لمت اب
31-08-2012, 11:57 PM
الطائف.. قنديل فواح برائحة الورد الجوري معلق فوق جبال السروات
الطائف : عمر المضواحي
على صوت طنين قوافل النحل العطشى، تفيق حقول ورد الجوري مذعورة كل صباح من نذير شمس نيسان القاصفة. لا ينفعها مجونها الفواح في الليل الطويل، ولا ترحمها دموعها المنسابة قطرات ندى، من حفلة الإعدام المحتومة.
ومع تنفس كل صباح تنقطع أعناق ملايين أغصان الورود الندية وتتطاير بتلاتها الوردية اللون قربانا لمعامل التقطير المترقبة بالنار والقدور النحاسية، طلبا لرحيقها النادر والثمين.
سماء غائمة تلف قمم الجبال بشال أبيض، ورذاذ مطر خفيف يغسل الحقول الخضراء، وأجواء عابقة برائحة الورد النفاذة. تفاصيل صغيرة لصباح يوم ربيعي عادي في ضاحية الهدا المعلقة كقنديل فواح فوق مدينة الطائف.
والطائف المأنوس، كما يحب أن يطلق عليها أهلها، تلتقي فيها كل المتناقضات، لتجعلها عروس المصايف السعودية. فأرضها الخصبة حبلى بألذّ فاكهة يمكن تذوقها من التوت والعنب والعنّاب، والتفاح والرمّان. وثوبها الأخضر الفضفاض يكشف عن مفاتن هوائها العليل المطرز بصباحات ندية بالضباب والطلَ والمطر. وتاجها المتوهج بشمسها الدافئة، يحكي في الليالي المقمرة، لأسراب النجوم وقوافل السحاب، قصصا وأساطير وحكايات خرافية عن تاريخ مهمل، لكنه لا ينسى، لهذه المدينة الراقدة فوق سلسلة جبال السروات، أقصى غرب السعودية.
وتعرف الطائف بأنهار ثلاثة من سمن ولبن وعسل مصفى لا تجف طوال العام. لكن الكلمة تبقى دائما لماء ودهن عطر الورد الطائفي. ويحرص الأهالي والزوار والمصطافون على اقتناء كميات منهما في طريق عودتهم، تذكارا لأيام سعيدة قضوها في جنبات الهدا والشفا والردف وغدير البنات وغيرها من المتنزهات الطبيعية الخلابة. ويقال إنه لم يعرف الحب ولا أسرار المحبين من لا يهدي حبيبته قنينة من عطره المسكون بلواعج الجوى ودنف الحب وتباريح الشوق. فهو عند العاشقين رسول الحب الخالد المغني عن كل تعبير أو كلمات. ولا يخلو عرس أو مناسبة سعيدة الا وكان الورد حاضرا في كل مشاهد الفرح والسرور، حيث تحمل الصبايا سلال الورد الموشاة بشرائط التل والحرير لينثرنه على الحضور عنوانا لتمام الفرح والإنشراح.
يؤكد عُباد بن عبيد الله القرشي، صاحب مزرعة ورد في الهدا، أن ورد الطائف لا مثيل له في العالم، فهو أكثر رائحة وعطرا من الورود المشابهة له في الشام وغيرها، ويضيف أن ورد الجوري الشامي أكبر حجما وأكثر جمالا من الطائفي، لكن رائحته ليست بالقوة التي تميز ورد مدينته، مبينا فشل محاولات بعض كبار أصحاب المزارع بزراعته في غير أرضه، وقال بثقة المزارع في أرضه «السر هنا في هذه الأرض وفي التربة التي تسقى عادة بماء المطر وندى الضباب». وتشتهر ضواحي الطائف وأوديتها، كالهدا والشفا والغديرين والضحياء ووادي محرم وغيرها، بزراعة ورد الجوري، وتم إحلال شتلاته في مساحات واسعة من الحقول الزراعية بعد أن هجر معظم المزارعين في الموسم زراعة الخضراوات والحبوب والأعلاف، لتواضع مردودها قياسا بمداخيل الورد الذي يضمن للمزارع دخلا عاليا في كل موسم. الا أن موسم العام الحالي أصيب بنكسة مؤقتة بعد أن فاجأت موجة صقيع المنطقة تركت آثارها على محصول الورد وكمياته السنوية، الأمر الذي سيترك تأثيره على مؤشر سعره بالزيادة بنحو 50 في المائة تقريبا. ويعتمد المزارعون هنا على التقويم الزراعي القديم والمرتبط بعلم الفلك وحركة النجوم. فمنه يعرفون مواعيد زراعة كل صنف من الأشجار المثمرة ومواسم حصادها. وتبدأ فترة زراعة شتلات الورد الجديدة مع حلول برج (الطرف) الموافق عادة لشهر رمضان المبارك، تاسع شهور التقويم الهجري، يقابله الأسبوع الأخير من شهر يناير (كانون الثاني) من كل عام ويمتد نحو 75 يوما. ومع حلول الموسم الزراعي يبدأ المزارعون بحفر أخاديد في تربة الحقول الزراعية، لتطرح فيها أغصان صغيرة قصت بعناية من شجر الورد، ثم يهال عليها السماد وتسقى بالماء عند انقطاع المطر، وفي مواعيد محددة. وتحظى أشجار الورد المنتجة بعناية خاصة وتشذيب متواصل مع توفير دائم للماء والسماد حتى موسم الحصاد الذي يبدأ عادة في شهر أبريل (نيسان)، ويستمر حتى نهاية مايو (آيار) من كل عام. ويحرص المزارعون على إبقاء شجرة الورد قريبة من الأرض، بحيث لا يزيد ارتفاعها أكثر من متر ونصف المتر ويقص ما يرتفع عن ذلك. ويفسر عُباد القرشي الحكمة من وراء ذلك بأنه مهم لتحفيز الشجرة على إنتاج أقصى قدر ممكن من الورود كل صباح، مشيرا الى أن عملية قطف الورد لا بد أن تبدأ قبل طلوع الشمس، حيث يكون الورد نديا وفواحا.
ويبيع المزارعون كل ألف وردة بخمسين ريالا سعوديا (نحو 13 دولارا) لمعامل التقطير. وتنتج كل شجرة نحو 250 وردة يوميا طوال موسم الحصاد الذي يستمر قرابة الشهر ونصف الشهر.
تقول مها العتيبي، وهي معلمة في مدرسة للبنات في الهدا، إن الطالبات في هذا الموسم يتسابقن يوميا في تقديم باقات صغيرة من الورد الملفوفة بنباتات عطرية للمعلمات كل صباح. وتكشف العتيبي أن الورد كسائر النباتات يتأثر بنفسية الأشخاص المحيطين به، فالمزارع الذي يملك «سريرة نقية ونفس طيبة ينتج وردا نظرا وذا رائحة نفاذة، أما المزارع ذو النفس الحقود فإنه ينتج وردا ذابلا ومليئا بالدود!».
الطائف : عمر المضواحي
على صوت طنين قوافل النحل العطشى، تفيق حقول ورد الجوري مذعورة كل صباح من نذير شمس نيسان القاصفة. لا ينفعها مجونها الفواح في الليل الطويل، ولا ترحمها دموعها المنسابة قطرات ندى، من حفلة الإعدام المحتومة.
ومع تنفس كل صباح تنقطع أعناق ملايين أغصان الورود الندية وتتطاير بتلاتها الوردية اللون قربانا لمعامل التقطير المترقبة بالنار والقدور النحاسية، طلبا لرحيقها النادر والثمين.
سماء غائمة تلف قمم الجبال بشال أبيض، ورذاذ مطر خفيف يغسل الحقول الخضراء، وأجواء عابقة برائحة الورد النفاذة. تفاصيل صغيرة لصباح يوم ربيعي عادي في ضاحية الهدا المعلقة كقنديل فواح فوق مدينة الطائف.
والطائف المأنوس، كما يحب أن يطلق عليها أهلها، تلتقي فيها كل المتناقضات، لتجعلها عروس المصايف السعودية. فأرضها الخصبة حبلى بألذّ فاكهة يمكن تذوقها من التوت والعنب والعنّاب، والتفاح والرمّان. وثوبها الأخضر الفضفاض يكشف عن مفاتن هوائها العليل المطرز بصباحات ندية بالضباب والطلَ والمطر. وتاجها المتوهج بشمسها الدافئة، يحكي في الليالي المقمرة، لأسراب النجوم وقوافل السحاب، قصصا وأساطير وحكايات خرافية عن تاريخ مهمل، لكنه لا ينسى، لهذه المدينة الراقدة فوق سلسلة جبال السروات، أقصى غرب السعودية.
وتعرف الطائف بأنهار ثلاثة من سمن ولبن وعسل مصفى لا تجف طوال العام. لكن الكلمة تبقى دائما لماء ودهن عطر الورد الطائفي. ويحرص الأهالي والزوار والمصطافون على اقتناء كميات منهما في طريق عودتهم، تذكارا لأيام سعيدة قضوها في جنبات الهدا والشفا والردف وغدير البنات وغيرها من المتنزهات الطبيعية الخلابة. ويقال إنه لم يعرف الحب ولا أسرار المحبين من لا يهدي حبيبته قنينة من عطره المسكون بلواعج الجوى ودنف الحب وتباريح الشوق. فهو عند العاشقين رسول الحب الخالد المغني عن كل تعبير أو كلمات. ولا يخلو عرس أو مناسبة سعيدة الا وكان الورد حاضرا في كل مشاهد الفرح والسرور، حيث تحمل الصبايا سلال الورد الموشاة بشرائط التل والحرير لينثرنه على الحضور عنوانا لتمام الفرح والإنشراح.
يؤكد عُباد بن عبيد الله القرشي، صاحب مزرعة ورد في الهدا، أن ورد الطائف لا مثيل له في العالم، فهو أكثر رائحة وعطرا من الورود المشابهة له في الشام وغيرها، ويضيف أن ورد الجوري الشامي أكبر حجما وأكثر جمالا من الطائفي، لكن رائحته ليست بالقوة التي تميز ورد مدينته، مبينا فشل محاولات بعض كبار أصحاب المزارع بزراعته في غير أرضه، وقال بثقة المزارع في أرضه «السر هنا في هذه الأرض وفي التربة التي تسقى عادة بماء المطر وندى الضباب». وتشتهر ضواحي الطائف وأوديتها، كالهدا والشفا والغديرين والضحياء ووادي محرم وغيرها، بزراعة ورد الجوري، وتم إحلال شتلاته في مساحات واسعة من الحقول الزراعية بعد أن هجر معظم المزارعين في الموسم زراعة الخضراوات والحبوب والأعلاف، لتواضع مردودها قياسا بمداخيل الورد الذي يضمن للمزارع دخلا عاليا في كل موسم. الا أن موسم العام الحالي أصيب بنكسة مؤقتة بعد أن فاجأت موجة صقيع المنطقة تركت آثارها على محصول الورد وكمياته السنوية، الأمر الذي سيترك تأثيره على مؤشر سعره بالزيادة بنحو 50 في المائة تقريبا. ويعتمد المزارعون هنا على التقويم الزراعي القديم والمرتبط بعلم الفلك وحركة النجوم. فمنه يعرفون مواعيد زراعة كل صنف من الأشجار المثمرة ومواسم حصادها. وتبدأ فترة زراعة شتلات الورد الجديدة مع حلول برج (الطرف) الموافق عادة لشهر رمضان المبارك، تاسع شهور التقويم الهجري، يقابله الأسبوع الأخير من شهر يناير (كانون الثاني) من كل عام ويمتد نحو 75 يوما. ومع حلول الموسم الزراعي يبدأ المزارعون بحفر أخاديد في تربة الحقول الزراعية، لتطرح فيها أغصان صغيرة قصت بعناية من شجر الورد، ثم يهال عليها السماد وتسقى بالماء عند انقطاع المطر، وفي مواعيد محددة. وتحظى أشجار الورد المنتجة بعناية خاصة وتشذيب متواصل مع توفير دائم للماء والسماد حتى موسم الحصاد الذي يبدأ عادة في شهر أبريل (نيسان)، ويستمر حتى نهاية مايو (آيار) من كل عام. ويحرص المزارعون على إبقاء شجرة الورد قريبة من الأرض، بحيث لا يزيد ارتفاعها أكثر من متر ونصف المتر ويقص ما يرتفع عن ذلك. ويفسر عُباد القرشي الحكمة من وراء ذلك بأنه مهم لتحفيز الشجرة على إنتاج أقصى قدر ممكن من الورود كل صباح، مشيرا الى أن عملية قطف الورد لا بد أن تبدأ قبل طلوع الشمس، حيث يكون الورد نديا وفواحا.
ويبيع المزارعون كل ألف وردة بخمسين ريالا سعوديا (نحو 13 دولارا) لمعامل التقطير. وتنتج كل شجرة نحو 250 وردة يوميا طوال موسم الحصاد الذي يستمر قرابة الشهر ونصف الشهر.
تقول مها العتيبي، وهي معلمة في مدرسة للبنات في الهدا، إن الطالبات في هذا الموسم يتسابقن يوميا في تقديم باقات صغيرة من الورد الملفوفة بنباتات عطرية للمعلمات كل صباح. وتكشف العتيبي أن الورد كسائر النباتات يتأثر بنفسية الأشخاص المحيطين به، فالمزارع الذي يملك «سريرة نقية ونفس طيبة ينتج وردا نظرا وذا رائحة نفاذة، أما المزارع ذو النفس الحقود فإنه ينتج وردا ذابلا ومليئا بالدود!».