شمعة الحب
24-06-2006, 12:30 AM
مديونير أسهم .. في انتظاره صيف حار جدا
د. هاشم بن عبد الله الصالح - جامعة الملك فيصل ـ الدمام 27/05/1427هـ
hsaleh_sa@yahoo.com
لقد كان من رواد هذا المجلس الأسبوعي للعم حسن, فهذا الشيخ الجليل والطاعن في السن يستقبل أقرباءه ومعارفه ومحبيه مساء ليلة الخميس من كل أسبوع. لم يتذكر أول يوم ذهب لحضور هذا المجلس ولكنه يتذكر جيدا ذلك اليوم الذي قرر فيه عدم الحضور, في ذلك اليوم كانت شاشة الأسهم خضراء جدا وكانت أرباحه في ذلك اليوم أكبر من أن تتركه يفكر في أي شيء آخر, وها هو الآن بعد 20 شهرا يجد نفسه في حضرة العم حسن. وكالعادة ابتدأ الشيخ بحديث قصير ومن ثم توجه للحاضرين بسؤال, قال لهم ليتمنى الواحد منكم شيئا إذا حصل عليه فإنه سيكون سعيدا جدا ولكم عشر دقائق لتخبروني عن هذا الشيء الذي تطلبونه وترغبون في الحصول عليه. هل كانت عشر دقائق أم عشرة أيام أم أكثر؟ لقد كانت هذه الدقائق العشر طويلة جدا لكثرة ما أحس به من ألم وندم وحسرة, فهو لم يكن في حاجة إلى وقت ليحدد ما يريد وعندها سيكون أسعد الناس, لكن هذا السؤال أثار في نفسه الكثير من الشجون. ابتدأ الحاضرون بذكر ما يريدون, كان الأمر تطوعا, أما هو فآثر أن يسكت خوفا من أن يصل الخبر إلى أهله, قال أحد الحضور إني أريد بيتا جديدا فلقد مللت وتعبت من هذا البيت القديم والمتهالك, وقال آخر أريد مليون ريال ينسيني حياة الفقر التي لازمتني طوال حياتي, وقال آخر أريد مزرعة كبيرة تجعلني من أعيان القرية. وبعدها أطرق العم حسن رأسه ثم قال, كلكم تريدون بيوتا ومزارع وأموالا لتكونوا سعداء, وماذا لو فقدتم ما تملكونه الآن من بيوت وأموال وصحة وأمان, لماذا لا تكون سعادتكم في شكر الله على ما تنعمون به الآن وأن تدعوا الله أن يديم عليكم هذه النعم, إنكم لا تحسون بقيمة ما بين أيديكم إلا بعد أن تفقدوها, فاشكروا الله عليها وتخيلوا لو أنكم فقدتم إحدى هذه النعم التي عندكم وبفضل من الله عادت إليكم هذه النعمة فكم ستفرحون بها وتشعرون بالسعادة بعودتها إليكم. وجد نفسه يقول نعم بعد كل كلمة ينطقها العم حسن وكان يتمنى أن تكون له شجاعة فيقولها للحاضرين بصوت واضح وقوي. كنت أملك أكثر من عشرة ملايين ريال وإلى جنبها أملك مصنعا متوسط الحجم وبيتا قصرا وحياة فيها من السعة والهدوء الشيء الكثير, ويا ليت كل هذا يعود وبالتالي سأكون أسعد الناس, لم أحس بقيمة ما عندي إلا بعد ما فقدته ولم أقدر ما عندي من أموال إلا بعد أن احترقت كلها وزيادة عليها في سوق الأسهم. ما أحلى الأموال التي كانت عندي وكم كانت هي كثيرة وماذا أريد أكثر من ثروة بالملايين ودخل سنوي صاف يقارب المليون. ليس من طبعه المخاطرة غير المحسوبة ولكن الأسهم أنتجت في داخله شخصا آخر, فالبداية كانت المضاربة بجزء من السيولة الموجودة ومن ثم السيولة كلها وبعدها تأخير رواتب الموظفين والعمال المساكين لأن الارتفاعات المستمرة في السوق باتت مغرية لضخ المزيد من الأموال وليس الخروج بأي شيء منها, وإن كان ذلك على حساب حقوق الآخرين. وجاء الدور على المباني والأراضي التي يملكها, التي لم يخطر بباله يوما أن يخاطر بها ولكنها سرعان ما ذابت في قدور محافظه المتخمة بكل أنواع الأسهم. كان يعتقد أن الفقر بعيد عنه بعد المشرق عن المغرب, فإذا خسر المصنع واضطر إلى إغلاقه فهناك المباني وهي كفيلة بأن تمده بالمال الكثير, وإذا طارت المباني من يده فالبقية من الأراضي والأموال والمدخرات كافية لأن يعيش بها مئات السنين من دون عمل أو احتياج إلى أحد. وجاءت الأسهم لتختصر المسافة ولتختزن الزمن إلى عالم الفقر, فبضعة أشهر كانت كافية للانتقال من عالم الهوامير والحديث عن الملايين إلى عالم ما دون الصفر والحديث عن الهموم والبحث عن الأعذار في مواجهة حقوق الآخرين. في البداية لم تغره تسهيلات البنوك للاقتراض منها وضخ المزيد من الأموال في تجارته الجديدة وبعدها صارت هذه التسهيلات غير كافية في نظره لملاحقة أسعار الشركات وهي تكبر وتتضخم وكأنها كرة ثلج متدحرجة, وعندها امتدت يده وياليتها كانت قصيرة لتبيع هذا وترهن ذاك. حتى البيت الذي يسكنه هو الآخر كان مصيره البيع وإن كان بطريقة خاصة, فالبيع الآن وتسلم الفلوس الآن وعلى أن يستعيد البيت بعد سنتين مع زيادة معتبرة على سعر البيع. كان مطمئنا إلى أنه سيضاعف مرات ومرات المبلغ الذي حصل عليه مقابل البيت, وأنه بهذه اللعبة سيعود له البيت ببلاش مع أرباح تكفيه لبناء بيت آخر تسكنه زوجة جديدة وربما مبان أخرى. وها هو الآن أدرك أنه خسر اللعبة فكل أمواله ذهبت ولن تعود مرة أخرى وليس البيت فقط, فالبنوك التي يتعامل معها اتصلت به الواحد تلو الآخر لتخبره وبمكالمة مختصرة جدا إنها قد اضطرت إلى تصفية محفظته وعليه أن يعيد الفارق بين ما له وما للبنك. منذ الصيف السابق كان هو وعائلته في انتظار الصيف المقبل, كان الصيف بالنسبة إليه يعني المزيد من الأرباح وربما يتحقق الحلم فتتجاوز ثروته الـ 50 وربما المائة مليون ريال. أما العائلة فكانت على موعد مع رحلة أوروبية غير مسبوقة. وبعد العودة من الرحلة تبدأ مراسم زواج ابنته الوحيدة, فلقد وعدها بخمس حفلات على أن تكون كل مستلزمات هذه الحفلات من ملابس وإكسسوارات وزينة من باريس وروما وجنيف, فستكون هناك حفلة لإعلان الخطوبة رسميا تتبعها حفلة وعشاء فخم بمناسبة العقد وكتب الكتاب, وتلي العقد مناسبة ما قبل الزواج ولهذه الحفلة أسماء كثيرة وهي خاصة بالنساء لتتبعها الحفلة الكبرى في يوم زواجها ويختتم الزواج بحفلة كبيرة وعشاء فخم احتفاء بالزوجين. لم يكن هو الوحيد من يفكر في إقامة هذا العدد من الحفلات فتعدد مناسبات الزواج والمبالغة والإسراف في إقامتها أصبح عرفا اجتماعيا حتى الإنسان العادي وغير المقتنع بها قد يجد نفسه ملزما بإقامتها, ولكن هذه المناسبات ستكون بالنسبة إليه فرصة لاستعراض إمكاناته المادية والتنظيمية استعدادا للانتخابات البلدية المقبلة التي خسرها في المرة الأولى, ولا بد من الفوز فيها هذه المرة, فهو سينضم إلى الهوامير الكبار إذا ما تكاثرت ملايينه. وها هو الصيف قد بدأ واقتنع الجميع بنسيان رحلة أوروبا والتسوق في محلاتها الراقية ولكن بقي هناك أمل عند الأهل أن يتم الزواج بالصورة التي جعلهم يحلمون بها. كانوا يظنون أن الأسهم قد أطاحت بجزء من ثروتهم وابتلعت الكثير من أموالهم, ولكن بقي هناك ما يكفي ليبقيهم فوق خط الغنى. كانوا يتابعون شاشة الأسهم وكلما افترشت هذه الشاشة بالبساط الأخضر فرحوا واستبشروا واستقبلوا آباهم مباركين له عودة جزء من أموالهم وأما هو فكان يحاول أن يجاريهم بفرحتهم وهو يعلم أن صدمتهم كبيرة لو علموا أنه بات خارج لعبة السوق وبثلاث بطاقات حمراء, وزيادة على ذلك أنه بات لا يملك حتى البيت الذي يسكنون فيه. بالكاد استطاع أن ينتزع موافقتهم على الاستبدال برحلة أوروبا وعواصمها السفر إلى جدة بحجة ارتفاع اليورو وكثرة الضرائب عندهم ومع هذا فهو لا يدري كيف سيدبر أمور السفر إلى "جدة غير". كان يصعب عليه وهو يتخيل ردة فعلهم عندما يعلمون أنه قامر بكل ما يملك وعاد إليهم وهو لا يملك شيئا. كان الصيف محطة ينتظرها بشوق ولهفة, وكان قطار الأسهم الذي تزداد حمولته مساء كل يوم يسرع به وبأحلامه ويجعله يتحرق شوقا لقدوم الصيف, كان يحلم بالصيف وكان يحلم بأن أمواله في السوق ستكون له الجناح الذي سيطير به وبأهله إلى جبال سويسرا وشواطئ فرنسا وأسواق إيطاليا ولم يخطر بباله أبدا أنه مقبل على صيف حار جدا جدا.
ظلت كلمات العم حسن تتردد في ذهنه, القليل منا من لا يطلب المزيد من هذه الدنيا ظنا منه أن السعادة دائما تأتي مع ما هو قادم من أموال وغيرها, نتمنى أن تزداد أموالنا ونتمنى أن نستبدل ببيوتنا بيوتا أكبر منها وبسيارتنا أحسن منها ونتمنى ونتمنى .., وننسى أو نغفل ولا نلتفت إلى قيمة الذي بين أيدينا من نعم كثيرة.
وجد نفسه هذه المرة مندفعا وبشوق إلى الذهاب مرة ثانية إلى مجلس العم حسن. وصل متأخرا ولكن الحديث كان في بدايته. كان موضوع الحديث هذه المرة عن أبينا آدم وأمنا حواء وقضية دخولهما الجنة وخروجهما منها. على الرغم من إحساسه بصعوبة الانتباه وبشكل مركز إلى حديث العم حسن, فما يدور في ذهنه من حسابات وأفكار باتت تتحرك خارج إرادته, وكان يحمد الله أن بقي له هذا المقدار من التحكم فيما يدور في ذهنه, لأن فقدان هذه البقية الباقية تعني الجنون, وهل هناك أشد إيلاما في هذه الحياة من أن يفقد الإنسان نعمة العقل؟ ما فهمه من حديث العم حسن إن الله سبحانه وتعالى بكرمه ولطفه قد خلق الإنسان وخلق له جنته وأراه ما في هذه الجنة من نعيم, ثم أراد الله أن يعلم آدم وحواء أن بقاء هذه الجنة مرهون بطاعة الله فكان أكل التفاحة والخروج من الجنة هو الدرس الذي تعلمه آدم وتعلمته حواء. فكان العم حسن يتحدث وهو يوزع نظراته عليهم, اعلموا أيها الأحبة أن الله قد خلقكم وخلق لكل منكم جنة وأن بمقدوركم أن تحافظوا على هذه الجنة وأن تزيدوا من أشجارها وقصورها وأنهارها بشرط أن تعبدوا الله حق عبادته وأن تكون لكم في الدنيا أعمال صالحة فيها من النفع لغيركم, أما إذا أردتم غير ما أراد الله لكم فإنكم ستشعلون في كل يوم نارا في جنتكم وعندما تفدون عليها بعد موتكم ستجدونها نارا ملتهبة. كانت كلمات العم حسن ملتهبة وساخنة وكأنها للتو قد خرجت من النار التي أراد لهم أن يستشعروها عسى أن يحافظوا على ما أعطاهم الله من جنة ونعيم. أما هو فوجد نفسه وهو يحاول أن يمسك دموعه من أن تنتثر على خديه وهو يردد, ربي إني قد حرقت بنفسي وبطمعي وبطيشي دنياي, وما أملك من أموال فلا تدعني أحرق آخرتي وجنتي التي تفضلت بها علي بارتكاب المعاصي والذنوب, إنك يا رب أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
د. هاشم بن عبد الله الصالح - جامعة الملك فيصل ـ الدمام 27/05/1427هـ
hsaleh_sa@yahoo.com
لقد كان من رواد هذا المجلس الأسبوعي للعم حسن, فهذا الشيخ الجليل والطاعن في السن يستقبل أقرباءه ومعارفه ومحبيه مساء ليلة الخميس من كل أسبوع. لم يتذكر أول يوم ذهب لحضور هذا المجلس ولكنه يتذكر جيدا ذلك اليوم الذي قرر فيه عدم الحضور, في ذلك اليوم كانت شاشة الأسهم خضراء جدا وكانت أرباحه في ذلك اليوم أكبر من أن تتركه يفكر في أي شيء آخر, وها هو الآن بعد 20 شهرا يجد نفسه في حضرة العم حسن. وكالعادة ابتدأ الشيخ بحديث قصير ومن ثم توجه للحاضرين بسؤال, قال لهم ليتمنى الواحد منكم شيئا إذا حصل عليه فإنه سيكون سعيدا جدا ولكم عشر دقائق لتخبروني عن هذا الشيء الذي تطلبونه وترغبون في الحصول عليه. هل كانت عشر دقائق أم عشرة أيام أم أكثر؟ لقد كانت هذه الدقائق العشر طويلة جدا لكثرة ما أحس به من ألم وندم وحسرة, فهو لم يكن في حاجة إلى وقت ليحدد ما يريد وعندها سيكون أسعد الناس, لكن هذا السؤال أثار في نفسه الكثير من الشجون. ابتدأ الحاضرون بذكر ما يريدون, كان الأمر تطوعا, أما هو فآثر أن يسكت خوفا من أن يصل الخبر إلى أهله, قال أحد الحضور إني أريد بيتا جديدا فلقد مللت وتعبت من هذا البيت القديم والمتهالك, وقال آخر أريد مليون ريال ينسيني حياة الفقر التي لازمتني طوال حياتي, وقال آخر أريد مزرعة كبيرة تجعلني من أعيان القرية. وبعدها أطرق العم حسن رأسه ثم قال, كلكم تريدون بيوتا ومزارع وأموالا لتكونوا سعداء, وماذا لو فقدتم ما تملكونه الآن من بيوت وأموال وصحة وأمان, لماذا لا تكون سعادتكم في شكر الله على ما تنعمون به الآن وأن تدعوا الله أن يديم عليكم هذه النعم, إنكم لا تحسون بقيمة ما بين أيديكم إلا بعد أن تفقدوها, فاشكروا الله عليها وتخيلوا لو أنكم فقدتم إحدى هذه النعم التي عندكم وبفضل من الله عادت إليكم هذه النعمة فكم ستفرحون بها وتشعرون بالسعادة بعودتها إليكم. وجد نفسه يقول نعم بعد كل كلمة ينطقها العم حسن وكان يتمنى أن تكون له شجاعة فيقولها للحاضرين بصوت واضح وقوي. كنت أملك أكثر من عشرة ملايين ريال وإلى جنبها أملك مصنعا متوسط الحجم وبيتا قصرا وحياة فيها من السعة والهدوء الشيء الكثير, ويا ليت كل هذا يعود وبالتالي سأكون أسعد الناس, لم أحس بقيمة ما عندي إلا بعد ما فقدته ولم أقدر ما عندي من أموال إلا بعد أن احترقت كلها وزيادة عليها في سوق الأسهم. ما أحلى الأموال التي كانت عندي وكم كانت هي كثيرة وماذا أريد أكثر من ثروة بالملايين ودخل سنوي صاف يقارب المليون. ليس من طبعه المخاطرة غير المحسوبة ولكن الأسهم أنتجت في داخله شخصا آخر, فالبداية كانت المضاربة بجزء من السيولة الموجودة ومن ثم السيولة كلها وبعدها تأخير رواتب الموظفين والعمال المساكين لأن الارتفاعات المستمرة في السوق باتت مغرية لضخ المزيد من الأموال وليس الخروج بأي شيء منها, وإن كان ذلك على حساب حقوق الآخرين. وجاء الدور على المباني والأراضي التي يملكها, التي لم يخطر بباله يوما أن يخاطر بها ولكنها سرعان ما ذابت في قدور محافظه المتخمة بكل أنواع الأسهم. كان يعتقد أن الفقر بعيد عنه بعد المشرق عن المغرب, فإذا خسر المصنع واضطر إلى إغلاقه فهناك المباني وهي كفيلة بأن تمده بالمال الكثير, وإذا طارت المباني من يده فالبقية من الأراضي والأموال والمدخرات كافية لأن يعيش بها مئات السنين من دون عمل أو احتياج إلى أحد. وجاءت الأسهم لتختصر المسافة ولتختزن الزمن إلى عالم الفقر, فبضعة أشهر كانت كافية للانتقال من عالم الهوامير والحديث عن الملايين إلى عالم ما دون الصفر والحديث عن الهموم والبحث عن الأعذار في مواجهة حقوق الآخرين. في البداية لم تغره تسهيلات البنوك للاقتراض منها وضخ المزيد من الأموال في تجارته الجديدة وبعدها صارت هذه التسهيلات غير كافية في نظره لملاحقة أسعار الشركات وهي تكبر وتتضخم وكأنها كرة ثلج متدحرجة, وعندها امتدت يده وياليتها كانت قصيرة لتبيع هذا وترهن ذاك. حتى البيت الذي يسكنه هو الآخر كان مصيره البيع وإن كان بطريقة خاصة, فالبيع الآن وتسلم الفلوس الآن وعلى أن يستعيد البيت بعد سنتين مع زيادة معتبرة على سعر البيع. كان مطمئنا إلى أنه سيضاعف مرات ومرات المبلغ الذي حصل عليه مقابل البيت, وأنه بهذه اللعبة سيعود له البيت ببلاش مع أرباح تكفيه لبناء بيت آخر تسكنه زوجة جديدة وربما مبان أخرى. وها هو الآن أدرك أنه خسر اللعبة فكل أمواله ذهبت ولن تعود مرة أخرى وليس البيت فقط, فالبنوك التي يتعامل معها اتصلت به الواحد تلو الآخر لتخبره وبمكالمة مختصرة جدا إنها قد اضطرت إلى تصفية محفظته وعليه أن يعيد الفارق بين ما له وما للبنك. منذ الصيف السابق كان هو وعائلته في انتظار الصيف المقبل, كان الصيف بالنسبة إليه يعني المزيد من الأرباح وربما يتحقق الحلم فتتجاوز ثروته الـ 50 وربما المائة مليون ريال. أما العائلة فكانت على موعد مع رحلة أوروبية غير مسبوقة. وبعد العودة من الرحلة تبدأ مراسم زواج ابنته الوحيدة, فلقد وعدها بخمس حفلات على أن تكون كل مستلزمات هذه الحفلات من ملابس وإكسسوارات وزينة من باريس وروما وجنيف, فستكون هناك حفلة لإعلان الخطوبة رسميا تتبعها حفلة وعشاء فخم بمناسبة العقد وكتب الكتاب, وتلي العقد مناسبة ما قبل الزواج ولهذه الحفلة أسماء كثيرة وهي خاصة بالنساء لتتبعها الحفلة الكبرى في يوم زواجها ويختتم الزواج بحفلة كبيرة وعشاء فخم احتفاء بالزوجين. لم يكن هو الوحيد من يفكر في إقامة هذا العدد من الحفلات فتعدد مناسبات الزواج والمبالغة والإسراف في إقامتها أصبح عرفا اجتماعيا حتى الإنسان العادي وغير المقتنع بها قد يجد نفسه ملزما بإقامتها, ولكن هذه المناسبات ستكون بالنسبة إليه فرصة لاستعراض إمكاناته المادية والتنظيمية استعدادا للانتخابات البلدية المقبلة التي خسرها في المرة الأولى, ولا بد من الفوز فيها هذه المرة, فهو سينضم إلى الهوامير الكبار إذا ما تكاثرت ملايينه. وها هو الصيف قد بدأ واقتنع الجميع بنسيان رحلة أوروبا والتسوق في محلاتها الراقية ولكن بقي هناك أمل عند الأهل أن يتم الزواج بالصورة التي جعلهم يحلمون بها. كانوا يظنون أن الأسهم قد أطاحت بجزء من ثروتهم وابتلعت الكثير من أموالهم, ولكن بقي هناك ما يكفي ليبقيهم فوق خط الغنى. كانوا يتابعون شاشة الأسهم وكلما افترشت هذه الشاشة بالبساط الأخضر فرحوا واستبشروا واستقبلوا آباهم مباركين له عودة جزء من أموالهم وأما هو فكان يحاول أن يجاريهم بفرحتهم وهو يعلم أن صدمتهم كبيرة لو علموا أنه بات خارج لعبة السوق وبثلاث بطاقات حمراء, وزيادة على ذلك أنه بات لا يملك حتى البيت الذي يسكنون فيه. بالكاد استطاع أن ينتزع موافقتهم على الاستبدال برحلة أوروبا وعواصمها السفر إلى جدة بحجة ارتفاع اليورو وكثرة الضرائب عندهم ومع هذا فهو لا يدري كيف سيدبر أمور السفر إلى "جدة غير". كان يصعب عليه وهو يتخيل ردة فعلهم عندما يعلمون أنه قامر بكل ما يملك وعاد إليهم وهو لا يملك شيئا. كان الصيف محطة ينتظرها بشوق ولهفة, وكان قطار الأسهم الذي تزداد حمولته مساء كل يوم يسرع به وبأحلامه ويجعله يتحرق شوقا لقدوم الصيف, كان يحلم بالصيف وكان يحلم بأن أمواله في السوق ستكون له الجناح الذي سيطير به وبأهله إلى جبال سويسرا وشواطئ فرنسا وأسواق إيطاليا ولم يخطر بباله أبدا أنه مقبل على صيف حار جدا جدا.
ظلت كلمات العم حسن تتردد في ذهنه, القليل منا من لا يطلب المزيد من هذه الدنيا ظنا منه أن السعادة دائما تأتي مع ما هو قادم من أموال وغيرها, نتمنى أن تزداد أموالنا ونتمنى أن نستبدل ببيوتنا بيوتا أكبر منها وبسيارتنا أحسن منها ونتمنى ونتمنى .., وننسى أو نغفل ولا نلتفت إلى قيمة الذي بين أيدينا من نعم كثيرة.
وجد نفسه هذه المرة مندفعا وبشوق إلى الذهاب مرة ثانية إلى مجلس العم حسن. وصل متأخرا ولكن الحديث كان في بدايته. كان موضوع الحديث هذه المرة عن أبينا آدم وأمنا حواء وقضية دخولهما الجنة وخروجهما منها. على الرغم من إحساسه بصعوبة الانتباه وبشكل مركز إلى حديث العم حسن, فما يدور في ذهنه من حسابات وأفكار باتت تتحرك خارج إرادته, وكان يحمد الله أن بقي له هذا المقدار من التحكم فيما يدور في ذهنه, لأن فقدان هذه البقية الباقية تعني الجنون, وهل هناك أشد إيلاما في هذه الحياة من أن يفقد الإنسان نعمة العقل؟ ما فهمه من حديث العم حسن إن الله سبحانه وتعالى بكرمه ولطفه قد خلق الإنسان وخلق له جنته وأراه ما في هذه الجنة من نعيم, ثم أراد الله أن يعلم آدم وحواء أن بقاء هذه الجنة مرهون بطاعة الله فكان أكل التفاحة والخروج من الجنة هو الدرس الذي تعلمه آدم وتعلمته حواء. فكان العم حسن يتحدث وهو يوزع نظراته عليهم, اعلموا أيها الأحبة أن الله قد خلقكم وخلق لكل منكم جنة وأن بمقدوركم أن تحافظوا على هذه الجنة وأن تزيدوا من أشجارها وقصورها وأنهارها بشرط أن تعبدوا الله حق عبادته وأن تكون لكم في الدنيا أعمال صالحة فيها من النفع لغيركم, أما إذا أردتم غير ما أراد الله لكم فإنكم ستشعلون في كل يوم نارا في جنتكم وعندما تفدون عليها بعد موتكم ستجدونها نارا ملتهبة. كانت كلمات العم حسن ملتهبة وساخنة وكأنها للتو قد خرجت من النار التي أراد لهم أن يستشعروها عسى أن يحافظوا على ما أعطاهم الله من جنة ونعيم. أما هو فوجد نفسه وهو يحاول أن يمسك دموعه من أن تنتثر على خديه وهو يردد, ربي إني قد حرقت بنفسي وبطمعي وبطيشي دنياي, وما أملك من أموال فلا تدعني أحرق آخرتي وجنتي التي تفضلت بها علي بارتكاب المعاصي والذنوب, إنك يا رب أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.