليمن والشام ومصر وأفريقيا إلى مناصرته، فأقبلت عليه الجموع المؤمنة المجاهدة، فازدحمت بهم قرطبة قاعدة الأندلس.
جمع القلوب وساد الوئام في جيشه، واستقبلت الأندلس عهداً جديداً بعد فتن، فقد كان عادلاً حليماً نقياً، رحب به جميع سكان الأندلس، كان حاكماً بارعاً ظهرت مواهبه الحربية في الغزوات، حكيماً قديراً في شؤون الحكم والإدارة، مصلحاً مستنيراً، يضطرم رغبة في الإصلاح، بل كان بلا ريب أعظم ولاة الأندلس وأقدرهم جميعاً.
رحبت الأندلس قاطبة بتعيين عبد الرحمن والياً عليها، وأحبه الجند لعدله ورفقه ولينه، وكان يمرن المجاهدين على استعمال السلاح، ويثير فيهم نخوة القتال، وجمعت هيبته كل القبائل؛ لأنه كان سليماً من النـزعة العصبية التي ابتلي بها غيره، ومن دلائل ذلك، أن عبيدة بن عبد الرحمن القيسي عامل أفريقيا المتعصب لقيسيته، أقامه على الأندلس وهو يمني من غافق، لذلك ساد الوئام في الإدارة والجيش، وعني بإصلاح الجيش، وتنظيمه عناية خاصة، فحشد الصفوف من مختلف الولايات، وأنشأ فرقاً جديدة مختارة من فرسان البربر بإشراف نخبة مؤمنة من الضباط العرب، وحصّن القواعد والثغور الشمالية.
وصف الحميدي عبد الرحمن بالصلاح، والسيرة الحميدة والعدل وحبه الشديد للجهاد في سبيل الله، وتحدثت المصادر الأوربية النصرانية عن شجاعته النادرة، ومقدرته الحربية العظيمة.
رضي الله عن عبد الرحمن وأرضاه، لئن كان عنبسة من طراز عقبة بن نافع، تستهويه الغارات البعيدة المدى والضربات المدوية، فإن عبد الرحمن من طراز حسان بن النعمان وطارق بن زياد، من طراز الفاتحين الذين يرسمون خطة الفتح الثابت المستقر، فيعمدون إلى مراكز المقاومة الفعلية ويهاجمونها لكي يتم الفتح، وتدخل البلاد في حوزة الإسلام.
فتح المسلمون الأندلس فتح استقرار وإقامة، فطبعت معالمها بالحضارة الإسلامية، وفكَّر موسى بن نصير في عبور جبال البرانس، لبسط السيادة الإسلامية على فرنسا، ومن ثمَّ الاتجاه شرقاً لفتح القسطنطينية معقل النصارى، ولكن الخليفة الوليد بن عبد الملك خشي من هذه المغامرة، إذ لم يحدث تاريخياً، أن جيشاً قد اخترق أوربا من الأندلس حتى شواطئ البحر الأسود دفعة واحدة، فاستدعى الوليد موسى وطارقاً.
ولما كانت ولاية السمح بن مالك الخولاني عام: 100هـ، الذي يشبَّه بعمر بن عبد العزيز في إسلامه وتقواه وخلقه، والذي وصفه ابن الأثير بأنه من أفاضل عرب أفريقيا ومن خيرة الولاة الذين تولوا أمر الأندلس، وأعاد الحماس إلى الجند الإسلامي لمعاودة الغزو في فرنسا، فنقل مركز الخلافة إلى قرطبة، لإعادة التنظيم الإداري، ولتأمين الجبهة الداخلية استعداداً للفتح خلف جبال البرانس.
سار السمح إلى أرض فرنسا، واتخذ "أربونة" قاعدة لعملياته الحربية في فرنسا، فأعاد ترميم الحصون، ودعَّمها بجند مسلمين، وتتبَّع مجرى نهر "الجارون"، واتجه غرباً حتى وصل "طولوشة" التي قاومت حتى وصلتها الإمدادات، وأخذ السمح يشد من أزر جنده المسلمين ويتلو عليهم بروح مؤمنة مستنيرة صادقة قوله تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} [(160) سورة آل عمران]، ولكن السمح أصيب بطعنة عميقة بالغة في المعركة التي دارت على أسوار "طولوشة" عام: 102هـ ففتّ ذلك من عضد الجند المسلمين، فارتدوا جنوباً، وهذه تعتبر أول نكسة للمسلمين في أرض فرنسا، وسقط السمح شهيداً، وانسحب المسلمون بعد أن فقدوا قائدهم المغوار البطل، وكان عبد الرحمن الغافقي أحد جنود السمح في هذه المعركة، فأجمع الجيش المسلم على اختياره للقيادة، ورأى من الحنكة أن يرجع إلى الجنوب، ولكن حزنه الأليم على مصرع السمح، واستشهاد رفاقه جعله يفكر جدياً في الانتقام لمصارع الأبطال، واستئناف الغزو والهجوم، وكانت تلك ولاية عبد الرحمن الأولى، التي لم تدم إلاّ بضعة أشهر.
عين عامل إفريقيا يزيد بن أبي مسلم، عنبسة بن سحيم الكلبي عام: 103هـ أميراً على الأندلس، فقضى عنبسة السنوات الأربع الأولى من إمارته في تنظيم أمور الأندلس، وتهدئتها وإنهاء الخلافات العصبية، ثم واصل حروبه في فرنسا، وسار على الساحل حتى وصل نهر "الرون"، وفي وادي الرون فتح مدناً كثيرة.
اكتسح المسلمون بقيادة عنبسة حوض "الرون"، بزحف ظافر علّق عليه مؤرخون معاصرون له، بأن الله قذف في قلوب الكفار الرعب، فلم يتصدَّ أحد منهم للمسلمين إلا لطلب الأمان، وفتح المسلمون المناطق الفرنسية الجنوبية والشرقية، ولم يجدوا مقاومة إلا في مدينة "سانس" الواقعة على بعد ثلاثين كيلو متراً فقط جنوبي "باريس"، وفيها تصدى أسقف المدينة للزحف الإسلامي، وكان قد استعد له من قبل، فحصن المدينة وحشد مواطنيه، فهبوا معه لحماية مدينتهم، ونجحوا في إيقاف الزحف الإسلامي.
أدرك عنبسة بعد هذا الزحف المظفر، -الذي أوصله إلى ضواحي باريس-، أنه توغل أكثر مما ينبغي، فخشي أن يقطع العدو خطوط تموينه أو طريق عودته، وبخاصة أنه سمع بانبعاث العصبية في الأندلس من جديد، ووقع خلاف فيما بين العرب والبربر، وهذا الذي شعر به عنبسة، كان حدساً صحيحاً، فبينما كان في طريق عودته داهمته جموع كبيرة من النصارى، فالتحم معهم، وأصيب بجراح بالغة في شعبان سنة: 107هـ، استشهد على إثرها، فعادت بقية الجيش بقيادة عذرة بن عبد الله الفهري إلى "أربونة".
وينبغي أن نلاحظ أن حملة عنبسة لم تكن في الحقيقة غير غارة بعيدة المدى ولو كان عنبسة على نية الفتح الثابت، لأتم الاستيلاء على ما غلب عليه من المدائن، ولأقام الحاميات في بعضها على عادة المسلمين في فتوحهم.
ومهما يكن من الأمر فإن عنبسة بن سحيم الكلبي ينفرد بين الفاتحين المسلمين بهذا الفخر، فخر الوصول برايات الإسلام إلى قلب أوربا الغربية ولم يدرك هذا الشأو بعد ذلك فاتح مسلم آخر.
استعد الغافقي استعداداً كبيراً لغزو فرنسا، وأعلن الدعوة للجهاد في سبيل الله، وأعلن هذه الدعوة في أفريقيا كما أعلنها في الأندلس، فتدفق عليه المتطوعون من كل ناحية، وتجمع لديه عدد ضخم من المجاهدين، بلغ ما بين سبعين إلى مائة ألف مجاهد، وبدأ تحركه في أوائل سنة: 114هـ.
جمع عبد الرحمن الغافقي المجاهدين وخرج باحتفال مهيب ليعبر جبال البرانس واتجه شرقاً ليضلل النصارى عن وجهته الحقيقية، فأخضع مدينة "أرل" التي خرجت عن طاعة المسلمين، ثم اتجه إلى "دوقية"، فانتصر على الدوق انتصاراً حاسماً، ومضى الغافقي في طريقه متتبعاً مجرى نهر "الجارون" ففتح "بردال" واندفع شمالاً ووصل إلى مدينة "بواتييه".
اهتزَّت أوربا من أقصاها إلى أقصاها لِسُقُوط نصف فرنسا الجنوبي كله في يدي عبد الرحمن الغافقي خلال بضعة أشهر، وفتح الفرنجة أعينهم على الخطر الداهم، ودبَّ الصريخ في كل مكان يدعو العجزة والقادرين إلى الوقوف في وجه هذا الهوْل القادم من الشَّرق ويَحُضُّهُمْ على التَّصَدِّي له بالصدور إذا عزَّت السيوف، ويدعوهم إلى سدِّ الطريق أمامه بالأجساد إذا انعدم العَتَاد، فاستجابت أوربا لدعوة الدَّاعي وأقبل الناس ومعهم الشَّجر والحَجَر والشَّوك والسِّلاح.
أصبح عجز الدوق واضحاً في مواجهة المسلمين، فاستصرخوا "شارل مارتل"، فلبى شارل النداء، وكان قبلها لا يحفل بحركات المسلمين في جنوب فرنسا بسبب الخلاف الذي بينه وبين الدوق الذي كان سببه طمع شارل بالدوقية، وبذلك توحدت قوى النصرانية للوقوف في وجه المسلمين، ورحب شارل بالفرصة ليبسط نفوذه على بلاد الدوق وأراضيها الواسعة، بعد أن شعر بالخطر الإسلامي.
اجتمع النصارى إلى "شارل مارتل"، وقالوا له: ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب؟! كنا نسمع بالمسلمين ونخافهم من مطلع الشمس حتى أتوا مغربها، واستولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد، بجمعهم القليل وقلة عدتهم، وكونهم لا دروع لهم.
فأجابهم: "الرأي عندي ألاّ تعترضوهم في خرجتهم هذه، فإنهم كالسيل يحمل ما يصادفه وهم في إقبال أمرهم، ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم، ويتخذوا المساكن، ويتنافسوا في الرئاسة، ويستعين بعضهم على بعض، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر".
قال المقري -رحمه الله-: فكان والله كذلك، بالفتنة التي طرأت بين الشاميين والذين جاؤوا من الحجاز، والبربر والعرب، والمضريَّة واليمنية وصار بعض المسلمين يستعين على بعض بمن يجاورهم من الأعداء!!.
وقد أدرك الغافقي هذه القضية وصارت تشغل فكره، وخاف من لهو جنده بالغنائم الكثيرة التي حصلوا عليها في معاركهم الأولى وكانوا يجرونها في أثناء زحفهم، وفكر جدياً في حملهم على تركها في أرضها لئلا تشغلهم عن القتال فتكون وبالاً عليهم، لكنه لم يشأ وهو في مأزق كذلك المأزق أن يغيظهم ويخسر بذلك توحد قلوبهم، وبقي واثقاً بشجاعتهم في القتال.
والحق أنه عندما وقف المسلمون في وجه النصارى، لم يكن سكان أوربا يتمنون خسارة المسلمين وهزيمتهم، لقد تمنى قسم كبير من سكان فرنسا انتصار المسلمين، بعدما سمعوا بتحسن حال الأسبان بعد دخولهم في حوزة المسلمين الفاتحين، حيث انتقلوا من الرق والضرائب المالية الباهظة إلى الحرية والعدالة والطمأنينة على أرواحهم وأموالهم.
كان عدد جيش النصارى أكبر من جيش المسلمين، فبينما كان النصارى سيلاً من الجند المتدفق، لم يكن الجيش المسلم يزيد على سبعين ألف مسلم في أصح الروايات، وقد يصل إلى مائة ألف في روايات أخرى، كان جُلّهم من البربر؛ لأن كثيرين من عرب أفريقيا والأندلس كانوا إذ ذاك في شغل بما انصرفوا إليه من المنازعات العصبية من ناحية، ومن الاستقرار في القرى والاشتغال بالزرع من ناحية أخرى، وهذا لا يعني عدم وجود أعداد من العرب مع الغافقي، فقد كان معه معظم اليمنيين؛ لأنه يمني، ولأن غالبية سكان نواحي إقليم "سرقسطة" كانوا من اليمن، ومنهم كانت غالبية العرب المحاربين في ناحية جبال البرانس وما يليها.
وكان موقف النصارى الاستراتيجي أيضاً أجود وأفضل، وبخاصة معرفتهم للمواقع، وألفتهم للتحرك فيها، ومعرفة دروب المنطقة، مع قدرة على القتال في جو شاتٍ مطير، تعودته جسومهم، وأرض موحلة ألفتها خيولهم.
وكذلك كان مدد النصارى البشري والتمويني قريباً، بينما المسلمون على بعد يجاوز ألف كيلومتر عن عاصمة الأندلس، كما أنهم بعيدون مسافات شاسعة جداً عن مركز الدولة الأموية، ويكفي أن يتصور الإنسان المسافة بين دمشق وجبل طارق وجبال البرانس، ليعلم أن الجيوش الإسلامية المحاربة في نواحي فرنسا كانت تقوم في الواقع بمغامرة أقرب إلى قصص الأساطير منها إلى حوادث التاريخ.
ولا ننسى الغنائم التي حملها الجيش الإسلامي: فالمسلمون حملوا الغنائم التي أخذوها من أيدي عدوهم، ولو أحسنوا لبعثوا نفراً منهم ليودعها "أربونة" أو "برشلونة" حتى يطمئنوا عليها، وتخلو أيديهم للعمل المقبل، وينتهي اشتغال فكرهم بها، ولكنهم حرصوا عليها أكثر من حرصهم على النصر، وانقلبت الغنائم إلى ثقل يرهقهم، أضعف حركتهم، فكانت الغنائم سبب هزيمتهم كما سيأتي.
انزعجت أوربا انزعاجاً صارخاً لتقدم الجيوش الإسلامية، وفزع زعماؤهم، فأرسلوا صيحاتهم الصليبية في آفاق أوربا، وبذلوا أقصى ما يقدرون عليه لإشعال نار الكراهية للإسلام، وتأكيد العداوة لرجاله، وكان ملك النصارى ضعيفاً عاجزاً، بينما يتولى حاجب القصر "شارل مارتل" قيادة أموره، فتجمع حوله الصليبيون، وقدموه قائداً للنصرانية.
ولما بلغ "شارل مارتل" نبأ قدوم الجيش الإسلامي اتخذ الأهبة، وأسرع للقاء المسلمين بنفس مشرئبة للظفر وجنود متطلعة للقتال، ولم يكتف بما لديه من النصارى في فرنسا، بل بعث يستقدم جنداً من حدود "الراين"، فأتته نجدات من جنود أجلاف أقوياء، يحاربون شبه عراة في مثل هذا الجو البارد، يلبسون جلود الذئاب والنمور، وتنسدل شعورهم الجعدة فوق أكتافهم العارية، يرسمون للوحشية البدائية صوراً مزعجة حمراء.
لقد اجتمع لشارل مارتل بذلك جيش كثيف، قادر على الثبات والمنازلة ضاقت بجموعه الكثيفة سهول فرنسا، فتقدم إلى شمال "بواتييه" في اتجاه "تور"، وفي "تور" التقى جيشان يختلفان عَدَداً وعُدَدَاً ولغةً وديناً وهدفاً وحضارةً.
تابع