خوي الدرب
21-10-2012, 10:57 AM
..
..
بعض الأحداث التي نرى أنها بسيطة وعابرة
هي من العناصر التي تتداخل لتشكيل أيام حياتنا
1
عاينتُ حدثا ؛ يبدو على أثره تشكلت سيرة حياتي مع الكائن المدعو " كلب " .
وأنا في صبابة الخامسة من العمر.
في أحد الأيام و"والدتي" رحمها الله غادية مع أحد الأزقة الترابية الخلفية لحينا؛
وهي تضع ملفعها المربّع على رأسها تتقي به حرارة بنت النهار المتوهجة
في يوم من أيام " يوليو " وقد كان النهار هادئ الجوانب رطبها.
ويدي متعلقة بثوبها وأجدُّ في الخُطى محاولة مني أن أكون بصفها .
وأكرر عليها الأسئلة . : أماه ؛ هل ستبتاعين لي الحلوى من الدكان ؟.
وهي تقول : أجل يا بني ؛ سنعرّج على الدكان .
وسأشتري لك الحلوى . فأفلت يدي من ثوبها
وأجري أمامها حتى يتعرّج الطريق .
ثم أرجع جريا كذلك وأقول أماه لم أر الدكان! .
هل هو بعيدا يا أماه ؟ فترد بصوت حاني :
لا تجهد نفسك ؛ سنصل إليه بعد قليل .
وعندما أقتربنا من الدكان ورأيته ركضت مسرعا . وسبقتها اليه .
كانت عيناني تلتهم ما على الرفوف من الاكياس الملونة .
والعلب الدائرية التي يغلب عليها اللون الأصفر.
أنظر لها وأنظر لأمي .
والرجل المسن الجالس على قطعة من قماش أظنها كانت سابقا باللون الأبيض.
كان يتوسط مدخل الدكان. وهو يتابعني ويبتسم .
وقفت أمي على مسافة من مدخل الدكان .
وحلّت صرّة كانت عاقدة عليها طرف خمارها . وأخرجت نقود معدودة .
هتفتُ أماه أنا من سيدفع أنا من سيدفع . ناولتي النقود وأعطيتها للرجل المسن
قال الرجل وابتسامته على حالها : ماذا تريد يا بطل ؟
قلت أريد حلوى .قالت أمي : أعطه أثنتين يا "أبا مصلح"
استدار وهو لا زال في مكانه ؛ وتغضنت جبهته وهو
يدسّ يده اليمنى في كيس ذا ألوان متعددة .
ناولني الحلوى . وأعاد لنا ما تبقى من المبلغ .
أخذت أمي إحداهما وصرّت عليها مع النقود وبقيت الأخرى في يدي.
استأنفنا سيرنا إلى الدار . وأمي تقول : هم المسير هم المسير.
وأنا أتذوق الحلوى وأتبعها من الخلف بخطى وئيدة ؛ لنشوتي بتذوق الحلوى .
وأولاد الحي تعج بهم الجادة الفاصلة بين الدور الطينية وصنادق الخشب .
فيما أنا على تلك الحال المنتشيئة بطعلم الحلوى.
تناهى إلى سمعي أصوات لم أحدد كنهها. أصوات سريعة متداخلة تقترب مني
بوتيرة متسارعة لم تمهلني بمعرفة الجهة التي هي قادمة منها فهي تضج في
كل الجهات . بينما كان صوت أمي بالكاد يصل إلى مسامعي .
لمحت الأطفال الذين كانوا يلعبون في الطريق يفرّون ويصرخون
بأصوات عالية وكأني بأحدهم الآن وهو يجر أخيه الصغير ويصرخ بأعلى صوته
بينما الصغير يتعثر ويسقط على الأرض .
وبعضهم قد رأيته يتسلق أحد الجدر . والصوت المفزع يضج به المكان من حولي .
وأمي تسير نحوي وتنادي عليّ .
بيد إن صوتها لم أعد أسمعه بفعل الضجيج المتنامي من حولي .
فإذا أنا بشيء لم أره من قبل!.
مايشبه كومة القش وبدأ لي أن الصوت يخرج منها.
تتدحرج وتثير الغبار بفعل حركتها اللولبية.
وبسرعة حركتها فصلت بيني وبين أمي التي قد أوشكت على الجري نحوي .
ما أن رأيتها فصلتني عن أمي إلا وتعثرتُ وسقطت على وجهي .
دخلت في دوامة من الإغماء . استعدت وعيي سريعا على يد أمي .
ورحت أجول ببصري في كل الأنحاء ؛ والذعر سيّد الحال.
فإذا بالأصوات قد خفتت والكومة اللولبية لم تعد في المكان!.
حتى شق ستار الصمت صوت أحد الأولاد وهو يقول : مات مات قتلته .
أدرت بصري فزعا ناحية الصوت الذي زادني رعبا على ذكر القتل والموت .
فإذا بالأولاد
يتراكضون ناحية ذلك الصبي ويحملون في أيديهم العصي الطويلة . نهضت بي أمي
ولكنها لم تكاد تسير بي خطوات حتى أنزلتني وقالت : سر على قدميك لا طاقة
لي على حملك .
تعلقت بثوبها بكلتا يديّ وهي تأخذ جانب الجادة . والصبيه
يلتفون حول جثّة كلب مسجى والدماء تملأ منه كل شيء وأسنانه ناصعة البياض بادية.
وأحدهم يقول : قتلته الكلاب الضالة المتوحشة .
ما أن رأيت وسمعت حتى انخرطت في بكاء للشهيق أقرب منه للبكاء المعتاد .
أكملنا باقي الطريق وأمي تحاول جاهدة اسكاتي دون جدوى .
ما أن وصلنا للبيت إلا وقد ارتفعت حرارتي وأزرقّت شفتاي
أصبت بقشعريرة في أطرافي . وصار أبي وأمي ينضحان الماء على جبهتي
وأنا أتنقل من حضن أمي لحضن أبي وظللت على هذا الحال
حتى ذهب أبي لصلاة العشاء . وجاء ومعه إمام المسجد وقد كان كفيفا؛
قرأ علي القرآن بعد أن قدّم له أبي وجبة العشاء .
كنت أقارن بين عصا الإمام وعصيّ الصبية الطوال
جلست على هذا الحال لأيام عدة . والإمام على هذا المنوال
وجبة العشاء وبعدها يقرأ علي القرآن . وكأنه اتفاق صامت .
مرّت الأيام وأنا أحمل ذلك الرعب من " الكلاب " في قلبي .
التحقت بالمدرسة وكنت اغدو وأروح مع أبناء الجيران حتى قال لي أحدهم يوما :
إن حائط النخل الذي نمر به في طريقنا إلى المدرسة . تسكنه الكلاب الضالة .
ما أن سمعت لقوله. إلا وعادت إليّ قشعريرتي السابقة. وكأنها لم تفارنقي يوما.
رفضت الرجوع من المدرسة إلى البيت إلا بمعية أحد المعلمين.
ومن يومها وأمي تصاحبني إلى المدرسة حتى أدخل من البوابة .
وتنتظرني في الظهيرة أمام باب المدرسة حتى البيت .
ظللت على هذا الحال حتى الصف الرابع . فقد ضقت ذرعا بتندر الأولاد بي .
وفي يوم صيف ؛ صحى حينا على سرقة حدثت في بيت أحد أثرياء الحي .
- الثري في عرف حيّنا هو من يمتلك بيتا كله من الطين.
لأن أغلب بيوت الحي
على هيئة بيتنا غرفة أو غرفتين من الطين سقفها من سعف النخيل
وثلاثة أرباع البيت من صفائح الخشب المعضدة "بالشينكو".
تلهب أجسادنا صيفا ؛ وتكسّر عظامنا شتاءَ.
أفاق الحي على ذلك الخبر أي خبر السرقة .
وتداول الناس على أثر الخبر : إشاعة مفادها أن دائرة التفتيش ؛
ستقوم بتجميع سكان الحي. وستعرضهم على الكلاب الشمّامة
محاولة منهم لمعرفة السارق .
ما أن سمعت الخبر : حتى أصبت بانتكاسة . ارتفعت درجة حرارتي.
وعاودني الرعاش في مفاصلي .
تسللت إلى سرداب في آخر الدار سرداب من الخشب لا يزيد ارتفاعه
عن المتر . مكوّمة به كراكيب مرعليها زمن طويل لم تمسها يد.
تضيق بالغبار والرطوبة والحشرات الزاحفة والبراغيث .
دخلته حبوا .
دفنت جسدي النحيل في الكومة .كابدت عناءَ رهيبا في ذلك السرداب .
الخوف من الكلاب ؛ يقطّع أمعائي والحشرات تنهش جسدي .
حتى عثروا عليّ قبل الغروب وأخرجوني من ذلك البرزخ.
كأن جسدي قد انتزع من قلب شجرة صبّار.
أمضيت ليلتي تنهش أظافري في جسدي المتجدر لكثرة ما امتص
من سموم الحشرات الزاحفة . فأصبحت كقربة ملئت بالهواء .
صارت أمي في كل ليلة تلف على يديّ بعض الخرق كي لا أنهش
جسدي وأنا نائم .
صارت الناس تبتعد عني لظنها أني مصاب بداء الجدري.
مضت الأيام وبدأتُ أتعافا وصارت الناس تأتلفني على مضض
الا أنه في أحد الأيام قال لي والدي :
أذهب إلى الجامع وصلّ فيه الظهر وستجد عمي " راشد "
أي عم أبي . وبعد الصلاة أيت لنا به كي يتغدا معنا .
ووصفه لي وصفا دقيقا. إلا إن أبي لم يقل لي أن عمّه ؛
ليس في كفّه الأيسرى إلا ثلاث أصابع! الأباهم ؛ السبابة ؛ الوسطى.
ولو أنه فعل ذلك لكان كافيا عن باقي الوصف الذي أخذ وقتا طويلا
وهو يردده على مسامعي.كي لا أخطئ وأتي برجل غيره .
فالمسنون البائسون في جامع حيّنا كثر.
:عم أبي رجل شارف على عقده الثامن ؛ ضعيف البصر ؛ ولا يعرف لبيتنا طريقا .
نفذت أمر والدي وذهبت إلى الجامع على استحياء
لأني أخشى أن يراني أحد أبناء أهل الدور المجاورة للجامع .
لأن لي معهم مناوشات لا تخلو من الكر والفر والسلب أحيانا.
اندسيت بين الصفوف وكأن على رأسي الطير. لا أدير وجهي في أي جهة كانت.
وكل ما أخشاه أن يعرفني أحد . فأقع في المحذور.
بدأ المصلون يتسللوم خارج الجامع.وأنا أعيد وأردد الأذكار
التي لم يسبق لي وأن رددتها بهذه الكثرة مثل ذلك اليوم.
يبدو أن الخوف المخيّم على مخيلتي.
لم يترك في رأسي شئا من وصف والدي لعمّه.
جلت ببصري وأنا مطئطئ الرأس بين من تبقى من المصلين.
لعلي أرى من بينهم ما يعيد لذاكرتي شيء مما قاله والدي من وصفه لعمّه
تسمرت عيناي على شيخ يسعل بشدة. حتى كاد وجهه أن يرتطم بأرضية
الجامع المرصوفة بالطين المسقى بالماء المالح من شدة السعال.
خشيت أن يكون هذا الشيخ هو عمّ أبي.
وهو بهذه الحال المزرية. نظرت إلى يمينه فوقعت عيني على شيخ آخر
قام بسحب ملاءة كان يطوّق بها منكبيه وربّعها كهيئة وسادة .
دار حولها وجعلها وسادة لشقه الأيمن.
في الطرف الأخر شيخان يتناجيان
بصوت جهوري لم يتضح لي من نجواهم . إلا أن حمّاد قد مات.
وكلمة الموت عندي مردافة لحال ذلك الكلب البائس ذو الأسنان الناصعة.
كادت الرعشة أن تعود بعد ذكر الموت وتخيّل حال الكلب.
إلا أني تمالكت نفسي وطردت عن رأسي تلك المنغصات. بالبحث عن مقصدي.
وجدتُ جدي في أقصى اليسار من الجامع وما نبهني إلى ذلك كلمة قد رمت بها أمي.
وأبي يصف لي عمّه حين قالت: في وجه جدّك " راشد " أثار الجدري.
ومثل أبي لم تتطرق أمي لذكر أصابع " جدي المقطوعة .
وكأنهما تحالافا على أن يصعّبا من مهمتي في البحث عن جدي " راشد "
تقدمت منه وعرفته بنفسي
فرح بي فرحا كبيرا ودعاء لي وأمسكت يده وخرجنا من الجامع .
الذي يفصله عن بيتنا أحد الأحياء ؛ وشارع رئيس .
ومع إن خطوات الرجل كانت وئيدة. إلا أني أحسست وأنا معه بالأمن من صبية الحي.
كانت كلماته وهو يمتدحني ويثني على والديّ . تخرج من جوف فمة بشكل عجيب.
إذ لفتت نظري : شفتيه وهي تغوص في جوف فمه ثم تخرج ثانية لتقذف بالكلمات.
مثل أكلي اللب حينما يستخلصونه من قشره . ولم أعلم أنها طريقة الكلام
عند من يفقد اسنانه عند الكبر. في أثناء ما نحن في الطريق .
تناهى إلى سمعي نباح كلب .
حاولت تجاهل ما أسمع إلا أن أعصابي بدأت تتوتر .
وبدأت أفقد أحساس كف جدي من يدي وذاكرتي تستثير
غبار ذلك اليوم والكومة اللولبية تقرع أجراس مخيلتي .
والكلب المسجى على جانب الطريق يتراءى ليّ وكأنه واقع معاش .
بدأت أضغط على يد الجد وأحث الخطى
والجد يلهث جاهدا لمجاراتي إلا أني أتباطأ خطواته وهو يقول :لا تستعجلني يا بني.
بيد أن النباح بدأ يكبر ويكبر ويقترب مننا.
والجد لا يعنيه ألا أن أبطئ في السير .
صار ثوبي كأنه يتخفف من جسدي
وماهي إلا لحظات و أفلتُ يدي من يد جدي وركبت الريح .
..
..
يتبع بحول الله
..
بعض الأحداث التي نرى أنها بسيطة وعابرة
هي من العناصر التي تتداخل لتشكيل أيام حياتنا
1
عاينتُ حدثا ؛ يبدو على أثره تشكلت سيرة حياتي مع الكائن المدعو " كلب " .
وأنا في صبابة الخامسة من العمر.
في أحد الأيام و"والدتي" رحمها الله غادية مع أحد الأزقة الترابية الخلفية لحينا؛
وهي تضع ملفعها المربّع على رأسها تتقي به حرارة بنت النهار المتوهجة
في يوم من أيام " يوليو " وقد كان النهار هادئ الجوانب رطبها.
ويدي متعلقة بثوبها وأجدُّ في الخُطى محاولة مني أن أكون بصفها .
وأكرر عليها الأسئلة . : أماه ؛ هل ستبتاعين لي الحلوى من الدكان ؟.
وهي تقول : أجل يا بني ؛ سنعرّج على الدكان .
وسأشتري لك الحلوى . فأفلت يدي من ثوبها
وأجري أمامها حتى يتعرّج الطريق .
ثم أرجع جريا كذلك وأقول أماه لم أر الدكان! .
هل هو بعيدا يا أماه ؟ فترد بصوت حاني :
لا تجهد نفسك ؛ سنصل إليه بعد قليل .
وعندما أقتربنا من الدكان ورأيته ركضت مسرعا . وسبقتها اليه .
كانت عيناني تلتهم ما على الرفوف من الاكياس الملونة .
والعلب الدائرية التي يغلب عليها اللون الأصفر.
أنظر لها وأنظر لأمي .
والرجل المسن الجالس على قطعة من قماش أظنها كانت سابقا باللون الأبيض.
كان يتوسط مدخل الدكان. وهو يتابعني ويبتسم .
وقفت أمي على مسافة من مدخل الدكان .
وحلّت صرّة كانت عاقدة عليها طرف خمارها . وأخرجت نقود معدودة .
هتفتُ أماه أنا من سيدفع أنا من سيدفع . ناولتي النقود وأعطيتها للرجل المسن
قال الرجل وابتسامته على حالها : ماذا تريد يا بطل ؟
قلت أريد حلوى .قالت أمي : أعطه أثنتين يا "أبا مصلح"
استدار وهو لا زال في مكانه ؛ وتغضنت جبهته وهو
يدسّ يده اليمنى في كيس ذا ألوان متعددة .
ناولني الحلوى . وأعاد لنا ما تبقى من المبلغ .
أخذت أمي إحداهما وصرّت عليها مع النقود وبقيت الأخرى في يدي.
استأنفنا سيرنا إلى الدار . وأمي تقول : هم المسير هم المسير.
وأنا أتذوق الحلوى وأتبعها من الخلف بخطى وئيدة ؛ لنشوتي بتذوق الحلوى .
وأولاد الحي تعج بهم الجادة الفاصلة بين الدور الطينية وصنادق الخشب .
فيما أنا على تلك الحال المنتشيئة بطعلم الحلوى.
تناهى إلى سمعي أصوات لم أحدد كنهها. أصوات سريعة متداخلة تقترب مني
بوتيرة متسارعة لم تمهلني بمعرفة الجهة التي هي قادمة منها فهي تضج في
كل الجهات . بينما كان صوت أمي بالكاد يصل إلى مسامعي .
لمحت الأطفال الذين كانوا يلعبون في الطريق يفرّون ويصرخون
بأصوات عالية وكأني بأحدهم الآن وهو يجر أخيه الصغير ويصرخ بأعلى صوته
بينما الصغير يتعثر ويسقط على الأرض .
وبعضهم قد رأيته يتسلق أحد الجدر . والصوت المفزع يضج به المكان من حولي .
وأمي تسير نحوي وتنادي عليّ .
بيد إن صوتها لم أعد أسمعه بفعل الضجيج المتنامي من حولي .
فإذا أنا بشيء لم أره من قبل!.
مايشبه كومة القش وبدأ لي أن الصوت يخرج منها.
تتدحرج وتثير الغبار بفعل حركتها اللولبية.
وبسرعة حركتها فصلت بيني وبين أمي التي قد أوشكت على الجري نحوي .
ما أن رأيتها فصلتني عن أمي إلا وتعثرتُ وسقطت على وجهي .
دخلت في دوامة من الإغماء . استعدت وعيي سريعا على يد أمي .
ورحت أجول ببصري في كل الأنحاء ؛ والذعر سيّد الحال.
فإذا بالأصوات قد خفتت والكومة اللولبية لم تعد في المكان!.
حتى شق ستار الصمت صوت أحد الأولاد وهو يقول : مات مات قتلته .
أدرت بصري فزعا ناحية الصوت الذي زادني رعبا على ذكر القتل والموت .
فإذا بالأولاد
يتراكضون ناحية ذلك الصبي ويحملون في أيديهم العصي الطويلة . نهضت بي أمي
ولكنها لم تكاد تسير بي خطوات حتى أنزلتني وقالت : سر على قدميك لا طاقة
لي على حملك .
تعلقت بثوبها بكلتا يديّ وهي تأخذ جانب الجادة . والصبيه
يلتفون حول جثّة كلب مسجى والدماء تملأ منه كل شيء وأسنانه ناصعة البياض بادية.
وأحدهم يقول : قتلته الكلاب الضالة المتوحشة .
ما أن رأيت وسمعت حتى انخرطت في بكاء للشهيق أقرب منه للبكاء المعتاد .
أكملنا باقي الطريق وأمي تحاول جاهدة اسكاتي دون جدوى .
ما أن وصلنا للبيت إلا وقد ارتفعت حرارتي وأزرقّت شفتاي
أصبت بقشعريرة في أطرافي . وصار أبي وأمي ينضحان الماء على جبهتي
وأنا أتنقل من حضن أمي لحضن أبي وظللت على هذا الحال
حتى ذهب أبي لصلاة العشاء . وجاء ومعه إمام المسجد وقد كان كفيفا؛
قرأ علي القرآن بعد أن قدّم له أبي وجبة العشاء .
كنت أقارن بين عصا الإمام وعصيّ الصبية الطوال
جلست على هذا الحال لأيام عدة . والإمام على هذا المنوال
وجبة العشاء وبعدها يقرأ علي القرآن . وكأنه اتفاق صامت .
مرّت الأيام وأنا أحمل ذلك الرعب من " الكلاب " في قلبي .
التحقت بالمدرسة وكنت اغدو وأروح مع أبناء الجيران حتى قال لي أحدهم يوما :
إن حائط النخل الذي نمر به في طريقنا إلى المدرسة . تسكنه الكلاب الضالة .
ما أن سمعت لقوله. إلا وعادت إليّ قشعريرتي السابقة. وكأنها لم تفارنقي يوما.
رفضت الرجوع من المدرسة إلى البيت إلا بمعية أحد المعلمين.
ومن يومها وأمي تصاحبني إلى المدرسة حتى أدخل من البوابة .
وتنتظرني في الظهيرة أمام باب المدرسة حتى البيت .
ظللت على هذا الحال حتى الصف الرابع . فقد ضقت ذرعا بتندر الأولاد بي .
وفي يوم صيف ؛ صحى حينا على سرقة حدثت في بيت أحد أثرياء الحي .
- الثري في عرف حيّنا هو من يمتلك بيتا كله من الطين.
لأن أغلب بيوت الحي
على هيئة بيتنا غرفة أو غرفتين من الطين سقفها من سعف النخيل
وثلاثة أرباع البيت من صفائح الخشب المعضدة "بالشينكو".
تلهب أجسادنا صيفا ؛ وتكسّر عظامنا شتاءَ.
أفاق الحي على ذلك الخبر أي خبر السرقة .
وتداول الناس على أثر الخبر : إشاعة مفادها أن دائرة التفتيش ؛
ستقوم بتجميع سكان الحي. وستعرضهم على الكلاب الشمّامة
محاولة منهم لمعرفة السارق .
ما أن سمعت الخبر : حتى أصبت بانتكاسة . ارتفعت درجة حرارتي.
وعاودني الرعاش في مفاصلي .
تسللت إلى سرداب في آخر الدار سرداب من الخشب لا يزيد ارتفاعه
عن المتر . مكوّمة به كراكيب مرعليها زمن طويل لم تمسها يد.
تضيق بالغبار والرطوبة والحشرات الزاحفة والبراغيث .
دخلته حبوا .
دفنت جسدي النحيل في الكومة .كابدت عناءَ رهيبا في ذلك السرداب .
الخوف من الكلاب ؛ يقطّع أمعائي والحشرات تنهش جسدي .
حتى عثروا عليّ قبل الغروب وأخرجوني من ذلك البرزخ.
كأن جسدي قد انتزع من قلب شجرة صبّار.
أمضيت ليلتي تنهش أظافري في جسدي المتجدر لكثرة ما امتص
من سموم الحشرات الزاحفة . فأصبحت كقربة ملئت بالهواء .
صارت أمي في كل ليلة تلف على يديّ بعض الخرق كي لا أنهش
جسدي وأنا نائم .
صارت الناس تبتعد عني لظنها أني مصاب بداء الجدري.
مضت الأيام وبدأتُ أتعافا وصارت الناس تأتلفني على مضض
الا أنه في أحد الأيام قال لي والدي :
أذهب إلى الجامع وصلّ فيه الظهر وستجد عمي " راشد "
أي عم أبي . وبعد الصلاة أيت لنا به كي يتغدا معنا .
ووصفه لي وصفا دقيقا. إلا إن أبي لم يقل لي أن عمّه ؛
ليس في كفّه الأيسرى إلا ثلاث أصابع! الأباهم ؛ السبابة ؛ الوسطى.
ولو أنه فعل ذلك لكان كافيا عن باقي الوصف الذي أخذ وقتا طويلا
وهو يردده على مسامعي.كي لا أخطئ وأتي برجل غيره .
فالمسنون البائسون في جامع حيّنا كثر.
:عم أبي رجل شارف على عقده الثامن ؛ ضعيف البصر ؛ ولا يعرف لبيتنا طريقا .
نفذت أمر والدي وذهبت إلى الجامع على استحياء
لأني أخشى أن يراني أحد أبناء أهل الدور المجاورة للجامع .
لأن لي معهم مناوشات لا تخلو من الكر والفر والسلب أحيانا.
اندسيت بين الصفوف وكأن على رأسي الطير. لا أدير وجهي في أي جهة كانت.
وكل ما أخشاه أن يعرفني أحد . فأقع في المحذور.
بدأ المصلون يتسللوم خارج الجامع.وأنا أعيد وأردد الأذكار
التي لم يسبق لي وأن رددتها بهذه الكثرة مثل ذلك اليوم.
يبدو أن الخوف المخيّم على مخيلتي.
لم يترك في رأسي شئا من وصف والدي لعمّه.
جلت ببصري وأنا مطئطئ الرأس بين من تبقى من المصلين.
لعلي أرى من بينهم ما يعيد لذاكرتي شيء مما قاله والدي من وصفه لعمّه
تسمرت عيناي على شيخ يسعل بشدة. حتى كاد وجهه أن يرتطم بأرضية
الجامع المرصوفة بالطين المسقى بالماء المالح من شدة السعال.
خشيت أن يكون هذا الشيخ هو عمّ أبي.
وهو بهذه الحال المزرية. نظرت إلى يمينه فوقعت عيني على شيخ آخر
قام بسحب ملاءة كان يطوّق بها منكبيه وربّعها كهيئة وسادة .
دار حولها وجعلها وسادة لشقه الأيمن.
في الطرف الأخر شيخان يتناجيان
بصوت جهوري لم يتضح لي من نجواهم . إلا أن حمّاد قد مات.
وكلمة الموت عندي مردافة لحال ذلك الكلب البائس ذو الأسنان الناصعة.
كادت الرعشة أن تعود بعد ذكر الموت وتخيّل حال الكلب.
إلا أني تمالكت نفسي وطردت عن رأسي تلك المنغصات. بالبحث عن مقصدي.
وجدتُ جدي في أقصى اليسار من الجامع وما نبهني إلى ذلك كلمة قد رمت بها أمي.
وأبي يصف لي عمّه حين قالت: في وجه جدّك " راشد " أثار الجدري.
ومثل أبي لم تتطرق أمي لذكر أصابع " جدي المقطوعة .
وكأنهما تحالافا على أن يصعّبا من مهمتي في البحث عن جدي " راشد "
تقدمت منه وعرفته بنفسي
فرح بي فرحا كبيرا ودعاء لي وأمسكت يده وخرجنا من الجامع .
الذي يفصله عن بيتنا أحد الأحياء ؛ وشارع رئيس .
ومع إن خطوات الرجل كانت وئيدة. إلا أني أحسست وأنا معه بالأمن من صبية الحي.
كانت كلماته وهو يمتدحني ويثني على والديّ . تخرج من جوف فمة بشكل عجيب.
إذ لفتت نظري : شفتيه وهي تغوص في جوف فمه ثم تخرج ثانية لتقذف بالكلمات.
مثل أكلي اللب حينما يستخلصونه من قشره . ولم أعلم أنها طريقة الكلام
عند من يفقد اسنانه عند الكبر. في أثناء ما نحن في الطريق .
تناهى إلى سمعي نباح كلب .
حاولت تجاهل ما أسمع إلا أن أعصابي بدأت تتوتر .
وبدأت أفقد أحساس كف جدي من يدي وذاكرتي تستثير
غبار ذلك اليوم والكومة اللولبية تقرع أجراس مخيلتي .
والكلب المسجى على جانب الطريق يتراءى ليّ وكأنه واقع معاش .
بدأت أضغط على يد الجد وأحث الخطى
والجد يلهث جاهدا لمجاراتي إلا أني أتباطأ خطواته وهو يقول :لا تستعجلني يا بني.
بيد أن النباح بدأ يكبر ويكبر ويقترب مننا.
والجد لا يعنيه ألا أن أبطئ في السير .
صار ثوبي كأنه يتخفف من جسدي
وماهي إلا لحظات و أفلتُ يدي من يد جدي وركبت الريح .
..
..
يتبع بحول الله